مراجعات في الماركسية (1)


وليد مهدي
2013 / 6 / 24 - 13:14     

الماركسية والإنسان

{{ لا يصبح المرء كاملاً إلا حين يكونُ مقتنعاً كفاية بضآلته أمام المجموع ، الكل الإنساني بوحدة نوعه البيولوجي واختلاف حضاراته الثقافي .. }}
ربما كانت تلك هي شيء من قناعتي التي تربيت عليها منذ نشأتي الإسلامية الشيعية الأولى ، فالإنسان الفرد زائل مهما تكن منزلته كالحسين بن فاطمة بنت الرسول ( الذي ما خرج أشراً ولا بطراً ولكن خرج للإصلاح في امة جده محمد حسب قناعة الوعي الجمعي الشيعي ) ، الذي ختم حياته بمأساة تراجيدية مفجعة سبق وان كان للمسيح مثلها بالنسبة لقناعة المؤمنين به ..
في كلا الحالين النتيجة واحدة ، العبرة من فاجعة قتل الفرد المقدس هي خلاص " المجموع " ..
فالمجموع يبقى مثل خلايا تموت لتحل محلها أخرى في كيان كلي خلاياه تتجدد ولا تبقى نفسها ، لكن الكيان الكلي باق ، وهو جنس بني الإنسان ولعلها خلاصة ما قدمته للتاريخ " جلجامش " ، الملحمة السومرية الخالدة ..
أي باحث موضوعي يجرد المعرفة من رواسبها الثقافية الموروثة تلك يصل إلى هذه القناعة ، ويفهم بان من أهم غايات الوجود الإنساني أن ندرك " الإنسان " بكافة أبعاده الاجتماعية والبيولوجية والثقافية ، فهل توجد في عموم التاريخ نظرية معرفة مثل الماركسية فسرت الإنسان بشموله الكلي المفتوح منذ فجر تاريخه وحتى نهاية تطوره الاقتصادي الاجتماعي " المفترض " في آخر الأزمان والدهور ؟؟
لا ادعي بان المادية التاريخية كما طرحها كارل ماركس كاملة ، لكنها خطوة في طريق فهم الإنسان و إنطلاقة تاريخية جبارة من حيث انتهت جلجامش لتحديد ملامح معينة وواضحة تجري فوقها عجلات التاريخ ..
فجلجامش ورغم رمزية " الخلود " والقلق التاريخي الذي ساور الإنسان عن الموت والذي تتمحور حوله حبكة تلك الملحمة ، لكن الملحمة توصلنا إلى أن السومريين قبل ستة الآف عام كانوا على دراية بان الإنسان وجد لعمارة الأرض لأجل أسرته ( دلل المرأة التي في حجرك ) ، و صناعة التاريخ للمجموع البشري ( بالعمل الصالح يحيا الإنسان )، لكنه في الخاتمة كفرد ، مجرد كائنٍ ضئيل زائل ...
وهكذا كانت المادية التاريخية لماركس ومن شرحوها بعده ، الغاية الأساس من الوجود البشري هي صناعة المجتمع العادل اللاطبقي ومحاربة الفقر والتسلط بكافة صوره و أشكاله ..
فكلا النظريتين السومرية الشعبية والمادية التاريخية لا تنتقصان من قيمة الإنسان لكنهما ترغمان أي فرد على مواجهة حقيقته بشجاعة :
الإنسان الفرد زائل وما يبقى منه هو عمله وآثاره


علمية الماركسية

ربما لاحظ ماركس أثناء كتابته لــ " رأس المال " إن القيمة الاجتماعية للإنسان هي أهم ما يجعله يشعر بالكمال ، لكن مثل هذه الفكرة بدت أكثر وضوحاً لدى الماركسي انطونيو جرامشي حين وضح لنا بان المثقف و بانتمائه لجماعة أو فئة أو طبقة ينبت فيها يصبح ممثلا عضويا لرأيها ..
وبصورة عامة ، الماركسية هي الإيمان بالطبقة العاملة كرافعة تاريخية في صراعها المستقبلي مع الطبقة المتوسطة و الرأسماليين ، واعتبار التاريخ هو تاريخ الجماعات البشرية وصيرورة الصراع بين الطبقات وعلاقاتها الإنتاجية هو تاريخ الإنسان الاجتماعي الشامل الذي يبدأ بالإنتاج المشاعي البدائي ثم العبودية فالإقطاع فالرأسمالية وصولا للمجتمع الاشتراكي فالشيوعي ...
لذا ، فإن كارل ماركس قرأ تطور المجتمع الإنساني على غرار قراءة دارون للتطور البيولوجي ...
مسطرة القياس هي " الحتمية التاريخية " للتطور الحيوي والاجتماعي على حدٍ سواء في كلا القراءتين ..
فالحتمية التاريخية وان اختلفت بإطارها الحيوي عن إطارها الاجتماعي كون الأولى هي تحولات نوع وبنية عضوية للكائن الحي من البكتيريا فالطفيليات فالحبليات و الأسماك والبرمائيات وصولا للرئيسيات فالإنسان ، أما الثانية فهي تطور العلاقات الاجتماعية لهذا الإنسان ، لكن ، جوهر فلسفتهما واحد ضمن سياق هذه " الحتمية " العام وهو إن التغييرات الجذرية في الفرد الحيواني والمجتمع الإنساني هي تغييرات متسلسلة متراكمة تاريخية محتومة لا تتدخل بها الإرادة البشرية الحرة ..
( سنلاحظ في المقالات اللاحقة أهمية هذا التعريف المبسط لمفهوم الحتمية كركن جوهري من أركان الماركسية مع الجدل ( الديالكتيك ) والصراع الطبقي )
وحتمية تحول المجتمع الرأسمالي إلى اشتراكي في لحظة تاريخية قادمة وحاسمة ( لم يحن أوانها بعد ) هي من المسلمات لدى ماركس مثلما إن تحول أشباه القرود إلى بشر كان من المسلمات لدى علماء البيولوجيا الموقنين بنظرية التطور ...
ما اكتبه هنا قد يبدو غريبا على المثقفين الذين يفهمون الماركسية كنظرية سياسية – اقتصادية صرفة ولا يتعمقون ببنائيتها العلمية والمعرفية ، والسبب يعود إلى إن تطبيق الماركسية من قبل لينين و تروتسكي و ماو قد حول المادية التاريخية من نظرية علم إلى عقيدة سياسية " عابرة " للحتمية ومتجاوزة للتراكم الطبيعي للتاريخ بتدخل مباشر من ارادة البشر إما عبر الثورة المحددة مثل اللينينية و التخطيط الاستراتيجي العسكري الابعد من الثورة كالماوية او الثورة الشاملة للعالم بقراءة تروتسكي ، او التغيير عبر النضال السلمي للجماهير مثل القراءات الاوربية التي تؤمن بالديمقراطية كطريق وحيد للوصول للسلطة ..
لكن هذه جميعاً تفارق الماركسية كما تصورها ماركس ...!!

ماركسية ماركس

ماركسية ماركس كانت مختلفة بكل تاكيد عن اي موديل محدث للماركسية جاء فيما بعد ...
ماركس ترك نظرية علمية ثورية تقدمية كان لابد من تجييرها وتحويلها إلى أمل للكادحين والفلاحين الذين توقع ماركس بأنهم سيمسكون زمام التغيير القادم من رحم أزمات الرأسمالية بعد أن تكون طبقة العمال قد توسعت بشكل كبير و أصبحت تشغل حيزاً مؤثراً في تكوين المجتمع الصناعي ..
ماركسية ماركس كانت ترى بان التغيير والثورة مثل الولادة ، لا تعتمد على الحتمية فقط ، بل على الارادة الفردية ايضاً ، فإما ان يولد التغيير ميتاً ، او يولد سليماً اعتمادا على ارادة الجماهير ..
وهو يعني ، ان المجتمع الاشتراكي لم يحن موعد ولادته في التاريخ حتى الساعة ...!
فشروط هذه الولادة هي ازمة كونية عالمية شاملة كتلك التي حدثت في العام 2008 والتي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اللحظة ، حينها تكون للجماهير الكادحة فرصتها التاريخية للتغير في مسار كفاحها الطبقي ضد الطبقات المستغلة لها ...
الذي حدث هو ان ثورة البلاشفة في 1917 لم تستوف شروط ذلك التراكم التاريخي من التطور الاجتماعي وما تمر به من مراحل صراع طبقي يؤدي لنضوج المجتمع الرأسمالي تمهيدا للثورة ، النضوج على مستوى البنى التحتية والفوقية ، وما يؤدي اليه من ترسيخ ثقافة اجتماعية تهضم المدنية والحداثة ، لكن ، في حالة الثورة البلشفية أنجزت الثورة الروسية تحول المجتمع من مرحلة الإقطاع إلى المرحلة الاشتراكية دون المرور برأسمالية حقيقية تاريخية فعلية وخلال فترة قياسية لا تتجاوز الثلاثة عقود تحسب للينين وستالين قادة الاتحاد السوفييتي العظماء ...
نفس الحال ينطبق على الثورة الشعبية في الصين وجهود ماو تسي تونغ لنقل البلاد عبر التخطيط الاستراتيجي الشامل لبناء الدولة والتغيير ، حيث كانت " الارادة البشرية الجمعية " شاملة متعدية فوق حاجز الحتمية التاريخية ...
واليوم وبعد حدوث الأزمة المالية العالمية في 2008 التي بدأت بأزمة الرهن العقاري الأميركي توقع الكثيرون ان هذا ما وعدنا به ماركس وصدق الماركسيون ، أزمة مالية عالمية تلف الكوكب ليولد نظام اشتراكي على أطلال النظم الرأسمالية أينما كانت ، فتكون تلك النظم الوليدة تتويجاً لنضال الطبقة العاملة ، فإلى اي مدى كان هذا التصور صحيحاً ؟؟

الاعتراف بخلل شرح تفاصيل النظرية

الماركسية اليوم عقيدة سياسية تتلبس لبوس التفلسف العلمي ، وهي بعيدة جداً من ناحية عملية عن اي دراسة فعلية في تفاصيلها يمكن من خلالها تطوير النظرية كما يحدث في نظرية الكم او النسبية في الفيزياء على سبيل المثال ..
فكل عالم وكل باحث يضيف إلى بناء النظرية أشياء جديدة اعتماداً على اختبارات فعلية على ارض الواقع ، فإلى أي مدى راجع الماركسيون نظريتهم ( و أنا منهم ) وهل تمكنوا بالفعل من بناء نظرية علمية ماركسية شاملة ومفتوحة في دراسة الإنسان وتطوره ؟
إن مئة عام تقريباً منذ ثورة 1917 في روسيا وما تلاها من أحداث كونية لقرن كامل كانت كافية لاختبار النظرية الماركسية وكفيلة بمراجعتها ميدانياً بدراسة التطورات الاقتصادية والاجتماعية لا في دول المنظومة الاشتراكية المنهارة فقط ، بل في دول النظام الرأسمالي والمركزية منها مثل الولايات المتحدة و أوربا والتي من المفترض إنها نضجت بما يكفي لولادة المجتمع الاشتراكي فوق قاعدة عريضة من الطبقة العاملة ..
أول خلل تفصيلي في النسخة الماركسية لماركس نفسه هو توقعه اتساع الطبقة العاملة بصورة تلقائية لتكون النسبة الأكبر في المجتمع الصناعي وحينها يمكنها إطلاق الثورة و إمساك السلطة معلنة ديكتاتورية البروليتاريا ..
مع إن هذا لا يعني وجود خلل بنيوي كبير في جوهر نظرية " التطور الاجتماعي الماركسي " المعروفة باسم المادية التاريخية ، لكنه يؤشر لمستوى انتحار النظرية حين تحولت لمجرد اعتقاد سياسي ، العلم يتحجر حين يتحول إلى إيديولوجيا ، واليوم هناك العديد من المبررات لدى الماركسيين عن اتساع الطبقة المتوسطة بدلاً من العاملة ، فالطبقة المتوسطة التي تقارب نسبتها نصف المجتمع في الدول الصاعدة في الشرق والثلثين في الدول المتقدمة في أوربا والولايات المتحدة هي البرجوازية التي حاربها ماركس وصب جام غضبه عليها من فنيين ومصرفيين و خبراء ومديرين واستشاريين و مدراء تسويق وغيرهم من حرفيين و أصحاب ومالكي مشاريع صغرى ، وهم اليوم أكثر من نصف المجتمعات المتقدمة ويهيمنون على دائرة الإنتاج لدرجة إن الطبقة العاملة أصبحت تابعة للطبقة المتوسطة التي باتت وعاء " الخبرة " التقانية و الإدارية للنظام الرأسمالي العولمي ..

من فادح الخطأ لدى الماركسيين اليوم هو تجيير مآل الطبقتين المتوسطة والعاملة اليوم تحت طائل " التخطيط " الراسمالي الامبريالي ، وكأن مصير البشرية الحتمي الذي توقعته الماركسية تبدل بفعل المؤامرة الكونية التي غيرت مسارات التاريخ ..!!
فبعد ازمة 2008 اقبل الناس على شراء كتب ماركس مستبشرين باقتراب نهاية الراسمالية كما توقع ماركس لكن احداً لا يعرف ان المجتمع الاشتراكي لن يتقدم بخطوة إلى امام دون الطبقة الكادحة التي باتت اليوم اسيرة ضعيفة امام الطبقة المتوسطة التي تمثل " عقل " الاقتصاد العالمي وحافظة خبراته الذكية بلا منازع وهي منحازة منقادة بامرة الامبريالية اكثر من غيرها ...

بالتالي ، نحن بامس الحاجة بان نعترف بان مسار شرح الماركسية هو الذي يحتاج الى تعديل وليس مسار التاريخ بحاجة لتعديل حتى يتفق مع الماركسية بشروحها اللينينية والماوية والتروتسكية ..!!!

نحن بحاجة الى مراجعة شاملة في طبيعة المسار التحولي في الاقتصاد العالمي العولمي وطبيعة النظام المالي المهيمن على العالم ، فبدون فهم حقيقي لــ " راس المال " ممثلا بطبقة التجار ورجال الاعمال والاغنياء النافذين عبر العالم وطبقة خفية اخرى متوارية عن الانظار هي طبقة " مالكي البنوك " ومديري الاحتياطي الفيدرالي الاميركي وبنك التسويات الدولية في سويسرا ...

فهؤلاء يتحكمون " رقمياً " في الخفاء بقيمة العملات ويؤثرون على الارادة الشعبية والجماهيرية وهو ما سنطلق عليه لاحقاً " تاريخ ما بعد الحتمية " ...

يتبع