الحرية والتكنولوجيا

محمد فرج
2013 / 6 / 11 - 11:41     


الحرية هي إدراك الضرورة، وتطور أنماط الإنتاج بما فيها التكنولوجيا تشكل ماهية الضرورة، الحل الشمولي (الشامل والموحد) ما زال راهناً ولا بديل عنه، والحاضنة الإقتصادية تشذب حدور الضرورة وتشكلها وتصيغها، ولهذه الحاضنة اليوم إسمان إثنان لا ثالث لهما: إما الرأسمالية وإما الإشتراكية.


هذه هي مرحلة إعادة تعريف المفاهيم، المفاهيم التي تمكنت الرأسمالية على مدار السنين الماضية من فرض قاموسها الخاص في تعريفها، وفرضها وكأنها مسلمات في الوعي الجمعي: الملكية الخاصة كمسلمة، الحرية الإقتصادية كمسلمة وإعتبار التخطيط الإقتصادي المركزي شكل من أشكال “الديكتاتورية”، وتوجيه التهم إلى الإقتصاد الموجه باعتباره نمط بالي وقديم، على الرغم من أن الرأسمالية نفسها تعبر عن نظام إقتصادي موجه، وهنا تتظهر فكرة سمير أمين في النظر إلى نظام السوق الحر بأنه غير فعلي، أي لا وجود له اليوم في الواقع، فمعنى الإقتصاد الحر هو أن تغيب الدولة تماماً عن المشهد، وأن تتحرك التبادلات الإقتصادية بمنطق “اليد الخفية”، أي في إطار سعي كل شخص خلف مصالحه الخاصة تبنى المنظومة الإقتصادية في ظل غياب الدولة تماماً!

المسألة الإقتصادية ليست موضوعنا في هذا المقال، فقد تمكنت الرأسمالية من فرض مفاهيمها أيضاً في معنى الحريات الإجتماعية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وغير ذلك.

ناقشنا سابقاً مسألة الحرية، في مقالة “الحرية في عصر الاغتراب والاستلاب” ، ولا يمكن الحديث عن الحرية دون الحديث عن مجموعة من العوامل المركية “البنية الإقتصادية القائمة، الوعي القائم، عناصر الاستلاب في المنظومة الإقتصادية القائمة، الدين،…إلخ”، هذه المرة سنناقش عنصراً محدداً، الحرية في ظل التطور التكنولوجي.

تعرض العديد من المفكرين لمسألة التقنية، وتناولوها في إطار أوسع من الأطر التسطيحية “ذكر السلبيات والإيجابيات، النظرة الأداتية إليها، … إلخ”، من هؤلاء: هيدغر، جاك إيلول، وهابرماس.

هيدغر: التكنولوجيا والوجود

لم يتناول هيدغر التكنولوجيا بطريقة أداتية (التكنولوجيا هي مجموعة من الأدوات والآلات)، أو بمنحى أنثروبولوجي (أن التكنولوجيا هي بحد ذاتها فعالية إنسانية)، أشار إلى ماهية التكنولوجيا، واعتبر أنها في العمق بمثابة إدراك للوجود ورؤية للعالم برمته، ورأى فيها آلية تخزين للطاقة وتصريفها عند الحاجة، استدعاء للطبيعة لتخرج ما في داخلها من طاقة وقوة.

رأى هيدغر في التكنولوجيا وعلاقتها بالوجود، ارتهان لا مفر منه، فبنظره حارس الغابة مرتهن للغابة والغابة مرتهنة لصناعة الأخشاب والخشب مرتهن لصناعة السيليلوز والسيليلوز مرتهن لصناعة الأورق، وتستكمل السلسلة إلى أن تصل الرأي العام.

جاك إيلول: التقنية نظام

يميز جاك إيلول بين التقنية والتقانة، يعرف التقنية على أنها الطرائق الآلية ذات التطبيق الصناعي، والتقانة على أنها العلم الذي يدرس هذه التقنيات. ينظر إلى التطور من الطافة الفحمية إلى الكهربائية إلى النووية ومن ثم إلى الحاسوب، على أنه عنصر مؤثر ليس فقط على الإنتاج الصناعي والإقتصادي فقط، وإنما على الإنسان أيضاً، على حريته بالتحديد.

فالتقنية في نظر إيلول هي نظام له منطقه الداخلي، وهو الذي ينتج في نهاية المطاف الظاهرة التقنية، أي أنه ينظر إلى التقنية كنظام يعمل بشكل ذاتي وبآلية مستقلة، والإنسان يظل مشروطاً لها.

يرى إيلول أن هذا النظام “التقنية” يتمتع بخصائص التنظيم الذاتي، وتشعب الأنظمة الفرعية “الإتصال، الإنتاج، الإستهلاك”، وقدرته على تطوير ظروفه الخاصة للتكيف وإيجاد حلول إنسانية بديلة لعالم لاإنساني.

هابرماس: التكنولوجيا أيديولوجيا

يتقاطع هابرماس مع هيدغر في أنه لا يحصر التكنولوجيا في أجهزة وأدوات، وإنما يرى فيها المنطق العام الذي يهيمن على الإقتصاد والسياسة، ولكنه يحدد بشكل أكثر تفصيلاً، بربط هذه الصيغة مع هيمنة الرأسمالية كنظام شمولي عالمي، وهو بذلك لا يتناول التكنولوجيا بمعزل على النظام الإقتصادي القائم.

يرى هابرماس أن التكنولوجيا تحولت إلى أيديولوجيا المجتمعات الرأسمالية المتطورة، وأنها البديل الموضوعي عن الأيديولوجيات الكبرى، وهذا ما عرف المفاهيم بشكل تقني معزول عن الأيديولوجيات الكبرى “تصبح الثقافة ترفيه وتسلية وتنظيم لأوقات الفراغ بديلاً عن الرقي الإنساني وتربية الذوق”.

الحرية والتكنولوجيا والضرورة والاشتراكية والرأسمالية
■عندما يذكر تعبير “شمولي” (الشامل والموحد)، ينتفض البعض ومنهم منتمون لفكر اليسار، وكأن البطش والذبح قادم، لا يمكن القبول في بتقييد الحرية من خلال أدوات التجسس التي شاهدها البعض في فيلم “The lives of others”، وهذا النموذج الرائج عن اليسار، ولهذا نقول دائماً النموذج الشمولي الجديد المتوائم مع شروط الواقع وممكنات التغيير فيه. في الرأسمالية استخدمت أدوات التجسس الأكثر تطوراً “Data mining + Voice Recognition” لمراقبة الناس والفتك بهم لاحقاً. لذلك من الوهم القول أن الرأسمالية قدمت نموذجاً ليبرالياً “بالمعنى الحرفي للكلمة” على المستوى الإجتماعي. إذن لا يمكن نقاش مسألة الحرية وعلاقتها بالتكنولوجيا دون الحديث عن الحاضنة الإقتصادية، الشمولية الرأسمالية أو الشمولية اليسارية. هل يوجد خيار ثالث اليوم، لنلغي الشمولية من القاموسين؟ بالتأكيد لا، فالتطور التكنولوجي “تطور أنماط الإنتاج” لم يرقى بعد إلى مرحلة المعالجة الذاتية للتكنولوجيا أو حتى البناء الذاتي لها! وهذه هي بالضبط الضرورة التي يبقى إدراكها يجسد معنى الحرية. الفوضى التي تمتلك قوانينها الداخلية “الوعي المطلوب، أنماط الإنتاج الأكثر تطوراً، …إلخ” هي صيغة تغري الجميع، ولكن من يطالب بتحقيقها اليوم دون دراسة ممكنات الواقع، لا يمارس إلا قفزاً في الهواء.
■التكنولوجيا في الرأسمالية هي أداة البيروقراطية المستخدمة في استبداد العقل، سواء من خلال التسويق “E-Marketing”، أو من خلال صياغة الرأي العام وتوجيه السلوك الفردي لفرض الهيمنة السياسية، وهنا نتحدث عن استلاب مبرمج ومخطط له يختلف عن الاستلاب الذي تناوله ماركس والذي يتحرك بمنطق تلقائي، وبذلك تمكنت الرأسمالية من دفع الفضاء السياسي الشمولي إلى الإنكماش ودفع الإنسان إلى الهروب من الأسئلة الكبرى إلى التقنيات.
■استخدمت الرأسمالية التكنولوجيا لدفع الناس إلى العالم الافتراضي، والافتراضي هو ليس نقيض الواقعي وإنما نقيض الفعلي “الفعل المتحقق في الواقع”، ليتم إشباع الحاجات بكيفية لا تنفصل عن ماهية التقنية ” الرياضة، رحلات الترفيه الملتصقة بالكاميرا، والجنس كذلك!”، وهذا يتقاطع مع ما طرحه غي ديبور في “مجتمع الاستعراض”.
■لم تسعف التكنولوجيا في “مشاركة المعلومة والمعرفة” كما تدعي الرأسمالية، لم تنقذ ال Copy Left في مواجهة ال Copy Right.
■تمظهرت اليوم عناصر تكنولوجية قمعية، ولكن أكثر سلاسة مما كانت عليه في المجتمع الصناعي، الإجبار على العمل في المجتمع الصناعي يقابله استلاب العمل لمهماته عبر ال SMART PHONE وتحت شعوره الدائم بالتهديد والخطر من “الفصل التعسفي”.
■دفعت التكنولوجيا البشر في ظل الرأسمالية إلى العزلة التفاعلية، وشكل هذا أقصى حالات الإغتراب.

الحرية هي إدراك الضرورة، وتطور أنماط الإنتاج بما فيها التكنولوجيا تشكل ماهية الضرورة، الحل الشمولي (الشامل والموحد) ما زال راهناً ولا بديل عنه، والحاضنة الإقتصادية تشذب حدور الضرورة وتشكلها وتصيغها، ولهذه الحاضنة اليوم إسمان إثنان لا ثالث لهما: إما الرأسمالية وإما الإشتراكية.