بصدد سياسة التقشف في ظل الازمة الرأسمالية!


توما حميد
2013 / 6 / 6 - 15:36     

لقد اتبعت معظم الدول الكبرى في مواجهة الازمة التي ضربت الاقتصاد الرأسمالي في اواخر 2007 والمستمرة لحد الان سياستين وهي التقشف و اقتصاد التساقط او الانسياب من الاعلى الى الاسفل- ال(تريكل داون).
قبل الدخول في تفاصيل هاتين السياستين وعواقبها على الطبقة العاملة والاقتصاد الرأسمالي يتوجب التطرق من جديد الى اسباب الازمة الحالية لكي يتوضح دوافع البرجوازية في تبني هاتين السياستين واسباب فشلها لحد الان و الاجراءت التي قد يكون بامكانها التخفيف من الازمة.
من المعروف ان السبب الرئيسي للازمة الاقتصادية الحالية التي بدأت في الولايات المتحدة هو انخفاض القدرة الشرائية للطبقة العاملة وانخفاض الطلب العام على البضائع والخدمات في الدول المتقدمة وخاصة في الولايات المتحدة نتيجة توقف الاجور الحقيقية عن الارتفاع منذ السبعينات من القرن العشرين لاسباب تطرقت لها في مقال اخر. في الحقيقة منذ 1979 انخفض معدل الاجر الحقيقي في امريكا بما فيه ما ياخذه العامل للبيت او كمساهمة في الضمان الاجتماعي. وعندما توقفت الاجور عن الارتفاع بعد عقود من ارتفاع مستمر بالتوازي مع الزيادة في القوة الانتاجية وبعد عقود من تحسن مستمر في المستوى المعاشي للطبقة العاملة، في وقت كانت الطبقة العاملة اما مرغمة في زيادة مستوى الاستهلاك بسبب طبيعة المعيشة تحت النظام الرأسمالي او ان توقعاتها شجعتها على زيادة مستوى الاستهلاك والمحافظة على المستوى المعاشي وجدت امامها خيارين للقيام بذلك. الخيار الاول هو زيادة عدد ساعات العمل، حيث زاد معدل عدد ساعات العمل التي يقوم بها العامل في الولايات المتحدة بمعدل 20% في اخر 30 سنة في وقت كان يفترض ان تقل ساعات العمل نتيجة الزيادة المستمرة في القوة الانتاجية. كما دفعت الطبقة العاملة بعدد اكبر من افراد العائلة الى سوق العمل بما فيهم النساء و المراهقين وحتى تاخير التقاعد من قبل كبار العمر. ولكن زيادة ساعات العمل وزج عدد اكبر من افراد العائلة الى سوق العمل لم يكن كافيا كما ادى الى زيادة مصاريف العائلة وفي الكثير من الاحيان الى تفككها لذا اضطرت الجماهير الى الاقتراض بمعدلات خيالية. وعندما بدأت الطبقة العاملة الامريكية بالاقتراض في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كانت تعتبر اغنى طبقة عاملة في العالم، اي انها كانت تمتلك ضمانات على شكل املاك مثل البيوت وغيرها لذا كان الرأسماليون راغبون في الاقراض لها.
من جهة اخرى ان عدم ارتفاع الاجور مع استمرار الزيادة في القوة الانتاجية ادى الى تراكم مقادير هائلة من الرأسمال في ايدي البرجوازية لذا التجأت الى الاستثمار في اسواق التي تستند على المضاربات مثل اسواق العملة والاسهم و غيرها وشراء المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الاصغر. وفي ظل تناقص فرص الاستثمار في انتاج البضائع والخدمات التجأت البرجوازية ايضا الى خلق طلب من خلال اقراض تلك الاموال المنهوبة من الطبقة العاملة الى نفس تلك الطبقة. وفي البداية كانت القروض امنة اي يتم الاقراض مقابل ضمانات مالية كافية ولكن بما ان ثروة الطبقة العاملة محدودة، لذا بدأت المؤسسات المالية بتقديم قروض ذات مخاطر عالية على شكل قروض عقارية و بطاقات الائتمان وقروض السيارات والقروض الشخصية الاخرى. اي تم تقديم كميات هائلة من القروض دون تقيم المخاطر الى اناس بامكانهم في الاحسن الاحوال الايفاء بتلك القروض في حالة واحدة وهي اذا استمرت اسعار بيوتهم واملاكهم في الارتفاع الى الابد. لقد تركزت تلك القروض في العقارات بحيث ادت الى فقاعة اقتصادية كبيرة في هذا القطاع. لم تقم البنوك في الولايات المتحدة بشكل خاص بتقيم الخطر بالشكل المطلوب عند القرار على مقدار القرض والجهة التي يقرض لها لعدة اسباب منها السعي لتحقيق مكاسب انية كما ان البنوك في امريكا عملت كقنوات لبيع قروض الطبقة العاملة في امريكا الى الرأسماليين حول العالم. اذ ان اغلب تلك القروض وضعت في حزم وبيعت الى الرأسماليين من كل انحاء العالم باعتبارها قروض امنة وما طمئن الرأسماليين حول العالم حول الاستثمار في سوق العقارات في الولايات المتحدة هو تصنيف قروض العقارات في امريكا كقروض امنة جدا من قبل وكالات التصنيف الائتماني في امريكا. هذه العملية ادت الى انتقال اكثر من نصف مدخرات كل العالم الى الولايات المتحدة. وهذا هو احد اهم دلائل عدم كفاءة النظام الرأسمالي. فبدل استثمار الرأساميل في الدول الافريقية والاسيوية وامريكا اللاتينية تستثمر في فقاعة العقارات في الولايات المتحدة!
وقد استمر الامر طالما كانت الطبقة العاملة قادرة وراغبة في الاقتراض في نفس الوقت الذي كانت فيه البرجوازية التي راكمت ثروة هائلة راغبة في تقديم القروض وفي معظم الاحيان بغض النظر عن رصيد المقترض وقدرته على الايفاء. ولكن اخيرا وصلت الطبقة العاملة المنهكة الى درجة لايمكنها القيام بساعات عمل اكبر ولايمكنها اقتراض المزيد مقابل اجور راكدة اذا بدأ الكثير من المستثمرين بالقلق على استثماراتهم والامتناع عن الاستمار في انواع القروض، لذا انخفض الاستهلاك في الولايات المتحدة الذي كان محرك الاقتصاد الامريكي والعالمي. وبدأ الاقتصاد بالتباطئ نتيجة انخفاض الطلب العام على البضائع والخدمات، ففقد الكثر من العمال وظائفهم ولذلك بدأوا يتخلفون عن الايفاء بقروضهم. والكثير من الشركات والمشاريع الصناعية والتجارية والخدمية لم يكن بامكانها دفع قروضها ايضا لان استثماراتها لم تولد الدخل المتوقع. كما ان مغادرة الكثير من الرساميل الى الدول التي توفر طبقة عاملة رخيصة تسبب في تسريح موجات من العمال، مما فاقم من عدد الناس التي لم يكن بامكانها الايفاء بديونها والى المزيد من الانخفاض في الطلب. ان التقاء هذه العوامل ادى الى انهيار اسعار البيوت وتوقف هذه الصناعة التي شملت بناء البيوت وفتح الطرق وانتاج الاثاث والى اخره التي كانت اهم قطاعات الاقتصاد مما ادى الى زيادة حادة في البطالة وبالتالي الى اندلاع الازمة في اواخر 2007 في الولايات المتحدة والتي امتدت لتشمل كل العالم.
والازمة الاقتصادية الرأسمالية لسنة 2007 ادت في المقام الاول الى جمود سوق الائتمان والدين الذي يديم الانتاج الرأسمالي. فالبنوك توقفت عن الاقراض الى المقترضين من القطاع الخاص من الافراد والشركات لان هذا الامر كان قد اصبح خطرا ،حيث نادرا ما كان هناك مؤسسة راسمالية لم تشترك في ولم تتأثر بهذه الفقاعة. عندما تخلف المقترضين عن الايفاء وجفت فرص الاقراض الجديدة فان رأسمال البنوك وارباحهم انهارت ولم يبقى اي ثقة بين المؤسسات الرأسمالية وخاصة المالية. النظام الاقتصادي الرأسمالي ككل حيث تلعب البنوك ونظام الائتمان دورا كبيرا في عمله كان على وشك الانهيار.
فعندما لاترتفع الاجور بالتناسب مع الزيادة في القوة الانتاجية وعندما تستخدم الطبقة العاملة الدين لدعم الاجور وعندما لاتستند الارباح على المكاسب الانتاجية الحقيقية بل على اسواق غير انتاجية شبه وهمية، فان فقاعة اقتصادية تخلق مثل فقاعة الرهون العقارية وكل الفقعاعات الاقتصادية تنفجر وهذا ما حصل في اواخر 2007. حيث انهارت المؤسسات المالية ولم تتمكن من القيام بالعمل الذي يفترض بها القيام به ومعها دخل كل النظام الرأسمالي في ازمة عميقة. الازمة الاقتصادية وحتى ظواهر مثل الدخول في المضاربات وتقديم قروض دون تقيم الخطر هي ليست مسائل ناجمة عن قلة اخلاق او الصفات الفردية الاخرى للرأسماليين او مدراء و مجالس ادارة الشركات العملاقة بل هي امور تفرضها قوانين النظام الرأسمالي نفسه حيث يكون الهدف الاساسي هو تراكم الرأسمال و تعظيم الارباح. الكل يؤدي الوظيفة المطلوبة منه حسب قوانين النظام الاقتصادي.
بعد حلول الازمة، طلب من الحكومات انقاذ المؤسسات الراسمالية الكبيرة و قامت الحكومات بالفعل بانقاذ تلك المؤسسات، لان بخلاف ذلك لانهارالنظام الاقتصادي الرأسمالي برمته كما قلنا. لقد انقذتهم الحكومة من خلال تقديم الاموال لهم بشكل مباشر، او الاقراض لهم بنسب فائدة ضئيلة اومن خلال تاميم قروضهم الخطرة والهالكة او من خلال ضمان قروضهم بغض النظرعن مدى خطورتها مما اعاد الثقة بين المؤسسات الرأسمالية وقد صرفت الحكومات الترليونات في هذا المجال.
فالحل الوحيد الذي وجد الرأسماليون امامهم هو التخلص من جمود الائتمان من خلال القيام الحكومة بضمان بقاء البنوك طافية وان تصبح المقترض النهائي لقسم هائل من القروض. ان تاميم الدين يخدم الرأسمالية من خلال جعل الحكومة بشكل مؤقت تعمل كالمقرض والمقترض النهائي. تأميم الدين الخاص ازال الجمود الائتماني الى حد كافي لمنع انهيار الراسمالية العالمية. ففي سنة 2008 و 2009 القليل من الساسة كانوا قلقين على عواقب الزيادة الهائلة في ديون الحكومة.ان احتمال انهيار النظام الرأسمالي طغى على اي قلق حول العواقب البعيدة المدى لتدخل الدولة لانقاذ المؤسسات المالية.
يكون بامكان الحكومة القيام بهذا العمل اما من خلال فرض ضرائب اضافية او طبع النقود او اقتراض المال او مزيج من هذه الاجراءات. ان قدرة الحكومة على طبع النقود محدودة الى حد ما لان لهذا الاجراء عواقب سلبية مثل التضخم وحتى انهيار العملة. كما ان فرض المزيد من الضرائب كان اجراءا غير مرغوب به في ذلك الوقت وخاصة في الولايات المتحدة لان الجماهير كانت في وضع سيئ اصلا. كما كان واضحا بان المال كان سيستخدم لانقاذ نفس المؤسسات الرأسمالية التي تسببت في الازمة من قروضها ونتائج تصرفاتها الخطرة. كما ان الطبقة البرجوازية قاومت بشدة اي ضرائب على دخل الاغنياء و الشركات والاستثمارات الكبيرة وخاصة الاستثمار في الاسهم وسندات الحكومة بحجة ان مثل هذا الاجراء سوف يؤثر سلبا على الاستثمارات وبالتالي على الاقتصاد لذا فان الحكومات التجأت بشكل اساسي الى الاقتراض من اجل انقاذ المؤسسات المالية. والحكومات في كل مكان استخدمت المال المقترض لانقاذ البنوك والمؤسسات المالية الاخرى.
ومن يقرض للحكومة؟

الشركات المالية العالمية وفي المقام الاول البنوك التي انهارت اثناء الازمة وانقذت من قبل حكوماتها من ديونها واستثماراتها السيئة هي معا المقرض الاساسي لتلك الحكومات. فالبنوك تملك ديون حكوماتها وحكومات اخرى.على سبيل المثال البنوك الكبيرة في فرنسا والمانيا هم من بين الدائنين الاساسين للحكومة اليونانية. والبنوك الامريكية والمؤسسات المالية المرتبطة بها هي صاحبة نسبة كبيرة من ديون الحكومة الامريكية و حكومات اخرى وهكذا. والبنوك في كل مكان كانت سعيدة لحد ما لان تقرض للحكومات لانه كان قد اصبح من غير الامن الاقراض الى الجهات الاخرى.
والاقراض للحكومة يتم من خلال شراء السندات. ولكن عندما وصلت ديون الدولة الى مقادير هائلة اصبح المقرضون انفسهم قلقون على قدرة الحكومات في الايفاء بقروضهم، فبدأوا بتهديد تلك الحكومات بانها ستحرم من القروض الجديدة ولن تجدد قروضها القديمة او ستواجة نسبة فائدة اعلى على القروض الجديدة و المجددة الامر الذي سيشل الاعمال الحكومية المعتادة لان قدرة تلك الحكومات خاصة في الدول الصغيرة مثل اليونان على الايفاء كان قد اصبحت مشكوك بها. لقد طلبت من الحكومات القيام باجراءات لتحسين وضعها من خلال رفع الضرائب وتخصيص المال لدفع ديون الدولة واذا لم يكن هذا كافيا ان تفرض التقشف ايضا الذي يعني تسريح الكثير من عمال القطاع العام مثل الشرطة والمعلمين وعمال قطاع الصحة والغاء الكثير من البرامج الاجتماعية وتقليص الضمان الاجتماعي والرعاية الصحيحة والغاء الكثير من مشاريع القطاع العام و بيع ممتلكات الدولة.
فالبنوك التي قامت باقراض المال للدولة، تطالب الان الحكومة بالتقشف وفرض الضرائب على الطبقة العاملة والا فانها ستجعل القروض اغلى وربما لن تقرضها على الاطلاق. كما وظفت البرجوازية جزء من الاموال المتراكمة نتيجة حرمان الطبقة العاملة من زيادة الاجور ومن المساعدات التي قدمتها لها الدولة لتمويل جماعات الضغط-اللوبي للضغط على الحكومة من اجل عدم امرار قوانين تؤثر على ارباح الطبقة البرجوازية و البنوك بشكل خاص. طبعا الحكومات وخاصة في الدول ذات الاقتصاديات الصغيرة قد هلعت من هذا التهديد لان عدم تجديد الدين او الحصول على ديون جديدة يعني لن يكون بامكان الدولة دفع اجور موظفيها وادارة الخدمات العامة. وحتى في الدول العظمى يعلم القادة السياسيون، اذا نفذت البنوك تهديداتها في عهدهم واوقفت القروض الى الحكومة سوف يؤدي ذلك الى اهتزاز او حتى انهيار الاقتصاد العالمي و انهاء المستقبل السياسي لجيل من السياسيين.
البرجوازية طلبت ضمانات من الحكومة، والضمانة هنا هي فرض المزيد من الضرائب على الطبقة العاملة اوالتقشف او كلا الاجرائين. الرأسماليون يعرفون جيدا ان تخلف الحكومة عن الايفاء يعني عودة الجمود الائتماني بما يعنيه من عواقب وخيمة للرأسمالية العالمية. ولكن الاسوأ هو ان الحكومات التي تتخلف في دفع قروضها لن يكون بامكانها الاقتراض لانقاذ البنوك في المستقبل.
ويامل الرأسماليون وحكوماتهم بان بعد مرور فترة تنسى الجماهير الصلة بين رفع الضرائب وبين انقاذ المؤسسات المالية. اذ توصف عملية فرض المزيد من الضرائب التي هي بشكل اساسي على دخل الطبقة العاملة بانها ضرورية لتقليص ديون الدولة التي تراكمت نتيجة " عدم كفاءة الدولة" و " الصرف غير العقلاني للدولة" وغيرها.
تقريبا كل القادة السياسيين الحاليين للدول الرأسمالية الكبرى استجابوا لطلب البنوك من خلال فرض التقشف ورفع الضرائب. وهذا الامر فورا يطرح صراعا سياسيا حول من يجب ان يتحمل الزيادة في الضرائب ومن سوف يعاني من قطع نفقات الحكومة؟ والنتيجة تعتمد دئما على اقتدار القوة العاملة ومنظماتها واحزابها. فخطة البرجوازية هو تحميل الطبقة العاملة عب حل ازمة الرأسمالية. اثناء فترة الكساد الكبير التي امتد من 1929 الى 1939 كانت الطبقة العاملة ومنظماتها واحزابها وخاصة في امريكا من القوة بحيث اجبرت البرجوازية على تحمل العبئ بحيث وصلت اعلى نسبة ضريبة في امريكا الى 91% بينما تجبر الطبقة العاملة في امريكا نفسها اليوم على تحمل العبئ.
ففي الولايات المتحدة مثلا، في الوقت الذي رفعت ضريبة الدخل على كل دولار فوق اول 400 الف دولار يكسبه الفرد الواحد او فوق اول 450 الف دولار للعائلة الواحدة وبعد جهود من ادارة اوباما من 35% الى 39.6% وهي زيادة بنسبة 13.1%، فان ضريبة الضمان الاجتماعي التي فرضت على كل الامريكين رفعت من 4.2% الى 6.2% وهي زيادة مقدارها 47.6%. بالنسبة للعامل الذي يجد صعوبة في اعالة نفسه رغم العمل حد الانهاك، مثل هذه الزيادة هي زيادة كبيرة جدا وخاصة عندما ترافقها تدهور الاجور والضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية.
فبدلا من توفير الاموال من خلال وقف الحرب وتقليص النفقات العسكرية وفرض الضرائب على الذين يمكنهم دفع الضرائب مثل الاغنياء والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والمالية والمؤسسات الدينية والجامعات التي هي مؤسسات رأسمالية غنية ومعفوة من كل انواع الضرائب، قاموا بفرض الضرائب على الطبقة العاملة بشكل اساسي. وهكذا فان اعباء الازمة تحمل على اكتاف الطبقة العاملة التي تزداد فقرا وتصادر مكتسباتها ويتدهور وضعها بشكل فظيع بينما ازداد عدد المليارديرات كما ازدادت ثروة الاغنياء بمعدل 17% في ظل الازمة و انتعشت اليوم اسعار الاسهم و البورصات الى حد ما.
في النتيجة لقد تم حل الازمة التي نتجت عن فشل الرأسمالية والمؤسسات الرأسمالية وخاصة المالية عن طريق تحميل الطبقة العاملة عواقب هذه الازمة و اعباء هذا الفشل من خلال فرض التقشف والمزيد من الضرائب عليها. ولكن فرض المزيد من الضرائب على الطبقة العاملة وتسريح المزيد من العمال من خلال تقليص نفقات الدولة سوف يؤدي حتما الى اضعاف الطلب على البضائع والخدمات الذي هو السبب الرئيسي لهذه الازمة اساسا. ان توقف الاجور عن الارتفاع هو اصل المشكلة ومنذ ان بدأت هذه الظاهرة في السبيعنيات من القرن العشرين وازمة النظام الاقتصادي الرأسمالي تتعمق والبرجوازية تتجاوز ازمتها مؤقتا من خلال خلق فقاعات اقتصادية التي تنفجر تباعا مثل فقاعة اسواق الاسهم ومن ثمة فقاعة الدوت كوم واخيرا فقاعة القروض العقارية. ولكن كل فقاعة تخلقها البرجوازية هي بالضرورة اكبر من الفقاعة التي قبلها وعواقبها تكون اكبر وربما وصل الاقتصاد الى مرحلة بحيث ليس بامكان البرجوازية تجاوز الازمة من خلال فقاعات اقتصادية بل هي غير قادرة على خلق فقاعات اكبر.

من جهة اخرى عدا انقاذ تلك المؤسسات الرأسمالية خلال الازمة فان الحكومات عادة ما تتبع سياسة اخرى وهي سياسة التساقط او الانسياب من الاعلى الى الاسفل التي تأمن بان دعم الرأسماليين واصحاب الشركات والمصانع وتحسين وضعهم من خلال تقديم الاموال لهم بشكل مباشر او من خلال الاعفاءات الضريبية على الدخل وخفض نسبة الفائدة وبالتالي تمكينهم من الحصول على قروض بنسبة فائدة منخفضة ومنحهم اراضي حكومية باسعار رمزية ودعمهم في الاسواق الخارجية وانواع التسهيلات الاخرى سوف يدفعهم الى استثمار اموالهم وخلق الوظائف وهكذا سوف تنساب الفائدة الى كل الاقتصاد والمجتمع. ان هذه السياسة تعتمد على تعزيز عامل العرض اي ازالة كل العوائق امام انتاج البضاعة والخدمات الذي يفترض بانه سيفيد الجماهير عن طريق توفير بضائع وخدمات باسعار منخفضة و خلق الوظائف. ولكن هذه السياسة فشلت. ان كل حملات الحكومة الامريكية مثلا من بذخ الاموال على الاغنياء بكل الطرق المذكورة قد ادت الى تحسين وضع البنوك والمؤسسات الرأسمالية الاخرى وانتعاش سوق اسهمها ولكن انتعاشها لم يصل الى بقية الاقتصاد. فلاموال تستثمر في الدول التي يمكن فيها انتاج البضاعة باسعار رخيصة. ان محاولات توسيع الانتعاش ليشمل كل الاقتصاد قد فشلت فشلا ذريعا. وهذا الفشل قد كلف واشنطن الترليونات من المال الذي يتوجب دفعه مع فوائد. نفس الشيئ يحدث للكثير من الحكومات التي اقترضت بشكل كبير لمعالجة الازمة في بلدانها. ولاتزال تلك الحكومات تصر على نفس تلك الاجراءات.
اذا توفرت الاموال للرأسماليين فان استثمارها لانتاج البضائع والخدمات هو خيار من عدة خيارات مثل وضعها في حسابات داخل بنوك او تهريبها الى الملاذات الضريبية او استثمارها في الدول التي تقدم طبقة عاملة رخيصة او اقراضها للحكومة او الدخول في المضاربات وغيرها. وفي وضع الازمة ان استثمار الرأسمال في انتاج البضائع والخدمات هو اسوأ الخيارات.
من جهة اخرى ان سياسة التساقط- ال( تريكل داون) تؤدي الى سباق نحو القاع بين الدول المختلفة في مجال خفض الضرائب من اجل جذب الرساميل العالمية وهذا الامر يوفر طرق مختلفة للرساميل لتفادي دفع حتى الضرائب المنخفضة التي يتوجب عليها دفعها من خلال الكشف عن الارباح في الدول التي تفرض اقل الضرائب وهذا يؤثر بالتالي على الاموال المتوفرة لكل الحكومات وخاصة تلك التي تود ان تفرض ضرائب اعلى وبالتالي يتطلب منها فرض المزيد من التقشف.
الازمة مستمرة لان اي من هاتين السياستين اي التقشف وسياسة التساقط او الانسياب من الاعلى الى الاسفل لم ولن تعالج مشكلة الازمة مادامت لا تعالج مسالة ضعف الطلب نتيجة قلة الاجور. في الحقية ان سياسة التقشف في وضع الازمة الاقتصادية هو اسوأ الخيارات ليس للطبقة العاملة وعامة الجماهير فحسب بل للاقتصاد الرأسمالي نفسه لانها تقتل الطلب الضعيف اصلا. فهو حمل قاسي اخر على الاقتصاد العالمي الذي يترنح تحت الازمة ويزيد من معاناة الملايين التي تعاني اصلا تحت البطالة وانخفاض الاجور وتدهور شروط العمل. وسياسة التساقط او الانسياب قد اكدت فشلها في كل انحاء العالم على الاقل في العقود الاخيرة وهي الاخرى تضعف الطلب لانها تستهلك المال الذي يمكن للدولة صرفه على خلق طلب من خلال توظيف العمال واقامة مشاريع القطاع العام. فلماذا تصر البرجوازية على هاتين السياستين؟ لان هاتين السياستين هي في مصلحة البرجوازية التي تتحكم بالحكومات وسياساتها بالف طريقة وطريقة. والحل الوحيد المتوفر ضمن اطار النظام الرأسمالي هو خلق طلب من خلال زيادة ميزانية ومصاريف الدولة عن طريق فرض ضرائب مناسبة على الاغنياء ومن خلال زيادة الاجور وهي امور صعبة في الظروف الحالية والمنافسة الشرسة بين الدول الرأسمالية لجذب الاستثمارات وفرض ظروف انتاج امبريالية على الطبقة العاملة. كما ان زيادة الطلب لابقاء النظام الرأسمالي طافيا يشكل خطورة جدية على حياة البشرية من خلال التغير المناخي وتدمير البيئة.
وهناك جدال بيزنطيني بين المدارس الاقتصادية الرأسمالية حول دور الدولة في ادارة الاقتصاد وضرورة تنظيم الاقتصاد من خلال القوانين او تحريره منها. الليبراليون يجدون ان سبب الازمة هو تحرير الاقتصاد من القوانين والحد من دور الدولة مما شجع الرأسماليين الجشعين على القيام بما قاموا به ! في الجهة المقابلة يدعي المحافطون ان سبب المشكلة هو ان الاقتصاد غير محرر بالشكل الكافي ولم يحدد دور الدولة الى الحد المطلوب! ان مثل هذه النقاشات اصبحت تافهة ومملة الى اقصى الحدود لايقصد بها غير ايهام الناس بان هناك حل ضمن اطار نفس هذا النظام، ويجب على الجميع الانتظار الى الانتخابات القادمة او التي بعدها ليأتي ليبرالي منفتح او محافظ عقلاني بحلول سحرية. فالاقتصاد الرأسمالي المقنون والذي شهد تدخل واسع من الدولة دخل في ازمة في السبعينيات من القرن العشرين والاقتصاد الرأسمالي المحرر من القوانين ومن تدخل الدولة الذي جاء كحل لتلك الازمة قد دخل في ازمة اعمق منذ 2007.
لماذا لم ترد الجماهير وخاصة في الولايات المتحدة لحد الان على النظام وسياسة التقشف والتساقط؟ لايزال هناك توهم بان النظام بامكانه تحقيق الرفاهية والسلام الاجتماعي. لايزال الجماهير تامل ان تكون هذه الازمة ازمة عابرة. لايزال من الاسهل تخيل نهاية العالم من تخيل نهاية النظام الرأسمالي. ولاتزال الجماهير في حالة الصدمة وغير قادرة على فهم ما يحدث وخاصة بعد عقود من تمجيد النظام والتغني به. لاتزال اقسام من الطبقة العاملة تقبل برواية البرجوازية واعلامها وترى بان فرض التقشف ورفع الضرائب شيئ معقول ومقبول. ولاتزال لاتعرف من المسؤول عن هذه الازمة هل هو النظام ام هذه الشريحة او تلك من اصحاب البنوك او المدراء او المهاجرين اوالشريحة السياسية؟ من الطبيعي والمنطقي ان يميل الانسان الى اختيار اسهل البدائل. واسهل البدائل في هذه الحالة هو الانتظار وتوقع انفراج قريب. ولكن مع استمرار الازمة وتدهور المستوى المعاشي للملاين وغموض المصير الذي يواجه البشرية يزداد باضطراد عدد الناس الذين يقرون بان الازمة لن تكون قصيرة او سطحية او قابلة للحل. بعد كل صدمة يدخل الانسان في مرحلة نكران وجود مشكلة ولكن بعد هذه المرحلة تاتي مرحلة القبول بالواقع والعمل على تغيره. البشرية حاليا في هذه المرحلة. فالنظام الرأسمالي الذي خلق ازمة بهذه الضخامة والسعة ومن ثم فرض التقشف على افقر قطاعات المجتمع لحلها هو نظام فقد حقانيته ومشروعيته فعلا. البشرية تستحق نظام افضل من هذا النظام ويمكنها تحقيق هذا الهدف.