الفلسفات السياسية لليسار: الشغل حق مقدس ج1


محمد بوجنال
2013 / 5 / 29 - 15:41     

الفلسفات السياسية لليسار:
الشغل حق مقدس
ج1

من الأدبيات المعروفة أن للتاريخ بنيته التي تتحدد في الزمان والمكان وفق رزمة من القوانين والقواعد والشروط. وعليه فالتاريخ الراهن يتميز بسرعة الحركة والتغيير الذي نحدده في كونه التحولات ذات الاتجاهات المختلفة، بل وحتى المتناقضة؛ أو قل أن التغيير هو محصلة العلاقة الجدلية بين الداخلي والتشاملي. وفي هذا تتميز البنية المجتمعية الوطنية والتشاملية الراهنة بكونها بنية أزمة اقتصادية خاصة منها المالية ،وظهور الحركات العالمية المناهضة للتوحش الرأسمالي، والتميز بالتغيرات الجيو-سياسية، وتطور ظاهرة الإرهاب، وعولمة الحروب، والتطور المذهل لتكنولوجيا التواصل، والانتشار الأيديولوجي السريع للرأسمالية في شكلها النيولبرالي، بل والتحول الأيديولوجي لجزء مهم من مثقفي اليسار. هذه التغيرات فرضت التوجه إلى طرح التساؤلات تلو التساؤلات حول المجال الاقتصادي من قبيل الأزمة، الفقر، الشغل،إمكانيات تجاوز أو تدمير هذا المجال لصالح بديل له...الخ.
أما بخصوص مفهوم اليسار فنحدده في كونه الأطروحات الفلسفية السياسية التي ترفض سياسة واستراتيجية النظام الرأسمالي الحالي مقترحة إما التعديل الجذري، وهنا نكون أمام فلسفة اليسار النيولبرالي؛أو أمام الدعوة لتغيير يركب بين فلسفة الأنوار ومدرسة الحوليات، وهنا نكون أمام فلسفة يسار ما بعد الماركسية؛ أو أمام أطروحات التركيب ما بين اليسار النيولبرالي وما بعد الماركسية والماركسية، وهنا نكون أمام فلسفة ما يسمى بيسار "الحداثة الأخرى"؛ أو الدعوة للتغيير الجذري أو قل القطع مع النظام الرأسمالي، وهنا نكون أمام فلسفة اليسار الشيوعي. هذا وتجدر الإشارة إلى استخدام مفهوم العامل لذى هذا اليسار بمعنى العامل اليدوي والذهني على السواء؛أو بلغة أخرى فالعامل هو هو الإنسان، والإنسان هو هو العامل مع استحضار طبيعة النسق النظري.
هذا التغيير خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، بما له وما عليه، أفرز فلسفات سياسية ليسار ركز، رغم الاختلاف المعرفي والأيديولوجي، على أهمية مركزية مفاهيم:"الشغل" م"العلاقات" و"الاستيلاب" و"الاستغلال" وبالتالي التركيز على التناقض المستفحل بين الرأسمال والفقر. وفي هذا الإطار دافعت الفلسفة السياسية لليسار بمجملها عن فكرة أن "الشغل" كعلاقة مفهوم وجودي، به يكون ويبنى الوجود؛ وبدونه أو في الشطط في استغلاله يكون الفقر والسلطة التسلطية. فلا يمكن الكلام عن العامل(=الإنسان)- في شكله المادي والذهني- بتغييب مفهوم "الشغل" ذاك أو تهميشه؛ إنه إبداعه وتعبيراته الذي يعملن وبالتدريج، على تطويره باعتباره ككائن جزء لا يتجزأ من أنشطته داخل الجماعة بفعل التداخل والوحدة الانطولوجية؛ أو قل الارتقاء به من مستوى اللاموجود إلى مستوى من مستويات الموجود ووفق قاعدة الخط التصاعدي مغنيا ذلك بالتواصل فيما بين مكونات الوحدة تلك ومترجما كل ذلك في أشكال متباينة من الإنتاج على مختلف المستويات سواء منه الإنتاج الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الإنتاج الثقافي.
تباعا لذلك، يستنتج من منطوق الفلسفات السياسية لليسار أن" الشغل " حق انطولوجي بدونه نقوم بتدمير وتصنيم العامل(=الإنسان) ومنعه من حقه الطبيعي في ممارسة أنشطته وعلاقاته الاجتماعية، ليتم تحديد العلاقات تلك، بفعل السلطة التسلطية، بسجنها في دائرة العلاقات المراقبة والمسلعنة. فالعامل(=الإنسان) لا يمكن عزله عن بقية العمال، بل يوجد على الدوام في علاقة حيوية متبادلة مع غيره من العمال؛ وهذا بطبيعة الحال ما يجعل من التشغيل عملية إلزامية تقتضي المصاحبة الإلزامية كذلك بحصول العناية الصحية والتعليم المنتج والعدالة النظيفة والشراكة المسؤولة...الخ باعتبار كل ذلك حقا طبيعيا للعامل(=الإنسان). فهو العملية التي بها يحصل الإنتاج في مختلف المجالات وبأشكال أكثر ديناميكية لما فيه مصلحة الإنسانية وفي إطار ما سمته الفلسفات السياسية لليسار ذاك على التوالي تارة"بالشراكة المسؤولة"، وتارة "بالتعاقد البيذاتي" ،وتارة"بالفعل المشترك"، وتارة "بحرية الفعل"؛ هذا في الوقت الذي نجد فيه عرقلة هذه الإمكانات بفعل المراقبة الصارمة لنوعية المعرفة والحد من ديناميات اللقاءات والورشات المثمرة والاستنزاف المستمر للموارد الطبيعية بفعل استراتيجية السلطات التسلطية سواء منها الشركات العالمية أو الحكومات المسماة ديموقراطية.
بناء على ما سبق، تقدم هذه الفلسفات السياسية لليسار بدائل لهذا الوضع التنظيمي الرأسمالي الراهن"للشغل" المتمثل في تجديد قوة وقدرات الموجود الذي هو العامل(=الإنسان). ومعلوم أن القول بالعامل يعني، وباللزوم المنطقي، القول بالإنتاج وكذا استحضار السلطة والسياسة التسلطية – مع استحضار التباين بين أطروحات أنصار اليسار بطبيعة الحال- بحثا عن تمتين وتركيز ونشر أسس فلسفات موضوعها الفقر والاستغلال واستصدار الحق الانطولوجي والاجتماعي. فالإنتاج هو خاصية العامل(=الإنسان) الذي لا يمكن أن يتناقض وأصالته المتعلقة بممارسة مختلف الأنشطة الهادفة والرامية تغيير مواضيع العالم التي تتميز بالمزال في ذاته والماأصبح لذاته؛ إنها الإرادة الخيرة التي قمعتها السلطة التسلطية لتصبح ملكية خاصة لها.إلا أن القمع ذاك لا يمكن أن يلغي على الإطلاق انطولوجية العامل(=الإنسان) لتبقى أجزاء منها نائمة وأخرى مناضلة في اتجاه خلق شروط التحرير الذي هو قانون الوجود.لذا، في نظر هذه الفلسفات السياسية يتحدد المجتمع،أي مجتمع، بكونه مادة حية ترفض الجمود في أصالتها؛ أو قل أن تطورها هو قانون محايث لها ناضل ويناضل أثناء مرحلة سيطرة السلطة التسلطية وسيصبح حرا زمن انهزامها.
هكذا ، فوجود الموجود يتلخص في كونه العامل(=الإنسان) الذي هو الإنتاج أو قل أنه العلاقات المتبادلة بين العمال في أفق إغناء الإنتاج ذاك وبأشكال أرقى فأرقى. وفي هذا الاتجاه تحدد الفلسفات السياسية لليسار "الطبيعة" بشكل مختلف حيث أنها لم تعد وجودا منفصلا عن غيره من أشكال الوجود سواء منه الإنساني أو الحيواني أو النباتي بقدر ما أنها تركيبا بين كل هذه المكونات ذات القدرات الذاتية، كما سبق القول وبالتالي فهي ليست سوى هذا الكلي المركب. لذا، ترى الفلسفات السياسية تلك أنه، سواء بقينا على المستوى السوسيولوجي أو الابستبمولوجي، فلا يمكن الفصل بين الشغل باعتباره حقا ونشاطا إنسانيا، وباقي مكونات الطبيعة بفعل التشابك الانطولوجي.
إذن، وبناء على ما سبق، تؤكد الفلسفات السياسية لليسار أن الطبيعة التي نحن جزء منها، لا يمكن تصورها خارج حقل الإنتاج الذي هو هو الإبداع والنشاط الجماعي؛ وما الفصل بين الطبيعة وأنشطة العمال(=الإنسان) سوى فصلا منهجيا. أما العلاقات المفروضة على هذه المكونات فقد حددتها في كونها علاقات رأسمالية متوحشة اعتبرت وتعتبر رأسمالها ملكيتها المشروعة؛ في الوقت الذي نجد فيه الرأسمال ذاك لم يحصل ولم يكن سوى استغلال حصل بفعل القوة اللامتكافئة والسلطة التسلطية وبالتالي لا مشروعية الملكية الخاصة تلك والتي ليست في حقيقتها سوى سرقة إنتاج العامل(=الإنسان). لذا ، انصب انتقادهم أكثر على هذه الخاصية الرأسمالية التي هي الملكية الخاصة التي تتصرف بشكل سئ في الإنتاج المشترك الذي هو ملك الجماعة والذي أفرز الفقر والتهميش والإقصاء.
وعموما، نقول أن الفلسفات السياسية لليسار قد تقاطعت، وإن بأشكال مختلفة، حول نقد النظام الرأسمالي المتوحش الذي أفرز الفقر والأزمات؛ فلسفات تميزت بنقد وتعرية باقي المقاربات الفلسفية الرأسمالية خاصة منها تلك التي ركزت وتركز بشكل عميق على الثقافي والهووي والمتمثلة في أطروحات الاختلاف التي نظرت لتبرير مشروعية الاستغلال وما زالت. وهكذا نجد عموما، بصدد الفلسفات السياسية لليسار أربع أطروحات:
اولها الذي نادى بأطروحة الفردانية الوجودية حيث يتم تحديد الشخص انطلاقا من رغباته
ومشاريعه باعتبارها مسؤوليته الخاصة تحديدا وممارسة، ولكن بشرط حصوله على الحد
الأدنى من الحق الاجتماعي الذي يمكن كل شخص من حماية وصيانة نفسه من الفقر والتسلط السياسي علما بأن هذا الحد الأدنى يعتبر ذا أولوية يضاف إلى باقي الشروط لتحقيق الرغبات
ونجاح المشاريع. وفي هذا الاتجاه نصنف كلا من راولز وسين كممثلين لليسار النيولبرالي
أما التصور الثاني فقد نادى به تيار" ما بعد الماركسية" الذي يؤمن من بين ما يؤمن به،للدفاع
عن قدسية الشغل وبالتالي التغلب على ظاهرة الفقر، حصول شروط شغل تمكن العامل(=الإنسان)
من التوفر على حياة ذات بنية تحتية لائقة ومقبولة يمكن اعتمادها كأساس لحصول المعنى الحقيقي للحوار والتشاور والتعاقد؛ أما غير الشروط تلك فيلزم عنه استمرار استحواذ السلطة التسلطية
على" الشغل" ليبقى الشخص ضعيف الكفاءة ودون القدرة على المشاركة والمساهمة الواعية في
الحوار؛ لذا، أعطوا الأهمية للمشاركة الديموقراطية التي تشترط وجود نظام شغل ذو مستوى
اقتصادي مقبول يمكن بفعله حصول التواصل وبالتالي المساهمة الفعالة والمسؤولة في تحديد
وصياغة واتخاذ القرار وكذا المتابعة والمحاسبة؛ وفي هذا الاتجاه نستحضر يورغن هابرماز.
أما التصور الثالث فقد نادى به ما يسمى بتيار"الحداثة الأخرى" الذي يمثله الثنائي انطونيو
نيغري ومايكل هارت اللذان تأثرا بالنظرية التواصلية لهابرماز وكذا النظرية الماركسية. إلا
أنهما تجاوزا الأول بطرحهما أن المنطق يقتضي النظر إلى شروط"الشغل" باعتبارها عملية
متضمنة ضمن مقاربة ركزا فيها على مفهوم"التطور الذاتي والمحايث للإنتاج المشترك"؛ كما
تجاوزا التصور الماركسي برفضهما فكرة خضوع"الشغل" لقانون الارتباط الحتمي والمتبادل
بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير للقول باستقلال هذا الأخير أي العمال(=الإنسان) بفعل
القانون المحايث له؛ وهذا، فباعتماد هذا القانون المحايث للعامل(=الإنسان) يحصل إغناء
وتطوير وتحري الطبيعة فيصبح الإنتاج بذلك عملية إبداعية وهي الفكر التي، في نظرهما،
نادى بها ماركس في الكتاب الثالث من الرأسمال.
أما التصور الرابع فيمثله اليسار الشيوعي الذي حدد"الشغل" باعتباره حقا إنسانيا؛ إلا أن
واقع الحال،في نظره، ليس كذلك حيث اعتبار "الشغل" ملكية خاصة للنظام الرأسمالي
بفعل السيطرة على قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وبالتالي السيطرة على فائض القيمة الذي
هو أساسا سرقة لجهد وحق العامل(=الإنسان) ناهيك عن الشروط السيئة واللاإنسانية التي
التي يشتغل فيها؛ إنه الوضع الذي اعتبرته الفلسفة السياسية لليسار الشيوعي وضعا نقيضا
لحقيقة معنى الوجود الانطولوجي "للشغل" الذي يتحدد في كونه حقا مشروعا يتضمن معنى
العيش الكريم والغنى العادل والمشاركة المسؤولة والعدالة النظيفة والحرية الطبيعية والمجتمعية.
ويمثل هذا الاتجاه حاليا، وبشكل أدق، كلا من آلان باديو واسلافوي زيزيك.
إذا رأينا من خلال طرحنا الفلسفات السياسية لليسار التركيز على أن"الشغل" حق مقدس؛ أو بلغة أخرى أن تطور الغرب وتجاوز أزماته رهين باحترام الشغل كانطولوجيا وبالتالي احترام وتمكين وخلق شروط حصول العامل(=الإنسان) على حقه الطبيعي في الوجود، فإن"الشغل" في عالمنا العربي كحق مقدس ما زال مغيبا وعشائري وطبقيا وتحت وصاية السلطة التسلطية. اعتبار الشغل ملكية خاصة للطبقة الكامبردورية العربية يشير بوضوح إلى انتهاك الحقوق الطبيعية للإنسان العربي فبالأحرى الحقوق الحقوق المجتمعية والمدنية ليبقى الإنسان ذاك غريبا في وطنه، جاهلا بحقه في الشغل، قانعا بوضعيته الفقيرة، مؤمنا بخرافاته الميتافيزيقية مع مرافقة كل هذا بالضعف الملموس لمراكز الأبحاث ومؤسسات المجتمع المدني. لكن القدرات الذاتية أو المحايثة للإنسا ن العربي الذي تحمل عبئا كبيرا من الفقر والتسلط وطوال مراحل تاريخية طويلة، رفض، وبمستوى ما من المستويات، استمرار هذا الوضع ليقود حراكا جماهيريا طالب فيه من بين ما طالب، حقه في"الشغل". فهل الحراك بشكله ذاك، على الرغم من ضعفه التنظيمي و التاكتيكي والاستراتيجي، قادر على فرض مطلبه في "الشغل" أم أن تحقيق المطلب ذاك يقتضي النضال النضال والوعي الشمولي للمجتمعات العربية بمعنى الوجود أو قل بمعنى الحق في "الشغل"؟