قوى اليسار الأوربية في ظل الأزمة


فرانسوا سابادو
2013 / 5 / 18 - 10:36     

يتأتى فهم حالة "قوى اليسار" دون انطلاق من الأزمة، أي من أبعادها المتعددة، ومن آثارها على الصعيد الاجتماعي والسياسي. فهي إذ تضرب مباشرة كافة المنظمات والأحزاب المرتبطة بتاريخ الحركة العمالية، وتسرع القطيعات، ُتجبر القوى على توزّع جديد حول محاور جديدة. كان سقوط جدار برلين في 1989، وانهيار الكتلة السوفيتية إعلانا عن حقبة جديدة، وهاهي التغيرات العميقة الجارية تعطيها مضمونها. إن الأزمة الراهنة شاملة، وهي على الصعيد الاقتصادي ثمرة فيض تراكم للرأسمال، وفيض إنتاج للمواد والخدمات، ولنقص استهلاك لدى الجماهير. ويَـرْسخ "الاقتصاد الفعلي" للمراكز الامبريالية في منطق انكماشي طويل الأمد، وما من خبير اقتصادي"أرثوذكسي" يجازف حول موضوع "خروج من الأزمة".

غالبا ما تُـقارن الأزمة الجارية بنظيرها لعام 1929. كانت هذه الأخيرة قد أفضت إلى الفاشية والحرب العالمية الثانية. لحد الآن، الأزمة الراهنة مستوعَبة. وقد تقدم البعض بتعبير "أزمة سنوات الثلاثين بوتيرة بطيئة". لكنها ذات فرادة مزدوجة، بما هي "أزمة حضارة"، وبخاصة في بعدها البيئي، و بما هي تعبير عن "ترجح للعالم". مراكز ثقل اقتصاد العالم وسياسته تتحرك. وتصدم الأزمة المجتمعات الرأسمالية بالمركز وفي محيطها المباشر، فيما تشهد بلدان مثل الصين أو الهند، أو أخرى بآسيا، توسعا اقتصاديا مستديما. وبدرجة أقل، تشهد بعض بلدان أمريكا اللاتينية طور نمو مديد. إن من شأن هذه الأزمة المستديمة للرأسمالية – الثالثة حجما بعد أزمتي 1857 و1929- أن ُتنهي سيطرة أوربا على العالم، و تطوي حقبة تاريخية كاملة.

ليست هذه التغيرات ظرفية، بل بنيوية. وتطول كل توازنات الكوكب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وهذا في وضع حيث تسم العولمة الرأسمالية ببصمتها كل مكان. هكذا، ليست خطط التقشف التي تعصف راهنا بأوربا سوى طور من خطط التقشف التي شهدتها أوربا: بالتأثيرات الراهنة للتنافس الرأسمالي الدولي وبضغط مباشر أكثر فأكثر من سوق قوة عمل موحدة، باتت مكانة القارة الأوربية موضع مراجعة. وتتطلب العولمة الرأسمالية من أوربا، حلقة النظام الضعيفة، تدمير ما تبقى من "النموذج".

تستهدف الطبقات السائدة والأسواق المالية خفض قدرة الجماهير الشرائية بنسبة15 إلى 20 %، وحتى أكثر من ذلك ببلدان جنوب أوربا، وتدمير الخدمات العامة، ونسف تشريعات العمل. بكل مكان بأوربا، تسير الإصلاحات المضادة، لاسيما المتعلقة بسوق العمل، في نفس الاتجاه: مزيد ومزيد من المرونة ومن الهشاشة. إن شراسة سياسات التقشف هذه أشد بقدر ما هي ناتجة عن مسارات متباينة لمختلف مناطق الاتحاد الأوربي الاقتصادية: ألمانيا والبلدان الدائرة في فلكها، فرنسا، ايطاليا، أوربا الجنوبية، أوربا الشرقية...وتشتد هذه التناقضات بقدر انعدام دولة مركزية على عكس الولايات المتحدة الأمريكية أو الصين.

في المجتمع العالمي، تجمع أوربا الانحدار الاقتصادي إلى الضعف السياسي. فالتوترات والتناقضات الداخلية، ومخاطر الانفجار قائمة في تشكيلات سياسية تقليدية عديدة بأوربا. يعبر هذا عن نفسه في هجوم منظم على الحقوق والحريات الديمقراطية. وتعزز الميول "التقشفية" السمات التسلطية للأنظمة القائمة. وتفيد هذه الأزمة "الديمقراطية"،على نحو مباشر، لعبة الأحزاب الفاشية الجديدة أو الشعبوية اليمينية المتطرفة. لم يعد ممكنا استبعاد أن تظهر، بضغط من الأزمة، تحالفات أو عمليات إعادة تنظيم سياسية مساعدة على حالات تقارب بين اليمين واليمين المتطرف. وتحل سياسات الثالوث[الاتحاد الأوربي،البنك المركزي الأوربي، صندوق النقد الدولي] والأسواق المالية مكان قرارات مؤسسات الديمقراطية البرلمانية التقليدية.

ومع أزمة الدولة-الأمة والديمقراطية البرلمانية، انخرطت الأحزاب التقليدية في دوامة تنسف قاعدتها الاجتماعية والسياسية. ويمثل الزلزال السياسي الذي هز إيطاليا برهنة جيدة على ذلك. إذ فقد يمين برلسكوني أكثر من 7 ملايين صوت. وفقد اليسار4,7 مليون صوت. وانهارت المنظمات المرتبطة بما كان سابقا حزب إعادة البناء الشيوعية. و انبجس بيبي غرييو Beppe Grillo وثمانية ملايين صوت لصالحه، ما مثل تعبيرا عن استياء عام من التقشف، والفساد، والاتحاد الأوربي، لكنه أيضا زعيم ذو مواقف سياسية إشكالية من النقابات وحقوق المهاجرين، يصعب التنبؤ بمستقبل مساره.

الأزمة التاريخية للحركة العمالية الأوربية

كيف، والحالة هذه، ألا تُصدم "قوى اليسار"؟ إبان أشهر الأزمة الأولى، حوالي العام 2008، كان مأمولا أن تؤدي الأزمة إلى ردات فعل،أي نضالات اجتماعية كبيرة وتعزز الحركة العمالية. بعد خمس سنوات، ها نحن إزاء سيناريو آخر. كانت ثمة مقاومات ونضالات اجتماعية. إذ شهد جنوب أوربا –اليونان أولا، بثمانية أيام من الإضراب العام، و أيضا البرتغال، وبشكل مذهل إسبانيا بـ"ساخطيها" وإضراباتها ومظاهراتها، صعودا للنضالات. وحصلت قوى راديكالية على نتائج انتخابية جيدة باليونان، حزب سيريزا، تلك الظاهرة الاستثنائية، وبدرجة أدنى في إسبانيا أو فرنسا، مع حزب اليسار الموحد وجبهة اليسار. لكن هذا الواقع قد يعبر عن ذاته أيضا في حركة مثل حركة "النجوم الخمسة" في ايطاليا(حزب بيبو غريو). لكن لم يحدث بأي من بلدان أوربا وقف ذو مغزى لهجمات الحكومات أو أرباب العمل، رغم نضالات استثنائية بجنوب أوربا. هذا علاوة على أن تلك النضالات لا تنتج طور نمو عضوي للحركة العمالية، إذ ليس ثمة موجات انضمام جماهيرية نحو الأحزاب أو النقابات.

ولم يشهد أي اتجاه إصلاحي، أو إصلاحي يساري، أو مناهض لليبرالية، أو ثوري، تطورا مهما، ما خلا باليونان ربما، مع حركة انضمام هامة إلى حزب سيريزا الذي ضم في أثناء ندوته الوطنية الأخيرة، رغم ضعف الانغراس والتنظيم، زهاء 35 ألف عضو. لكن، بوجه الإجمال، تواصل معدلات المنظمين بالنقابات تراجعها، بعد انخفاض كبير في سنوات1980 و1990. وحدها نقابة إي جي ميتال IG Metall في ألمانيا حافظت على قوتها. أما الأحزاب فتشهد إئتكالا منتظما لعدد منخرطيها، وتميل أكثر فأكثر في أفضل الأحوال إلى التحول إلى آلات انتخابية كبيرة. وحتى الاشتراكية الديمقراطية الألمانية القوية انتقلت من مليون عضو في سنوات 1970 إلى أقل من 500 ألف عضو. ولم يبق تقريبا شيء يذكر من الحزب الشيوعي الايطالي الكبير!

إن حزبا من قبيل الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي احتوى أزمته بعد النتائج الانتخابية لجبهة اليسار، يشهد تراجع عدد أعضائه على نحو محسوس. إذ انتقل عدد الأعضاء من 779 78 إلى 184 64 بين مؤتمريه الآخرين. وكانوا 34 ألفا عند التعبير عن الرأي(فبراير2013) فيما كانوا 48 ألفا عند اختيار مرشحهم للرئاسة في يونيو 2011. وحسب روجيه مارتيلي، مؤرخ الحزب، وعضو سابق به، "34 ألف هو أدنى رقم في السنوات الأخيرة". ثمة إذن وضع فريد حيث تتزامن أزمة من الأكثر عمقا للنظام الرأسمالي مع حركة عمالية أوربية من الأشد ضعفا. انه فرق بارز قياسا بأوضاع أزمة أخرى، وبوجه خاص، بوضع سنوات الثلاثين، حيث شهدت كل المنظمات والتيارات نمو مذهلا على الصعيدين السياسي و النقابي على السواء. " لم يعدْ، و ليس بعدُ"...

يعود هذا الضعف الذي حل بالحركة العمالية إلى ماض بعيد. انه بالمقام الأول نتيجة الثلاثين سنة من الهجوم النيوليبرالي التي فككت، ثم صفّـت، جملة مكاسب اجتماعية. لقد حلت الأزمة فيما الحركة العمالية في وضع دفاع منذ سنوات. وجرى تكييف التغيرات المدخلة على سيرورات العمل بميزان القوى المتدهور هذا. وفيما بلغ نظام العمل المأجور انتشارا غير مسبوق (85 إلى 90 % من السكان النشطين)، بات مجزأ، ومقسما، و ُمفَـرّدا، و مُهششا بنسب هامة. وهذا يكبح، بلا جدال، تطور وعي طبقي ومنظمات نقابية أو سياسية للأجراء. وأخيرا، ُيلاحظ، حتى ببلدان جنوب أوربا عالية الكفاحية، تفاوت مذهل بين التفجرية الاجتماعية والوعي الاشتراكي. إن غياب البديل يعطل كل مشروع تغيير اشتراكي ثوري.

توجد أشكال انعدام التطابق هذه بمناطق أخرى من العالم، كالعالم العربي اليوم، المزعزع بانبجاس ثورات من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد أطيحت الديكتاتوريات من قبل الطبقات الشعبية وتحالفات ضمت ديمقراطيين وعلمانيين وقوميين ودينيين و ثوريين.

السيرورات الثورية هناك مستمرة لكن، وكما تبرز تطورات الوضع في مصر و تونس، القوى السياسية المهيمنة ذات مرجعية إسلاموية، حتى بتنوعها وانقسامها. وإن كان لابد من "المرور عبر تجربة الإسلاميين في الحكم، كما يشرح جلبير الأشقر، فهذا لا يفسر الضعف الراهن للقوى التقدمية والثورية. إن حصيلة تجارب القومية العربية سنوات 1950-1960، وحصيلة الستالينية على صعيد عالمي تنيخ بثقلها على نحو مؤلم على تشكل وعي اشتراكي.

وعودة إلى أوربا، كانت القوة الدافعة لحركتها العمالية تعززت بتواز مع توسع أوربا الرأسمالية، فيما كانت تلك الحركة العمالية تحت تحكم الأجهزة البيروقراطية للستالينية وللاشتراكية الديمقراطية. ويترافق تراجع أوربا الاقتصادي مع أوجه خسوف ثقافية وسياسية، ويضغط على إشعاع الحركة العمالية في القارة... طبعا ثمة ميول مضادة ُتعوض هذه التراجعات: مقاومات اجتماعية لهجمات الرأسمال، وحركات اجتماعية جديدة مثل حركة العولمة البديلة، وحركة الساخطين، أو صيغ تجذر جديدة في الشبيبة. وقد تؤدي تجارب اجتماعية-سياسية جديدة ُتوقف سياسات التقشف إلى انعطافات مباغتة في أوربا، كما يشهد على ذلك حزب سيريزا في اليونان.

من وجهة نظر جيوسياسية، تنطوي الحركة العمالية والحركات الاجتماعية على قدرات كبيرة في بلدان القوى الجديدة البازغة، لاسيما بالصين. إن الوزن الاجتماعي للبروليتاريا الصينية، وما حققت من تقدم في النضال من أجل رفع الأجور والحماية الاجتماعية، وقدراتها على بناء نقابات وجمعيات من أجل الحقوق الديمقراطية، وحركات سياسية مستقلة، عناصر قد يكون لها دور أساسي في عملية إعادة تنظيم لقوى اليسار...إنه في وضع حيث الحركة العمالية التقليدية "لم تعد"، فيما حركات جديدة –الساخطون الشباب وأجراء الصين، والهند، وآسيا أو أمريكا اللاتينية...- "ليست بعدُ"، يظل أفضل ما تعد به الحقبة الجديدة منتظرا... و في الآن ذاته، يسجل الرأسمال نقطا. يلزمنا إذن إدراك واضح لحقيقة ميزان القوى الإجمالي، كما تقتضي المقاومة الدفاع عن برنامج سياسي كفيل بالجواب على انعطافات مباغتة في الوضع.

حركة اشتراكية ديمقراطية "برجوازية أكثر فأكثر، وعمالية أقل فأقل"...

يمثل تطور الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مؤشرا جيدا على ميول الوضع. جرت أزمة سنوات 1930 في سياق اندفاعة للحركة العمالية بعد ثورة 1917 الروسية، وأدت هي ذاتها إلى تجذر للطبقات الشعبية وللمنظمات العمالية. واستقطبت كل تيارات الحركة العمالية، من الإصلاحيين إلى الثوريين، ملايين العمال. وبتضافر مع صعود النازية، دفعت الأزمة يسارا الفيالق الكبرى من الاشتراكية الديمقراطية، مقتادة قطاعات مهمة من هذه الأخيرة نحو مواقف من الأشد راديكالية.

أما اليوم فتسير الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الاتجاه المعاكس، إذ بقدر تعمق الأزمة، تتكيف الاشتراكية الديمقراطية مع الرأسمالية النيوليبرالية.

ما تفسير هذا التحول؟ كان كثيرون يرون أن قطاعات هامة من الطبقات السائدة، وخلفها أحزاب الأممية الاشتراكية بأوربا، ستتجه، بضغط الأزمة، نحو سياسات كينزية أو كينزية جديدة لإنعاش الطلب و تدخل أقوى للدولة. على العكس، شاركت الأحزاب الاشتراكية، إن لم تكن مبادرة، في سياسات التقشف في جنوب أوربا، واليوم في فرنسا. ولم تتبن أي طبقة سائدة، ولا أي دولة، سياسات كينزية أو سياسات مساومات اجتماعية. على العكس، تستعمل هذه القطاعات الأزمة لزيادة معدلات الاستغلال وفائض القيمة. ويقودها التنافس الرأسمالي إلى سير حثيث لخفض مستوى حياة ملايين الناس. لكن ثمة، أبعدَ من الميول الاقتصادية الكبرى، مشكل سياسي، إذ أن الخيار الكينزي هو ثمرة ميزان قوى فرضته النضالات الطبقية. إن الثورة الروسية، واندفاعات النضالات في سنوات 1930 وما بعد الحرب وفي سنوات 1960، هي التي فرضت هكذا سياسات على الطبقات البرجوازية وعلى الدول.

اليوم، لا ُيجبر تدهور ميزان القوى لغير صالح الطبقات الشعبية من هم في فوق على نهج سياسات تنازلات أو مساومات اجتماعية. على العكس، إنهم يصعدون هجماتهم بفرض التقشف، و ُيملون هذه السياسة على "ضباطهم" الاشتراكيين الديمقراطيين. فمن حزب البازوك اليوناني إلى الأحزاب الاشتراكية الأخرى بجنوب أوربا، مرورا بمجمل الأممية الاشتراكية، تسود سياسات الخضوع للديون، واحترام "القواعد الذهبية" للتقشف في الميزانية، والدفاع عن مصالح أرباب العمل. نتجت سيرورة التكيف هذه أيضا عن دمج متنام للاشتراكية الديمقراطية في المؤسسات الدولانية، وقمم هذه الأحزاب في دوائر الأسواق المالية والصناعات. ويوضح وصول ستراوس كان إلى رئاسة صندوق النقد الدولي هذه العملية على نحو جيد. كان لينين وصف الأحزاب الاشتراكية بكونها "عمالية-برجوازية". هذه الأحزاب هي اليوم "عمالية أقل فأقل، وبرجوازية أكثر فأكثر". إنها تظل، بفعل أصلها التاريخي، مرتبطة بالحركة العمالية، لكن علاقاتها مع قاعدة الاجتماعية والسياسية تزداد انحلالا.

لكل حزب تاريخه، والفروق بارزة بين، من جهة، الروابط التي تشد الاشتراكية الديمقراطية الألمانية بالحركة النقابية، ومن جهة أخرى الروابط الأكثر تباعدا بين الحزب الاشتراكي الفرنسي والحركة النقابية. لكن، بوجه الإجمال، علاقاتها بالحركة الشعبية تزداد ضعفا إذ ينسفها دعمها لسياسات التقشف. شهد بعضها فقدا كثيفا للأعضاء، مثل ألمانيا في سنوات 1990، فيما قد ينهار بعضها مثل حزب البازوك في اليونان، أو تواجه كما في اسبانيا أزمات تهدد وجودها. إن هذا التحول النوعي سيحول هذه الأحزاب، إذا بلغ نهايته، إلى "أحزاب ديمقراطية على الطريقة الأمريكية". وهذا نوع من التحول لم يشهده حزب اشتراكي ديمقراطي بل الحزب الشيوعي الايطالي، الذي بات حزبا برجوازيا ليسار الوسط. يمكن وقف هذا المسار بفعل ضرورات التناوب السياسي، التي تحث على ألا تكون هذه الأحزاب أحزابا برجوازية كالأخريات. في البلدان حيث يظل تاريخ الحركة العمالية حيا، وحيث لا تزال الاشتراكية الديمقراطية قوية، لا يمكن لهذه الأخيرة أن تقوم بدور في المؤسسات السياسية إلا لأنها "اشتراكية ديمقراطية". هذا سبب الحفاظ على المرجعيات التاريخية، رغم أن الأحزاب الاشتراكية لبداية القرن 21 لم يبق يربطها شيء كثير مع نظيرها في القرنين19 و 20.

مساحات اليسار الجذري و حدوده

إن انزلاق الاشتراكية الديمقراطية هذا نحو اليمين قد أفسح مساحة للقوى التي على يسار الاشتراكية الديمقراطية. في الأشهر الأخيرة، احتلتها قوى مثل حزب اليسار الموحد في اسبانيا، أو حزب سيريزا في اليونان.

لا بل تمكنت القوى الإصلاحية اليسارية من إعادة الظفر بقسم أساسي من القاعدة الانتخابية لليسار المناهض للرأسمالية أو الثوري، لاسيما في فرنسا. والواقع أن المساحة التي احتلها "اليسار الجذري" ناتجة عن انتقال الأحزاب الاشتراكية إلى اليمين، وعن أزمة التمثيل السياسي الأوربي، أكثر مما ترتبت عن اندفاعة لحركة الجماهير وعن تجذر سياسي لقطاعات من المجتمع، ما خلا في اليونان مع تجربة حزب سيريزا. كما أن ظاهرة من قبيل بيبي غريو امتصت هي أيضا ليس قسما من ناخبي اليسار الجذري وحسب، بل حتى ناخبين من اليمين ومن اليسار. قد تتقاطع مساحات غريو و حزب سيريزا، لكن حركة النجمات الخمس ليست هي حزب سيريزا، وما أبعده عنها. في الحالة الايطالية نحن، علاوة على تطلعات مواطنين وجدوا أنفسهم في غريو والذين يتعين أخذهم بالحسبان، إزاء حركة ذات مواقف إشكالية، أما في حالة سيريزا فنحن إزاء حركة سياسية يسارية جذرية.

في وضع مطبوع بمقاومات، لكن بهزائم أيضا، تقاوم الأحزاب (مثل الأحزاب الشيوعية)، التي لها انغراس اجتماعي أفضل ومواقع نقابية أو مؤسسية، على نحو أفضل وتمثل بديلا أكثر مصداقية من القوى المناهضة للرأسمالية (ما عدا في اليونان حيث انعزل الحزب الشيوعي اليوناني، الستاليني جدا وذو النزعة التقسيمية، رغم حفاظه على قوة نضالية). لكن الوثبة الانتخابية لهذه التشكيلات السياسية لم تترافق مع تعزز تنظيمي وسياسي مطابق، ما يحيلنا إلى تدهور ميزان القوى السياسي الإجمالي.

لكن الأزمة تغير أيضا التوزيعة في العلاقات بين الاشتراكية الليبرالية والأحزاب الشيوعية. فهذه الأخيرة عرضة لتناقضات جديدة بين مصالح مرتبطة بتحالفات بين قادة اشتراكيين وشيوعيين من جهة وسياسات تقشف تتحملها أو تقودها أحزاب اشتراكية ديمقراطية تبلغ من القسوة درجة تصعب معها تحالفات حكومية، من جهة أخرى. تقود هذه التناقضات في إسبانيا حزب اليسار الموحد إلى معارضة سياسات التقشف، لكن في الآن ذاته إلى المشاركة في حكومة مع الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني في إقليم الأندلس. وفي ايطاليا، تلاشى سديم ما كان حزب إعادة البناء الشيوعية بسبب بقائه تابعا ليسار الوسط بالحزب الديمقراطي. وفي فرنسا، تبدو جبهة اليسار، بنظر الرأي العام الشعبي، معارضة لهولاند، لكن ما أكثر الالتواءات لتفادي إعلان الوقوف بوضوح موقف معارضة يسارية لتلك الحكومة! وكم من الأصوات المترددة والمتناقضة بالبرلمان حول السياسية الحكومية. و ليس سرا على أحد أن الحزب الشيوعي الفرنسي سيكون في انتخابات البلديات المقبلة في 2014 ممزقا بين من سيريدون مواصلة التحالفات مع الحزب الاشتراكي ومن سيسعون الانضمام إلى قوائم جبهة اليسار. ولن تزول هذه التناقضات، حتى خلف نتائج انتخابية جيدة.

في فرنسا، تمكن حزب اليسار، بقيادة جان لوك ميلانشون، بفضل تحالفه مع الحزب الشيوعي الفرنسي، من إعطاء دينامية لجبهة اليسار. ومثلت أربعة ملايين صوت لصالح ميلانشون، وعشرات آلاف المشاركين في التجمعات الانتخابية، نقطة ارتكاز للفعل والنقاش ضد سياسات التقشف. لكن مرة أخرى، لم تترجم هذه الدينامية في تعزز لمنظمات جبهة اليسار.

في فرنسا، يمثل ميلانشون، ضمن طيف اليسار الجذري الأوربي، الاستثناء الفرنسي، بمعركته من أجل "الجمهورية". ومن أوجه عدة، يبدو الأكثر شراسة ضد سياسة الحكومة، لكنه يقرن مرجعياته الطبقية بـ"نزعة جمهورية قومية" تزيد لُـبس الأفكار والبرامج. وعلى الصعيد السياسي والتاريخي، ليست مرجعيته جمهورية كومونة باريس، التي كانت تعارض الطبقات البرجوازية بالجمهورية الاجتماعية، بل جمهورية الجمهوريين الذين يخلطون، في دفاعهم عن الجمهورية، كلمات "الأمة" و"الجمهورية" و"الدولة". وعلى الصعيد الاستراتجي، يُـخضع هذا التصور "الثورة المواطنة" أو "الثورة بصناديق الاقتراع" لاحترام مؤسسات دولة الطبقات السائدة. والحال أن هذه المرجعيات، بعيدا عن كونها تأنقا أيديولوجيا، لا تخلو من مستتبعات سياسية. هكذا، في أثناء حملة انتخابات الرئاسة، أكد ميلانشون من جديد في دفاتر مجلة الدفاع الوطني "أنه في الحالة الراهنة، يبقى الردع النووي العنصر الأساسي في إستراتيجيتنا الوقائية". مع ذلك، من المذهل أن يدافع نصير للاشتراكية البيئية عن القنبلة النووية الفرنسية.

لكن تصورات ميلانشون حول الدولة والجمهورية لها نتائج بوجه خاص في مسألة سياسية مثل التدخل الفرنسي في مالي. فدفاعه عن الجمهورية يدفعه إلى التساؤل ما إن كانت "المصالح الفرنسية" مهددة أم لا. و إن رفضَ "كل تدخل استعماري جديد"، فإنه "يسجل" في طور أول التدخل العسكري، ثم "يتمنى انتصار القوات الفرنسية شمال مالي". ويمنعه رفضه تعريف سياسة هولاند بما هي سياسة الامبريالية الفرنسية من المطالبة بوقف القصف وسحب القوات الفرنسية من مالي.

مرة أخرى، ليست هذه الخلافات دون انعكاسات على الممارسة السياسية. إن رفض جبهة اليسار المشاركة في حكومة هولاند، وبعض مواقفها بالبرلمان ضد سياسات التقشف، ودعمها للنضالات الاجتماعية، عناصر تخلق شروط عمل مشترك معها. لكن ما يكتنفها من لبس إزاء الأغلبية البرلمانية الاشتراكية، ورفض إعلان نفسها معارضة يسارية للحكومة، وما يشدها من علاقات مؤسسية بالحزب الاشتراكي، كلها كوابح لبناء بديل. لا سيما أن جبهة اليسار يتحكم بها حاليا الحزب الشيوعي الفرنسي وميلانشون رغم بعض الأصوات النشاز التي لا تفلح في التأثير على ميزان القوى داخلها.

تميز حزب سيريزا

الحالة اليونانية مغايرة تماما. لا يمكن فهم حزب سيريزا دون الانطلاق من الأزمة اليونانية التي أنتجت دمارا اجتماعيا غير مسبوق بأوربا منذ الحرب العالمية الثانية. ويترافق الهدم الاقتصادي-الاجتماعي مع تفكك سياسي للأحزاب التقليدية، لاسيما حزب البازوك. وفي الآن ذاته، تلقى خطط الثالوت التقشفية رفضا جماهيريا من السكان. وقد شهدت اليونان في الأشهر الأخيرة ثمانية أيام إضراب عام. وبأقصى اليمين، وعلى خلفية العنصرية، حقق الحزب النازي "الفجر المذهب" اختراقا انتخابيا. في هذه الشروط الاستثنائية، شروط "أزمة وطنية إجمالية"، دُفع حزب سيريزا إلى موقع أول حزي يساري، إذ انتقلت نتائجه الانتخابية من نسبة 4,6% إلى 26,89% !

تحول سيريزا، الذي كان في البدء تحالفا، إلى حزب. وهو ناتج عن تاريخ اليسار اليوناني، وعن أزمة الحركة الشيوعية، عن انفجارها: فالتيار الأكثروي، سيناسبيسموس Synaspismos، متحدر من التيارات الأوروشيوعية لسنوات 1970، وشهد أزمات داخلية وانزياحات الى اليسار، لاسيما بضغط الأجيال الشابة. كما اشتغل سيريزا مع حركة العولمة البديلة. أما الحزب الشيوعي اليوناني، الستاليني والأكثر تنظيما، فهو خارج سيريزا. في الندوة الوطنية الأخيرة، قدم تيار اليسار وقطب اليسار قائمة على حدة حصلت على 25% من الأصوات. إن بقاء أغلبية سيناسبيسموس على مواقف إصلاحية يسارية، وعدم استقرار التحالف، وحساسيته إزاء الحركة الجماهيرية، وقدرته على جذب القوى المناهضة للتقشف، ومكانة اليسار الثوري داخله، كلها عناصر تتضافر لإعطاء سيريزا دورا جذريا مغايرا لدور جبهة اليسار في فرنسا.

تنبع القوة الأساسية لحزب سيريزا وديناميته، في الآن ذاته، من معارضته الجذرية لمذكرات الثالوث (الاتحاد الأوربي، صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوربي) ورفضها لسياسات التقشف، وأبعدَ من الصيغ، دفاعها الفعلي عن برنامج لصالح الحقوق الاجتماعية، والخدمات العامة، وإلغاء الديون غير المشروعة، وتأميم البنوك تحت رقابة اجتماعية. في وضع المواجهة الحادة هذا، تكتسي هذه المطالب دورا انتقاليا. نهج حزب سيريزا سياسة اقتراحات وحدوية إزاء الحزب الشيوعي اليوناني، وإزاء حزب أنتارسيا، الذين رفضاها. وأخيرا، التزم عمليا إلى جانب القطاعات المناضلة. إن حزب سيريزا هو التعبير عن الحركة المناهضة لمذكرات الثالوث. كما أضفى شعبية على اقتراح حكومة لقوى اليسار على أساس برنامج مناهض للتقشف يمثل مضمونه رهانا بين يسار الحزب ويمينه. هذا لأنه، حتى يومنا، يتعلق الأمر بـ"حكومة قوى اليسار"، حكومة قطع مع التقشف، وليس "حكومة وحدة أو خلاص وطني" كما صرح هنا أو هناك بعض مسؤولي حزب سيريزا.

طبعا، ما من أمر محسوم. التفكك الاجتماعي يتزايد كل يوم. والرهانات داخل حزب سيريزا كبيرة، على قدر الضغوط التي يمارسها الاتحاد الأوربي والرأسماليين اليونانيين. إن التوجه الإصلاحي اليساري السائد داخل حزب سيريزا، وكذا التفاوت بين قوته الانتخابية وضعفه العضوي، يحدان من قدرته على الفعل. وإن مساعي يمين حزب سيريزا لإيجاد اتفاق مع قطاعات من الطبقات السائدة من أجل مساومة مع الاتحاد الأوربي مساع فعلية. وتناقش قطاعات أخرى يسارية، خارج حزب سيريزا، إمكان مشروع إعادة بناء وطنية. لكن الاتحاد الأوربي، في المرحلة الراهنة، لا يلين، إذ لا يرى خلاصا خارج "المذكرة"! لذا، لا يوجد بوجه هجمات الثالوث وحكومة ساماراس منظور آخر غير المواجهة، والتعبئة لإطاحة هذه الحكومة، والمعركة من أجل "حكومة قوى اليسار"، ومن أجل الانطلاق من رفض التقشف لخلق شروط عمليات القطع الأولى مع النظام الرأسمالي.

اليسار الثوري: تحول صعب

في ظل التراجع السياسي الإجمالي الذي تشهده الحركة الاجتماعية، تكون الضربة أشد وقعا على قوى اليسار الثوري. لاشك أن ثمة تفسيرات سياسية-تاريخية: فتلك القوى مطبوعة بدرجة فائقة بشكل ومضمون وأفكار القرنين 19 و20، ما يجعلها لا تفلح بما يكفي في اعتبار متطلبات الحقبة الجديدة وضرورة تحول أساسي. لاشك أن الثوريين والمناهضين للرأسمالية، لا يتمكنون من الانتقال من "المنظمة" إلى "حزب شعبي صغير"، وليس حزب مناهضة الرأسمالية الجديد المثال الوحيد في أوربا، ولا حتى في العالم،. ولاشك أيضا أن ثمة لدى المنظمات التي كانت، طيلة عقود، "ضد التيار" أو "في المعارضة"، صعوبة في التصرف كعنصر بديل سياسي إجمالي حقيقي، و تواجه مصاعب في ممارسة السياسة !

لم تتح أوجه الضعف هذه لحزب مناهضة الرأسمالية الجديد أن يأخذ بالحسبان على نحو كاف بزوغ قوة مثل جبهة اليسار، وأن ُيكيف تكتيكا سياسيا يجمع اقتراحات وحدوية ونضالا سياسيا. و تعرض من جراء ذلك لإغراءين: التكيف باسم الوحدة مع اندفاعة جبهة اليسار، والنزعة الدعاوية العصبوية كخط سياسي. يُـحدق هذا الإغراء المزدوج بقوى أخرى مناهضة للرأسمالية وثورية. إن جردا شاملا لحصيلة حزب مناهضة الرأسمالية الجديد ليس موضوع هذا المقال، لكن إعادة انتشار قوى اليسار المناهض للرأسمالية يستوجب التحرر من ذلك الإغواء المزدوج. إعادة انتشار ممكنة لأن ثمة دوما، ولو بنسب مخفضة، قاعدة اجتماعية وسياسية لمناهضة الرأسمالية.

يفترض هذا توضيح ثلاث مسائل:

1) مسالة الوحدة، وحدة عمل مجمل القوى الاجتماعية، النقابية والسياسية، من أجل تضافر النضالات ضد سياسات التقشف. إنها حاسمة، لكن يجب أن تترافق بجبهة سياسية موحدة، في بناء بديل سياسي ضد التقشف، ولاسيما بتوجه من أجل بناء معارضة يسارية للحكومات الاشتراكية الليبرالية. يستتبع هذا، في فرنسا، مقترحات عمل ونضال ونقاشات إزاء جبهة اليسار.

2) مسألة برنامج العمل المناهض للرأسمالية هي أيضا أساسية. كيف يجب تركيب المطالب الآنية للصراع الطبقي الجاري، من أجل فرص العمل- منع التسريحات، بدءا بالتي تقوم بها المقاولات المحققة للأرباح-، الأجور، الدفاع عن الخدمات العامة، والمقترحات الانتقالية للقطع مع المنطق الرأسمالي النيوليبرالي: افتحاص الديون و إلغائها، نزع ملكية البنوك وتشكيل خدمة بنكية عامة موحدة، وتأميم قطاعات الاقتصاد الأساسية تحت رقابة عمالية، والقطع مع الجمهورية الخامسة، وعملية تأسيسية من أجل ديمقراطية اجتماعية وسياسية مستندة على التسيير الذاتي الاجتماعي. ليس هذا البرنامج شرطا سابقا لوحدة العمل. في وضع أزمة استثنائية، يمكن لمطالب أولية ضد التقشف أن تكتسي دينامية انتقالية نحو القطع مع النظام. إن كل خطوة إلى أمام لصالح هذه المطالب تستوجب دعما تاما.

3) أخيرا، يتطلب بناء قوة مناهضة للرأسمالية التقدم بمنظور سياسي لحكومة قطيعة، على أساس مهام حاسمة ضد التقشف وضد المنطق الرأسمالي النيوليبرالي.

"حكومة العمال"، "حكومة شعبية"، حكومة ضد التقشف"، تلكم بعض الصيغ العامة. "حكومة قوى اليسار" في اليونان، لأن الوضع الملموس يستدعي جوابا ملموسا. هذه الصيغ متعارضة مع كل سياسات مشاركة (أو مساندة) في حكومات تسيير للاقتصاد والمؤسسات الرأسمالية. من المهم سياسيا، في ظل الأزمة الراهنة، تفسير معالم حل سياسي بديل للاشتراكية الليبرالية، مع أن ليس ثمة قدرية.

الصيغ السياسية لتحالفات اليسار الجذري متنوعة. وكذا التجارب. جبهة اليسار ليست هي حزب سيريزا. العلاقات بين دينامية الحركة الجماهيرية وتلك التحالفات، كما حالة ميزان القوى الداخلي في هذا التحالف أو ذاك، هي عوامل هامة لتحديد تكتيك سياسي. وستكون دينامية النضالات الاجتماعية و تركيبها مع أزمات سياسية حاسمة لتبرز أجيال سياسية جديدة. وعلى الثوريين التعلم والاندماج في هذه الحركات الفعلية.

فرانسوا سابادو

المصدر: http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article28650

تعريب: جريدة المناضل-ة