من الرأسمالية إلى الإستهلاكية


عقيل صالح
2013 / 5 / 17 - 22:00     

عندما حلل ماركس المجتمع البرجوازي , متمسكاً بسلاحه الديالكتيك, بدأ بتحليل ((السلعة)) و عملية تبادل ((السلع)) ليكتشف أن هناك ((سلعة)) من نوع خاص تدخل إلى السوق و هي ((قوة عمل )) العامل الذي يحاول أن يبيعها , و يقوم الرأسمالي بشرائها , و لأن هذه السلعة هي من نوع خاص فهي تخلق (( رأس المال )).

و منها انطلق ماركس ليجد ان التناقض الرئيس الموجود في النظام الرأسمالي يكمن في الطبيعية الاجتماعية للإنتاج ( التي تتسم بالشكل الجماعي للإنتاج ) و من الجانب الآخر الشكل الخاص للملكية ( الملكية الخاصة ) ,بإختصار , إنتاج يتم بشكل جماعي يفيد فرداً واحداً - مالكاً واحدا- شخصا واحدا فقط , هذا هو التناقض الرئيس الموجود في النظام الرأسمالي.

و من خلال هذا , أكتشف ماركس أن هذا التناقض في المجتمع الرأسمالي متمثل بين طبقتين : الطبقة ((البرجوازية)) و الطبقة (( البروليتارية )) .

و من خلال هذا المفهوم , أنطلق ماركس إلى شكل الإنتاج الجماعي هذا في ظل الهيمنة الرأسمالية الذي يتسم بالفوضى في الانتاج , حيث الرأسمالي (الفرد ) لا يعرف ((الكم)) من الحاجيات التي يحتاج إليها ((الناس)) و لهذا يفيض الانتاج عن حده . التناقض هنا يكمن في المصنع الخاص - أو الملكية الخاصة و الفوضى في الانتاج كخاصية للشكل الجماعي للإنتاج.

و يأتي لاحقاً لينين ليحلل عصر الإمبريالية مستخدماً سلاح الماركسية ليكتشف ظهور الرأسمالية المالية التي تخفف من الفوضى في الانتاج و التنافس المحلي و تسبب في صعود الاحتكاريات المتمثله بالتروستات و الكارتيلات و النقابات الاحتكارية و تمارس السيطرة على السوق بعد قضائها على الإزدحام بفعل الإحتكار. و عندما تصعد الرأسمالية المالية في الدول الصناعية الكبيرة يشتد الصراع ما بين تلك الدول , و لكن نمو رأس المال لا يقوم فقط في دولة معينة أو محددة , القوى الرأسمالية تحتاج إلى أسواق عالمية أخرى , و لكنها تواجه مشكلة عندما تريد أن تصدر رؤوس أموالها و سلعها إلى دول أخرى بسبب ((السياسة الجمركية )) التي وضعت اساساً لحماية رأسمالييها , القوى الرأسمالية في أي دولة ((التروستات)) و ((النقابات الاحتكارية)) و ((الكارتيلات)) تحتاج ان تحتكر السوق و ترفع اسعار منتوجاتها-سلعها , فعندما تدخل سلع خارجية( من دولة أخرى ) بالضرورة تؤدي إلى انخفاض اسعار القوى الرأسمالية و لهذا السياسة الجمركية مهمة جداً لدى الدول الرأسمالية من أجل الحد من تدفق السلع الخارجية , هذا بالضرورة يزيد حدة الصراع ما بين الدول , فتلجأ تلك الدول إلى احتلال دول أخرى من اجل توظيف رأسمالها فيها بكل سهولة و بهذا ينمو رأس مالها في مثل الوقت , و ايضاً يتم احتلال دول أخرى بسبب نمو رأس المال-فائض الانتاج حيث يصبح بحاجة إلى تصديره إلى الخارج .

بالإضافة , عندما تصدر الدول الرأسمالية رؤوس أموالها إلى دول أخرى فهي تحتاج إلى ان تحميها و تقوم بذلك بالوسائل العسكرية , و هذا يتم بالغزو.

بهذا تخلق الإمبريالية تناقضاً جديداً في العالم , ما بين الدول الإستعمارية و الدول المستعمرة , حل هذا التناقض يقوم فقط من خلال ثورة التحرر الوطني , الذي اطلقه لينين تحت شعار (( يا عمال العالم و شعوبه المضطهدة اتحدوا ! )) .

نداء لينين هذا في عام 1921 فتح باب عصر ثورة التحرر الوطني.

ثورة التحرر الوطني مركزها الاتحاد السوفييتي ,و قيام الجمهوريات الشعبية التي تحررت من الامبريالية و الاستعمار تحتاج إلى دعم هائل من مركز هائل و كبير و هذا المركز كان الاتحاد السوفييتي , إلى ان وقع الانقلاب العسكري (1956-1957) الذي نقل الاتحاد السوفييتي نقله كبيرة هامة و هي الانحراف عن المسار اللينيني في الثورة التحررية العالمية .

ثورة التحرر الوطني , التي نجحت في القضاء على الامبريالية , كانت من المفترض ان تحول العالم إلى عالم اشتراكي , ولكن تغير هذا المسار بسبب إلغاء الاشتراكية في المركز الاساسي و هو الاتحاد السوفييتي في عام 1961 .

ثورة التحرر الوطني أدت إلى أحداث عديدة التي نستطيع أن نعتبر قضايانا المعاصرة كنتيجة لها. تشكيلة عالمنا اليوم و قضايانا المعاصرة تعود إلى خمسة أحداث : ((الانتفاضة الروسية الثانية )) و ((إعلان عصر ثورة التحرر الوطني)) و (( انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي )) (( انهيار الرأسمالية و صعود الاستهلاكية)) و ((انهيار المعسكر الاشتراكي)) .

((فصل النقد عن دورة الانتاج الرأسمالي ))

وظيفة النقد ( الذهب ) كانت دائماً كوسيط لتبادل السلع , أيّ , كمقياسٍ للقيمة . و عندما نقول وظيفة النقد هي مقياس للقيمة , فأننا بالضرورة نقصد , مقياس للقيمة المختزنة داخل السلعة ( وقت العمل) .

عندما ظهرت الأوراق النقدية في نهايات القرن التاسع عشر لتلعب دور الذهب في التدوير , تلك الاوراق النقدية أو السندات كانت تمثل عدداً معيناً من الذهب , لم تكن الاوراق النقدية مقياساً للقيمة , بل الذهب , و هذا كان دور الذهب دائماً. الأوراق النقدية تمثل الذهب و تصبح وسيلة للتدوير. الذهب كان دائماً يلعب دوراً هاماً في أن يكون السلعة النقدية الوحيدة في السوق العالمية.

النقود الورقية يمكنها ان تحل مكان الذهب في ان تكون وسيلة للتدوير , و لكن لا يمكنها ان تحل مكان الذهب لتكون مقياس للقيمة , دور الأوراق النقدية في هذا المجال هو تمثيل عدد معين من الذهب.

عندما اشرفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء , اجتمعت أكثر من 40 دولة في الولايات المتحدة ( في بريتون ودز ) لترى انتقال القوة الاقتصادية من الجنيه الاستريليني إلى الدولار الامريكي.

في بريتون ودز أعطت الولايات المتحدة ضماناً أن 35 دولاراً امريكياً يساوي أونصة من الذهب , هذا ما سمي بمعاهدة بريتون ودز. كل العملات أصبحت مرتبطة بالدولار الامريكي بعد هذه المعاهدة , التي جعلت الدولار الممثل للذهب عالمياً.

و من الطبيعي أن تقوم الدول الأخرى بجمع أكبر عدد من الدولارات بإعتبارها عملة صعبة و قوية و مساوية للذهب , و لكن ما لم يتوقعوه هو اشتعال ثورة التحرر الوطني , الذي جعل الولايات المتحدة ( الإمبريالية الأمريكية ) تقوم بزيادة التسليح لاحتواء الشيوعية ( أو ثورة التحرر الوطني ) من الانتشار, الذي في النهاية ادى إلى الأزمة الاقتصادية في السبيعينات.

الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها في المقام الاول اشتعال ثورة التحرر ( تفكك الإمبريالية بشكل أساسي) أدت إلى فصل الدولار عن الذهب , و كان هذا إجراء مؤقت على حسب نيكسون و الإدارة الامريكية , إلا أن المشكلات الاقتصادية تفاقمت التي أدت إلى أتفاقية رامبويية 1975 و جامايكا 1976 الاتفاقيتان اكدا على فصل النقد عن عملية الانتاج المحلي-الوطني .

أهمية فصل الدولار عن الذهب تقع في التخلي عن دورة الإنتاج الرأسمالي :

نقد – سلعة – نقد
Money-Commodity-Money

فصل الأوراق النقدية عن الذهب يعني الأوراق النقدية لم تعد تمثل الذهب , أيّ فقدت دورها الرئيسي ( التدوير ) في الانتاج الرأسمالي.

هذا يعني أيضاً أن الدولار الأمريكي منذ منتصف السبيعنات قرن الماضي كان يحتاج إلى كفالة , من الصين و النفط العربي.

و يجدر بنا أيضاً ان نشير إلى ان بعد فصل الدولار عن الذهب قام التجار بضخ أموالهم في الأسواق المالية و أيضاً في الأسهم مما مهد إلى ارتفاع القطاع الخدماتي عن القطاع الصناعي , و إلى يومنا هذا , نجد اليوم ان القطاع الخدماتي في أغلب الدول الرأسمالية السابقة أقوى من القطاع الصناعي بأشواط.

و هذا أدى إلى هجران المصانع إلى المكاتب , الإنتاج الأكبر أصبح في مجال الخدمات ( البنوك , مجال الصحة , مجال الدراسة , الاعمال المكتبية, العقارات .. ) العمال البروليتاريون أنتقلواإلى مجال صناعة الخدمات أيّ انتقلوا ليصبحوا عمالا برجوازيين.




( الخدمات سابقاً و الآن )) )

(( كل عامل منتج هو عامل مأجور و لكن هذا لا يعني أن كل عامل مأجور هو عامل منتج. في كل الاحوال عندما يشترى العمل من أجل ان يستهلك كقيمة استعمالية , كخدمة , و ليس من أجل استبدال قيمة رأس المال المتغير كعنصر حي و توظيفه في عملية الانتاج الرأسمالي , هذا العمل غير منتج , و هذا العامل المأجور ليس عامل منتج. بهذا عمله يتم استهلاكه على اساس قيمته الاستعمالية و ليس على اساس قيمته التبادلية , يتم استهلاكه بشكل غير انتاجي . ))
-كارل ماركس .


انتقال عدد كبير من العمال البروليتاريين من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي يعني ازدياد العمل غير المنتج , هؤلاء العمال المأجورين المنتجين أصبحوا غير منتجين في قطاعات غير رأسمالية , التي تشكل 70 إلى 80 % من انتاج الدول الرأسمالية السابقة.

استعرضنا سابقاً أسباب انتقال العمال من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي , و لكن ما الفرق ما بين الخدمات سابقاً و الآن ؟

في السابق , عندما تطورت الرأسمالية , ظهرت الخدمات ((لتخدم)) رأس المال , فالشركات المساهمة التي ظهرت كانت من أجل تطوير المشاريع الرأسمالية التي تحتاج إلى كم كبير من رؤوس أموال أخرى التي ((تساهم )) في تطوير تلك المشاريع , كل المساهمين الذين يساهمون برؤوس أموالهم يتلقون أسهم مما يتيح لهم الحصول على نسبة من أرباح تلك الشركات المساهمة , و ليس فقط الرأسماليين من يقومون بهذا بل كل فئات المجتمع , يستطيع الموظف أو العامل يوظف أمواله في تلك الشركات من اجل الحصول على الربحية.

تلك الشركات أو البنوك وجدت لتخدم حركة رأس المال. و لكن اليوم نجد أن هذا الطراز من الانتاج هو الشائع في أغلب بلدان العالم.

الخدمات تخلق الربحية و لكنها لا يمكنها أن تخلق رأس المال , الأموال الكثيرة أو الربحية لا تعني الرأسمالية .

اليوم في الولايات المتحدة , على سبيل المثال ,تشكل الخدمات فيها 79% من انتاجها المحلي الذي يعتبر انتاجاً من أجل الاستهلاك الشخصي , و لا بد أن نشير أن الخدمات في الولايات المتحدة في ستينات القرن الماضي تشكل 30% من الانتاج المحلي , حين كانت الرأسمالية في شبابها اليافع .

صعود الخدماتية يعطينا إشارة في انخفاض الانتاج السلعي ( الرأسمالي ) , مما يجعلنا أن نفهم ان الدول الرأسمالية السابقة ليست رأسمالية اليوم و هذا يعني ليست إمبريالية . و تلك هي الإحصائيات لصعود الخدماتية في الدول الرأسمالية السابقة اليوم :

الولايات المتحدة الأمريكية :
(الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 15 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 19.2% من مجمل الانتاج الوطني
( قطاع الخدمات ) : 79.6 % من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 14 ترليون
: و بما أن العمل في قطاع الخدمات لا يعد عملاً منتجاً يضيف شيئاً في الثروة الوطنية , هذا يعني ان الانتاج الوطني الحقيقي يعادل 3 ترليون .

المملكة المتحدة :
( الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 2 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 21.5% من مجمل الانتاج الوطني
(قطاع الخدمات ) : 77.8% من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 9.8 ترليون
(الإنتاج الوطني الحقيقي " من دون الخدمات " ) : 444 مليار

فرنسا :
(الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 2,6 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 18.3% من مجمل الانتاج الوطني
(قطاع الخدمات ) : 79.8% من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 5.6 ترليون
(الإنتاج الوطني الحقيقي " من دون الخدمات " ) : 525,2 مليار

هذا الطراز من الاقتصاد ينتمي إلى الطبقة الوسطى ( البرجوازية الصغيرة ) و ليس إلى الطبقة البرجوازية , الطبقة البرجوازية الكبيرة ( الرأسمالية ) مصدر ربحيتها هو (( فائض القيمة )) الذي يعتبر (( عمل منتج )). الطبقة الوسطى تقوم بإنتاج فردي ( خدمي ) , و نمط الانتاج الشائع اليوم هو نمط انتاجها , الذي في الحقيقة غير مستقر .

لماذا غير مستقر ؟

أولاً لأن الاقتصاد هذا دخيل , كان من المفترض بعد اضمحال الرأسمالية في مراكزها الأساسية أن تقوم الاشتراكية , و لكن مما عرقل هذا التحول هو في الحقيقة الإنقلاب العسكري في الاتحاد السوفييتي في 1956 الذي عبر عن مصالح الطبقة الوسطى ( البرجوازية الصغيرة ) و ليس البروليتاريا . هذا الاقتصاد القائم اليوم يعيش بالكفالة , أو بالأحرى الولايات المتحدة ( المسيطرة اقتصادياً و عسكرياً ) تعيش من خلال أنبوب الكفالة و المديونية , طبع الدولارات بشكل لا يصدق يخفض من قيمة الدولار مما يجعل الصين تقوم بكفالة الدولار, هكذا هو حالة الترهل التي تعيش فيه الولايات المتحدة .

ثانياً هذا الاقتصاد قائم على اللصوصية , الدول الرأسمالية السابقة اليوم ترفع السلاح من أجل أن تمدد فترة عيشها , ترفع السلاح بوجه كل من يشك في قدرة الدولار المزيف.

أغلب دول العالم ربطت نفسها بالدولار بعد منتصف السبيعينات , و لا يمكنها ان تنفصل عنه , حيث السوق العالمي يتعامل بالدولار بشكل خاص. فالارتباط بالدولار وثيق و من الصعب الإنفصال عنه .

السؤال الراهن و المهم هل سيستمر هذا الطراز من الاقتصاد ؟ هل هذا الترهل و الوهن و الضعف الذي نشهده اليوم في التركيبة الاقتصادية العالمية تشير لنا أن هذا الاقتصاد ممكن أن يستمر ؟
الاقتصاد الذي نراه اليوم لا ينتج ثروات بل على العكس يستهلكها , الولايات المتحدة , على سبيل المثال , تستدين لتعيش لشعبها يعيش , و في الحقيقة 19% فقط من الانتاج المحلي للولايات المتحدة هو انتاج صناعي-سلعي , و هذا يفسر لماذا تستدين الولايات المتحدة.

و هذه مسألة مهمة جداً في التشكيلة الاقتصادية المعاصرة , هذا الاقتصاد غير مستقر و غير ثابت و من الصعب جداً الإدعاء أن هذا الشكل من الاقتصاد سيستمر لوقت طويل .


عقيل صالح .