الحلقة الثالثة: -أوراق من ساحة النضال الثوري - الورقة العاشرة.


فؤاد الهيلالي
2013 / 5 / 10 - 07:06     

سلسلة وثائق المنظمة الماركسية-اللينينية المغربية -إلى الأمام- مرحلة 1970 - 1980 (الخط الثوري) الحلقة الثالثة: -أوراق من ساحة النضال الثوري - الورقة العاشرة.
تقديم:
حين تهب رياح النضال الثوري و يقف المناضلون الثوريون في عين العاصفة, و تتجلى الإرادة الثورية و العزيمة التي لا تلين للارتماء في قلب المعارك الساخنة و اتخاذ القرار الحاسم لخوض معركة الدفاع عن الشعب و عن الكادحين فينخرط المناضلون المسلحون بالخط الثوري في معمعان النضال مستعدين للتضحية و العطاء الثوري في نكران للذات, متحملين أقصى ظروف المعاناة و العذاب و الآلام تجسيدا للروح الثورية, مضحين بحياتهم الشخصية و الاجتماعية لصالح الدفاع عن المشروع الثوري. و لكم تنقل لنا السير الذاتية للعديد من القادة و المناضلين الثوريين نماذج عن تلك التضحيات و نكران الذات التي تصل حد التماهي مع الثورة و الاستشهاد من أجلها.
و في تاريخ الحركة الماركسية- اللينينية المغربية عموما و منظمة " إلى الأمام " خاصة نماذج كثيرة لا يعرف الكثيرون تفاصيل حياتها اليومية خلال تلك العواصف التي هبت على البلاد ,تفاصيل انخراط في النضال من أجل الذوذ عن الخبز و الحرية
والكرامة و انعتاق الجماهير من براثين الاستبداد و الاستغلال و القيود التي وضعها النظام الكمبرادوري في أيدي و أعناق الشعب الكادح.
كان هؤلاء المناضلين من ذوي العزم الثوري يحملون معهم , إضافة إلى معاناة القمع و المطاردة و النفي و التعذيب و التنكيل و السجن, معاناة خاصة ذات صلة بعائلاتهم و أبنائهم و أحبائهم و أزواجهم, الذين أدوا ثمن هذا الاختيار الثوري.
كان الدخول في السرية و العمل السري مجالا لتلك المعاناة الصامتة لمناضلين أبوا في عزة نفس و إحساس قوي بالكرامة أن يبوحوا بها , معتبرين تضحياتهم ثمنا لاختيارهم طريق الثورة و الحرية و ضريبة لابد من تأديتها من أجل إنجاح مشروعهم الثوري.
منتصبي القامة مرفوعي الهامة تصدوا للعاصفة وواجهوا المحن و الجوع و البرد أحيانا بل كثيرا في صمت و تواضع و أنفة الثوريين الذين لايشتكون أبدا, مستعدين للتخفيف عن معاناة الآخرين و الرفع من معنوياتهم , كلما سقط أحدهم أخذ مكانه رفيق آخر شعارهم : "سقط بعض الثوريين , عاشت الثورة !"
كثيرة هي الرسائل التي بعث بها المناضلون الثوريون السريون إلى عائلاتهم و أحبائهم لم ينشر منها إلا القليل و يعرف المناضلون و القراء رسالة الشهيد عبد اللطيف زروال الرائعة إلى أبيه( رسالة من الابن إلى الأب).وهناك نمادج كثيرة كتبها مناضلون في ظروف بالغة التعقيد والقساوة . ومنهارسالة أبراهام السرفاتي إلى ابنه موريس ( علي) .إن ما يميز هذه الرسالة بالإضافة إلى العواطف الجياشة و الأفكار الثورية الصادقة, كونها كتبت في أقصى ظروف السرية لتنشرعلنا بالخارج في نوع من التحدي للنظام و في محاولة لفك العزلة التي ضربها النظام على الرفيق آنذاك.
ننقل هنا هذه الرسالةالتي قمنا بترجمتها من الفرنسية إلى العربية, ليطلع عليها المناضلون و القراء كإحدى الأوراق التي صدرت من ساحة النضال الثوري والتي تمثل شهادة لقوة الفكر الثوري, متى أصبح منارة تنير طريق المناضلين الثوريين.فلاحركة ثورية بدون نظرية ثورية وكل قول آخر تسويق للأوهام وهو ما تشهد به الرسالة بالنسبة لحقبة محددة من تاريخ بلادنا, حين كان العديد من المثقفين قد سقطوا في أوهام "ماركسية تقنوقراطية" خلال الحقبة التي تلت "الإستقلال الشكلي".إن نفس هاته الأوهام يعاد إنتاجها باستمراروتقع على عاتق المناضلين الحقيقيين مهمة التصدي لها.
كتبت الرسالة في أكتوبر 1972 و تم نشرها بالخارج في العديد من النشرات و الجرائد ( خاصة بفرنسا).


الورقة العاشرة

رسالة أبراهام السرفاتي إلى ابنه موريس( علي )

ابني العزيز

أريد قبل كل شيئ أن أشرح لك لماذا اخترت هذه الطريقة الغريبة لمراسلتك عن طريق رسالة عمومية .
منذ سبعة أشهر , لاشيئ , لا اتصال طبيعي أو عن طريق الكتابة , مباشر أو غير مباشر بيننا.
منذ سبعة أشهر كذلك , و رغم علمي بأن واجبي كمناضل ثوري , يمنعني من أخذ مخاطر لأسباب شخصية , أبقى على أمل رؤيتك من جديد دون أن أتجاوز هذا الواجب.لكن منذ هذه الأسابيع الأخيرة تجلى لي مظهرمن الوضعية لم أتوقعه.
بدون شك كان علي أن أ توقعه, لكن يبقى من الصعب على إنسان عادي أن يتخيل درجة السادية و الغباوةالتي يسقط فيها هؤلاء الوحوش الحقيقيون من البشر الذين يشكلون الحكم الحقيقي في بلادنا.
إنني أعرف الآن , بعد كل ما وقع لإيفلين , أنك في كل حين قد تتعرض للتعذيب لا لشئ إلا لكونك ابني. ليس لي الحق أن أضيف إلى هذا الخطرأدنى مبرر أو علامة تؤدي إلى الاعتقاد بوجود اتصال و لو غير مباشر بيننا.
كيف لي أن أمنع , من وراء الصمت, أن تتجلى في عيونك التي أتخيل عمقها الدائم المليء بالحزن و العزلة , إشراقة في داخلك, ابتسامة ( ...)
لكن من واجبي على الأقل أن أقول لك الأخطاء التي ارتكبتها في حقك, ليس لاستسماحك أو لشرحها , لكن على الأقل كنقد ذاتي.لعل هذا يمكن أن يساعدك على فهم منابع مشاكلك الحالية , أو لعله يساعدك على تحديد ملموس للأمل في الحياة, كما في حياتك.
طبعا الخطأ الأول الذي يمكن طرحه هو كوني أعطيتك الحياة بدون أن أعرف , في هذا لعالم غير الإنساني, حيث تظل الأسرة الحماية الضرورية للطفل , كيف أتحمل مسؤولية توفير شروط ذلك.
هنا , ليس من جواب أو شرح آخر ممكن سوى ما كتبه غرامشي لأخت زوجته سنة 1931 , متسائلا عن الاتهام بالأنانية , هاته الأنانية نفسها التي وجهت إلي و التي لم أفهمها آنذاك.
كيف لمناضل ثوري, يضحي بحياته , بحبه , من أجل حب شعبه , من أجل حب و مستقبل الإنسانية , أن يوصف بكونه أنانيا ؟
و مع ذلك , يمكن تبرير هذا الاتهام بالنسبة للذي " لم يجرؤ على البقاء لوحده".
في هذه الحياة الرهيبة , حيث لابد من النضال ضد الذئاب كي تتحرر الإنسانية منهم.في هاته الحياة التي تتغذى بحب عارم للحياة و للناس , بحيث ليس هناك سوى النضال من اجل حياة الإنسان نفسها , على المناضل الثوري أن يتخلى عن خلق أسرة و بناء بيت , عليه أن يتخلى عن خلق الحياة.
أجل, كيف السير في هذا النكران للذات حتى النهاية, في عمر 25 سنة, حين تنفجر الحياة ويشع الحب , حين تجعل قساوة النضال نفسها و الأوهام البرجوازية الصغيرة , المستقبل قريبا جدا , مضيئا جدا؟
ذلك أن هناك أيضا أوهام النضال من أجل الاستقلال , و الأفكار الخاطئة التي كانت ترى أنه بمجرد " انتزاع الاستقلال"هناك وقع سحري على سيرورة تدريجية و بدون صدامات لبناء البلاد , إنها تناقضات و أوهام جيلي من المثقفين البورجوازيين الصغار, فرنكفونيين و مكونين بماركسية التقنوقراط.
ظاهريا , خلال هاته السنوات التي جاءت بعد الاستقلال, لا تناقض بين هاته الأفكاروهاته الآمال, و الحياة و الثقافة و بين الوسط المغلق لهؤلاء المثقفين الذين أصبحوا أطرا عليا.إنه سبب آخر للتوغل أكثر في هاته الحياة.
و مع ذلك و بسرعة كبيرة, ستنتصر سيرورة التفكك الثقافي و الأخلاقي لدى أغلبهم.
أبناؤهم , أولئك الذين في نفس سنك, و الذين لازلت تنتمي إليهم اجتماعيا , و خاصة أولئك الذين مثلك ظلوا عضويا مرتبطين ببلادهم , بأرضها و بضوئها, بإنسانية شعبها الهائلة ’ يعيشون اليوم مأساة اجتثات جذورهم الثقافية و الاجتماعية.
في نفق الحياة السهلة و المستلبة التي شكلت الإطار الذي ترعرعت فيه , حافظت في دواخلي على عش مليئ بالدفء و الأمل , ذلك الذي عرفته قبل و بعد السنوات السطحية للحياة النضالية لطالب مغربي في باريس ما قبل الاستقلال , أي النضال مع الشعب و وسط الشعب , تلك الحميمية التي يفتحها ذلك النضال مع الغنى الإنساني المتوفر داخل هذا الشعب.
إن هذا العش الدافئ هو الذي سمح لي بالمقاومة , حدسيا تجاه و ضد الكل, خلال سنوات فقدان الأمل و الانطواءالفرداني.
إن هذا , هو الذي سمح لي, في لحظة الاختيارات الحاسمة بأن آخذ الطريق الصحيح, طريق النضال, طريق الشعب.



لكن إذا كنت قد استطعت هكذا , أن أساهم في أن أغرس فيك بذور التلاحم مع شعبنا و بلادنا , لم أعرف في اللحظات الحاسمة من مراهقتك كيفية مواجهة العوامل المفككة للوسط , لم أستطع , في الوقت المناسب أن أربط و أن أدمج حياتنا اليومية , بالمنبع الوحيد للإنسانية و التفتح , أي الشعب. من هنا جاءت التناقضات التي تعيشها و التي توجد في داخلك.
أظن بشكل عميق أن في دواخلك ما يكفي من مصادر الحياة ,حتى تتمكن من تجاوز هاته التناقضات.
كيف ستربط نفسك بالطريق الوحيد الممكن, بتلك التي تتجسد في الشعب العربي كما في العالم, بتلك التي من ظفار , غزة و أعالي الجليل, إلى دواوير و مدن قصدير بلادنا, تفتح و تصرخ بظروف الحياة و النضال و الثورة العربية, لا أستطيع هكذا أن أتبينها . ما أستطيع أن أقوله لك هو أنه , خارج النفق الذي تتخبط فيه , تتطور القوى التي تصرخ هذه الحياة , ليس اليوتوبيا, و ليس الوهم أيضا و لا الحلم , لكن حياة النضال, حياة خلاقة, حيث يمكن للإنسان أن يناضل كإنسان و حيث يستطيع الطفل أن يتفتح كإنسان حي مناضل محب و مكافح.
أريد أن أضيف بالنسبة لك , كما بالنسبة لوالداي اللذان يتألمان في أواخر حياتهما, بأن هيجان هذه الحيوانات المتوحشة ليس إلا علامة على تخبطها كحيوانات مطاردة و محكوم عليها. كل هذا سيتم تأدية ثمنه و بالفوائد.
آخر كلمة أقولها لك ابني العزيز , اعلم , أنه بالنسبة لي و في كل لحظة , حتى في اللحظات التي أتخلى عنك فيها جسديا , ليس هناك تناقض بين النضال من أجل الشعب و النضال من أجل حياتك. ماذا تساوي بالفعل حياة شاب يظهر أبوه طريق اللاكرامة؟
أظن أن في هذا الاتجاه, قد استطعت أن أنقد فيك الأساسي(...)

أبراهام السرفاتي
اكتوبر1972