الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: - المنطقة دخلت سيرورة ثورية مديدة-


جلبير الأشقر
2013 / 5 / 7 - 08:30     


الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: " المنطقة دخلت سيرورة ثورية مديدة" - حوار مع جلبير الأشقر



- ثمة أمور كثيرة مدعاة للنقاش. إذ يتبوأ الشرق الأوسط واجهة الأحداث، سواء تعلق الأمر بالهجوم على غزة أو بالوضع في تونس، أو بتولي مرسي السلطة في مصر أو بالتهديدات ضد إيران، أو بالعديد من الأحداث. لنبدأ بسؤال حول تقييم عام للربيع العربي، ما يطلق عليه الربيع العربي، والذي بدأ قبل عامين تقريبا، يوم 17 ديسمبر، 2010 في تونس. هل يمكنك أن تدلنا على عناصر فهم عام لما يعنيه ذلك للمنطقة؟

جلبير الأشقر: التعليق الأعم الذي بوسعي هو أن الأمور بدأت، أول مرة في تاريخ المنطقة، تتحرك فعلا وتتغير، وذلك بوتيرة سريع جدا علاوة على ذلك، على نحو يجعل المنطقة تدخل ما أسميه سيرورة ثورية مديدة. إنه تغير هائل في تاريخ المنطقة. و ثمة انحباسات متنوعة في طريقها إلى الزوال. وأعتقد أن هذا الوضع سيستمر سنوات عديدة قادمة.

أشرت إلى انحباسات، هل تقصد وجود أنظمة ديكتاتورية متحجرة وشائخة؟ أولها نظام تونس. هل لك أن تقول لنا شيئا بهذا الصدد، وكذا عن الوضع الراهن بهذا البلد؟



جلبير الأشقر: نعم، ولكن يجب علي قول إن المقصود أكثر بكثير من مجرد أنظمة دكتاتورية. طبعا، تمثل هذه الأخيرة الجزء الأكثر بروزا من الانحباسات، وهو ما استهدفته الانتفاضات مباشرة أكثر من سواه في البلدان حيث حققت انتصارات حتى الآن. ولكن ذلك جزء فقط انحباس أعم منه الاقتصادي. إذ تظل المنطقة متخلفة عن بقية العالم من حيث النمو الاقتصادي، وبشكل أعم، من حيت التنمية، على الرغم من أن بها موارد طبيعية هامة للغاية. بها معدلات بطالة قياسية عالميا، ومنذ عقود. إننا إذن إزاء انحباس اجتماعي، ناهيك عن انحباس جلي جدا فيما يتعلق بوضع النساء. ثمة إذن جملة انحباسات، ولم أذكر حتى الآن سوى بعضها، الأكثر بروزا. وهذا كله يتفجر انفجارا هائل بدأ من تونس.

بدأ كل شيء في تونس يوم 17 ديسمبر 2010. اليوم الذي أحرق فيه محمد البوعزيزي نفسه، وأشعل النار في البلد كله والمنطقة برمتها .

كون الأمر بدأ في تونس مرتبط بالنضالات التي شهدها هذا البلد في سنوات 2000، تلك النضالات المرتبطة بوجود تقليد يساري مهم، نشيط بوجه خاص في الاتحاد النقابي بالبلد، [الاتحاد العام التونسي للشغل]. هذا الوضع الخاص هو الذي يفسر حدوث الانفجار في هذا البلد قبل غيره ، دون أن يعني ذلك أن الظروف كانت أنضج في تونس من سواها، كما يدل كون الانفجار في تونس اطلق جملة انفجارات في بلدان أخرى. ما من بلد ناطق بالعربية بقي بمنأى عن الانتفاضة، من موريتانيا والمغرب غربا المنطقة إلى سوريا والعراق شرقا.

بدا، في لحظة ما، و ربما بفعل نتائج الانتخابات في مصر وقبلها في تونس، أن الفائزين المباشرين في الربيع العربي هي المنظمات الإسلامية مثل حركة الإخوان المسلمين في مصر. ما قولك بهذا الصدد، أولا في ما يتعلق بتونس وبعدها بخصوص مصر؟

جلبير الأشقر: نعم. كان ذلك متوقعا تماما. التوقع الأكثر انتشارا حول المنطقة كان أنه ستكون هناك اضطرابات اجتماعية، وانفجارات سياسية، إذ تتيح قراءة تقارير سفارات الولايات المتحدة في المنطقة، التي عممها ويكيليكس، تبين أن الولايات المتحدة ذاتها لم تكن متوهمة كثيرا. كان معروفا مدى توتر الوضع وخطورته. بهذا الخصوص، كان التنبؤ الأكثر شيوعا أن هذه الانفجارات ستدفع الحركة الإسلامية الأصولية إلى مقدمة المشهد في وقت كان ذلك يعتبر- بنظر واشنطن –تهديدا للمصالح الأمريكية. ولكن بمجرد اندلاع الانتفاضة، كان هناك ميل لاسقاط الأماني على الواقع واعتقاد أن معجزة ما ستجعل قوى جديدة ناشئة قادرة على توجيه وقيادة السيرورة برمتها، و إزاحة القوى الإسلامية إلى الخلف.

صحيح أن قوى جديدة بزغت، بخاصة في الجيل الجديد ، ضمن الشباب. صحيح أن شبكات شباب جديدة ، مستعملة كافة موارد شبكة إنترنت، قامت بدور رئيس في تشكيل كل تلك الانتفاضات وتنظيمها وتنسيقها ، وما من شك بهذا الصدد. ولكن مع انتفاضات داعية إلى انتخابات حرة - وهذا مطلب طبيعي لشعب متعطش للديمقراطية، كما هو الحال - كان جليا، مع ذلك، أن انتخابات على المدى القصير ستكون لصالح من لديهم وسائل تحقيق الفوز. لا يمكنك الفوز بالانتخابات باستعمال إنترنت وحدها، كما تعلمون ذلك جيدا في الولايات المتحدة. لا بد من أدوات سياسية، و أموال، ومنظمات منغرسة في القاعدة، حيث توجد جماهير الناخبين، كما هو الحال في المناطق الريفية، وما إلى ذلك. وهذا ما لا يمكن اختراعه أو ارتجاله في بضعة أسابيع. لذا كان متوقعا تماما فوز القوى الأصولية الإسلامية، لا سيما حركة الإخوان المسلمين بفروعها المختلفة ومنظماتها. كان لهذه القوى إمكانات تراكمت على مدى سنوات عديدة مكرسة لبناء الشبكات، بخاصة في بلدان مثل مصر حيث أمكنها العمل علانية. لم يكن ذلك حال تونس، لكن عوض ذلك استفادة تلك القوى من سخاء الدول النفطية وتأثير التلفزيون. ثمة محطات تلفزيون عديدة بالمنطقة تخدم هذه الأنواع من المجموعات، سواء ببرامج دينية – ثمة قنوات دينية كثيرة - أو بالدور السياسي الخاص للقناة الفضائية الرئيسة في المنطقة، قناة الجزيرة. تعمل هذه القناة بشكل واضح تماما لصالح حركة الإخوان المسلمين، ذات الحضور البارز في فريق صحفييها، و الحاظية برعاية حكومة قطر التي تملك القناة وتديرها. كان لدى الحركة و الحالة هذه موارد حاسمة، و ايضا بطبيعة الحال، الكثير من المال الوارد من ملكيات الخليج.

كان متوقعا كليا حصول الإخوان المسلمين على أكبر حصة أصوات، لذلك لم يكن الأمر مفاجئا. وكان رد من يسقطون بسهولة رغباتهم على الواقع على هذه الانتخابات بالتخلي عن رؤاهم المثالية لتبني رؤية قاتمة جدا، مع تعليقات مثل "الربيع يتحول إلى شتاء." والأكثر إدهاشا، في الواقع، كان ضعف الانتصارات الانتخابية للقوى الدينية. و كانت الحالة الأشد إثارة، بطبيعة الحال، هي مصر حيث أمكن معاينة سرعة سقوط تأثير الإخوان المسلمين وحصيلتهم الانتخابية. يكفي النظر إلى عدد أصواتهم في الانتخابات البرلمانية، ثم في الانتخابات الرئاسية في دورها الأول، وأخيرا في الاستفتاء على الدستور، إذ يتضح أنهم يفقدون التاثير بسرعة فائقة. إنهم يخسرون مواقع، وهذا هو الأكثر إثارة للدهشة.

يمكن قول الشيء ذاته عن تونس، على الرغم من مشكل الانقسامات داخل اليسار - الذي انقسم إلى عدد لا يصدق من المجموعات والمنظمات، إذ تنافست عشرات قوائم اليسار واليسار الجذري في الانتخابات بالعاصمة. إذا جمعنا أصوات مختلف قوائم اليسار، نحصل على نتيجة تتيح عددا هاما من المقاعد في البرلمان. على الرغم من كل هذا، حصل الإخوان المسلمون بتونس، متمثلين في حركة النهضة، بنسبة 40٪ من الأصوات في ظل نسبة مشاركة تقل عن النصف، ما يعني أنهم حققوا نسبة 20٪ من الأصوات المسجلة. لم يكن ذلك اكتساحا. وقد شهدت تونس، مذاك، تدهورا للأوضاع الاجتماعية و تراجع التحالف الذي وصل للسلطة بقيادة القوة الإسلامية المهيمنة. و يفقد بشكل متزايد صدقيته بسبب عجزه على إتيان أي بداية حل للمشاكل الحقيقية التي يواجهها البلد، أي التي أتيت على ذكرتها، من بطالة ومشاكل اقتصادية واجتماعية، الخ.

شهدنا بكل من تونس ومصر موجة نضالات اجتماعية، نضالات العمال والعاملات مع اشتباكات متزايدة بين هذه النضالات الاجتماعية والحكومات التي تهيمن عليها حركة الإخوان المسلمين في البلدين.

بلغت هذه الظاهرة مستويات مأساوية في تونس مع المواجهة التي غدت عنيفة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل. يسير البلد نحو انتخابات جديدة، ولكن حتى قبل هذه الجولة الجديدة، تشتد المواجهات الاجتماعية والسياسية، لدرجة بلوغ الحالة العامة نقطة الغليان. و يتغير كل شيء بسرعة فائقة. إن إسقاط الرغبات على الواقع في البداية كما التعليقات الكارثية لاحقا كلاهما انطباعي وخاطئ. الواقع أننا إزاء انقلاب ثوري على المدى الطويل، سيرورة ثورية طويلة الأمد بدأت في ديسمبر عام 2010 وستستمر في البلدين الذين شهدا تحقيق الانتفاضة لانتصارات أولية كما في البلدان الأخرى التي لم تتأثر بعد بشكل كبير. تشهد المنطقة كلها حالة غليان.

ماذا حدث مع دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى إضراب عام مطلع ديسمبر؟ أظن أنه تم إلغاءه؟



جلبير الأشقر: فعلا، جرى إلغاؤه بعد التوصل إلى تسوية. في الجوهر، خشيت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل تطور المواجهة على نحو غير محمود لأن البلد لم يشهد سوى دعوة واحدة إلى الإضراب العام عام 1978، أدت إلى مواجهة بالغة الضراوة. كان ثمة إذن مخاوف مما قد يحدث. لذا قبلت قيادة الاتحاد التراجع بعد تسوية تحفظ ماء وجه كلا الطرفين. ولكن التحذير صدر فعلا، و قد عبر الاتحاد العام التونسي للشغل بصراحة قاسية في هجماته على الحكومة، وفي انتقاده لسلوكها في السلطة. لا يزال الاتحاد يطالب بحل ميليشيات يشرف عليها الحزب الإسلامي. لقد ابان الإخوان المسلمون ، في مصر وفي تونس على سواء، عن فعالية أشد من مبارك ذاته في استخدام هذا النوع من البلطجية.

هو ذا الوضع إذن. الأفق في تونس مثير جدا للاهتمام إذ هو البلد الوحيد بالمنطقة حيث تقود حركة عمال منظمة السيرورة فعليا. وقد كانت بالفعل على رأس الانتفاضة في ديسمبر 2010/يناير 2011. و قد هرب بن علي من البلد يوم بلغ الإضراب العام العاصمة في 14 يناير 2011. وكان النقابيون من قاد النضال من سيدي بوزيد، مدينة بداية كل شيء بعد انتحار البوعزيزي، حتى بلغ ذروته في انتفاضة العاصمة. وكان المناضلون النقابيون بالقاعدة والأطر النقابية الوسيطة القيادة الحقيقية للنضال. لكن، بعد سقوط الدكتاتورية، حدث تغير في قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل جرى بفعله وضع اليسار، بما في ذلك اليسار الراديكالي في الواجهة. و أخيرا استخلص اليسار التونسي دروس تجربته الحديثة، وتمكن من توحيد قواه فيما أسموه الجبهة الشعبية. و إن هيمنة مكونات هذا التحالف اليساري في الاتحاد العام التونسي للشغل أمر بالغ الأهمية، إذ يضع تونس في طور نضالي أكثر تقدما مما في أي بلد آخر بالمنطقة.

إذا أمكن أن ننتقل من تونس إلى مصر، حيث جرت، منذ انتخاب الرئيس مرسي رئيسا في الصيف الماضي، محاولة لتوحيد المعارضة ضد الإخوان المسلمين. هل يمكن أن تقول لنا شيئا عن القوى اليسارية منذ قيام الثورة؟

جلبير الأشقر: نعم، لكن ثمة فرق كبير بين مصر وتونس، حيث أن دور اليسار في تونس أعظم أهمية لأن اليسار كان نشطا جدا لفترة أطول، عقودا عدة داخل الحركة النقابية، في الاتحاد العام التونسي للشغل. هذا مع أن قيادة الاتحاد البيروقراطية غالبا ما كانت تحت سيطرة أو نفوذ الحكومة. لقد ظل اليسار نشطا جدا باستمرار في الفروع النقابية المحلية، والمناضلون النقابيون الأكثر شهرة ينتمون إلى اليسار.

إن وضعا شبيها غير قائم، مع الأسف، بأي من بلدان المنطقة الأخرى، حتى مصر. في مصر، تنظمت المعارضة في ائتلاف يساري وليبرالي، ضم حتى بعض فلول النظام السابق. بطبيعة الحال، قد يحدث الأمر عينه في تونس حيث قد يميل بعض من اليسار أو النقابة إلى تحالف مع فلول النظام السابق بوجه الإخوان المسلمين، اي القوى الإسلامية الأصولية. هذا هو الحال بالفعل في مصر، حيث عمرو موسى عضو بالائتلاف. يمثل موسى الجناح الليبرالي للنظام القديم. ليس مثل أحمد شفيق، المرشح الرئاسي السابق، الذي كان يعتبر ممثلا رسميا لاستمرار نظام مبارك. موسى، في الواقع، كان مرشحا ضد أحمد شفيق في انتخابات الرئاسة. لذا فما نراه في مصر هو تحالف يساري ليبرالي. وقد يعتبر التحالف مشروعا بقدر ما هو جبهة موحدة حول مطالب ديمقراطية. لكن المشكل أنه أبعد من ذلك بتحوله إلى تحالف انتخابي.

اليسار العريض يمثله بوجه خاص حمدين صباحي، المرشح الذي فاجأ الجميع في الدور الأول من انتخابات الرئاسة بحصوله على المرتبة الثالثة وحتى بفوزه بالانتخابات في القاهرة والإسكندرية، أهم التركزات الحضرية. كانت مفاجأة كبيرة. تمكن حمدين من تمثيل التواقين إلى بديل يساري سواء للنظام القديم، أو القوى الإسلامية. أسس بعد الانتخابات التيار الشعبي الذي انضم اليه معظم جماعات اليسار الجذري. التيار الشعبي للأسف حجبه الآن الائتلاف العريض بدلا من تطوير إمكانيات اليسار المجتمع حول حمدين في الدور الأول من انتخابات الرئاسة.

في مصر، تطرح المواجهة مع النظام الذي يقوده الإخوان المسلمين مسألة دور الجيش. هل يمكن أن تشاطرنا أفكارك حول الأمر؟ أي حول ميزان القوى والتطورات المحتملة بالنظر إلى المشاكل الاقتصادية والسياسية التي لم تحل و إلى نظام يفقد دعمه الانتخابي، وعلى نحو ما، مشروعيته الانتخابية والسياسية؟

جلبير الأشقر: إن سرعة تراجع مرسي وفقده الشرعية هي المفاجأة الحقيقية. لقد اعتبرت دائما - ولست وحيدا في ذلك- أن الناس بحاجة إلى تجريب تلك الطينة في السلطة من أجل فهم حقيقتهم، كي يكفوا عن الانخداع بشعارات جوفاء، من قبيل "الإسلام هو الحل"، شعارات تخفي انعدام برامج بديلة ملموسة. لكن هذا يجري بأسرع من المتوقع.

أحد أسباب ذلك الطريقة الخرقاء للغاية التي يتعامل بها الإخوان المسلمون مع الوضع. أبانوا عن الكثير من الغطرسة، ظانين أن يومهم قد زف بعون الله، وأنهم يمسكون الأمور بحزم. هذا قصر نظر سياسي كبير. لو كانوا أذكى، لأدركوا أن لا مصلحة لهم في الحكم في هذا الطور. كل من يحاول حكم البلد ببرنامج كبرنامجهم مصيره فشل ذريع - لأنه ليس سوى آخر غير استمرار لبرنامج النظام السابق. كان الحدث الأهم بمصر في الآونة الأخيرة توقيع مرسي اتفاقا مع صندوق النقد الدولي. لقد وقع اتفاقا بشروط تعد أساسية من قبل جميع مانحي مصر المحتملين. وقعوا الاتفاق لأنه يطابق وجهات نظرهم النيوليبرالية التي لاتختلف، بطبيعة الحال، عن التي نهجها النظام القديم. جاء توقيع الاتفاق في أسوأ وقت. ففيما بدأ الإخوان المسلمون المواجهة مع المعارضة،حيث قررت حكومة مرسي زيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية وتغيير نظام الضريبة بطريقة لا تؤثر على الأكثر غنى. وقد أثار هذا استنكارا أجبر مرسي على إلغاء هذه التدابير بعد بضعة أيام - على صفحته بفيسبوك! و أصبح ذلك نكتة. يدل هذا على مدى افتقار هؤلاء لأي فكرة عن حل حقيقي لمشاكل البلد الاجتماعية والاقتصادية العميقة.

أنتقل الآن إلى الجيش. كان هناك كثير من اللغط حول "انقلاب ثوري" مثله إبعاد مرسي لطنطاوي ونائبه في رئاسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولكن حقيقة الأمر أنه تم باتفاق كامل مع الجيش الساعي حقا إلى التخلص من هؤلاء الرجال المدينين بمناصبهم لمبارك الذي فرضهم على الجيش. يكفي النظر في سن طنطاوي، الذي يفوق بكثير العمر الأقصى لشغل منصب بالجيش. ونحن نعلم، من تقارير دبلوماسية أمريكية نشرتها ويكيليكس، أن الضباط يلقبون طنطاوي بـ "كليب مبارك". لذا ليست إحالته على التقاعد فعلا"ثوريا" بأي وجه. لقد منح الضابطان ميداليات وحصلا على عطلة وظيفية سخية، فضلا عن حصانة تقيهم حساب ما فعلوا لما كانوا على رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة. هذا ما يجعل الاعتقاد بأن الجيش قد أُضعف اعتقادا خاطئا كليا.

لننظر فيما حدث مؤخرا لما بدت المواجهة بين مرسي والمعارضة في ذروتها. بادر قائد الجيش الجديد لعرض نفسه حكما علنيا، ودعا إلى مؤتمر يجمع الرئيس والحكومة من جانب، و المعارضة من جانب آخر . قبل ذلك كان الجيش أدلى بتصريحات هي نسخة مطابقة لتلك التي عبر عنها في أثناء الانتفاضة ضد مبارك باعلان انه لن يقمع الشعب. كانت الرسالة: "لم نقبل استخدامنا سياسيا من قبل مبارك و لن نقبل أن يستخدمنا مرسي." الجيش يلعب إذن هذه اللعبة. يمكن افتراض أن واشنطن تنصحه بالحاح بالنأي عن النزاع، والحفاظ على دور حكم ليتمكن من دور"المنقذ" يوم يتدهور الوضع تماما، مع تكرار الدورة التقليدية، ثورة ففوضى، ثم انقلاب. لكن الشعب المصري منتقد جدا،في هذه الطور على أي حال، لدرجة تعذر قيام شيء من هذا القبيل في المدى القصير. ولكن لا يمكن التنبؤ بما سيحدث في المدى الطويل.

قبل أن أسألك سؤالا عن سوريا، أود أن استفسرك عن دور مسألة الفلسطينيين وغزة في هذا الوضع؟ اعتبرت الطريقة التي ساعد بها مرسي في التفاوض نقطة جيدة لصالحه. كما تعلمون، نعثت مجلة تايم مرسي بأنه الرجل الأكثر أهمية بالشرق الأوسط ثم انتقدته بعد أسبوع. إن لمجمل مسألة إسرائيل و الفلسطينيين مكانة أهم في هذا المشهد. ما قولك بهذا الصدد؟



جلبير الأشقر: هذا السؤال يتعلق في واقع الأمر بنقطة مهمة. ذكرت غطرسة وغرور الإخوان المسلمين. و الحال أن عنصر أساسيا يفسر موقفهم هو دعم واشنطن لهم. إنه عنصر مركزي في اعتقادهم أنهم يحكمون وأن بإمكانهم أن يقودوا. وق الواقع أن واشنطن بوغثت بالانتفاضة فيما كانت الولايات المتحدة - وتظل - في أدنى مستوى منذ ذروة نفوذها في عام 1991 في عهد بوش الأب لما نشر نصف مليون جندي أمريكي في الخليج إبان الحرب الأولى ضد العراق بقيادة الولايات المتحدة. آنذاك، أدت ذروة هيمنة الولايات المتحدة تلك إلى ما يسمى عملية السلام بين إسرائيل والدول العربية، ثم اتفاقية أوسلو عام 1993. هذا كله طواه الزمن. و يتمثل العامل الرئيسي في هذه النتيجة في سياسة إدارة جورج بوش الابن والكارثة الكبرى للإمبراطورية الأمريكية بشكل عام التي تبين أن احتلال العراق يشكلها للإمبريالية الأمريكية. لقد تحول الاحتلال إلى كارثة. انسحبت القوات المسلحة للولايات المتحدة من العراق دون تحقيق أيا من الأهداف الأساسية لاحتلالها البلد. اضطروا الى مغادرة البلد دون الحفاظ على قاعدة واحدة حتى، ولا شيء، وحتى دون رقابة على الحكومة العراقية، الواقعة أكثر تحت تأثير إيران. و أول شيء فعلت الحكومة العراقية بعد رحيل القوات الأمريكية كان التفاوض على اتفاق أسلحة مع روسيا. لقد كان العراق كارثة بالنسبة للولايات المتحدة.

توجد الولايات المتحدة حقيقة في موقف ضعيف جدا. انها تشعر بالضعف الشديد في المنطقة وبقيت في المرتبة الثانية إبان عمليات حلف شمال الأطلسي في ليبيا، متوارية ، على عكس العمليات، سواء التي خاضتها منظمة حلف شمال الأطلسي (كما حدث في كوسوفو أو أفغانستان) أو لا (كما في العراق). يمكننا أن نرى بوضوح تام عجز واشنطن في حالة سوريا. في هذه الحالة، القوة الوحيدة التي يمكنها المراهنة عليها هي الإخوان المسلمين.

إن أمير دولة قطر، بفعل موقعه كراع رئيسي لحركة الإخوان المسلمين منذ منتصف سنوات 1990، هو الذي رتب التفاهم. لقد اضطرت واشنطن إلى الاعتماد على حركة الإخوان المسلمين لأنها فقدت حلفائها التقليديين مثل مبارك وبن علي. وبما أن المنطقة تدخل طورا جديد في تاريخها، تحتاج واشنطن الآن قوة حقيقية ذات قاعدة شعبية. القوة الوحيدة المتاحة هي الإخوان المسلمون، لا سيما أن تاريخ التعاون المديد معهم عامل مساعد. خلال سنوات 1950، و60 و 80 و حتى سنوات 1990، كانت حركة الإخوان المسلمين في الواقع منحازة للولايات المتحدة، وخصوصا خلال سنوات 1950 و 1960، عندما كان ينظر إليها في المنطقة كلها كمتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية. هذا هو الدور الذي لعبته في الواقع بالعمل ضد الرئيس المصري عبد الناصر وأيضا ضد النفوذ السوفيتي في تعاون وثيق مع وكالة الاستخبارات المركزية، والولايات المتحدة، فضلا عن المملكة العربية السعودية. لقد كان الإخوان المسلمون تحت رعاية السعوديين قبل أن يصيروا تحت رعاية قطر في سنوات 1990.

واشنطن تراهن إذن عليهم مرة أخرى. في الواقع ليس دور مرسي في واقعة غزة غير مواصلة لدور نظام مبارك في الماضي، لكن مع قدر أكبر من الكفاءة لأن حركة حماس تمثل الفرع الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين. ولذلك لديها تأثير أكبر على حركة حماس وتمكنت، بالتالي، من التفاوض على الاتفاق والحصول على تهاني الولايات المتحدة. وتراهن واشنطن على الاخوان المسلمين، سواء في مصر أوتونس أوسوريا مستقبلا، عندما يسقط النظام. ليس هناك بلد في المنطقة لا يوجد فيه الإخوان المسلمون ولا يلعبون به دورا هاما. هذا هو السبب أن واشنطن متحفظة للغاية في تعليقاتها على ما يجري في مصر. وقد أظهرت إدارة أوباما في واقع الأمر انتقادا لمبارك أشد مما التي توجه للإخوان المسلمين.

هل بوسعك قول شيء عن سوريا؟ في هذه اللحظة الدقيقة حيت العملية برمتها صعبة بشكل لا يصدق وعنيفة من جانب الحكومة وليس هناك إجماع في الآراء داخل المعارضة، وحتى داخل اليسار المعارض للنظام بقدر ما أن ثمة قطاعات يسارية تدعم النظام على ما يبدو. هل يمكنك التعليق على التطورات في سوريا؟

جلبير الأشقر: ليست سوريا استثناء ضمن الانتفاضات في المنطقة، بمعنى أننا إزاء نظام دكتاتوري، هو في الواقع واحد من الأكثر استبدادا بالمنطقة (مع ليبيا القذافي والمملكة العربية السعودية). من ناحية أخرى، يتعلق الأمر ببلد حيت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية عميقة جدا، مع معدل بطالة عالية جدا، ومعدل فقر 30٪، وبالإضافة إلى ذلك، أسرة حاكمة تركز السلطة والثروة إلى درجة لا تصدق. إذ يسيطر ابن عم الرئيس السوري على 60٪ من اقتصاد البلد. وتقدر ثروته الشخصية ب 6 مليار دولار. مزيج من مكونات مزيج متفجر. وقد انفجر.

في اليسار هناك الشيوعيون المشاركون في الحكومة السورية. إنه تقليد كان قائما منذ عهد الاتحاد السوفيتي، الذي كانت له علاقات وثيقة مع النظام السوري - علاقات تواصلت مع روسيا بوتين. إن غالبية اليسار، كي لا نقول كل اليسار بالمعنى الحقيقي للكلمة، هو ضد النظام. الحزب اليساري الأكثر أهمية ممثل في المجلس الوطني السوري هو الجناح المنشق عن الشيوعيين، والذي انفصل في سنوات 1970 وعارض التعاون مع النظام.

الاعتقاد أن النظام السوري من "اليسار" أو ما هو أسوأ، بأن الأسد "اشتراكي، وإنساني ومن دعاة السلام"، كما قال تشافيز بشكل محرج جدا، هو في أحسن الأحوال جهل. واجب أي شخص منتسب لليسار ألا يتردد في مساندة كاملة للشعب السوري في كفاحه ضد هذه الدكتاتورية الوحشية، المستغلة والفاسدة. أبعد من ذلك، في سوريا وفي أي بلد من بلدان المنطقة، نجد ضمن القوى المقاتلة ضد النظام قوى أصولية إسلامية. كان هذا هو الحال أيضا في كل من تونس ومصر. لا ينبغي أن يؤخذ هذا كذريعة لتشويه سمعة الانتفاضة برمتها. ينبغي على اليسار في سوريا، كما في أماكن أخرى، أن يدعم دون تردد الحركة الشعبية ضد الدكتاتورية، ويفعل ذلك أكثر عندما يطاح بالديكتاتوريات ، يجب أن يدعم أكثر القوى التقدمية داخل الحركة، بتتبع سيرورة التجذر هذه في صلب الثورة نفسها التي دعاها ماركس "الثورة الدائمة".

* أجري الحوار في ديسمبر عام 2012 ونشر في الأصل في مجلة الاشتراكية العالمية، مجلة ISO، الولايات المتحدة الأمريكية. نشره باللغة الفرنسية موقع A l’encontre يوم 5 فبراير 2013 تحت عنوان "المنطقة كلها تغلي": http://alencontre.org/

تعريب: المناضل-ة






* جلبير الأشقر أستاذ في SOAS جامعة لندن. أصدر حديثا كتابه الأخير بدار النشر Acte Sud، Sinbad، بعنوان: الشعب يريد. تحليل جذري للانتفاضة العربية. وهو مقدم على النحو التالي: "أول دراسة متعمقة للانتفاضات الشعبية في العالم العربي، التي افتتحت من قبل الثورة التونسية في ديسمبر كانون الأول عام 2010. يحلل المؤلف الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي تفسر هذه الانتفاضات، والتي حددت الأشكال الخاصة التي طبعتها في كل بلد’.