عن النقد الماركسي للمجتمع المدني (3-3)


خليل اندراوس
2013 / 4 / 19 - 09:22     


الفلسفة الماركسية تسمح لنا بفهم مصدر الاغتراب، وتحرر انفسنا النقدي منه، فهدف الفلسفة الماركسية ليس فهم الواقع الموجود فقط ولكن ايضا العمل على تغييره. فالفلاسفة قبل ماركس فسروا العالم بطرق مختلفة ولكن الماركسية طرحت المطلوب الا وهو تغييره



في المجتمع المدني الرأسمالي وفي بنائه الفوقي الوعي الاجتماعي وخاصة اهم مركباته اي الثقافة يفشل هذا المجتمع في حماية الافراد من الاغتراب، ويفشل في معاملة الآخرين كغايات، كما في السياق الماركسي، الذي يتطلب ان يكون الاشخاص قادرين على الاعتراف بالآخرين ودعم صفات كمالهم بما فيها الاعتراف بقدراتهم التامة، حيث في المجتمع الرأسمالي كل شخص هو لا شيء إلا سلعة يتعقب الحاجات الاساسية للبقاء، ولا يمكن تحقيق هذه الغاية. وهذا المجتمع المدني الطبقي الرأسمالي يفتقد الفضائل الاساسية التي تجعل من الممكن تكريس الجتمع للتطور الممكن لكل شخص. والقيم الرئيسية التي تحل محل الفضائل في المجتمع الرأسمالي هي قيم البخل او حب المال، قيم زيادة الارباح من خلال تعميق استغلال الطبقة العاملة من ناحية وزيادة ثروة رأس المال من ناحية اخرى.

ففي المجتمع المدني الرأسمالي "الشرط الاساسي للوجود والسيادة بالنسبة للطبقة البرجوازية هو تكديس الثروة في ايدي بعض الافراد وتكوين رأس المال وانمائه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور". (ماركس وانجلس – البيان الشيوعي).

وفي هكذا مجتمع مدني رأسمالي يصبح العامل ملحقا للآلة، والمطلوب من كل شخص لتحقيق المهمة البسيطة للآلة ان يبقى كموجود انساني غير ناضج، "اي كطفل"، واكثر من ذلك فإن العمال يجب ان يتبنوا مبادئ او مذاهب مرتبطة بانتاج الثروة، وهذا معناه ان العمال يجب ان يقبلوا بوجود مستوى من المعيشة من اجل ان يذهب الجزء الرئيسي من دخل عملهم الى طبقة رأس المال الى مالكي وسائل الانتاج. ولتحقيق هذا الهدف يتعلم العمال توجيه الحياة لانكار الذات.

وفي الواقع يتحول العامل الى موجود لا يشعر بنقص كل الحاجات. وهنا يصبح العامل شخصا مظلوما ومالك وسائل الانتاج يستخدم الثروة التي انتجها العامل، لا ليجعل العامل قادرا على تحقيق قدراته تماما ولكن ليحصل اكثر على الارباح وزيادة رأس المال.

ولقد قال ماركس "أنتم العمال اقل تفكيرا وحبا ومعرفة وغناء وتصويرا وخيالا.. الخ وأنتم الرأسماليين أكثر ادخارا ويصبح كنز الرأسمالي الاكبر. هو رأس مالك انت ايها العامل هو عملك".

وفي هكذا مجتمع تصبح النقود او الثروة هي الاساس لتحديد ما يمكن ان يكون كل شخص، ومن يكون كل شخص. هذا معناه ان تحديد "من اكون انا" يكون دائما وظيفة النقود التي املكها مثلها مثل ما افعل لاكتساب النقود.

وهذا الوضع الموضوعي في المجتمع المدني الرأسمالي المعاصر يدفع الطبقة الرأسمالية المالكة لرأس المال ووسائل الانتاج تستغل كل الظروف الاقتصادية والقوانين يهدف زيادة الثروة على حساب باقي شرائح المجتمع وخاصة الطبقة العاملة. وهكذا الى جانب اهتمام هذه الطبقة بالثروة يصبح البخل وعدم الاهتمام بالقضايا الحارقة للمجتمع مثل البطالة والفساد وزيادة ارباح رأس المال غير المنتج عن طريق البورصة (وسأتطرق لموقف ماركس بالنسبة للبورصة في مقال آخر)، قيمة اخرى اساسية لطبقة رأس المال في المجتمع المدني الطبقي، وهكذا تصل هذه الطبقة الى عدم الاعتدال والتطرف وتتبنى مواقف اكثر يمينية على المستوى السياسي كما يحدث في امريكا وبعض الدول الاوروبية واسرائيل.

من هنا نؤكد بأن سير التاريخ خاضع لقوانين داخلية عامة، وكل نضال سياسي هو نضال طبقي، وان كل نضال تخوضه الطبقات من اجل تحررها رغم شكله الذي هو بالضرورة سياسي – لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي، هو بالنتيجة نضال لاجل التحرر الاقتصادي.

فلا شك اذًا، ان الدولة، النظام السياسي تؤلف في التاريخ الحديث على الاقل، العنصر الثانوي، بينما المجتمع المدني – ميدان العلاقات الاقتصادية يؤلف العنصر الحاسم.

وفي هكذا مجتمع يرتكز على العلاقات الاقتصادية وتجميع الثروة لدى طبقة رأس المال، يصبح كما قال ماركس: "ان ما اقدر على فعله كانسان اذا كان بالنسبة لي كل قدراتي الاساسية الفردية عاجزة او غير قادرة بالنسبة لهذا الفعل، فإنني اكون قادرا على فعله بواسطة النقود".

وفي هكذا مجتمع تفقد الفضائل التقليدية الكثيرة مكانتها الهامة ويظل الناس يتكلمون حول الفضائل من الامانة او الصدق او الحب ولكن هذه الفضائل من السهل ان يحل محلها بسهولة ما يناقضها من الرذائل مثل الكراهية وعدم الصدق والانتهازية والنفاق وكل هذا من اجل هدف واحد وهو جمع الثروة والنقود وهكذا كل القيم والفضائل التقليدية تتبدل وتتعدل او تتكيف مع التغير في الظروف من اجل الوصول الى هذا الهدف، هدف جمع الثروة والنقود.

وفي هكذا مجتمع مدني طبقي لا يستطيع الناس ان يكون لديهم علاقات مؤسسة على الاهتمام المشترك بالتطور عند كل شخص في المجتمع.

ولكن لدى ماركس "يجب ان تكون التبادلات التي لدينا مع الكل الآخر مخططة لا لتجعل الناس اثرياء ماديا جدا، ولكن هذه التبادلات يجب ان تجعل الكميونة المؤسسة على الفضائل ممكنة، وان تساعد الناس على دعم الاحترام المتبادل، وحب القدرات الاساسية ومهارات الحياة الانسانية. خاصة علاقاتنا يجب ان تكون مخططة لتكون جهودا حميدة تجعل الآخرين اقدر على المشاركة معنا بآمالهم وقدراتهم، وكذلك تجعلنا اقدر على المشاركة بأمالنا وقدراتنا مع الآخرين".

ولذلك الفلسفة الماركسية تسمح لنا بفهم مصدر الاغتراب، وتحرر انفسنا النقدي منه، فهدف الفلسفة الماركسية ليس فهم الواقع الموجود فقط ولكن ايضا العمل على تغييره. فالفلاسفة قبل ماركس فسروا العالم بطرق مختلفة ولكن الماركسية طرحت المطلوب الا وهو تغييره.

لقد اعتقد ماركس ان دراسة التاريخ والفلسفة يجب ان تستخدما لتغيير ظروف الحياة الانسانية للافضل. وبالتالي يكون من الممكن ان نتعلم التاريخ، وبعمل هذا، تستخدم دروس الماضي لتغير مسار المستقبل.

ففي المجتمع الرأسمالي عملية تخطيط انتاج الحاجات الانسانية تكون لصالح طبقة رأس المال وضد المصالح المفضلة بالنسبة لباقي شرائح المجتمع وخاصة الطبقة العاملة ولكن في الوقت نفسه من خلال النضال الطبقي تستطيع الطبقة العاملة ان تقوم بنضالات اجتماعية ثقافية سياسية ضد قوى رأس المال بغرض خلق علاقات انتاج هي لم تعد مغتربة بعد، من خلال الغاء الملكية الخاصة على وسائل الانتاج وخاصة الكبيرة.

فكما قال ماركس "ان الظروف تضع الناس تماما بقدر ما يصنع الناس الظروف".

وهكذا نستطيع ان نغيير الظروف الانسانية ونحرر البشرية من الاغتراب.

بالنسبة للماركسية بعد ان انتهى مشهد التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الاقطاعية، ظهر المجتمع المدني في القرن الثامن عشر مع نظام للانتاج والتجارة تسيطر عليه البرجوازية – طبقة رأس المال، واكثر من ذلك، ان هذه الطبقة هي المرتبطة، والتي تحدد البناء الفوقي "للمجتمع اي المرتبطة بالقيم الاجتماعية والسياسية التي اسست فكرة المجتمع المدني، والتي قدمت الدعم الثقافي والسياسي والاخلاقي للمحافظة على نظام الانتاج الموجود في المجتمع الراسمالي.

لكن في الوقت نفسه نتج عن النظام الرأسمالي الجديد صراع طبقي بين طبقة راس المال والطبقة العاملة وهذا الصراع موضوعي جدلي سينتهي بالثورة الاجتماعية التي تمهد للشيوعية.

إن شرور المجتمع المدني الرأسمالي ترتبط بدافع الرأسمالي تحقيق اعلى معدل من فائض القيمة من الطبقة العاملة.

ولكن في المجتمع الشيوعي تطور قوى الانتاج سيكون اقدر على تطور "كل ما يحيط بتطور الفرد".

وفي هذا الوضع الجديد يتوقف كون العمال سلعا يملكها الرأسمالي وتتحول الطبقة العاملة الى موجودات انسانية كاملة بقدراتها المختلفة في حاجة الى التطور الدائم وفي كل المجالات لديهم مطالب طبيعية اساسية وكذلك لهم مطالب اخلاقية ثقافية عقلية، وبالتالي سيكون في المجتمع الشيوعي التركيز على كيفية تأمين التطور الممكن الكامل لكل شخص في المجتمع. ففي الشيوعية المتقدمة تكون قيم المجتمع "من كل وفقا لقدراته ولكل حسب حاجاته".

"لم يقم الفلاسفة إلا بتفسير العالم باشكال مختلفة مع ان المطلوب كان تغييره". ان هذه الفكرة التي صدرت عن كارل ماركس في عهد شبابه منذ حوالي مائة وسبعين عامًا هي بمثابة مفتاح لفهم نشاط كل من يتبنى الفكر الماركسي. فالانسان المعاصر قادر ليس فقط على تفسير العالم المادي المحيط به بل على تغييره كذلك. (انتهى)