حول طبيعة المجتمع و الثورة في الوطن العربي .


حزب الكادحين في تونس
2013 / 4 / 14 - 23:09     


بمناسبة ذكرى 20 مارس في تونس نقدم فيما يلي هذا النص المقتطف من وثيقة تاريخية تتناول بعض المسائل المرتبطة ببرنامج الثورة في تونس والوطن العربي وقد تم تحيين بعض الفقرات على ضوء الأحداث الجارية الآن :

رزحت الأقطار العربية طيلة قرون عديدة تحت الاحتلال الإقطاعي العثماني وشهدت بذلك تاريخا متقاربا رغم تطورها اللامتكافئ. لقد كانت علاقات إنتاجها تسير خلال القرن التاسع عشر نحو التحول إلى علاقات رأسمالية، إذ بدأت الصناعة تنمو في أحشاء المجتمع العربي الإقطاعي وتطورت الحرف وبعثت بعض الورشات وتمّت بعض الإصلاحات الطّفيفة في الزّراعة، غير أنّ التدخّل الإمبريالي أجهض عمليّة النموّ الداخليّة وزاد في تثبيت علاقات الإنتاج الإقطاعيّة وحال دون توحيد السوق العربيّة آنذاك وزاد في تعميق تجزئة الوطن فلم يتحقق نتيجة لذلك التحوّل الطبيعي لعلاقات الإنتاج .
لقد تمكّنت البلدان الإمبرياليّة بعد الاستعباد المالي لجلّ الأقطار العربيّة من خلال التسهيلات التي وفرتها لها السلطة العثمانيّة من بسط هيمنتها المباشرة عليها واقتسامها فيما بينها فأصبح بذلك الوطن العربي مستعمرا استعمارا مباشرا بعد احتلال أغلب أجزائه باستثناء جزء من الجزيرة العربيّة وتمّ تقنين هذه التجزئة بمقتضى العديد من الاتّفاقيات من اتفاقيّة سايكس بيكو إلى وعد بلفور الذي مثّل تتويجا للمؤامرات الإمبرياليّة والذي أفضى فيما بعد إلى تركيز الكيان الصهيوني والذي تمّ زرعه لخدمة مخطّطات الإمبرياليّة وتعميق تقسيم الشّعب العربي.
لقد عجزت البورجوازيّة العربيّة طيلة هذه الفترة بسبب الاحتلال الإقطاعي العثماني والتدخّل الإمبريالي الأوروبّي من جهة ونتيجة لضعفها اقتصاديّا وسياسيّا عن القيام بالثورة الديمقراطيّة البورجوازيّة وتوحيد الأمّة على غرار ما وقع في أوروبّا. لذلك لم تتحقّق الوحدة العربيّة ولم تتوحّد السوق رغم أن الأمّة العربيّة المضطهدة تشكّلت كجماعة مستقرّة تاريخيّا وتوفّرت لها عناصر وحدة اللغة ووحدة الأرض ووحدة التكوين النفسي المجسّدة في الثقافة المشتركة للأمّة العربيّة .
وجرّاء التدخّل الإمبريالي فان الأمة العربية تعد أمّة مضطهدة تناضـل ضدّ الهيمنة الإمبرياليّة والنير الإقطاعي ولا يمكن لها التحرّر والوحدة إلاّ بالقضاء على الإمبرياليّة والإقطاع، وقد غدت هذه المهامّ جزءا لا يتجزّأ من الثّورة الوطنية الديمقراطية العربية المتحولة إلى الاشتراكية.
إنّ الجماهير العربيّة منذ القرن التاسع عشر لم تستسلم ولم تقبل بوضعها المتردّي، فانتفضت في البداية ضدّ الاستعباد الأوروبي وما نتج عنه من تدهور لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وواجهت أيضا الإقطاعيين، كما قاومت فيما بعد الاستعمار المباشر وأعلنت الحرب ضدّ المحتلّ. لقد استمرّت هذه المقاومة بأشكالها المختلفة السنين الطّويلة واتخذت طابعها الوطني بمعاداتها الصّريحة للاحتلال ورفض تواجده وطابعها الدّيمقراطي بتصدّيها للإقطاعيين، غير أنّ هذه الجماهير ورغم ما قدّمته من تضحيات وما بذلته من جهود لم تحقّق التحرّر الوطني الديمقراطي المنشود.
لقد شهدت حركات التحرّر الوطني تطوّرا لافتا بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 فتأسّست الأحزاب الشيوعيّة في كل أنحاء العالم وانفصلت عن التيّار الاشتراكي الديمقراطي البورجوازي، وانعكس ذلك على الصعيد العربي فدخلت الطبقة العاملة في الأقطار العربيّة ميدان النّضال الطبقي والوطني موفّرة الأساس المادّي منذ العشرينات من القرن الماضي لنشأة الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة والنقابات ومختلف المنظّمات الجماهيريّة. فبعثت بنشوئها الأمل من جديد لدى الجماهير وفتحت أمامها آفاق التحرّر والاشتراكية، فلعبت بعض هذه الأحزاب وفي فترات محدّدة دورا إيجابيّا وقدّمت العديد من التضحيّات. لكن انعزالها عن العمّال والفلاّحين وتخريبها من طرف الانتهازية وضعف الثوريين حال دون تطبيق برامجها السياسية .
وتفاقم هذا الوضع بانتقال الأحزاب الشيوعيّة العربيّة النّهائي إلى التحريفيّة والإصلاحية أي إلى صفّ الثورة المضادّة و خدمة الإمبرياليّة. لكلّ ذلك غابت القيادة القادرة على إنجاح الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة والتحوّل إلى الاشتراكية على غرار ما حدث في الصين الشعبيّة مثلا. ونتيجة لذلك تمكّنت طبقتا الكمبرادور والإقطاع من عقد الصفقات المفضوحة مع الإمبرياليّة مستغلّة تواطؤ شرائح من البورجوازيّة الوطنيّة معها في حين عمدت إلى تصفيّة الشرائح الوطنيّة التي تصدّت لهذه الصفقات. وهكذا تمّ استبدال الاستعمار القديم "المباشر" في أغلب أرجاء الوطن العربي باستعمار جديد "غير مباشر" يعتمد على عملائه من طبقتي البرجوازيّة الكمبرادوريّة وملاّكي الأراضي الإقطاعيين وهوالائتلاف الطبقي الذي مازال على رأس السلطة في الأقطار العربية إلى حدّ الآن.
إنّ استبدال الاستعمار المباشر باستعمار غير مباشر في أغلب الأقطار العربيّة لم يغيّر جوهر طبيعة المجتمع العربي، لذلك يبقى الوطن العربي مستعمرا في بعض أجزائه مثل فلسطين وليبيا والعراق والصومال والجولان وسبتة وملّيلة وعربستان وجزر طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى والإسكندرونة. ويعتبر الاستعمار المباشر أبشع أشكال السّيطرة الإمبرياليّة إذ يتّخذ أساليب إرهابيّة وحشيّة فيشنّع بالذات البشريّة، كما يتّخذ فيه النهب والاستغلال والقمع شكلا أكثر فضاعة وشراسة من الوضع في الأجزاء شبه المستعمرة، ويتجسّد الطّابع شبه المستعمر في :
- سيطرة الاحتكارات الإمبرياليّة على أهمّ دواليب الاقتصاد في الصناعة والزراعة ويلعب صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي دورا محوريّا في رسم الخطوط العامّة لهذه السيطرة عبر تكبيل الأقطار بالديون ذات الشروط المجحفة وفتح الأبواب للرأسمال الاحتكاري .
- عدم تركيز صناعة وطنيّة قادرة على توفير وسائل الإنتاج وضمان الاستقلال الاقتصادي، إذ تعمد الإمبريالية إلى التقسيم العالمي للعمل فتستأثر بالصناعات الثقيلة التي تصنع وسائل الإنتاج وتدفع الدول المستعمرة وشبه المستعمرة إلى الاكتفاء بتركيز الصناعات الخفيفة والاستهلاكية والملوّثة للمحيط مثل الصناعات الصغيرة التحويليّة والتركيبيّة، هذا بالإضافة إلى أنّ الجزء الهامّ من هذه الصناعات نفسها موجّه لخدمة السّوق الإمبرياليّة .
- ضعف مساهمة الصناعة في الدّخل الوطني وتطوّر قطاع الخدمات على حساب الصناعات المعمليّة .
- استقطاب الصناعات الغذائيّة والنسيج لنسبة هامّة من العمّال الصناعيين .
- تحويل الأقطار العربيّة إلى ملحق للسّوق الإمبرياليّة عبر ضرب الحرف والصناعة الوطنيّة والسعي للمحافظة على أسباب ضعفها حتّى تكون غير قادرة على الصمود أمام المنافسة العالميّة .
- نهب خيرات الوطن من مواد أوليّة وثروات باطنيّة وإنتاج زراعي (النفط والغاز، الفسفاط، المعادن، القطن، الحبوب، الزيوت، التمور والقوارص...) من قبل القوى الإمبرياليّة التي تتمتّع بكافة التسهيلات التي تحتاجها والمحدّدة بمقتضى قوانــين الاستثمار النهّابة التي تخدم مصالح الإمبرياليين .
- تركيز المناطق الحرّة والمؤسّسات الاحتكارية المعفاة من الأداءات .
- فرض تبادل تجاري غير عادل وعقد اتّفاقيّات شراكة متعدّدة وخادمة لمصالح الإمبرياليّة تكبّل الأقطار بالدّيون وتثقل كاهل الطبقات الشعبيّة .
- استغلال اليد العاملة فيما يتعلّق بالأجور ومصادرة حقوقها حتّى المدرجة منها بقانون الشغل .
- تمكين الامبريالية من تركيز القواعد العسكريّة ومنحها التّسهيلات العسكريّة البريّة منها والبحريّة والجويّة وتنظيم المناورات المشتركة معها.
- العمالة السياسيّة والعسكريّة والثقافيّة للإمبرياليّة (موقف الأنظمة العربية المتناغم مع الموقف الإمبريالي في تبرير غزو العراق ثم ليبيا وحاليّا سوريا، تطبيع العديد من الأنظمة العربية للعلاقات مع الكيان الصهيوني وعقد بعض الاتفاقيات المهينة معه بناء على أوامر أمريكا...)
- التخطيط باعتماد كلّ الوسائل لترسيخ الهيمنة الإمبريالية عبر النظم الكمبرادوريّة الإقطاعيّة لقمع الجماهير وإجهاض كفاحها من اجل التحرر الوطني و الاشتراكية .
أمّا الطّابع شبه الإقطاعي فيرتبط موضوعيّا بالطابع الشّبه مستعمر ويتجلّى من خلال :
- المحافظة على أشكال الاستغلال الإقطاعي في المدينة والرّيف .
- تشتّت الملكيّة وسيطرة الإنتاج الصّغير المعدّ للاكتفاء الذّاتي مقابل احتكار الملاّكين الكبار للأراضي الواسعة والخصبة .
- عدم انفصال المنتجين الصغار عن وسائل إنتاجهم وبالتّالي عدم تطوّر السكّان الصناعيين على حساب السكّان الزراعيّين رغم ارتفاع نسبة الحضر في بعض الأقطار.
- تجاوز حجم السكّان المرتبطين بالرّيف والعاملين في الزّراعة نسبة خمسين بالمائة في أغلب الأقطار .
- تخلّف أدوات الإنتاج ومحدوديّة المكننة وضعف استعمال الأسمدة .
- تدهور الإنتاج والإنتاجيّة وعرقلة القوى المنتجة بسبب العلاقات الإقطاعيّة .
- سيطرة الفكر الديني والأسطوري في المدينة والرّيف والخرافة والشّعوذة وتشجيع الأحزاب الظلاميّة، إلى جانب بروز المظاهر القبليّة والعشائريّة والطائفيّة والجهوية التي ساهمت في زيادة تقسيم الوطن العربي (السودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق مثلا..) وانتشار الأميّة وتفشّي الأمراض الاجتماعية وتنامي الأفكار الرجعيّة المرتبطة بالأساس بالموقف من المرأة وبالمسألة الديمقراطيّة .
- منع الجماهير الشعبيّة من ممارسة الحريات الديمقراطيّة كحقّ التعبير والنشر والتنظيم والتظاهر وحقّ الإضراب وفرض واقع الحصار العسكري والبوليسي وان تم التسليم بذلك ظرفيا خلال الانتفاضات الأخيرة فانه مهدد بالتلاشي .
- الاضطهاد المضاعف للمرأة فإلى جانب الاضطهاد الإمبريالي تخضع المرأة إلى الاضطهاد الإقطاعي المقنّن في العديد من التشريعات (الميراث، مسألة الطلاق، الزواج العرفي ...) .
إنّ تحديد طبيعة المجتمع في الوطن العربي بكونه مجتمعا مستعمرا وشبه مستعمر وشبه إقطاعي يجرّنا للبحث عن التناقضات الأساسيّة التي تشقّه والتي تتحدّد من خلالها طبيعة الثورة وعلاقتها بالتحوّل الاشتراكي، فما هي إذن هذه التناقضات ؟ إنّها تتمثّل في تناقضين أساسيين هما :
- أوّلا : التناقض بين الإمبريالية ( الاستعمار المباشر وغير المباشر ) وعملائها من جهة والأمّة العربيّة المضطهدة من جهة ثانيّة .
- ثانيا : التناقض بين الفلاّحين الفقراء وباقي الجماهير الشعبيّة الغفيرة من جهة وملاّكي الأراضي الإقطاعيين المتحالفين مع الإمبرياليّة من جهة ثانية .
ويلعب التناقض الأوّل المتعلّق رئيسيّا بالمسألة الوطنيّة دورا هامّا رغم علاقة التّداخل بين هذين التّناقضين، فإذا لم يقع دحر الإمبرياليّة يستحيل القضاء على الإقطاع، كما أنّه بدون النضال ضدّ ملاكي الأراضي الكبار وبدون تجنيد جماهير الفلاّحين بقيادة حزب الطبقة العاملة لا يمكن وضع حدّ للسيطرة الإمبرياليّة ولا يمكن أن يتمّ التحرّر الوطني الديمقراطي. إنّ تحديد مهام الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة هو نتيجة لتحليل طبيعة المجتمع الذي يبرز الهيمنة الإمبرياليّة على الوطن العربي بشكليها المباشر والغير مباشر بما في ذلك الاحتلال الصهيوني وبقاء جماهير الفلاّحين مستعبدة من طرف علاقات إنتاج إقطاعيّة متخلّفة .
إنّ الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة لم تعد تنتسب إلى الثورات البورجوازيّة القديمة بل أصبحت منذ ثورة أكتوبر1917 جزءا لا يتجزّأ من الثورة الاشتراكية العالميّة نتيجة لطبيعة العصر ونظرا للدّور القيادي التاريخي لحزب الطبقة العاملة، إنّها جزء من الثورة الاشتراكية لأنّ سلطة الديمقراطيّة الشعبيّة تحمل نواة البناء الاشتراكي وتعمل باستمرار على توفير القاعدة الماديّة والشروط الضروريّة للسّير نحو الاشتراكية فالشيوعيّة .