البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية


عبدالله خليفة
2013 / 4 / 7 - 10:43     



يقوم أفرادٌ متميزون من الفئات البرجوازية الصغيرة بتبني طموحات الطبقات المنتجة، كما فعل التنويرون كروسو وفولتير بتبني آفاق تطور البرجوازية، لكن التشكيلةَ الرأسمالية كانت قد صعدتْ في بعضِ الأقطار الغربية الرئيسية، وانكشفتْ العديدُ من مشكلاتها، ولهذا فإن أفراداً متميزين آخرين تجاوزوها وعبروا عن الطبقات العاملة، لكن هذه الطبقات كانت بلا تراكم فكري مثل البرجوازية، ولهذا فإن هؤلاء الأفرادَ من البرجوازية الصغيرة يطرحون مناهجهم السابقة عبر المادية ويراكمون ثقافةً لهذه الطبقات البسيطة الوعي والتي لا تملكُ الفرصَ لانتاج ثقافة، وهي تترابطُ مع نتاجات هؤلاء عبر الطلائع فيها، أي من يمتلكون الوعي والحماس والوقت خارج العمل الشاق لربطِ نتاجات المتنورين المتحولين لثوريين إلى صفوف العمال، حينئذ يبدأ الأفرادُ المتنورون بالانفصال عن تراثِ فئاتهم ويغربلون ما كتبوه سابقاً وينقدوه.
لهذا سنجدُ كتابات ماركس الهيغلية تتخلى عن طابعها التجريدي المثالي، لتغدو ماديةً آلية في البدايات، ثم تنصهرُ أكثر في الجدل، ورومانسيةُ الثورةِ العمالية المطيحة بالاستغلال دفعةً واحدةً تتشكلُ واقعياً عبر نضال اشتراكي ديمقراطي طويل الأمد والبناءُ الديمقراطي والدراساتُ الموضوعية تعطي النظريةَ حياة برهانيةً ومعرفةً بقوانين البنيةِ الأولية في البلد الواحد، وهو الأمرُ الذي استغرق عقوداً، من دون أن تكتملَ حتى قراءة البلد الواحد لمصيرِ التشكيلة في سياق العالم، لكون القراءة تاريخية متقطعة، خاصةً مع رحيل الأفراد المؤسسين ذوي الخبرة الطويلة، الذين يسلمون أوليةَ النظرية لبرجوازيين صغار جدد كلاسال وقيادة عمالية أكثر وعياً وصلابة.
الانتقالُ من نشاطِ البرجوازية الصغيرة إلى أجيالٍ من الطبقة العاملة بسبب مستوى القواعد الاقتصادية والسياسية والثقافية لبلد متطور ديمقراطياً بصعوبات كبيرة مثل ألمانيا يختلفُ في سياقهِ التاريخي عن روسيا المتجمد في الدكتاتوريات، فهنا في روسيا احتاج انتقال النظرية من البرجوازية الصغيرة الى العمال الكثير من العقود ومازال مضطرباً!
إن الأفراد المناضلين المغيرين للنظام القيصري عاشوا في ظروف الشمولية ولم تحصل النظرية على الظروف الديمقراطية ونضال العمال المستقل، ولهذا فإن الرومانسية بسحق الطبقات كلفتْ كثيراً، فيما كانت الطبقات الاستغلالية تظهرُ من خلال الدعوات (الماركسية).
إن الأفكار الثورية المرتبطة بالانعطافات التاريخية معروفة على مر التاريخ، ولكن ما هو مميز في الماركسية أنها غدت انعطافةً كبرى مختلفة في التاريخ البشري، فقد كشفتْ أساليبَ الانتاج ولم يعد التاريخ مبهماً، ولكن مع هذا فإن الطبقات الاستغلالية تعقبُ المراحلَ الثورية، وتصبح النظريةُ في وجودها الحر عند أفراد متطورين فكرياً وسياسياً صعبة، فالنظريةُ تمتلكها الطبقاتُ الاستغلاليةُ وتمنعُ حراكَها الحر الحافر في الواقع، وإنتاج معرفة موضوعية، فهي تغدو إيديولوجيةً مشوهة، والارتباطُ بين النظرية واستقلال العمال ينتفي، حيث تتم السيطرة على العمال وتوجيههم الى مصالح البيروقراطية، وهم في عملهم الشاق يغدون غير قادرين على تحرير الماركسية من البيروقراطية، ووجود المثقفين الأحرار المميزين ينتفي، ولهذا كان إعدامُ المثقفين البارزين في المكتب السياسي البلشفي، لقطعِ العلاقة بين النظرية والعمال، وبين النظرية وتحليل الواقع. فيما استطاع الغرب المعادي أن يطور الماركسية عبر مفكرين أحرار مستقلين قدموا الثروة الفكرية المتطورة لهذه المدرسة، ولكن يظل إنتاجهم غير معروف ومحاصر.
في العالم الثالث تغدو العلاقات أصعب، وضخامة حجم البرجوازية الصغيرة أكبر، وهنا لا تتعرقل النظرية من فقدان الطبقات العاملة المترابطة فحسب بل ومن هيمنة الطوائف كذلك، ويمكن هنا أن ينقسم (الماركسيون) بحسب الطوائف، وتصبح هنا نقابية شيعية ونقابية سنية ونقابية مسيحية، فالعمال أنفسهم يعيشون بحسب وعيهم في زمنية الاقطاع، وتُطرح مهمات أكبر من مستوى وعيهم وظروفهم.
ولهذا فإن الأحزابَ الماركسية تصبح طوائف موالية لهذا المحور الطائفي القومي أو لذاك المحور الطائفي القومي، مع استمرار ضخ المادة الماركسية الصلبة من التاريخ السوفيتي!
إذا كانت الماركسية وجدت صعوبات هائلة في وجودها في الغرب الديمقراطي، وغدت أحزاباً أما تابعة للرأسماليات الشرقية الشمولية وأما انتهازيةً مؤيدة لرأسمالياتها الخاصة، وصعب عليها إنتاج معرفة موضوعية، وخلق سياسات شعبية تحولية، فكيف الأمر في التشكيلات السياسية الهشة في الشرق؟ وكيف كانت الأمور في هذا الشرق بأن تلتحق الجماعات السياسية المعارضة بدول شمولية كثيرة الكرم على الانتهازيين وبخيلة على شعوبها، وسرعان ما تمسح الطلاء الماركسي الوطني الزائف وتستبدله بالولاء الجديد ولا يحس العمال بالفروق وهم جماعات ريفية في أغلبهم لم يلتحقوا بنقابات إلا مؤخراً ولم يعرفوا الحياة السياسية الحديثة.
غدت الإصلاحات الوطنية وترابط الشعوب والطبقات وتطور الديمقراطية خارج البنى التقليدية مهمة لإعادة التطور الفكري المستقل ولتتطور المدارس الفكرية خارج هيمنات الدول.