اليسار وانتفاضة اذار 1991


جلال محمد
2013 / 4 / 2 - 16:28     

الى الامام: القوميين الاكراد يدعون بأنهم فجروا انتفاضة اذار عام 1991 والاسلاميين ادعوا بأنهم مفجري انتفاضة اذار الى حد تغيير اسمه الى الانتفاضة الشعبانية، اين يقف اليسار وبالاخص التيار الشيوعي من تلك الانتفاضة؟
جلال محمد : شكرا لجريدة الى الامام لدعوتهم اياي للمشاركة في هذا الملف الحيوي و الهام حول تدوين مرحلة مهمة من تاريخ العراق والذي، وهذا هو الاهم، يجري حوله صراع كبير بين الاحزاب الدينية و القومية العربية و الكردية الرجعية الحاكمة من جهة و جماهير العمال و الكادحين في العراق من جهة اخرى على الدور الذي لعبته كل من تلك القوى من حيث الاعداد لها و تفجيرها و المشاركة فيها و قيادتها و على جني ثمارها بالتالي .
فاهمية المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها و التي جاءت " الانتفاضة" في سياقها تكمن في انها رسمت المسار السياسي و الاجتماعي في العراق للسنوات و العقود اللاحقة و نحن نعيش الان احدى حلقاتها، و انتقلت بالعراق الى مرحلة تاريخية مختلفة تماما عما سبقتها.
تلك الاحداث ومن ضمنها الانتفاضة ادت الى توجيه ضربة كبيرة لقوى النظام البعثي الفاشي و كسر هيبته والى اجباره على التخلي عن مدن كوردستان : السليمانية ، اربيل ، دهوك عام 1992 و تأسيس سلطة الاحزاب القومية الكردية فيها و فيما بعد ادت، في نفس السياق، الى اسقاط نظام البعث عام 2003 و تأسيس سلطة الاحزاب الدينية و القومية العربية الرجعية.
سبقت الانتفاضة تغيرات واحداث دولية جذرية جديدة غيرت وجه العالم الى حد كبير و لذلك لايمكن فهم ماجرى في العراق دون الاشارة الى تلك الاحداث و دون فهم تأثيرها على مجرياتها، افاقها و القوى المحركة لها و النتائج السياسية و الاجتماعية التي تمخضت عنها بالتالي.
الاحداث الرئيسية في تلك المرحلة هی انهيار كتلة " راسمالية الدولة" او المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي و سقوط العالم ثنائي الاقطاب وبروز " النظام العالمي الجديد" بقيادة امريكا و المعسكر الغربي، هذه الوقائع صورتها الراسمالية العالمية على انها انهيار و سقوط الشيوعية النهائي و انتصار الراسمالية، و الديمقراطية و ان المصائب و الويلات التي لحقت بالبشرية كانت بسبب الشيوعية وافكارها الهدامة و غير الواقعية وان الديمقراطية المنتصرة ستضع حدا لذلك وبشرت الراسمالية البشرية بعهد من الاستقرار و الرفاه. رافقت هذه الحملة برزو اكثر القوى القومية و الدينية و الاجتماعية رجعية و شراسة و اعقبتها حروب و صراعات قومية و دينية و طائفية في الكثير من مناطق العالم راح ضحيتها مئات الالوف من البشر وصار الحديث عن القيم و المطالب التحررية و المساواتية للعامل و الكادح و المرأة من الممنوعات، باختصار كشفت البربرية الراسمالية عن وحشيتها و دمويتها و عدائها الشرس ليس ضد كل ما يمس قدسية الملكية الخاصة فحسب بل و ضد كل ما يؤدي الى تخيفيض مستويات و معدلات ارباحها و نهبها للطبقة العاملة و جماهير الكادحين ايضا. تحول الدين و الرجعية المنبعثة من لحودها و القومية الفاشية و العنصرية المنفلتة الى سادة الميدان و تم فرض تراجع كبير على كل الاهداف و النزعات الانسانية و التحررية للطبقة العاملة و الكادحين و المرأة و الشبيبة والاقليات المضطهدة و السكان الاصليين و... و الحقيقة ان البرجوازية لم تقم بهذا العمل على الصعيد الايديولوجي فقط و لهذا الهدف بالذات، بل ان هذه العملية كانت غطاءا او راية لشن هجمة شرسة على كل مكتسبات الطبقة العاملة التي حققتها في العقود السابقة و بالذات منذ ثورة اكتوبرو بتاثيرها سواء في العالم الراسمالي الحر او في بلدان الكتلة الشرقية و بلدان العالم الثالث .
في هذه الاجواء الرجعية العالمية السائدة استغلت امريكا احتلال العراق للكويت و اعلنت حربا دموية سبقتها فرض حصار اقتصادي خانق على جماهير العراق استمر لاكثر من 11سنة حتى بعد " تحرير" الكويت. في حرب تحرير الكويت تم سحق الجيش العراقي بابشع صورة و خلال ايام معدودة وتم فرض الانسحاب على الفلول المتبقية من جيش النظام و عند وصولها الى البصرة انطلقت الشرارة الاولى للانتفاضة التي عمت معظم مدن العراق و تم سحق مقاومة قوى النظام فيها او طردها منها.
بالعودة الى ادعاء القوى و الاحزاب القومية و الدينية و الطائفية بانها مفجرة الانتفاضة اقول بانه ادعاء كاذب ليس الا ولسببين ، اولا: ان هذا الاحزاب سواء القومية الكردية منها او الدينية و القومية العربية لم تؤمن في يوم من الايام بالنضال الجماهيرى و بدور الجماهير في اي تغير سياسي ولم يكن لا في برامجها و اهدافها تنظيم و تعبئة القوى الجماهيرية و اعدادها لخوض النضال ضد السلطة الفاشية سواء لتحقيق اصلاحات معينة اي لتحقيق اهداف محددة او لاسقاط السلطة و بسبب كون اهداف و برامج هذه الاحزاب تتعارض تماما مع ما كانت تطالب به الجماهير وما كانت تصبو الى تحقيقه، فجماهير العراق كانت تئن تحت وطأة استبداد وظلم البعث و سحقه لكل اشكال الحرية السياسية و فرضه اجواء الاختناق السياسي وزجه بمئات الالوف من ابناء العراق في السجون و دخوله حربا رجعية مع ايران استمرت لثماني سنوات دمرت جماهير العراق و اقتصاده ، كانت جماهير العراق تطمح نحو التحرر و تحقيق الرفاه و العدالة الاجتماعية ، الا ان الاحزاب الدينية كانت تنادي بانشاء دولة دينية و الاحزاب القومية الكردية ماكانت تهدف سوى المشاركة في السلطة السياسية و ليس تحرر جماهير كوردستان من الظلم القومي و تحقيق العدالة الاجتماعية. ثانيا : ان الاحزاب لم تكن سوى قوى مسلحة تاٍسس قسم منها " الاحزاب الدينية" و خاصة المجلس الاعلى، في ايران او ان قواها العسكرية تشكلت بدعم منه ، اما في حالة الاحزاب القومية الكردية فان قواها المسلحة كانت قد تلقت ضربات كبيرة اثر عمليات الانفال و استخدام الاسلحة الكيمياوية في العديد من مناطق كوردستان وما كان تبقى من منها كانت موجودة بشكل مبعثر في ايران و بالنسبة لتنظيماتها في مدن كوردستان فانها اضافة لكونها غير مؤمنة بالنشاط الجماهيرى و دورها في النضال ضد نطام البعث ، كانت تنظيمات مبعثرة و ضعيفة و عاجزة عن تعبئة القوى الجماهيرية الواسعة التي انتفضت في مدن كوردستان.
يضاف الى ماذكرت فان وقائع الانتفاضة اليومية منذايام الاعداد لها و اندلاعها و سحق مقاومة قوى النظام الى وصول طلائع قوى الاحزاب القومية الكردية الى مدن وقصبات كوردستان " وساقتصر حديثي في هذه الفقرة على مدن كوردستان لاني كنت متواجدا فيها و لاعلم لي بتفاصيل ما حدث في مدة الوسط و الجنوب" ، اقول ان تلك الوقائع تثبت بان الاحزاب الكردية عندما وصلت من ايران الى مدن السليمانية، اربيل و دهوك ، كانت محررة تماما ولم تفعل سوى انها استولت على مقرات ومؤسسات حزب البعث و البنوك و المتبقي من دوائر الدولة و كانت خلال الايام الاولى مصابة بالذهول و تتخبط لاتعرف ماذا تعمل، مرة تحاول شن هجوم على مدينة كركوك لتحريرها و اخرى تصدر التهديدات ،من اذاعتها ضد مجالس العمال و المجالس الشعبية المتكونة في المعامل و الاحياء السكنية و لاحقا عندما بدأت قوات النظام الفاشي بهجومها المضاد ضد مدن كوردستان كانت قياداتها و قواتها العسكرية اول الهاربين نحو الحدود الايرانية، بل انها منعت جماهير المدن من تركها حتى اللحظات الاخيرة في الوقت الذي بدأت قواتها بالانسحاب ودون ابداء اية مقاومة وفي الوقت الذي استولت قواتها على كل حصلت عليه من اسلحة متوسطة و ثقيلة من معسكرات الدولة و في الوقت الذي استولت على ما حصلت عليه من مواد غذائية و محروقات و.... من مخازن الدولة تركت جماهير المدن الهائمة نحو الجبال تعاني ما تعاني،بسبب الجوع و البرد و انتشار الامراض في تلك الايام. والان وبعد مرور اكثر من عشرين عاما على هذه الكارثة لا استغرب عدم قيام هذه السلطة عدم تكليف نفسها عناء القيام بحساب عدد ضحايا الانتفاضة و هجوم البعث الذي تبعه والذي عرف فيما بالهجرة المليونية لجماهيركوردستان الذي تتاجر به هذه الاحزاب . هؤلاء الضحايا الذين اشار اليهم جون راندل في كتابه قائلا: ان العدد كبير جدا و الدليل على ذلك هو العدد الكبير للقبور المتناثرة على جوانب الطرق .
بدأ اليسار، منذ الايام الاولى لاندلاع ازمة احتلال الكويت والرد الامريكي من خلال تعبئة القوي الدولية و الاقليمية لشن الهجوم على العراق ، ورغم معارضته للحرب الامريكية و ادانته لها ، بدأ بلم صفوفه التنظيمية و توسيع قاعدته الجماهيرية وتشكيل ما عرف فيما بعد باللجان الثورية على اساس محلات ومناطق السكن ، تشكلت هذه اللجان باعداد كبيرة و انتشرت في معظم الاحياء السكنية في مدن كوردستان ، في نفس الوقت توحدت الحلقة الشيوعية التي كنت عضوا فيها مع حلقتين اخريين لنؤسس منظمة" اتحاد نضال الشيوعية العمالية " حول برنامج المرحلة القادمة و المطالب الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي يجب تحقيقها فور سقوط النظام البعثي و تركز معظم نشاطنا على توسيع اللجان الثورية و توفير الامكانات المادية و الاسلحة .... وتم الاتفاق على خروج اول مظاهرة من احد احياء مدينة السليمانية الفقيرة الجنوبية يوم 7 اذار 1991، وهذا اليوم هو اليوم الذي كانت اذاعة الاتحاد الوطني الكوردستاني تدعو جماهير مدينة السليمانية الى القيام بالانتفاضة فيه. سلطات البعث كانت على علم بالموعد و اعلنت منع التجول في هذا اليوم، الا انه في صبيحة اليوم المذكور اتفقنا " سيروان مصطفى ، طاهر حسن ، عدنان كريم وانا" على الالتقاء في منزل عدنان . بعد ان التقينا بوقت قليل جائنا من رفاقنا الذين بدأوا بالتظاهرة فعلا خبرا يفيد بان الجماهير تخرج للمشاركة بشكل محدود الا ان قوات النظام تهاجمنا بشراسة واذا لم تعملوا على مساعدتنا فان الموقف سيكون محرجا ، تشاورنا في الامر و نحن لاتملك حتى سكينا واحدا ، وجرى الاتفاق على ان افضل شيئ نقوم به هو تحريض الجماهير على الخروج لمواجهة النظام في منطقة اخرى لتخفيف الضغط على الحركة التي بدات فعلا فكان ما حصل، وفي الطريق الى الحي المذكور اوقفتنا مفرزة شرطة قائلين لماذا انتم في الشارع ودون انتظار جواب منا قالوا اذهبوا الى منازلكم هذا افضل لكم ، ادركنا المعنويات المتدنية لقوات النظام و توجهنا الى احد الاحياء الفقيرة في شمال المدينة و خلال لحظات من ندائنا للناس بالخروج ، امتلأت الشوارع المحيطة بالشباب، في هذه اللحظات علمنا بوجود خلية مسلحة للاتحاد الوطني الكوردستاني ،طلبنا منهم الخروج و مهاجمة قوات النظام المتمركزة في جامعة السليمانية ، فكان ردهم : انهم لن يخرجوا لان التعليمات لم تصلهم بعد. الا ان الجماهير المحتشدة لم تنتظر احدا و بدات بالهجوم و خلال دقائق تم سحق مقاومة القوات المذكورة و انتقل الهجوم الى احد مقرات الجيش الشعبي القريبة من المكان ، باقترابنا من المقر المذكور شاهدنا شباب اخرين يطوقون المقر ، ادركنا عندها ان المدينة باسرها بدات بالهجوم و ان الانتفاضة لن تتوقف. استمر هجوم الجماهير من كل الجهات نحو مركز المدينة ساحقا كل مقاومة تبديها قوات النظام لتتوقف امام المقاومة في بناية مديرية امن السليمانية الجديدة والتي تمركزت فيها معظم قوات السلطة ، استمرت المقاومة في هذه البناية ليومين ، كانت القوات المذكورة تطلق بين الحين و الاخر قذائف الهاون بشكل عشوائي على الاحياء السكنية القريبة منها ، الا انها استلسمت ظهيرة اليوم الثالث اي في 10/3 ، على صعيد اخر تم الاستيلاء على كل المعسكرات الموجودة بالقرب من مدينة السليمانية و بدون مقاومة تذكر. حتى هذه اللحظة لم ير احد من سكان مدينة السليمانية اي قوة مسلحة لاي حزب سياسي، بل انها توافدت بعد هذا الوقت و بدات بالوصول اليها على شكل مجموعات لاتحمل سوى بعض الاسلحة الخفيفة و بملابس و احذية ممزقة .
واخيرا فان ما قاله مسعود البرزاني في كلمته امام البرلمان السويدي بهذ الصدد: اننا مدينون لجماهير كوردستان ، يفند الادعاء المذكور.
اذا اردنا اختصار ماسبق يمكننا ان نقول بان الانتفاضة جائت في اجواء عالمية رجعية ساعدت على استنهاض القوى القومية و الرجعية الدينية في العراق و المنطقة و ان الجماهير الكادحة في العراق و رغم استيائها العميق وتوقها للتحرر من ظلم و استبداد النظام الفاشي و رغم كونها مفجرة الانتفاضة و منفذتها و رغم التضحيات التي بذلتها و بسخاء من اجل التخلص من نظام البعث لم تتمكن من تحقيق ذلك بسبب سيادة افق البرحوازية العالمية و المحلية الرجعي و غياب الافق الثوري للطبقة العاملة و الكادحين وكذلك بسبب غياب الصفوف السياسية و التنظيمية المستقلة اي الحزب السياسي للطبقة العاملة و منظماتها الجماهيرية. اذا كانت الطبقة العاملة و جماهير الكادحين قد فجرت الانتفاضة و نفذتها فانها فعلت ذلك، وياللاسف، بافق و سياسة البرحوازية و لذلك سلمتها للبرجوازية على طبق من ذهب و امضت بنفسها على وثيقة عبوديتها الى عقود اخرى ، وهاهي الان منذ تلك الايام تدفع ضريبة نقص وعيها السياسي و الحزبي و التنطيمي . هذا ما جرى في كل العراق الا ان كوردستان تميزت بوجود حركة اليسار التى حاولت، رغم الاجواء و الافاق السائدة، استنهاض القوى الثورية للعمال و الكادحين و التاثير في مجرى الاحداث لصالح قوى المجتمع الثورية و التقدمية.
الى الامام: شكل اليسار سلطة جديدة في كردستان العراق ولاول مرة منذ هزيمة ثورة اكتوبر، كيف بادر الى هذه المسألة وما هي المصانع والمناطق التي شكل فيها، وكيف كان استقبال الجماهير لها؟
جلال محمد : تمثل اليسار في تلك الايام في ثلاثة منظمات رئيسية : التيار الشيوعي ، مجموعة طلائع البروليتاريا ، اتحاد نضال الشيوعية العمالية و مجموعات اخرى من الحلقات و المحافل الشيوعية و العمالية المبعثرة ، كان اليسار بمجمله قد تبنى اطروحات و خط الشيوعية العمالية و كان على علاقة قريبة من هذا التيار الذي برز في صفوف الطبقة العاملة الايرانية و الحزب الشيوعي الايراني الذي كان قد تشكل في السنوات السابقة. سلطة المجالس اي السوفيتات كان ، هو بديل الحزب الشيوعي الايراني والشيوعية العمالية لشكل الحكم او الدولة الذي يجب اقامته ، هذا الشكل مستلهم من كومونة باريس و السوفيتات التي اسستها الطبقة العاملة الروسية و الحزب البلشفي ، يضاف الى ذلك و هذا هو الاهم ان الثورة الايرانية التي كان للطبقة العاملة الايرانية دور كبير فيها شاهدت برزو و تطور حركة واسعة للمجالس العمالية في المعامل و الاحياء السكنية لعبت دورا كبيرا في تجسيد ارادة الطبقة العاملة و ميلها نحو توحيد صفوفها و الدفاع عن مصالحها الطبقية و كذلك نزوعها نحو اقامة سلطتها السياسية . باختصار سلطة المجالس كانت شكلا لتجسيد دكتاتورية الطبقة العاملة التي يجب اقامتها خلال نضال الطبقة العاملة نحو بناء الاشتراكية و المجتمع الشيوعي، افرزه نضال الطبقة العاملة خلال الثورة الايرانية و تجسد في برنامج الشيوعية العمالية فيما بعد.
اليسار في كوردستان كان متفقا على هذا البديل الذي يجب اقامته للسلطة القادمة في العراق وفور سقوط الاجهزة القمعية في مدن كوردستان بادر اليسار لطرح هذا البديل في الاجتماعات العامة و الجماهيرية التي كانت تعقد في المصانع و الاحياء السكنية و كان ناشطوا اليسار المتواجدين بكثافة في هذه الاجتماعات يبادرون الى شرح اصول و اساليب و محتوى هذه المجالس و مهمامها و اهميتها بالنسبة للطبقة العاملة و لجماهير الكادحين و انها الشكل الوحيد الذي يضمن تحقيق مصالحهم و اهدافهم.
انتشرت الحركة المجالسية بسرعة كبيرة في المعامل و الاحياء السكنية و استقلبت بحرارة من قبل جماهير العمال في المصانع و الكادحين في الاحياء السكنية و شاركت النساء العاملات في المصانع و الاحياء السكنية بشكل ملفت للنظر وقد رشحت اعداد كبيرة من النساء انفسهن الى الهيئات العليا و القيادية بشكل ملفت للنظر ومن النساء غير المعروفات لليسار حتى تلك الايام.
في مدينة السليمانية التي كنت متواجدا فيها تشكلت هذه المجالس في معظم احيائها السكنية و في معامل التبغ و السيكاير، في مصنع الالبسة الجاهزة، مصنع السمنت، معمل السكر، معامل الدواجن وفي اربيل كذلك تشكلت في معامل الدواجن الحكومية و المصانع الاخرى وفي الاحياء السكنية ، في كركوك تشكلت في عدد كبير من الاحياء السكنية و جرت محاولات لتأسيسها في شركة النفط الا انه في مدينة دهوك لم يؤسس اي مجلس ، على حد علمي. استقبال جماهير العمال و الكادحين وخاصة جيل الشباب ، لهذه المجالس كان حارا و كبيرا لكونها تشارك الجماهير و على نطاق واسع ليس في مناقشة شؤونهم وامورهم اليومية و مصيرهم السياسي بل وفي القرار عليها ايضا ، ذلك ان المجالس هي الصيغة المثلى لشكل الحكم الذي تقضي على البيروقراطية المفروضة على الجماهير و تجعلها سيدة مصيرها، الا ان هذه المشاركة، كان يشوبها نوع من الحذر ، اولا لكونها تجربة جديدة لم تتعود عليها جماهير كوردستان التي لم ترفي تاريخها الحديث على الاقل، سوى تسلط الانظمة و الاحزاب و الحركات السياسية على رؤوسها وتغيب ارادتها و اتخاذ القرارات الصغيرة و الكبيرة بالنيابة عنها و ثانيا لوجود الاحزاب القومية و الدينية الرجعية المسلحة التي كانت تنظر الى حركة المجالس بعين العداء و بانها سوف تثير غضب اسيادها الذين " انقذوا" العراق من نظام البعث و خاصة امريكا و الغرب و كذلك دول المنطقة مثل ايران و تركيا و دول الخليج و ثالثا و كما اشرت في جواب السؤال الاول ان الاجواء السياسية السائدة في تلك الايام كانت اجواءا رجعية بامتياز، فكردستان و العراق صارت ميدانا مفتوحا منذ تلك الايام لتدخل كل القوى الرجعية الاقليمية و الدولية في شؤونها و انبعثت كل التقاليد و الافكار و السنن الرجعية من لحودها و بشكل مسلح، لذلك فان حركة المجالس كانت، في الواقع، تسبح ضد التيار السائد، يضاف الى هذ العوامل نقاط الضعف الاساسية التي كانت تعاني منها حركة اليسار ذاتها و في مقدمتها غياب الحزب الشيوعيي العمالي المرتكز على الطبقة العاملة و الكادحين والذي ينحو باتجاه استلام السلطة السياسية و اقامة الحكومة العمالية.
الى الامام: لماذا لم تستمر المجالس ؟ وماهي الدروس المستخلصة منها؟
جلال محمد : حركة مجالس العمال و الكادحين في كوردستان العراق في اذار 1992 هي اول حركة جماهيرية في تاريخ العراق الحديث والقديم ربما، تحاول تجسيد ارادة الطبقة العاملة و الجماهير الكادحة و تفعيلها لاستلام السلطة السياسية وجعلها سيدة مصيرها و مستقبلها السياسي و الاجتماعي . واذا كانت هذه الحركة لم تدم سوى اقل من شهر واحد فانها و بكل نواقصها و اخطائها و نقاط ضعفها طرحت بديلا او على الاقل انها حاولت ان تطرح بديلا عماليا وجماهيريا لاشكال السلطة و الدولة البرجوازية، الديمقراطية منها و الدكتاتورية، يضمن التدخل المباشر للجماهير ليس في اتخاذ القرارات المتعلقة بكل الشؤون الكبيرة و الصغيرة في حياتها بل و بتنفيذها ايضا.
عدم استمرار المجالس يعود لاسباب عديدة منها مايتعلق بالاوضاع الدولية و المحلية السائدة انذاك في ظل بزوغ النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة ومنها ما يتعلق بالحركة ذاتها و بخصائص القوى الفاعلة فيها ، اي اليسار .
على صعيد الاوضاع الدولية و المحلية و كما اشرت في جواب السؤال السابق، جاء طرد العراق من الكويت في اوضاع انهيار الكتلة الشرقية و استغلال المعسكر الغربي لهذا الانهيار لتصويره بانه انهيار للشيوعية ودليل على كون الراسمالية خالدة خلود البشر و القيام تحت هذه الراية بشن هجمة شرسة على كل ما انتزعته الطبقة العاملة و الحركة التحررية للفئات الاجتماعية المضطهدة في المجتمع الراسمالي من البرحوازية من مكتسبات سياسية و اقتصادية و اجتماعية و.... هذا الواقع انعكس في التحولات السياسية في العراق ، فالاحزاب القومية و الدينية العربية و الكردية المعارضة التحقت بالسياسة الامريكية وراحت تتسابق في استجداء عطفها و موافقتها على التحول الى ادوات طيعة لخدمتها و هي من اجل ذلك واجهت كل اشكال النزعات و الاهداف التحررية للجماهير التي عانت الامرين من سياسة البعث الدموية، باختصار خلقت امريكا و الغرب من ورائها و الاحزاب العراقية المعارضة العربية و الكردية اجواء رجعية معادية لكل طموح جماهير العراق الانسانية و التحررية. في هذه الاجواء السائدة في الاوساط الاجتماعية بفضل وسائل الاعلام و الميديا الامبريالية واسعة الانتشار برزت حركة المجالس بوصفها شكلا بديلا للسلطة السياسية تحاول الطبقة العاملة والكادحين اقامته في كوردستان العراق، بهذا المعنى اصطدمت حركة المجالس حال اعلانها ليس بقوى النظام الفاشي فحسب بل و ايضا بالقوى و الاحزاب القومية و الدينية التى وصلت توا من ايران و دول المنطقة وهي مسلحة و لها خبرة سنوات عديدة في القتال و مصممة على الارتباط بالسياسية الامريكية الجديدة في العراق و التحول الى ادواة طيعة لها. انها و كما اشرت كانت تسبح ضد الاوضاع الرجعية السائدة انذاك. كانت المجالس حركة لتغير مجرى التاريخ الجاري انذاك.
على صعيد اخر لم تبادر القوى الفاعلة في الحركة التي فجرت الانتفاضة الى تنظيم الجماهير المسلحة ، فالبرغم من كون كل الناس مسلحين لم يتمكن اليسار من تنظيم قوة عسكرية او انشاء ذراع عسكري للمجالس يقف بوجه قوات البعث الفاشية و الحركات و الاحزاب القومية و الدينية بالاضافة الى ذلك اخطأ اليسار و القوى الفاعلة في المجالس خطأ فادحا تمثل في عدم سيطرته على المرافق العسكرية و الاقتصادية الحساسة ، فالبنوك و الامكانات المالية الاخرى التي كانت في دوائر الدولة ورغم انها سقطت في ايدي الجماهير الا انهاتركت الى حين وصول قوات الاحزاب القومية و الدينية من خارج الحدود و كان اول عمل قامت بها تلك الاحزاب هو السيطرة على البنوك، دوائر الدولة ، مقرات حزب البعث و الاجهزة الامنية، اتذكر بان مدير مصرف الرافدين انذاك ، والذي لايحضرني اسمه الان ، كان قد اتصل باحد رفاقنا الناشطين في المجالس ، وكانت قوات الاحزاب لم تصل بعد الى المدينة، وعرض عليه تسليمه مفتاح البنك الذي كان يحوي انذاك 7 ملايين دينار عراقي ، الا ان رفيقنا المذكور رفض ذلك وكانت السيطرة على البنك المذكور و حمايته من اول الاعمال التي قامت بها قوات الاتحاد الوطني الكوردستاني. هذين العاملين يكشفان خاصية جوهرية من خصائص اليسار الفاعل انذاك في حركة المجالس و هي ان اليسار لم يفكر ولم يخطط لاستلام السلطة السياسية او انه لم يفكر في اعداد و تنظيم الطبقة العاملة لاستلام السلطة السياسية لا في برنامجه و في ممارسته العملية ولذلك لم ينظر الى المجالس بوصفها جهاز سلطة بديلة لاجهزة نظام البعث . اليسار هيأ نفسه ومن اللحظات الاولى للتحول الى منظمات للمعارضة و هذا يعني القبول بشرعية سلطة الاحزاب القومية ومن هنا نظر الى المجالس و تعامل معها بوصفها منظمات لتحقيق اصلاحات اقتصادية و اجتماعية للطبقة العاملة.
المسألة الهامة و الاخيرة التي يجب الاشارة اليها هي غياب الحزب السياسي الموحد في برنامجه و ارادته الطبقية و السياسية و المستند على تعبئة جماهير العمال و الكادحين حول الافق و السياسة الشيوعية العمالية التي تنزع نحو اسقاط النظام الراسمالي و اقامة المجتمع الشيوعي، فاليسار الشيوعي العمالي كان انذاك مبعثرا ، كما اشرت بين ثلاث منظمات تدب بينها الخلافات المحفلية التي لا ترتبط بمصالح الطبقة العاملة لامن بعيد ولا من قريب.
بالنسبة الى الدروس المستخلصة من تجربة المجالس اقول باختصار بان اول و اهم درس يجب تعلمه هو ان نضال الطبقة العاملة في غياب حزبها السياسي الاجتماعي المقتدر لن يحقق نتيجة جدية للطبقة العاملة مهما غلت تضحياتها و كبرت . و المسالة الثانية هي ان الحزب السياسي للطبقة العاملة و كل فلسفة و جوده و نضاله هو استلام السلطة السياسية و ليس التحول او البقاء في صفوف المعارضة الى مالا نهاية، ان الحزب الذي يعجز عن التحول الى قوة اجتماعية كبيرة و هو في المعارضة في سياق نضاله اجل استلام السلطة السياسية لهو حزب سيبقى في هامش المجتمع ولن تلتف حوله الجماهير مهما كانت اهدافه نبيلة و واضحة ، تحررية و انسانية.
جلال محمد
احد ناشطي حركة مجالس عمال و كادحي كوردستان العراق عام 1992