ماركس وباكونين: الدولة والكومونة -2/3


أنور نجم الدين
2013 / 3 / 21 - 07:32     

فى ذكرى ثورة الكومونة

انطلاقًا من التاريخ، أي من التجارب التي مرت على الطبقة البروليتارية، فلا يمكن أن يتحرر المجتمع من القيود الاجتماعية المفروضة عليه، دون التحرر المسبق من الدولة، فالدولة توجد لكي تُخضع المجتمع كله لإرادتها الخاصة وهي إرادة طبقة –قليلة العدد- متسلطة في الحياة الاقتصادية لا ترى أي تنظيم اجتماعي دون إخضاعه لإدارته الطبقية -إدارة الدولة، فالفوضى، حسب رجال الدولة، تسود المجتمع دون تنظيمه من قبل هذه الإدارة البيروقراطية لا تفرض ضرورتها سوى وجود الطبقات وتنظيم أمورهم. وبخصوص إدارة الدولة، فيقول ماركس:

"لأجل إزالة التناقض بين غرض الإدارة وحسن نواياها، من جهة، وبين الوسائل والامكانيات المتوافرة لها، من جهة أخرى، يتعين على الدولة ان تلغي نفسها بالذات، لأن هذا التناقض يكمن في أساسها بالذات .. ان وجود الدولة ووجود العبودية مترابطان احدهما بالآخر بعرى لا انفصام لها" (ماركس - انجلس، بصدد الثورة الاشتراكية، ص 32، من مقالة ملاحظات انتقادية على مقالة "البروسي": "الملك البروسي والاصلاح الاجتماعي"، عام 1844).

ويقول باكونين:

".. والبشرية وصلت إلى إدارة نفسها منذ زمن طويل، ومصدر مصائبها لا يوجد في هذا الشكل أو ذاك من أشكال السلطة، بل يوجد في جوهر السلطة ذاتها" (مختارات باكونين، باللغة السويدية - Centralism eller självförvaltning – المركزية أم الإدارة الذاتية).

إن وجود الدولة يشترط وجود العبودية. لذلك؛ فلا يمكن الحديث عن الحرية، دون التحرر المسبق من الدولة، فالدولة شرط وجود سيادة الإنسان على الإنسان. أما الحرية فتعني تحطيم كل القيود التي وضعتها الدولة أمام الحرية الشخصية لأفراد المجتمع. فالحرية في ظل الدولة هي الاستقلالية التامة للفرد يبقى بمفرده ومنفصلاً عن الآخرين، ويتعين عليه ضمان حياته وكسب عيش عائلته من خلال منافسة الآخرين. وهو الصراع الوحيد المسموح به من قبل الدولة. والبرجوازية تسمح بأي شكل من الدولة لا تعيق تطورها الخاص، الملكية كالجمهورية، الإسلامية كالمسيحية، الوطنية كالاشتراكية، الدكتاتورية كالديمقراطية. فالاحتفاظ بسلطة الدولة وإدارتها البيروقراطية الطفيلية، وتقوية أجهزتها القمعية والعسكرية التي تكون اختصاصها هدم المجتمع فقط، يعني ببساطة، حماية المصالح المادية للطبقة السائدة في المجتمع، وخوض حرب لا هوادة فيه ضد كل من يعارض هذه المصالح. لذلك سترتفع على الدوام المركزية في الإدارة، ويتوسع الحجم السياسي للسلطة وتقسيم العمل فيها لكي يشعر الفرد إزاءها بالاذلال ثم الخضوع التام أمام جبروتها. والدولة لا تسمح بالفرد بالحصول على وسيلة العيش من خلال تعامل إنساني مع وسطه الاجتماعي، فالوسيلة الوحيدة للعيش هي التبادل والمنافسة. فالدولة بطبيعتها تضع الفرد في موضع العداء مع الآخرين. والفرد العاجز عن التحكم بحياته، سينسج من خياله سلطة فوقانية، لا يوجد المجتمع بدون سيادتها. لذلك سيبحث هذا الفرد طيلة حياته، سيد سياسي يعيد له حريته. ولكن الأسياد السياسيين لا يرون في سلطتهم سوى حق سماوي يتيح للسيد أن يجني المال والأرباح والامتيازات، أما لهذا الفرد الهزيل، فحق المواطنة وخدمة العلم واستهلاك حياته فيما بين المؤسسات السياسية التي لا تكون ضرورية إلا لكي توجد سلطة سيادية تحوم فوق البلاد وتشكل تنظيمه الاجتماعي، حافزًا للازدياد في الفقر وأزمة السكن وتلوث البيئة والسكان العاطلين عن العمل لا مكان لهم حتى في مؤسسات الدولة التي تعتبر ذاتها ممثلاً لهم. وهذا الكائن اليائس، هو الذي يتحول إلى حثالة ثم كلاب في يد الشرطة لمطاردة كل من يعارض السلطة التي تمثل الوحدة القومية والوطنية، فمعارضة سلطة الدولة هي معارضة هذه الوحدة المقدسة.
أما في الواقع، إن الأساس الاجتماعي الذي يعطي الطبقة السائدة فكرته عن الضرورة المطلقة لسيادتها، هو نفس الأساس الاجتماعي لفهم طبيعة السيادة السياسية من قبل الطبقة المسحوقة؛ تنبع من علاقات الإنتاج الاستغلالية السائدة. وإن دك هذه السيادة، هو في الواقع دك النظام القائم والعلاقات الإنتاجية هذه. فإذا كان المجتمع الطبقي بحاجة إلى جهاز ضخم مثل الدولة لتنظيم الأمور الحياتية للطبقات ودوائره الإدارية المختلفة وفسادها الإدارية والصراعات العنيفة في المجتمع، فان القضاء على الطبقات بحاجة إلى هدم مسبق للسلطة، وتحويل الإدارة إلى تنظيم بسيط يدير الأمور اليومية لأفراد المجتمع، وهذا من خلال نقل إدارة الإنتاج إلى المنتجين أنفسهم، الأمر الذي سيجعل من الهرم السياسي للدولة ووظائفها التسلطية، نافلة كليًا. ووصلت البشرية بالفعل إلى إدارة نفسها منذ أمد طويل، وإن مصدر مصائبها لا يوجد في هذا الشكل أو ذاك من أشكال السلطة، كما يقول باكونين، بل في الطبيعة التاريخية للسلطة ذاتها. وهذا ما أثبتته ثورة الكومونة، فالكومونة كانت أولى المحاولات للعودة إلى الجماعة التي يشارك الفرد في أعمالها بوصفها كائنًا غير منفصل عن الآخرين. وهذه هي شروط الحرية الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، أو كما يقول ماركس:

"ففي الجماعة فقط، مع الآخرين، يملك كل فرد وسائل تنمية مواهبه في جميع الاتجاهات، وبالتالي فان الحرية الشخصية لا تكون ممكنة إلا في الجماعة. وفي الأنظمة السابقة البديلة عن الجماعة، في الدولة، إلخ، لم يكن للحرية الشخصية وجود إلا بالنسبة إلى الأفراد الذين تطوروا ضمن علاقات الطبقة السائدة" (ماركس، ألايديولوجية الألمانية).

لا توجد حرية شخصية ضمن الدولة وعلاقاتها إلا بمعنى المنافسة مع الآخرين، وما قامت به الكومونة هي الخروج من عالم الدولة وتضمين الحرية الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع ضمن علاقات الإنتاج الجديدة، علاقات الإنتاج الكومونية. وإن ماركس المعروف بالسلطوي لدى رفاقنا الأناركيين، يلخص رأيه بخصوص الدولة والكومونة على الشكل الآتي:

"لم تكن الكومونة ثورة ضد هذا الشكل أو الآخر من السلطة، شرعي، دستوري، جمهوري أو ملكي. انها ثورة ضد الدولة نفسها" (ماركس، الحرب الاهلية في فرنسا) (*).

أما باكونين المعروف بالفوضوي لدى رفاقنا الماركسيين، فيعبر عن رأيه بخصوص الدولة والكومونة على الشكل التالي:

"إني مؤيد لكومونة باريس .. وإني قبل كل شيء مؤيد لها لأنها كانت تعبيرًا شجاعًا وواضحًا عن نفي الدولة" (نفس المرجع السابق).

يتبع
____________________________________________________________

(*) لا يمكنني الاتفاق مع الرفيق مازن كم الماز حيث يقول: "ما أقوله هنا هو فقط من باب الوفاء للتاريخ وليس من باب الإصرار على تحررية ماركس أو باكونين. للأمانة التاريخية فإن الماركسيين الذين يعتبرون أنفسهم تحرريون وجدوا شيئا من أفكارهم عند ماركس نفسه، مثلا في الغرونديسه وخاصة الحرب الأهلية في فرنسا التي كتبها ماركس بعد كومونة باريس مباشرة، تحت ضغط أحداثها التي لم تكن من اختراع أحد، بل كانت نتيجة فعل الجماهير الباريسية نفسها" المصدر: (مازن كم الماز، بين ماركس وباكونين، وردود على بعض التعليقات، الحوار المتمدن، عام 2010)

وردنا بإيجاز يتلخص في الآتي:

- نحن لسنا الماركسيين أو الأناركيين وهم يتألفون من تيارات مختلفة ومتناقضة أحيانًا فيما بينها، وماركس نفسه لم يكن ماركسيًا، أي لم يكن مذهبيًا.
- إن التاريخ يشق طريقه دون النظر إلى سلطوية أو لا سلطوية ماركس وباكونين. ولكن في التاريخ نفسه نجد هذه الصراعات الفكرية التي خلَّفت أثرًا سلبيًا كبيرًا على الحركة الاشتراكية العالمية.
- إننا لم نجد شيئًا من مفهوم (التحررية) الخاصة برفاقنا الأناركيين لدى ماركس، وإن هذا المفهوم غير دقيق أصلا للتعبير عن الاشتراكية. ان مصدر معارفنا بخصوص لاسلطوية البروليتاريين هو الكومونة والسوفييتات، ففي الكومونة بالذات تعبر البروليتاريا عن لا سلطويتها.
- كلا، إن أطروحات ماركس بخصوص طبيعة الدولة، لا تعود إلى عصر (الحرب الأهلية في فرنسا)، بل يعود إلى 30 سنة تقريبًا قبل انطلاق أول ثورة اشتراكية في التاريخ، أي الكومونة، انظر مثلا: (بؤس الفلسفة)، و(العائلة المقدسة) والكثير من الرسائل والأبحاث الخاصة بخصوص الدولة وعلاقة الحرية الشخصية بهذه الرابطة غير الإنسانية. وبالاضافة إلى كل ما ذكرناه سابقًا، فالدولة كيان وهمي للفرد الإنساني لدى ماركس، وهو يقول: ".. ان هذا التثبيت للنشاط الاجتماعي، هذا التحجر لمنتجنا الخاص في قوة موضوعية تعلو علينا وتفلت من رقابتنا، تخيب آمالنا وتفسد تقديراتنا، هو أحد العوامل الرئيسية في التطور التاريخي حتى يومنا الحاضر. ان هذا التناقض بالذات بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية هو الذي يدفع هذه المصلحة الجماعية لأن تتخذ شكلا مستقلا على اعتبارها الدولة، وهو شكل منفصل عن المصالح الفعلية للفرد والجماعة، ولأن تتخذ في الوقت ذاته صورة الجماعة الوهمية" (الايديولوجية الألمانية، ص 42).
- لا يمكن أن تكون الثورة من صنع بلانكي أو باكونين، برودون أو ماركس، لينين أو تروتسكي، وهذا ما يتفقون عليه أيضًا ماركس وباكونين. والكومونة لم تكن حقلًا تجريبيًّا لأفكار ماركس أو باكونين، ولم تكن ماركسية أو أناركية، بل أصبحت مدرسة تاريخية يتعلم منها المناضلون من ضمنهم ماركس وباكونين. وماركس وباكونين سيكونون مرجعًا تاريخيًّا لا مرجعًا روحيًّا. ونحن لا ننتقد ماركس من وجهة نظر باكونين أو باكونين من وجهة نظر ماركس أو الخلافات التي دارت بينهما بكثير من المبالغات. كما لا نريد أن نقلل من الدور البارز لهؤلاء المناضلين، بل نريد التحقق من النتائج التي وصلت إليها الثورة عبر تاريخها.