عظمة الراسمالية: دورة الزمان البنيوي للرأسمالية (2)


عذري مازغ
2013 / 3 / 15 - 00:57     

تبقى الدولة المفككة في المركز الرأسمالي من حيث تعتمد في بنيتها القمعية على الخدمات العمومية: جمع وفرض الضرائب، الأمن والجيش وبعض المرافق التي هي الأخرى موضوع التفويتات كالتعليم والصحة (بريطانيا نموذجا) لتبقى تماما جهازا دوره تأمين النظام الرأسمالي، بينما وكما سبق القول هي فاقدة لسيطرتها على القطاعات المنتجة التي بها تستطيع أن تؤمن الفوائد العامة التي بها يمكن الإستثمار في مشاريع عمومية تعود بالنفع على العموم وهنا اتفق تماما مع أولئك "الماركسيين العرب" المدفوعين بقوة التماثل المبهج إلى القول بأن الدولة في المركز الرأسمالي قد تفككت منذ زمان مع ان هذا التفكك يخضع إلى منطق التفاوت التطوري بين دولة وأخرى بناء على عملية الخوصصة ذاتها او لنقل بشكل دقيق بناء على عملية تحويل الرأسمال العمومي إلى رأسمال خاص بشكل تفاوتي بين هذه الدول، نتفق على مفهوم تفكيك "الدولة الرأسمالية"لكن بخلاف شاسع هو في هذا التمييز بالتحديد الذي هو تحول الرأسمال العمومي إلى الرأسمال الخاص، وغياب هذا التمييز هو ما يوهم بانتهاء الرأسمالية، إن الرأسمالية كنمط من الإنتاج لم تمت بعد بل تحولت من شكل خاص كانت فيه الدولة تقوم باستثمار الرأسمال العمومي لتأمين المصالح العامة للشعب: الصحة التعليم، الأمن تأمين الشغل وما إلى ذلك إلى دولة وظيفتها الأساسية هي وظيفة قمعية صرفة، وبهذا فإن وجود الرأسمالية بالدولة أو لنقل وجود رأسماليين بالدولة بما هم خواص، ينفي ضمنيا الصفة الرأسمالية للدولة ليصبح للرأسمالية وجود مستقل عن الدولة بما هي، أقصد الرأسمالية، مؤسسات مستقلة وتابعة للذوات، وعلاقة هذه المؤسسات بالدولة هي علاقة استغلال شعب هذه الدولة من خلال ما تتيحة الدولة هذه من حوافز استثمارية هي في كليتها تعبيد طريق الإستغلال، تأمينه وشرعنته.
هذه العلاقة العامة بين الرأسمالية من حيث هي رأسمالية ذوات خاصة، من حيث هي مؤسسات وشركات خاصة عابرة ومتعددة الجنسيات او محلية وتابعة لذوات محليين، وبين الدولة هي علاقة فيها الدولة تقوم بدور تأمين السيرورة الإنتاجية للرأسمالية، وبانتفاء الرأسمال العمومي في الدولة المفككة، تبقى علاقة الدولة بمواطنيها هي علاقة جبر في طابعها القمعي والتشريعي (الحفاظ على النظام السياسي والإقتصادي، ضمان وخلق مرونة في التسويق والمنافسة، آلية تشريعية في قوانين الشغل فيما يسمى بالإصلاحات الجديدة وهي تراجع عن المكتسبات الإجتماعية التي تحققت خلال قرنين من النضال الإجتماعي والسياسي)، إن أرقام البورصات بشكل عام، النسب العامة في الناتج المحلي العام (الناتج القومي) وصراخ الأرقام في ضبط التنمية لا تعني في الحقيقة سوى ذر الرماد في الأعين بالنسبة للجماهير، ففي عز الأزمة الإسبانية مثلا سنة 2011 حققت اربع شركات إسبانية كانت قبل تفويتها شركات عمومية، حققت أرباحا قدرت باكثر من بليون يورو، هذه الأرباح العامة، في نسبتها لشركات إسبانية لا تمثل شيئا من الناتج المحلي لأنها شركات عابرة كريبصول وتليفونيكا التي لها فروع في امريكا اللاتينية وبعض دول شمال إفريقيا مثلا وأرباحها تعود للمساهمين في هذه الشركات وعلاقة هذه الشركات بإسبانيا هي علاقة بالإسم فقط وحتى بانتماء اغلب المساهمين فيها إلى الدولة الإسبانية وهذا ما يعبر عليه امتعاض مواطنين إسبان في التعليق على تعميم بعض فروع هذه الشركات في كل من فينزويلا والإكوادور والأرجنتين، «لا يهمنا شأنها مادامت تهم فقط رأسمالييها» وهذا أيضا مضمون تصريح الرئيس الإكوادوري في تعليقه على عملية التعميم بالقول: «تربطنا علاقة طيبة بالمجتمع المدني الإسباني» رد على امتعاض الحكومة الإسبانية من عملية التعميم في دولته. لقد حددنا في مقالنا السابق أن عملية التعميم هذه بأمريكا اللاتينية هي خطوة للوراء لاستعادة وخلق الرأسمال العمومي الذي به يمكن حل بعض المشاكل العامة، المشاكل الإجتماعية بالتحديد: محاربة الفقر، الصحة، التعليم، الشغل،الحد من الفوارق الإجتماعية لكنها ليست ثورة كاملة بمعنى التحول إلى نمط إنتاج جديد وهذا ما كان يمنعنا من تسمية اليسار هناك باليسار الثوري بل يمكن تسميته باليسار الممانع، والذي يمنعنا من تسميته باليسار الثوري هو نفسه استناده في ممارسة السلطة السياسية إلى نفس القاعدة اللبرالية للممارسة الحكم، أي انه يحتكم في ممارسته إلى ثنائية الهيمنة لحزبين وفق النظام السياسي الرأسمالي نفسه في عملية من التجاذب والتنابذ بين ثنائية اليمين، اليسار في تداولهما حول الحكم حيث يأتي اليسار الأمريكي لاتيني ليعمم ما خوصصه اليمين أوالعكس بالعكس في شروط دولية خاصة هي ما يعبر عنه كما سبق في المقال السابق بالإكراهات الدولية، وهكذا فإن عملية التفويت أو التعميم تستند ايضا إلى هذا التداول في السلطة بحيث لا تنهي المشكلة بالقطع البنيوي او القطع الإبستمولوجي إن صح التعبير بل هي تطيل أمد الرأسمالية، بحيث لا تتم فيه عملية التحول الشاملة نحو نمط مغاير من الإنتاج هو نمط الإنتاج الإشتراكي مثلا بينما تتخذ هذه العملية من التناوب هذا الشكل نفسه لكن بطريقة تفاوتية في بلدان المركز الرأسمالي في شروط مادية مختلفة تماما نجدها اساسا في نموذج أوربا الموحدة حيث الإنتماء إلى هذه الوحدة يفترض شروطا هي ما يرسم المعالم العامة للسياسة الأوربية وتوجهها ولا أدل على هذا سوى تلك العملية من إشهار العصى نحو شعب اليونان في الإنتخابات الأخيرة باشهار رغبة أوربا في مساعدة اليونان في حالة انتخاب حزب اليمين المحافظ المؤيد لليورو الذي يحمل في جعبته ذلك التوجه السياسي والإقتصادي الذي يتماشى مع التوجه العام للإتحاد الأوربي وبالطرد من الوحدة في حالة انتخاب الحزب اليساري الشيوعي المناويء للشروط العامة لسياسته . ويبدوا واضحا وحتى من تصريحات اليسار الديموقراطي الأوربي المنتقد للسياسات المالية للإتحاد برغم كونه يرزخ بمباديء الوفاق العامة التي تتوافق مع الشروط العامة للوحدة الأوربية، أنه يميل بسبب من المكر السياسي، في عملية وهم برنشتاينية، إلى الدعوة باتحاد أوربي يراعي القضايا الإجتماعية، لكنه يثير بدهشة كبيرة نفس الخطاب اليميني في إثارة موضوعات الديون العامة والتقشف والإنقاذ وما إلى ذلك مما يملأ الفضاء الإعلامي الأوربي.
إن الإستناد إلى الناتج العام او الإستناد إلى أرقام الديون العامة للدول الرأسمالية لا يعكس شيئا بالنظر إلى طبيعة نمط الإنتاج والقول بموت الرأسمالية استنادا إلى حركة الإنتاج او استنادا إلى لغة الأرقام الإقتصادية وبيانات البرصة وطبيعة النقد، أي كل هذا الذي يشكل في مجموع عناصره آلية لفهم حركة الإقتصاد الرأسمالي، فالقول بانتفاء الرأسمالية استنادا على هذا يعني بالضرورة انتفاء لنمط الإنتاج الرأسمالي، هو قول باطل من حيث هو لا يستند إلى القاعدة العامة في الفهم الماركسي، أي أن هذا القول يتنافى مع حقيقة وجود مالكين لوسائل الإنتاج من جهة وبائعي قوة عمل من جهة أخرى وهو ما يمثل القاعدة العامة لنمط الإنتاج الرأسمالي، هذه الحقيقة البسيطة جدا تحددها قولا وفعلا عقود الشغل، فإذا كان تطور العمل الفني قد خلق وضعا في مضمون تحديد الطبقات من خلال خلخلة الفهم الكلاسيكي للطبقات بناء على تطور اساليب الإنتاج نفسها التي تعتمد آنيا في تطورها الفني على التكنولوجية الرقمية، فإن وضع الطبقات أيضا يخضع بدوره لهذا التطور الفني وإن كان في طبيعته التارخية يخضع لمنطق التفاوت التطوري بين مختلف البلدان، فالطبقة العاملة في المغرب او في دول الجنوب بشكل عام ليست هي نفسها الطبقة العاملة في فرنسا أو دول الشمال بشكل عام أيضا ثم إن الأمر لا يخص الطبقة العاملة فقط بل أيضا مس وضع كل الطبقات وخلخل بشكل خاص وضع البرجوازية المتوسطة والصغيرة، يحدد ماركس الطبقة الإجتماعية انطلاقا من موقعها في علاقات الإنتاج، وبما أن علاقات الإنتاج هذه خضعت في سيرورتها التاريخية في نمط الإنتاج الرأسمالي إلى تطور تاريخي تفاوتي وصل اوجه كما قلنا إلى مستوى الإنتاج الفني او الرقمي، فإن الطبقات الإجتماعية أيضا عرفت نفس التطور التفاوتي استنادا إلى موقعها دائما من علاقات الإنتاج تلك، فقسم كبير من الطبقة العاملة مسايرة للتطور التكنولوجي تحول إلى طبقة عاملة فنية تعتمد الآليات التقنية والذهنية كما كان قسم كبير في السابق من البرجوازية الصغيرة أو المتوسطة الكلاسيكية، بمعنى أن ما كانت تختص به الطبقة البرجوازية الصغيرة سابقا اصبح قسم كبير من الطبقة العاملة المتطورة فنيا يختص به، وبناء عليه يمكن القول بتذويب قسم كبير من البرجوازية الصغيرة في الطبقة العاملة أو العكس بالعكس، لكن يبقى المحدد الطبقي بشكل عام هو موقع هذه الطبقة دائما من علاقات الإنتاج ولا يهم في هذا الإطار المستوى التقني أو الفني أو الثقافي الذي تحمله هذه الطبقة أو تلك، إن هذه النقطة مهمة جدا في الصراع الشرس الذي تقوده الرأسمالية بشكل عام على المستوى الإيديولوجي في تحديد الطبقة المتوسطة كما لو كانت مالكة لوسائل الإنتاج، هذه الطبقة التي كانت في الغالب تعمل في القطاع الخدماتي هي أيضا وبالتحديد الماركسي، بائعة قوة عمل ولا يهم هنا شكل هذه السلعة اكانت سخرة أو خدمة أو عمل تقني ولا يهم أيضا الجدل الساخن فيما إذا كانت هذه الأعمال أعمال منتجة او غير منتجة مع تحفظنا الكبير على هذه النقطة الأخيرة لأن الذي يؤدي خدمة نفعية هو بالضرورة ينتج عملا نفعيا بغض النظر عما إذا كان هذا العمل ليس سلعا مادية. وبتطور وسائل الإنتاج التي تعتمد التقنية الذهنية والرقمية والفنية التحق قطيع كبير من الطبقة العاملة منافسا لهذه الطبقة في هذه الأعمال، ومعنى هذا أن الطبقة العاملة ليست طبقة جامدة لا تبرح كونها طبقة تعتمد العمل الفيزيقي بل هي أيضا طبقة تتطور مع تطور وسائل الإنتاج مع اعتبار أن هذا التطور يخضع لمنطق التفاوت التطوري دائما وهذا أيضا موضوع لا تسمح هذه الورقة بالتوسع أكثر فيه والإبتعاد أكثر عن موضوعنا الأصلي الذي نروم فيه إلى فهم الشق الثاني لدورة الزمان البنيوي للرأسمالية في دول المركز الراسمالي .
...يتبع