تفاعُلاً مع الرّفِيق علي الأسدي : تطوُّر الصِّين نحو الرّأسمالِيَّة مُنذ 1949


السموأل راجي
2013 / 2 / 18 - 00:12     

في ندوة لجنته المركزِيّة المُوَسَّعَة المُنعقِدة بتارِيخ يونيو/حزِيران 2011 ، صادق نُوّاب الحزب الشُّيُوعي الماركسيّ اللِّينِينِيّ الإسبانِيّ على مُقرَّر حول الصِّين وإنحِرافها المُبَكّر ، قُمتُ بترجمته ونشرِه على صفحات الحوار المُتمدّن في جُزئيْن ، وبإرتِباط مع سلسلة المقالاَت التي ينشُرها الرّفِيق علي الأسدِيّ ، وتفاعُلاً مع ما جاء فِيها ، أُعِيد نشر هذا النصّ :

تطوُّر الصِّين نحو الرّأسمالِيّة مُنذُ 1949

الجُزء الأوّل: من قِيام الجُمهُورِيّة "الشّعبِيّة" إلى سنة 1987

تنجرِفُ الصِّين إرادِيًّا مُنذُ سنواتٍ في خطٍّ غاية في الرِّجعيّة نَحو الرّأسمالِيّة الإمبريالِيّة بِما إنعكَسَ على مواقفها السّياسِيّة وتوقُّف دعمها اللاّمشرُوط لِأرِبَّائِها وتتأهَّلُ تصاعُدِيًّا لتكُون أحد أقطاب المُقارنَة داخِل الحلقة الضيِّقَة لأثرى أثرياء العالم الرّأسمالِيِّين لِــدرجة تسْمِيتها ب:"العِملاق الآسيوِيّ".
باتَ من الضّرُورِيّ اليوم نِقاش الوضع الصِّينِيّ وإحالة الطُّرُوحات الفوضوِيّة الماوِيّة لِمِحَكِّ الواقع ومُقارَعتها بالأدِلّة الملمُوسَة إستِنادًا للمُرشِد النّظرِيّ المُتمثِّل في النّظرِيّة العِلمِيّة الثّورِيّة للطّبقة العامِلة كما رسَمَ ملامِحها ماركس،أنغلس،لينين وستالِين.
تشادَقَ مُنذ زمنٍ مُحرِّفِي الشّيُوعِيّة الصّينِيِّين بموضُوعة "الطّرِيق الخاصّ للإشْتِراكِيّة" وِفْق نِظام برهنةٍ أهمّ ما فِيهِ:
"إن المواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية اليوم تنطوي على خطر لم يكُن لهُ وُجودٌ في النصف الأول من القرن العشرين: الرأسماليين لديهم القدرة المادية لتدمير الدول الاشتراكية بِحُكم إمتِلاكِها لسِلاح الرّدع النووِيّ أمام أنظَار الجَماهير المُضطهدة ولايُمكن للعالم أن يُوقِف هجمتها ولا أن يرُدّ الفِعْل [...] وبالطبع، فإن البديل لا يكمُنُ في التخلِّي وإلقاء الرّايَات ، وإنَّما في فتح طريق المُستقبل الإشتراكِيّ بذكاءٍ مُنقطع النّظِير عبر حُسن إدارة الصِّراعات الدُّوَلِيّة والتدخُّل الإيجابِيّ [...] وحدَها الأقطار الإشتِراكِيّة قادِرة على إعطاء مُعظم الدّعم للثّورة البرُولِيتارِيّة العالمِيّة والعكسُ بالعكس [...] ولا يكُون ذلِك عبر إدانة السُّلُوك العسكرِيّ الإمبريالِيّ وإنَّمَا بإثبات وإبْرَاز مزايَا الإشْتِراكِيّة ومُقارنتَهَا بالفضاعات الرّأسمالِيّة .

وإذا نحَّيْنَا جانِبًا تفصِيل وضعِيّة الصين كَواحِدة من القُوى النوويّة الرئيسيّة فِي العالم، فالأعمَى نفسه سيَرَى وجه التّشابُه بين هذا الطّرح التّافِه والرَّعْوَنَة الخروتشُوفِيّة المُسَمَّاة بِ"التّعايُش السِّلمِيّ"
"إنّ إقامة علاقات وِديّة دائِمة بين القُوَّتيْن العالَمِيَّتيْن الأعْظَم :الإتِّحاد السُّوفياتيّ والوِلايات المُتّحدة الأمريكيّة ،من شأنِهِ أن يُضِيف إمكانِيّاتٍ لامحدُودة لتعزِيز السَّلَام في العَالم ؛ وإذا مَا إنْبَنَت هذِهِ العلاقات على أساس المبادئ الخمسة للتّعايُش السِّلمِىّ: الإحترام المُتبادل لسلامة أراضيهما وسيادتهما، عدم الإعتِداء، عدم التّدخُّل في الشُّؤُون الداخليّة والمُساوَاة في تبادُل المنافِع ، التّعايُش السِّلمِيّ والتَّعَاوُن الإقتِصاديّ، فإنّ ذَلِك سيَكُون مُساهمة لا تُقدّر بِثمنٍ للبشريّة جَمْعاء. "
وكذلِك مُقارنةً بالطّرح البُوليسِيّ لِــنيكيتين في مُؤلَّفَه:أُسُس الإقتصاد السِّياسِيّ الموضُوع بعد المُؤتمر العِشرين للحزب أي في أوج التّحرِيفِيّة الأورثوذوكسِيّة:
"وفي العصر الحديث، وبإعتِبار وُجُود أسلحة الدّمار الشّامِل، بِما في ذلك القنَابل الذريّة والهيدروجينيّة، ينبغي إستبعاد الحَرب من حَيَاة الناس. ليس هناك سوى مسار واحد، وهُو التّعايش السّلمي والتّنافس الهادِئ بين الإشتراكيّة والرأسماليّة (...) وأُطرُوحة التّعايش السّلمي تعني التخلِّي عن التّدخُّل في الشُّؤُون الداخليّة للدُّوَل الأُخرى لتغيير النِّظام مَثَلاً أو نمط العَيْش ، أو لأي سبب آخر " .
مثل كاوتسكي، خروتشوف، وسانتياغو كاريو، الذي اعتمد أيضا هذه المواقف، يُصِرُّ المراجعون الحديثُون (وإن كان ذلِك ضِمنِيًّا) عَلَى أنّ درَجة تطوُّر الإمبرياليّة سمَحَت للتقدُّميّة والسّلام والدّيمقراطيّة وتكفِي "المُقارنة" البسيطة بين النِّظاميْن في النّهاية إلى مِيلاد الإشتراكيّة.
مُنذُ أن وُضِعَت مثل هذِه الدَّعَاوَى ،إندلعت مئات الصِّراعات أنْتَجَت مئات الآلاف مِن الضَّحَايا، عشرات الإنقِلابات والتدخُّلات العسكرِيّة أثْـبَـتَـت في وُضُوح الشّمس تفاهة الطّرح الذي لم يكُن إلاّ تزوِيرًا للواقع المُتردِّي وتحْريفًا للرّأسمالِيّة المُعَسْكَرَة العُدوانِيّة في طَوْرِها الإمبريالِيّ .وترافَقَ هِجْران التّحْرِيفِيِّين والمُراجعِين للصِّراع الطبقِيّ على السّاحة الدُّولِيّة بتنازُلٍ سِياسِيٍّ صريحٍ عن أيِّ نشاطٍ لِينِينِيٍّ في أقطارِهِم ، لِــيكتفُوا بِأغانِي التّعايُش السِّلمِيّ بين مُختلف الأنظِمة والسّلام الإجتماعِيّ والمُصالحة الطبقِيّة ، وبإرتِباط مع إستِقالة الأحزاب القدِيمة مِن مهامِّها في قِيادة الثّورة، كان لا مَفَرَّ من إتِّبَاعِ نهج التّفاوُض بدلاً عن الصِّراع .
يُسانِدُ هذِه النظرِيّة أعدادًا من المُؤَدْلَجِين ،وهُو نفس الموقِع الذي يحتلُّهُ "شيُوعِيُّونَا" في زواياهِم النّقدِيّة أو الإنتِقادِيّة محدُودة التّأثِير للتّحرِيفِيّة الإشتراكِيّة-الدِّيمُقراطِيّة لِتتقلَّصَ هذِه المواقِع أمام رُكن "اللّيبرالِيّة الإجتماعِيّة" وتغِيب كُليًّا عند محطَّة الإعلان عن قناعاتِهِم الإشتِراكِيّة رغمَ تجنُّبِهِم لِـــبَــلَــل أمطار النِّضال في سبيل تكريسِها في الواقِع. أمّا على الصّعِيد الأُمَمِيّ ،يرتضُون دور أتباعٍ لأحد الزُّعماء في أعقابِهِ أو مُتابِعِين لإحدى المُنظّمات مُتفاوِتة الشّعبِيّة : الزّاباتِيّة،ثُمّ البرازيلي لُولاَ ومن بعدِهِ ديتريتش وكتابه "إشتراكية الفنّ XXI "... لِـيَتِمّ رفع شخصيّات عدِيدة إلى أوليمبوس الرّجعية المُتهاوِي والمرفُوع بتحرِيفِيِّين لا ينقطعُون .
لا ينحَطّ الشّيُوعِيُّون الحقيقِيُّون إلى مُستوى التخلِّي عن المبادِئ أو الخَلْط بين مسألة التّضامُن مع الشُّعُوب والتذيُّل للعُدوان الإمبريالِيّ كما حَصَل مع نِضال الشّعب اللِّيبِيّ وصِراعُه ضِدّ نظام القذّافِيّ الرِّجعِيّ الحليف القوِيّ لساركُوزي وبرلسكُونِيّ الذين قامَا فِيما بعد بضرب الشّعب الليبيّ فِي إعادة ترتيب الأوضاع وإعادة إقتِسام ثروات الشّعب اللِّيبِيّ النَّفطِيّة .

عودةً لموضُوع الصِّين الموضُوعة توجُّهاتها في سياق الإنحراف مُنذُ ماو،تشهدُ البِلاد عملية تحديث واسعة النطاق.تكلفتها الإجتماعِيّة باهِضة أسفرت عن توزِيعٍ غير عادل للثّروة مَيَّزَ نمُوذجها التّنموِيّ ورافق النُّمُوّ الهائِل لإقتِصادِها .
الإشكالِيّة المركزِيّة تتمثّل في:هل أنّ مقولة "إشتراكِيّة السُّوق" أو "السُّوق الإجتماعِيّة" هِي ذاتها ما تشادق بهِ ماو حول "الإشتراكِيّة الصِّينِيّة" ، وهل أنّ الإنجازات الإقتِصادِيّة (ثاني قُوّة عالمِيّة) موضوعة في خِدمة الإشتراكِيّة أم هِي تخدِم إعادة ترتِيب المُؤسّسات شبه الإشتراكِيّة وتحوِيل نُفُوذ الرّقابَة الحُكُومِيّة إلى أيادِي طُغمة غاية في العُدوانِيّة ؟
تحوَّلَت جُمهُورِيّة الصِّين الشّعبِيّة مُباشَرةً بعد إنهاء ثورتِها الشّعبِيّة إلى قُطْرٍ رأسمالِيٍّ لا تتوفَّر فِيها أدنَى عناصِر الإشتِراكِيّة ، إلاّ أنّ عددًا من الاحزاب المُنحرِفة المُوالِيَة لبيكين ومازالت على تعنُّتِها من طُرُوحات ماو المُعادِية للشّيُوعِيّة تُقِرّ من حينٍ لآخر بنفس مقُولات ما قبل السّبعِينات حول الدَّوْر الأمَمِيّ الإشتراكِيّ للصِّين بِسِيَاسَةٍ خارِجِيّة نَشِطَة قائِمة على التّضامُن بين الشُّعُوب بِــماَ يُحِيل وُجُوبًا إلى طرح تساؤُلات هامّة: أيّ نوعٍ من الإشتراكِيّة تِـلكَ التي بناها النِّظام الصِّينِيّ ؟وما هي نوعِيّة السُّلُوك الأُمَمِيّ البرُوليتارِيّ لها؟؟

حول مقُولة "الإشتِراكِيّة الصِّينِيّة"

"إنّ أيّ شكلٍ بسيطٍ مُنفرد و طارئٍ للقيمة ، وبِتصرُّف فردي من تبادل سلعة واحدة مع دولة أخرى، تُولِّدُ كُلّ التّناقُضات الرّأسمالِيّة وإن بِشكلٍ مُتخلِّف " (ماركس) .

في فترة الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، تظلُّ بقايا الإقتِصاد الرّأسمالِيّ قائِمَة لتُشكِّل خطرًا بإمكانِهِ إعادة بَـعْثِ الرّأسمالِيّة مثل التّداوُل التِّجارِيّ عبر الأموال والأُصُول ومِن هُنا جاء ستالِين بحَسْمِهِ لهذه الظّاهِرَة حيثُ يقُول " إن إحدى خصائص الاقتصاد السياسي هي أن قوانينه، خلافاً لقوانين الطبيعة، ليست قوانين طويلة الأمد، وأن مفعولها، أو مفعول معظمها على الأقل، يسري خلال مرحلة ما من مراحل التاريخ، وبعد ذلك تخلي هذه القوانين المكان لقوانين جديدة. ولكنها لا تهدم هدماً، بل تفقد قوتها نتيجة لظروف اقتصادية جديدة، وتغادر المسرح لكي تخلي المكان لقوانين جديدة لا تخلقها إرادة الناس، بل تنبثق على أسا ظروف اقتصادية جديدة " ومن ثَمَّةَ على الدّولة الإشتراكِيّة الجمع بين العوامل المختلفة المشاركة في الحياة الاقتصادية للأمة، وذلك باستخدام قوتها القسرية للسيطرة على القوى التي تهدد عملية التنمية " كيف يجب فهم كلمتي «التوافق التام»؟ يجب فهمهما بمعنى أن الأمور، في النظام الاشتراكي، بصورة عامة، لا تقضي إلى نزاع بين علاقات الإنتاج و القوى المنتجة، وأن لدى المجتمع إمكان تأمين التوافق، في الوقت المناسب، بين علاقات الإنتاج المتأخرة وبين صفة القوى المنتجة. ولدى المجتمع الاشتراكي إمكان القيام بذلك، إذ ليس في داخله طبقات صائرة إلى الزوال يمكن أن تنظم المقاومة. ولا ريب أنه، ستوجد في النظام الاشتراكي أيضاً قوى جمود متأخرة، لا تفهم ضرورة تعديل علاقات الإنتاج، ولكن سيكون من السهل طبعاً التغلب عليها، دون دفع الأمور إلى درجة النزاع."(ستالين، القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي) ومن هنا تأتي ضرورة أن تكُون السُّلطة بروليتاريّة، لتجنُّب تعزيز الإنحطاط البرجوازيّ- البيروقراطيّ.

فمن الواضح أن واقع حالة كل بلد يفرِضُ تدابِير خُصُوصِيّة مُرتبِطة بهذا الواقِع تتخِّذُها الدّولة الإشتراكِيّة في صيغةٍ أو أُخرى حتّى وإن كانت كُلّ هذه التّدابِير تشترك في أُفُقِها الإشتراكِيّ القاضِي بمشركة الإنتاج وتعزِيز التّخطِيط المركزِيّ والسّيطرة السِّياسِيّة للبرُوليتارِيا وفي هذا الصّدد أكَّد ستالِين أنّ العديدين "يقولون أن قانون الاشتراكية الاقتصادي الأساسي هو قانون تطور الاقتصاد الوطني متناسقاً متناسباً. هذا خطأ إن تطور الاقتصاد الوطني المتناسق، وبالتالي برمجة الاقتصاد الوطني التي هي الانعكاس الصادق تقريباً لهذا القانون، لا يمكنهما أن يعطيا شيئاً بذاتهما، إذا كانت الأهداف التي من أجلها يجري التطوير المبرمج للاقتصاد الوطني، مجهولة، أو إذا كانت المهمة غير واضحة.
إن قانون تطوُّر الإقتصاد الوطنيّ المُتناسق لا يمكن أن يعطي النتيجة المبتغاة إلا في حالِ وُجود مَهَمَّة وخُطَّة يجري بإسمها هذا التطور. وهذه المهمة لا يمكن أن يعيّنها قانون تطور الاقتصاد الوطني المتناسق، ومن باب أولى، لا يمكن أن تعيّنها برمجة الاقتصاد الوطني. إن هذه الخُطّة يتضمنها قانون الإشتراكيّة للإقتِصاد السِّياسِيّ فِي شَكل المقتضيات المعروفة آنفاً. ولذلك، لا يستطيع قانون تطور الإقتصاد الوطنيّ المتناسق أن يمارس مفعوله التام إلا إذا استند هذا المفعول إلى قانون الإشتراكيّة الإقتصاديّ الأساسيّ.
أما فيما يتعلق ببرمجة الاقتصاد الوطني فإنها لا يمكن أن تؤدي على نتائج إيجابية إلا بمراعاة شرطيين اثنين:
أ ـ أن تعكس البرمجة بصورة صحيحة مقتضيات قانون تطور الاقتصاد الوطني المتناسق.
ب ـ أن تأخذ بعين الاعتبار، من جميع النواحي، مقتضيات قانون الاشتراكية الاقتصادي الأساسي." (ستالين، المرجع نفسه) .

في الواقع، في المجال الاقتصادي، إتّجَهَت الإصلاحات المتتالية التي وضعها قادة الرجعية بعد الاستيلاء على السلطة والدولة في الأقطَار الإشتراكية الأُوروبِيّة بالخُصُوص نحْو اللاّمركزِيّة تدريجِيًّا لتَقْطَعَ بِذَلك مع أشكال وآليَّات التّخطيط المركزيّ فِي إدارة الشّرِكات والمُؤسَّسات الإقتصاديّة. وبدأ المُؤتمر العشرين المُنْعَقِد بَيْن 14 و25 فبرايِر/شباط 1956 للحزب الشيوعي السُّوفِياتِيّ، إتِّباع المبدأ الشاذّ في الوُصُول للإشتراكِيّة عبر تغلِيف الإجراءات بمقُولة "الطّريق الوطنِيّ" ليُدَشَّن بِذَلِك مَسَار تدهوُر التّخطِيط الإشتراكِيّ بِسُرعاتٍ مُتفاوِتَة عبر الشُّرُوع في تقوِيض صُكُوك الرّقابة المركَزِيّة وتخفِيف وطأة التّخطِيط وتسرِيب قواعِد إقتِصاد السُّوق بِــبيرُوقراطِيّة كبِيرة ،وبِحُجّة "اللاّمَركزِيّة الإقتِصادِيّة" ،أعِيدت خصخصة قِطاعات عديدة وتعزَّزَت قُدرة الشّركات الحُكُومِيّة مع محدُودِيّة الرّقابة عليْهَا. من هُنا جاء تعرِيف المُؤرِّخَيْن البُورجوازِيَّيْن فولفغانغ بنز وغرام هيرمان، في كتاب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لِلسّياسة الإقتصاديّة المُعتَمَدة مِن قِبَلِ المُؤتمر السّادس للحِوار الإقتصاديّ الإستراتيجيّ الألمانِيّ في عام 1963 بأنَّهَا توجُّهٌ نحوَ: "كَسَرَ النّظام الجديد للتّخطِيط الإقتصادي و التصرُّف حُزمَة مُحرَّمَات للسّياسات الإقتِصادِيّة السّتَالِينِيّة ومعهُ بعض الإشتراكِيِّين عبر الإستِعانَةِ بإقراضٍ مُبتذلٍ للنِّظام "الرّأسمالِيّ" .
في الصين، ومُنذُ دُستور الجُمهوريَّة لِسَنَة 1949، أتَّخَذَت قِيادة الحِزب "الشُّيُوعيّ" الصِّينِيّ عدة تغييرات فُجْئِيَّة في توجُّهَات سِياسَتها: أوّلًا، إن الخطة الخُمَاسِيّة فِيمَا بيْن (1953-1957) أَقَرَّت مِنوال التّجربَة السُّوفياتِيّة المُوجّهة بوُضُوحٍ نحو التّصنِيع السَّرِيع ومَـشْـرَكَة الزِّرَاعة، ثُمّ في عام 1958، تحدَّدَت خُطّة "القفزة الكُبرى إلى الأمَام" التي إتَّضَحَت أنّها إنحِدارٌ نحو الهاوِيَة وإزدواجِيّةٌ بين مُحاولات تخطيط إقتِصادِيّ ورَسْمَلَة الدَّوْلَة ، ثُمّ مزيد من التّعزِيز للتّخطيط ،و فِي وقتٍ لاحقٍ، مرحَلَة فاشِلة أُطْلِق عليهَا جِزافًا :"الثّورة الثَّـقافِيّة". وإتّسمت مُعظم هذه التّغيِـيرَات ، وفِي جمِيع الحَالات ، بانخِفاض مَرْكَزَة القرارَات الإقتصاديّة.
بعدَ وفاة ماو فِي 1976، وبعد فَترة من التخبُّط والنِّزاع على السُّلطَة إستمَرّ لحُدُود 1978، تولَّى دنغ سياو بينغ الذي أُعِيد للحِزب في 22 يوليو/تمُّوز 1977،لِيفرِض تحوُّلًا جدِيدًا في سياسات الحِزب. وافقت الجلسَة العَامّة الثّانية للّجنة المركزيّة على التخلِّي عن أصُول ما سُمِّيَ ب"التّحدِيثات الأربعة ؛بدأ التحوُّل في قِطاع الزِّراعة مع إدخَال عقُود التَّأجِير والتّشغِيل وتفكِيك شبكات المُجَمَّعَات الشَّعْبِيّة ومن ثمَّةَ تسرِيع اللاّمَركزِيّة الإقتِصادِيّة وفتح مجالات الخَصْخَصَة و"الإنفِتَاح" للإستثمارات الرّأسمالِيّة الخارِجِيَّة .

فِيما يَلِي بعض معالِم نمُوّ الإقتِصاد الخاصّ في الصِّين مُقتَبَسَة من الوِكالة الصِّينِيّة للإستثمارات :
"في فبراير/شباط 1979، اقترحت وزارة الدّولة للصّناعة والتِّجارة تأهِيل المدنِيِّين من المُسجَّلِين فردِيًّا في خدْمَة الإصلاح عبر تكوِينِهِم في مجالات الخِدمات والحِرَفِ دُون توفِير مواطِن شُغلٍ لهُم ".
في أكتوبر/تشرين الأوَّل 1981، قرر مجلس الدولة: "في إطار إعلاء الإقتِصاد العُمُومِيّ الإشتِراكِيّ ، الشُّرُوع فِي تنفيذ التّعايُش بين أنماطٍ عِدَّةٍ من طُرُق الإدارة الإقتصاديّة ، وعلى المدى الطويل ، وهُو قرارٌ إستراتِيجِيّ بالنِّسبَة للحِزب إذ لا مُؤقَّتَ لديْهِ. فِي ما يخُصّ الصِّناعِيِّين،يُسمَحُ لكُلّ رجُل اعمالٍ بتوظيف عددٍ لا يتجاوزُ الإثنيْن من المُساعِدِين مُزَوَّدِين بتقنِيَّاتٍ ولا يتجاوز أعداد العُمّال أو المُتدَرِّبِين الخمسَة " .

الجُزء الثّانِي : الصِّين بعد 1987

أقرّ المُؤتمر الثّالِث عشر للحزب المُنعقؤد بين 25 أكتوبر/تشرين الأوّل والفاتِح من نوفمبِر/تشرين الثّانِي 1987، بِـ"أنّ تطوِير وتنمِية بعض جوانِب الإقتِصاد الخاصّ يُعزِّزُ تنشِيط الإنتَاج ويخلُق دينامِيكِيّة في السُّوق ومراكِز عمل جدِيدَة بِــما يستجِيب لحاجِيات عديدة للنّاسِ وهُو ما جعَلهُ يُشكِّلُ ردِيفًا ضرُورِيًّا مُفيدًا للإقتِصاد العُمُومِيّ. "

في نيسان/أبريل 1988، وافقت الدورة الأولى للمجلس الوطنِيّ الشّعبِيّ على إدخالِ تعديلاتٍ دُستُورِيّة بمُقتضاها يتمّ الإقرار بقانُونِيّة القِطاع الخاصّ . في وقت لاحق ، وأثناء إنعِقاد أشغال المُؤتمر الرّابَع عشر للحِزب ، صدرت لائِحَة فحواها: "إن إصلاح النظام الاقتصادي في الصين يهدف إلى ترسيخ إقتصاد السُّوق الإشتراكيّ، والسماح لنظام مؤسسات الدولة، والملكية الجماعيّة وغيرها من دُخُول مجالات التّنافُس على قدم المساواة. "

عمّق هذا الطّرح المُؤتمر الخامس عشر المُنعقِد سنة 1997 إذ أشار إلى أنّ "الإقتصاد الخاصّ هُو جُزء هامٌّ من إقتصاد السُّوق الإشتراكيّ".
في 25 فبرايِر 2005 نُشِر تقرِير حُكُومِيّ بِعنوان"بعض وجهات النظر لمجلس الدولة لِـتشجيع ودعم تطوير اقتصاد الملكية غير العامة". فكانت الوثيقة مكرسة لتشجيع و تطوير الاقتصاد الخاصّ مُتَضَمِّنًا أحكامًا جديدة لِتسهيل وصُول الشّركات غير العامة للسُّوق أو بِالأحرَى الهَيْمَنَةُ عليه ، من بين أمور أخرى .
من جانبه،كتبَ الأستاذ في جامعة هافانا رودريغيز آسيان فِي مقالٍ نُشِر في 16 مارِس/آذار 2007، أنّ المُؤتمرات الوطنِيّة لِمجلس نُوّاب "الشّعب" الصِّينِيّ صَادَقَت بِأغلبِيّةٍ كبيرةٍ على قوانِينَ مُثيرةٍ للجَدَل أقَرَّت بِها المِلْكِيّة الخاصّة ووضعتها في المرتبَة الأُولَى لِتتهرَّبَ من حِمايَة القِطاع العامّ،وأضَافَ أنّ 67.4٪ من أَسْيَاد القِطاع الخاصّ يَتأتَّوْن مِن قُدامَى كِبار المُوظَّفِين ومسؤُولِي الدّولة وأعضاء اللجنة المركزِيّة للحِزب ، أمّا اليد العاملة المُشغَّلَة في الشّرِكات الخاصَّة فتتكوّن من تِلك التي كوّنَها وأنفق عليها الشّعب الصِّينِيّ لحِمايَة وتسيِير مُؤسّساتِه يقُودهم فَنيِّين وتقنِيِّين مُدرّبِين على تشغِيل مُؤسّسات الدّولة عِلْمًا أنّ نِسبة القِطاع الخاصّ يُحقِّقُ قفزات خطِيرة إذ كان سنة 2004 يُقدّر حجمه بِــ 33.8٪ من جُملة المُؤسّسات الصِّينِيّة " .
بالإمكان القوْل أنّ المؤسسات الخاصة فى الصين تتمتع بصحة تُحسَدُ عليها؛وكالة انباء شينخوا قال في عام 2005 إلى أنه وفقا للمعلومات الواردة من مصلحة الدولة للصناعة والتجارة في الصين، فإن عدد مُوظّفِي الأجهِزة الإدارِيّة يبلُغ 7،878 مليُون مِنهُم 3،984 مليُون في القِطاع الخاصّ أي حوالَيْ النِّصف : إنّ مُشاركة القِطاع العام في الإنتاج الصناعي العالمي كان في عام 1980يُقَدَّرُ بِــ76٪. وبِما أنّ هذه المُؤسَّسات الكُبرَى تُسيْطر على الشّركات الصّغيرة والمتوسطة،فقد إتّخَذَ رأس المال الخاص نتيجة للأزمة الاقتصادية الدولية إتّجاه التركُّز في محاوِر عِملاقَة مُقتحِمًا مجالاتٍ إستراتِيجِيّة إحتكرتها طوِيلاً الدّولَة .
ظروف العمل في كثير من هذه الشركات ثابِتةٌ مُتماثِلَة مُنذُ 1949 عِندما كانت حُكُومِيّةٌ بالكامِل أو عندما هيمن عليها رأس المال الخاصّ: انتهاكات مستمرة لقانون العمل، رفض التمثيل النقابي، عمليات التسريح الجماعية، وما إلى ذلك. فُتِح تحقِيقٌ بِناءًا على توصِية من مجلِس نُوّاب "الشّعب" الصِّينِيّ سنة 2005 لِـينتهِي بتقرِير حول إنتِهاك 80٪ من الشركات الخاصة الصينية لِقانون العمل .

إضافةً للواقِع الإجتِماعِيّ المُتردِّي للطّبقَة العامِلة ، أفرَز التطوُّر السّرِيع للقِطاع الخاصّ وبِوَتِيرةٍ جُنُونِيّة نتيجة أكثَر سلبِيّة : فوضى الإنتاج الرأسمالي نفسه. إعترف رئيس مجمع باوشان للحديد والصلب المملُوك مِن قِبَلِ الدّولة بِأنَّهُ "في ظل الظروف نفسها لشركتك ، لن يكُون بِمقدُورِك المُنافَسَة مع الشّرِكات الخاصَّة خاصّةً مع إحتِكارها حتّى للكفاءات العالِيَة ومنحِها حقّ التمتُّع بخِبراتِها قبل المُؤسّسات الحُكُومِيّة ". "قانون أقصى الرِّبح السّرِيع للنِّظام الرّأسمالِيّ هُو المُتسبِّب الرّئِيسِيّ في فوضَى الإنتاج الصِّينِيّ !".
والحقيقة هي أن تنمية الاقتصاد الخاص فى الصين لم يكُن رهانا ظرفيًّا كما يتغنَّى المُراجِعُون أو الخطّ الماوِيّ التّحرِيفِيّ، ولكنّهُ قرارٌ هيكلِيٌّ أدّى إلى تعمِيق التّناقُضات الإجتِماعِيّة وزاد من حجم التّفاوُت التّنْمَوِيّ بين المدِينة والرِّيف والمركز والغرب والسّاحِل والدّاخِل الصِّينِيّ،وخلق مناطِق صناعِيّة غاية في التلوُّث وبروليتارِيا رثَّة وأفضَى إلى تزايُد أفواج العاطِلِين وتراكُم الثّروة بين أيادِي حفنة من المُتنفِّعِين ومن أعضاء اللّجنة المركزِيّة للحِزب "الشّيُوعِيّ" بِما وَلَّد صِراعاتٍ إجتماعِيّة أصبحَت مبعث قلقٍ دائِمٍ لدى حُكُومة بيجين؛ واليوم، يُعانِي 3/2 المُدُن الصِّينِيّة من عدم كفاية المعروض من المياه العذبة ومن تناقُص القُدرة على التّزوِيد بالأغذِية والموادّ الأساسِيّة وبرزت مافِيا حقِيقِيّة محمِيّة من رُمُوز الدّولة تحتكِرُ التّجارة والمال.

ما هو نوع المُمارسة الأممِيّة البروليتاريّة في الصين؟

تحوّل المفهُوم الخُصُوصِيّ للتّضامُن الأمَمِيّ بين الشُّعُوب في أذهان القادة "الشّيُوعِيِّين" الصّينِيِّين إلى غائِب !في سبتمبر/أيلُول 1975 أطلقت عملِيّة إعدام 5 من المُناضِلِين المُعادِين فاشِيّة فرانكُو موجَة تندِيدٍ واسِعَة وإتّخذت عِدّة أقطار تدابِير ديبلُوماسِيّة تجنُّبًا لإندِلاع إحتِجاجات أو هبّات تضامُنِيّة وسَحَب عِدّة حُكُومات سُفرائِها من بيجين ، "جُمهُورِيّة الصِّين الشّعبِيّة" التي أقامت علاقات ديبلُوماسِيّة طبِيعِيّة مع فرانكُو مُنذُ 1973 ، لم تسحَب سفيرها ولم تُصدِر حتّى بيانَ تندِيد بالرّغمِ من أنّ ثلاثة مِمَّن تمّ إعدامهم كانُوا أعضاء في الحِزب الشّيُوعِيّ الماركسِيّ اللّينِينِيّ بِقِيادة راوول ماركُو.

لسنوات عديدة ، رُكِّزَت السّياسة الخارجيّة للصّين على البراغماتيّة المُمِلّة والغير مواتية ؛ واليوم، والصين هي قوة اقتصادية في سياسة التجارة الدولية وتعتمِدُ وَضْعِيّةً مالِيّة غاية في الشّراسَة وتعملُ على بسطِ نُفُوذِها في مُختلَف أرجاء العالم :انضمام لمُنظّمة التّجارة العالمية O.M.C(ديسمبر/كانون الأوّل 2001)، تتفق من النّاحِيَة الإيديولوجِيّة تمام الإتِّفاق مع مواقِف تَتَمَوْقعُ في مُربّع النّيُولِيبرالِيّة ، وتهتمُّ بتكرِيس براغماتِيَّتِها المعنِيّة بدعم إستثماراتها ومصالِحها دُون أيّ إرتِباطٍ بمفهُوم التّضامُن الأُمَمِيّ بين الشُّعُوب وحتّى علم الصِّراع الطّبقِيّ غاب من أدبيّاتِها
جمهورية الصين هي البلد الأكثر سكانا في العالم وتُحَقِّقُ مُعدّلات نمُوّ هي الأَعْلَى في العالم،الارقام تتحدث عن نفسها: في عام 1989، إحتَلَّت المرتبة الحادية عشرة في الإنتاج العالمي، في عام 2009 كان ثالث أكبر مُنتِج وتاجِر في العالم، والآن هي ثاني أكبر دولة مُنتِجَة وثانِي مُصدِّر حِصّتُها من الصّادرات المُتداولة في العالم بلغت 10.4 ٪ في عام 2009 مقابل 8.4٪ الولايات المتحدة؛في عام 2010، إستهلكَت 20٪ مِن الطّاقة الأوَّلِيَّة في العالم (48٪ من الفحم والنفط بنسبة 10.4٪)، في عام 2005 استهلكت الصين 20٪ إلى 30٪ من الحديد والزنك والقصدير والرصاص والألومنيوم والنحاس (خمسة إلى ستة أضعاف وزنها في الاقتصاد العالمي) .وهذِهِ الأرقام تتعاظمُ سنوِيًّا .

مع معدل الادخار من 51٪ من الناتج المحلي الإجمالي الخام، أصبحت سعة التخزين للاقتصاد هائلة. لسنوات، وقد استثمرت الصين بعض من فائض رأس المال في الخارج، بِما مكَّنَها من جمع 3.2 تريليون دولار من العملات الأجنبية في عام 2011، تشير التقديرات إلى أنّهُ وُضِعت من هذه العُملات مبالغ 1.1 مليار دُولار في صِيغة سندات دينٍ للخزانة الأمريكية، وحوالي 600.00 مليون من الديون السيادية الأوروبية ، ووصلت استثماراتها الأجنبية المباشرة إلى 70مليار في عام 2010، وهِي البلد الدّائن الثّاني في العالم بعد اليابان.

ضَرَبَت الأزمة الحاليّة الإستِثمارات الصّينِيّة كما هُو الحال لبقِيّة القطاعات الرّأسمالِيّة وشملت بالأساس مُدّخراتها في البُنُوك الإئتِمانِيّة والأسواق المالِيّة الأمريكِيّة ومُؤسّسات نقدِيّة مِثل مورغان ستانلي Morgan Stanley وبلاك ستون غروب BlackStone Group لِدرجة أنّ الحُكُومة الصّينِيّة قرّرت تغيِير إستراتِيجِيَّتَها (مع المحافظة على استثماراتها في الديون السيادية في الولايات المتحدة وأوروبا وتجنُّبًا لإنهِيارٍ جديدٍ قرّرت خَفْضَ قيمة الموجودات الماليّة) بِتعزيز الإستهلاك المحليّ وضخِّ حِصَصٍ مُتزايدة من رُؤُوس أموالِها لشراء الأعمال التجاريّة، ومنح القروض والاستثمارات المباشرة في الأقطار "المتخلفة" ، مَعَ ضمان توريد المواد الخام التي تحتاج إليها، وفي الوقت نفسه زيادة نفوذها على حُكُومات هذِه البُلدان.
ونسمعُ مِن حينٍ لآخر تشدُّق حول شيُوعِيّة الحِزب المُوجِّه لهذا البَلَد !