وجها الوطنية المتداخلان


فالح عبد الجبار
2013 / 1 / 27 - 09:37     

ثمة اتفاق فضفاض على ان العرب عموماً لم يعودوا يصغون كثيراً، او باتوا اقل ميلاً الى الاصغاء، لخطاب الخطر الخارجي الداهم، وهم لهذا اكثر استعداداً لمساءلة الحاكم بأمره، بل السعي لتدميره انقاذاً للأمة لا العكس.

لكن الخطاب الرسمي انما يماهي دوماً بين شخص الموظف الاول وعموم الامة. محاضر محاكمة المتهمين بمحاولة اغتيال هتلر مثلاً تكشف لنا (شأن الكثير من الوثائق الرسمية العربية من انظمة الحزب الواحد) عن تلابس الاوهام في الخطاب السلطوي، تلابس جموع الامة مع جسد الزعيم الفرد. فالقاضي او المحقق، او الموظف الحزبي، الذي يحاكم المتآمرين او يعذّبهم، انما يسألهم كيف تسوّل لهم انفسهم التفكير في الاعتداء على القائد بينما هو يقود الحرب على الأعداء، او الاعتراض على دولة الحزب والعقيدة وهي تواجه الاحتلال؟ في المنطق البسيط، السؤال الاستنكاري يبدو معقولاً، لكن ثمة سلسلة من الحذوفات المقصودة او العفوية التي سبقت قيادة الحرب على الأعداء، ولعل السؤال الاول كيف جاء هو الى السلطة، بطلب منا ام بطلب من نفسه؟ وكيف اتخذ قرار الحرب، في غرفة مغلقة مع كلبه المدلل، ام في جلسة عائلية مع أبناء عمومته، بعد قراءة البخت، ام قبله؟ وهل الزعيم الثوري استشار احداً غير نفسه وزمرته؟ الخ، الخ...

لا احد يريد او يطلب او يمكن ان يطلب من اي مجتمع ان يكف عن التفكير في المخاطر الخارجية، في الأعداء، في الاحتلال إن وجد، او حيثما وجد. لكن المطلوب ألا يكون هذا التفكير في الخصم الخارجي كمامة لسد أفواه المجتمعات نفسها عن نقد الحاكم، او ستارة تعمية لمنع المجتمع عن رؤية عوراته السياسية، او مساءلته على الكفاءة في ادارة المعارك، بل التدقيق في حقه بالتصرف المنفرد، وهلمجرا.

نقول هذا لأن الربيع العربي لم يبدأ إلا حيث خفتت حدة المخاطر الخارجية في الخيال الشعبي كما في تصورات النشطاء والفاعلين الجدد. الكثير من الدراسات تعجب لتركز التظاهرات السياسية في العالم العربي على قضايا السياسة الخارجية، منذ الثلاثينات حتى مطالع الثمانينات.

المنحى الى الاستقلال، حروب الاستقلال، حروب التأميم، الحروب مع اسرائيل، الخ... ملأت الفضاء السياسي، مؤسسة لخطاب وطني أحادي، اعرج او مقلوب. فالخطاب الوطني كما تطور في اصقاع العالم، له مظهران مترابطان، اندراج كل ابناء الحقل الوطني وبناته: عرباً، كرداً، أتراكاً، الخ... في حق التمتع بهذا الحقل، بحرياته وثرواته، وثقافته، الخ، وهذا هو البعد الداخلي للوطنية او القومية، وهو يكتمل ببعد خارجي هو اقصاء الأغراب عن دخول الحقل الوطني او المشاركة فيه الا بالتعاقد والرضى لا بالقسر والاحتلال. وأن تأسيس الوطنية على البعد الخارجي وحده هو اختلال مديد عمّر طويلاً، عمّر اكثر من اللزوم، وخرّب اكثر من اللزوم، بل خرب بالتحديد بناء الشراكة الديموقراطية، المظهر الداخلي الاساس للقومية او الوطنية.

لعل لقراء من جيلي يتذكرون انتفاضة الخبز في كانون الثاني (يناير) 1977 في مصر، ثم ثورات الخبز في الثمانينات في تونس والمغرب والاردن، البلدان التي رفعت الدعم عن السلع الاساسية، امتثالاً لوصفة البنك الدولي في اطار بناء اقتصاد السوق او اللبرلة.

واذ تحتدم المعارك على بنية المؤسسات ومعاني الدستور، وصلاحيات هذا او ذاك، ألا انها توطد للمرة الاولى فكرة الرئيس الموظف، لا الرئيس-المؤلّه، وتعيد الثقافة السياسية العربية من قاع الامتثال السلطوي الى ذرى النقد والتحدي المتصل. انها بداية الصحو بالطبع. وهي بداية لا تزال تواجه تشكيكاً يحمل الكثير من روح الماضي، الميت والمميت. فمثلاً ان اكثر من مؤتمر حول الربيع العربي وأكثر من عشرة استطلاعات للرأي، كانت دوماً تحمل اسئلة الارتياب التالية: ما هي الاجندة الخارجية التي تحرك الربيع العربي (هذا اسخف الاسئلة وأكثرها فجاجة)؟، كم يخدم الربيع العربي اسرائيل؟ (سؤال ساذج آخر)، او: هل يجوز... في... الممانعة؟ لا ادري من اخترع كلمة الممانعة، لكنه يفتقر الى الخيال اللغوي، وهذه الكلمة مجرد فبركة سريعة جيء بها لتحل بديلاً عن كلمة سابقة استهلكت: بلدان الصمود، ثم بلدان الطوق، ثم. وهي كلمات تصف وظائف خارجية، حقيقية او متخيلة، للدولة، ولا تسعف هذه الاخيرة بشيء في تأسيس شرعيتها.

التفكير العربي يمضي في الالتصاق بحقل الوطنية الداخلي، حقل المشاركة والمساءلة، وحين يوطد نفسه توطيداً معافى، فلن يجد ضيراً في ادارة ملف البعد الخارجي بقدر من الثقة يحافظ على اندراج الامة، كل الامة في الدولة.

وسيضطر الرؤساء الجدد، كل الرؤساء، الى تقديم كشوف الحسابات للرأي العام، عن حل الاستعصاءات الاقتصادية والاجتماعية. ففي النهاية، لا يقتات الناس على الايديولوجيا، فحتى اكثر الاديان سمواً روحياً وابتعاداً عن الملذات الارضية، تذكر المؤمنين بها صباح مساء بنعم السماء عليهم، من زرع وضرع، وصحة وغنى. ودولة اليوم تحمل مسؤولية صحة السكان كما رفاههم، وسكنهم كما تعليمهم. وهذه الوظائف لم تكن في وارد عمل الدولة، ولم يعد السلطان او الخليفة يدور على الرعية ليلاً ليطمئن اليهم وليرد غائلة الجوع عنهم، إن صادفها. نحن ازاء مجتمع تنفتح قروحه ليل نهار، وتظهر أمارات الفقر عليه في الاحصاءات المستقبلية قبل ان تنفجر في الواقع. حكام اليوم يأتون في زمن صعب عليهم، زمن التفات الوطنية الى نفسها، الى الجماعة، اكثر من الغريب، والى حقها في الرفاه، ولن تغتفر لأحد خداعها. لعل في يد المتنعمين بثروات نفطية (ليبيا مثلاً، او العراق) من الحكام فرصاً محدودة لشراء الوقت، وتمديد بوليصة تأمينهم الشخصي، لكن دول اللاريع لا تملك مثل هذا الترف، لا للحاكم ولا للمحكوم. العيش على تغذية الخوف من خطر خارجي لا يزال قائماً، لكن في اسرائيل هذه المرة، التي يتبختر رئيس وزرائها القادم، فرحاً بانتصاره على اجنحة العنصرية الكارهة.