أزمة النظام الرأسمالي والحراك العربي -الحلقة الثالثة-


محمد بوجنال
2013 / 1 / 20 - 16:00     

أزمة النظام الرأسمالي والحراك العربي
مؤشرا راهنية المنهج الماركسي
-الحلقة الثالثة-

سبق أن تكلمنا عن التخوف المشروع على مصير الحراك العربي؛ لذا ، فحمايته تقتضي توفر الشعوب العربية على المؤهلات اللازمة والقوى الكفيلة بحماية حراكها الذي يمكن أن يرتقي إذ ذاك إلى مستوى "الثورة العربية". هذا ولا بد كذلك من طرح عوامل أخرى معرقلة للحراك العربي تضاف إلى المخاوف السابقة الذكر والمتعلقة بنوعية الأنظمة السياسية في عالمنا العربي سواء كانت جمهوريات أم ملكيات أم مشيخيات, فمجمل الأنظمة السياسية العربية تعتبر صنيعة الدول الرأسمالية الكبرى وبالتالي، وباللزوم، حليفتها ومنفذة قراراتها وحامية بالوكالة لمصالحها. لذا، تتميز طبيعتها بالعداء لتطور ونمو وتنمية شعوبها أو قل حرصها على حصار شعوبها بإغراقها والزيادة من إغراقها في بحر الأمية وجغرافية التخلف والاحتفاظ بها في مستوى العداء للفكر والعقل والمادة وتحمل المسؤولية معتمدة العديد من الآليات والمؤسسات التي تصرف عليها أموالا طائلة لتنفيذ أجندة سلعنة هذه الشعوب التي كلما تمكنت أو سمحت لها الفرص من امتلاك وعيها كلما كان ذلك تهديدا للنظام الرأسمالي وتعيقا لخطورة أزماته. بهذه الدلالة نفهم مؤسسات من قبيل التربية والتعليم ومجمل الأحزاب والنقابات والمؤسسات الدينية ودور الشباب ومجمل جمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ومؤسسات القضاء والأمن والمستشفيات والإعلام ومجمل الأجهزة الثقافية بما في ذلك الأسرة
الوضع ذاك يبرز لنا بوضوح أن هذه الشعوب العربية محاصرة بشكل محكم، مع الاستثناءات، لتبقى قوى بشرية وعاملة رهن إشارة الإنتاج الرأسمالي كلما دعت الضرورة والأزمات إلى ذلك. لذا، يقول المفكر الأمريكي اللاتيني صبين حرغوس في أحد كتبه أن الكادح يكون خطيرا في كل الحالات: خطيرا على ذاته كلما كان غير واع بوجوده، فتكون ذاته هي أول من يتعرض لأذائه وبالتالي غيرها من الذوات؛ وفي كل هذا مصلحة لفلسفة الاقتصاد الرأسمالي، وإما أن يكون خطيرا على النظام الرأسمالي كلما امتلك الوعي بمعنى وجوده وبالتالي تحميله مسؤولية فقره وجهله وتخلفه للأنظمة الرأسمالية التي بدون تهميشه وتسليعه يكون مصيرها الفناء. لذا، للدفاع عن حقه في الوجود، وبفعل وعيه بالتكتل مع غيره من المستغلين، يعمل على تقوية وتنظيم نفسه في شكل مؤسسات نقيضة كالأحزاب السياسية والنقابات المركزية والجمعيات المدنية وبالتالي العمل على بناء أدوات تحرير الشعوب من العبودية والدونية ومختلف أشكال الاستغلال. العالم العربي الراهن يفتقر في جزء كبير منه لهذا النوع من المواطن ليقتصر على جزء قليل منه وهي نسبة غير كافية لضمان التحرير؛ ورغم ذلك، فهي تسعى جاهدة ،إلى مواجهة، حسب إمكانياتها، الغطرسة والاستغلال المتوحش الذي هو جوهر النظام الرأسمالي.
إذن ، فالشعوب العربية راهنا –أي المنتفضة- ، كما كانت في السابق مع الاختلاف في حدة العلاقة، هي امتلاك للأنظمة الرأسمالية الكبرى من جهة، والأنظمة العربية الحليفة من جهة ثانية للحيلولة دون السماح بحصول الشروط التي تمكنها من بناء اقتصادها بالحرية التي تفضلها والسياسة التي تلائمها وشكل ترتيب البنية الاجتماعية التي ترتضيها ونمط التفكير المعرفي الذي يوقظ وعيها. وفي كل هذا بقيت وما زالت لحد الساعة سلعة يحدد نوعيتها وثمنها السوق الرأسمالي المتوحش إذ كلما ازدهر السوق ذاك كلما حصلت فقط على الحد الأدنى اللازم لاستمرارها في العيش باعتبارها إحدى قوى الإنتاج التي لايمكن للسوق الاستغناء عنها؛ وكلما حصلت الأزمة كلما فقدت جزء حتى من ذلك الحد الأدنى ليصبح الفرق بينها وبين مختلف باقي السلع الأخرى كالطماطم والبطاطيس وغيرها فرقا جد قليل أو قل لم يعد يكاد يلمس حيث تختفي الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والإنسانية التي تتشدق بها الدول الرأسمالية الكبرى وحلفاؤها من الأنظمة العربية لأن قانون المنطق الداخلي للنظام الرأسمالي هو قانون لا يرحم ولا يمكن أن ترتفع أرباحه وبالتالي ازدهاره وتطوره إلا بامتصاص فائض جهد العمال والفلاحين والتجار المتوسطين والصغار والموارد الطبيعية برا وبحرا داخله وبمختلف الدول المتخلفة التي أهمها العالم العربي؛ وكلما تعثر ذلك أو حصل سوء التدبير بالمؤسسات التدبيرية والتنظيمية أو أسباب أخرى كالإنفجارات والإنتفاضات كلما حصلت كلما حصلت، وباللزوم،أزمة النظام الرأسمالي.لذا، نراه حريص كل الحرص على حماية المنطقة العربية برا وبحرا وجوا وديبلوماسيا وأيديولوجيا.
هل مجتمع ، كالمجتمع العربي، يعاني من هذا الحصار المكثف، يمكنه إنتاج الثورة؟ ومن هنا التخوفات تلو التخوفات، لا عن" الثورة" لأنها غير موجودة بقدر ما أنها تخوفات عن حاضر ومصير"الحراك العربي" أو قل عن مجمل المكاسب التي تم الحصول عليها كالتخلص من الخوف والمطالبة بمحاكمة ناهبي المال العام وإسقاط الفساد...الخ. فهي مكاسب ومطالب في حق النخب التي مارست وتمارس الاستبداد بالوكالة عن النظام الرأسمالي وفي نفس الآن، ووفق ميزان القوى، نيابة عن نفسها. ومن هنا قولنا أنه من الخطإ القول بأن مهام الحراك العربي تتحدد في إسقاط النظام الاستبدادي مجسدا في الرئيس أو الملك أو أمير المشيخة بقدر ما أن الحراك يجب أن يكون حراكا لطرح والمطالبة بإسقاط الطبقة الكامبرادورية بأجملها؛ فالفساد غير مرتبط فقط بالرئيس أو الملك أو الأمير بقدر ما أنه مرتبط بمكونات الطبقة تلك ومرتزقتها من مختلف أشكال الوساطات أو قل ممثلو " الحراك المضاد". وفي كل هذا نجد الطبقة تلك تتركز مهامها على مجال تنفيذ استراتيجية الدول الرأسمالية الكبرى في المنطقة خاصة منها الولايات المتحدة الامريكية والتي ، وللتذكير، أنها تركز على عاملين أساسيين خاصة: السيطرة اللامشروطة على موارد النفط والغاز من جهة ، وحماية دولة إسرائيل من جهة ثانية، حيث التركيز على الاستغلال بشكل أبشع منذ انفجار النظام الرأسمالي عام 2008بالولايات المتحدة الامريكية.
وفي مقابل محور الدول الرأسمالية الكبرى بالمنطقة ، كما سبق القول، نجد محور روسيا-الصين الذي أسس استراتيجيته بالوقوف سياسيا، وكنقيض، إلى جانب المنطقة فنجد الدعوة إلى رفض الحروب والتسلح لفض نزاعات الشرق الأوسط وشمال افريقيا مهما كانت الأسباب؛ وكذا الحفاظ على تماسك ووحدة هذه الشعوب المهددة بنشوب حروب أهلية وطائفية فيما بينها؛ والدعوة إلى احترام والتشبت بمبادئ هيأة الأمم المتحدة والشرعية الدولية؛ ودعوة الحراك إلى الحوار السلمي ونبذ كل أشكال العنف لحصول مخرج شامل لأزمة منطقة الشرق الأوسط في أفق التخطيط لتنمية شاملة تعتمد تشجيع الاستثمارات والتبادل التجاري والاستفادة من الدعم المالي والتقني الدوليين. وفي هذا يؤكد هذا المحور على أن نجاح هذه الاستراتيجية رهين بلعب مجلس الأمن دوره الفعال أو قل التزامه بالعمل على نزع فتيل أشكال التوتر والصراع القائم في المنطقة. والمغزى من استراتيجية المحور الروسي-الصيني هو عرقلة ومنع الدول الرأسمالية الكبرى-الامريكان والاروبيين- من بسط سيطرتها على مواد النفط والغاز وكذا استقطاب الحراك والتحكم في توجيهه؛ ونقيض هذا يعني تعرض اقتصاد هذا المحور الروسي-الصيني للتدهور وبسط الهيمنة الاقتصادية والسياسية للدول الرأسمالية الكبرى وبالتالي تخلصها من ولادة عالم جديد متعدد الاقطاب الذي يلزم عنه تخلص مجلس الأمن من هيمنتهم وبالتالي الشروع المشروع في ممارسة مهامه المتمثلة في حل الأزمات الدولية وخاصة منها أزمة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهو الدور الذي يقتضي منه تنفيذ ميثاق هيأة الأمم المتحدة القاضي بإلزام جميع الدول بعدم التدخل في قضايا وشؤون الدول الأخرى.
وعموما ، فالشعوب العربية وبالتالي حراكها الراهن لا يوجد بمعزل عن الطموحات الرأسمالية الموحشة التي يستحيل، بحكم منطقها الداخلي الباحث دوما على الرفع من نسبة فائض القيمة، حصول الاستقلال والحرية والعدالة والمساواة. وفي هذا السياق يجب موضعة هذا الحراك العربي للتعرف بشكل موضوعي عن قدراته وأدوات حراكه ونسبة ونوعية مكتسباته وقدرات ونوعية الحراك المضاد وحلفائه وأشكال دعمه؛ هذا دون نسيان درجة وعي الجماهير العربية المنتفضة المتدني واللحظي؛ لذا، فشباب الحراك يتحمل العبء الأكبر في التفعيل والتمويل والتنظيم والتضحيات والاعتقالات وتلفيق التهم-المغرب نموذج لهذا النوع من التعسفات-. بناء على طبيعة المنطق الداخلي للدول الرأسمالية الكبرى المتوحش وكذا حلفاؤهم بالمنطقة العربية، يمر الحراك العربي اليوم بمنعطف أكثر تعقيدا يتميز خاصة بالتصعيد التدريجي والمدروس لتفكيكه قصد التحكم فيه أكثر خاصة وأن الأزمة المالية الرأسمالية في امريكا الشمالية واروبا واليابان وصلت منعطفا دقيقا تمثل في الاحتجاجات التي يعرفها الغرب حاليا والتي تهدد كيان نظامه، بل وتفضح وحشيته التي لا تفهم سوى لغة ارتفاع نسبة الأرباح. يتميز هذا المنعطف بالصراعات التي حصلت بين مكوناته كحراك حيث تشكل محور يضم الإخوان المسلمين والسلفية التي لا يمكن ،وفق مرجعيتها،إلا أن تكون قوى محافظة على تخلف الشعوب العربية من جهة، والدفاع عن مشروعية النظام الرأسمالي وحمايته من جهة ثانية؛ لذا، رسمت لها الرأسمالية خارطة طريق تحافظ على النظام القائم مع إدخال روتوشات لذر الرماد في الأعين كالقول بالديموقراطية والتسامح والعدالة...الخ والحفاظ على وحدة الوطن وعدم قبول تدخلات القوى الخارجية؛ أما المحور الثاني فيتمثل في محور القوى الشبابية مدعما ببعض الحركات اليسارية التي طالبت وتطالب بإسقاط الانظمة المستبدة وكل أشكال الفساد وكذا محاسبتهم قضائيا والدعوة إلى تأسيس نظام ينبني على أسس جديدة تتمثل في التأسيس لدولة الحق والقانون والديموقراطية بمختلف مكوناتها من عدالة ومساواة وشفافية ومسؤولية وتنمية وتقدم.إنها مطالب تهدد بالأساس النظام الرأسمالي؛ لذا، فهي تتناقض ومطالب المحور الأول. وبهذا تعمل الدول الرأسمالية بمساعدة حلفائها بالمنطقة على احتوائه. من هذا المنظور ساعدت ورحبت الدول الكبرى تلك بتولي الإخوان المسلمين السلطة في العالم العربي كقوة دافعت وتدافع عمقا عن النظام الرأسمالي بفعل تكوينها وتدريبها وتمويلها وحمايتها من طرف القوى الامريكية/البريطانية خاصة. هذا الوضع أعطى إسرائيل الثقة في كون أن خيارات هذه السلطة الإخوانية الجديدة لا تكن العداء للدولة الاسرائيلية بدلالة أنها لم تصدر عنها إدانات لا بصدد بناء المستوطنات ولا بصدد الهجوم على غزة ،كما أنها أبدت نيتها في الحفاظ على سياسة مصر الخارجية خاصة منها اتفاقية كامب ديفيد وأوسلو. هذا الموقف أحرج هذه السلطة الاخوانية أمام المحور الثاني، شباب الحراك وبعض مكونات اليسار الذين طالبوها بتوضيح موقفها من الموضوع، فكانت تلتجئ دوما إلى العموميات و المراوغات كالقول بأن الاتفاقيات خاصة منها كامب ديفيد وأوسلو ليست اتفاقيات مطلقة وبالتالي بالإمكان تعديلها أو إلغاؤها في أي لحظة؛ ناهيك عن طمأنتها الدولة الاسرائيلية بصدد الاحتلال وتهويد القدس وحق العودة. عوضا عن كل ذلك ، هرولت السلطة تلك في اتجاه الاعلان عن فتح الحوار مع الدول الرأسمالية الكبرى ومؤسساتها خاصة منها الولايات المتحدة الامريكية؛ بل وإعلانها استعدادها المشاركة في مشروع خارطة طريق الشرق الأوسط المحددة فيما تمت تسميته"بمشروع الشرق الاوسط الجديد" وفق التصور الذي يضمن استمرار سيطرة النظام الرأسمالي على المنطقة التي تعتبر بمثابة صمام الأمان كلما حصلت أزمات السوق الرأسمالي.
هكذا، ومن خلال ما سبق نرى راهنية أهمية المنهج الماركسي في طرح العلاقة بين النظام الرأسمالي في شكله العولمي الحالي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا حيث أن الرابط يتمثل في الحاجة إلى الموارد الطبيعية التي بدونها تنهار العملية الانتاجية الرأسمالية التي تقتضي حتما الدوس على إنسانية وكرامة وحرية انسان المنطقة الشرق اوسطية والشمال افريقية وكذا الانسان عامة لتحقيق التراكم وبالتالي الانتاجية وهي العملية التي تخفي في ذاتها، وفق المنهج الماركسي،نقيضها الذي ينمو تدريجيا ويشتد وفق درجة نمو وعي الطرف النقيض الذي تمارس عليه سياسات النهب والاستغلال وسرقة فائض القيمة. لذا، يواجه اليوم النظام الرأسمالي العولمي، الأزمة المالية بفعل الخلل الداخلي في العلاقات بين مكوناته حيث أفرز نظام المضاربات ارتفاع نسبة الادخار لتنخفض نسبة الارباح وبالتالي فائض القيمة، فحدث، وباللزوم، أزمة النظام. وخوفا من الانهيار وظهور النظام النقيض، النظام الاشتراكي، يعمل النظام الرأسمالي بمختلف مؤسساته وقدراته على خلق شروط التصدي والتغلب على هذه الأزمة –كما غيرها من الأزمات- لإعادة خلق التوازن بين مكوناته الداخلية التي تمكن من التغلب على الأزمة والتي تعطي للدورة الاقتصادية توازنها المتمثل في الرفع من فائض القيمة وقدرة أكثر مناعة وأكثر ذكاء في الاستحواد والاستثمار وخلق الأسواق ليحدث التوازن الداخلي للنظام الرأسمالي ذاك؛ ولا يمكن حصول ذلك إلا بالزيادة من الاستغلال المتوحش للطبيعة والانسان على السواء وذلك برعاية الفوضى المسماة كذبا خلاقة، وتزكية الصراعات الإثنية والأهلية والعشائرية والعقائدية والعمل على خلق شروط نشوب الحروب لتنتعش بذلك أسواق السلاح وبالتالي حصول الدمار الذي تتلوه المفاوضات مع أكبر الشركات الرأسمالية لإعادة الإعمار. وفي كل هذا ضخ لأموال جديدة هائلة بالمؤسسات الرأسمالية العالمية بهدف إيجاد وعلاج للخلل الذي أصاب العلاقات بين مكوناته. ومن هنا يري المنهج الماركسي،أن مصير النظام الرأسمالي مرتبط ومرهون بالعلاقات اللامتكافئة بين الدول والاستغلال المتوحش لها. ووفق المنهج الماركسي وتبعا لقانون صيرورة التاريخ، فلا بد أن يلفظ هذا النظام الرأسمالي اللاإنساني أنفاسه ليحل محله نقيضه المتمثل في ضمان حرية الإنسان والشعوب ومشروعية استغلال واستثمار الموارد الطبيعية والمالية والتوزيع العادل للثروات.
-انتهى-