الحرية في عصر الاغتراب والاستلاب

محمد فرج
2013 / 1 / 3 - 00:24     

الحرية في عصر الإغتراب والاستلاب

تباهٍ يصل حد الغطرسة ذاك الذي تمارسه الرأسمالية في الحفاظ على حرية الفرد، تنكشف الأكذوبة وينجلي الوهم عند عجز البشر السلعيين، "عند عجزهم تحت سيطرة آلات مكتملة الرجولة".

حرية: هتاف، شعار على يافطة يرفعها ناشط سياسي، شعار تطرحه لائحة انتخابية، منعطف اجباري لتصريح سياسي بارز، حق يتباهى النظام في “صونه” والدفاع عنه… حرية، الحاضرة في كل مكان، على لسان الجميع، السلطة والمعارضة، من يطالب بها ومن يحميها. عن أي حرية بالضبط نتحدث إذاً؟ وهل كتب لهذا المفهوم أن يحيا بلا ملامح؟ هل كتب له أن يكون تعبيراً استعراضياً لصالح غيره من المفاهيم؟ هل يخرجنا الجوع لنهتف من أجل الحرية؟ وهل يخرجنا الاستبداد لنطالب بها؟ ما هي تلك المنظومة المتكاملة المسماة الحرية إذاً، وماذا يدور في فلكها: استبداد؟ أجهزة الأمن؟ الجوع؟ الاغتراب؟ الرأسمالية؟ الاستلاب؟ الضرورة؟ سلطة الاستعراض؟ العرض والطلب؟ السلعة؟ البشر السلعيون؟ ليس مفهوماً سهلاً ذاك “الحرية”، مفهوم يدور في فلك الفلسفة وفي فلكه تدور الفلسفة..

الإغتراب

تبدأ القصة منذ فجر الإنسان الأول، في المواجهات الأولى مع الطبيعة، مع فهمها، مع فهم ذواتنا، مع تنظيم أيضنا المتبادل معها، نعجز عن الفهم، نركض خلف مجمع من الآلهة، خلف الوثن، نضع فيه طاقاتنا في سبيل تنظيم وتفسير أيضنا المستمر المتبادل مع الطبيعة، نكتشف العلة الأولى، تنحسر الآلهة، تندمج، ويبقى الوثن، ويتطور أكثر وأكثر، من مجمع الأولمب إلى الكنيسة إلى الملكية تبدل الوثنية موضوعاتها لتعلن عن اغترابنا عن الطبيعة والبشر. هكذا تسير الكنيسة يداً بيد مع تطور الملكية الخاصة، يتبلور العمل مثل كائن مغرب، ينتشر النص المقدس مثل الأفيون، نعيش العزلة على الأرض في انفصالنا عن عملنا، ونعيش وعد انتهائها في السماء، تتطور الملكية الخاصة لتجعل من الموضوع عدواً، ولتجعل البشر الآخرين واقفين على صدورنا، تتطور الآلة لتنقذ صانعيها فتخلق من البشر براغي إضافية لها، “إن الآلات تكيف مع ضعف الكائن الإنساني من أجل تحويله إلى آلة”، تتسارع الأحداث لتحمل أمواج الراديو مصطلحات جديدة، مفاهيم جديدة: مجتمع الوفرة، مجتمع ينتج الكثير من السلع، سلع تقف في مواجهة منتجيها، في انفصال عنهم، لتعلن في النهاية استعمارها الكلي لهم، تقف التكنولوجيا على صدر العالم لتلغي الوجود، ليجد الإنسان ذاته في الغرف الرقمية المغلقة فقط، ويغلق الباب عن العالم الخارجي، عن العالم الواقعي، عن الواقع.

هذا العرض ليس لغايات السرد القصصي، ليس لغايات الوقوف في مواجهة ما أنتجت البشرية من علم يصلها والطبيعة، هو لغايات الوقوف على ملامح الأزمة، على أصلها، الرأسمالية. باب الحرية الأول هو التحرر من الحتمية الإقتصادية، من ضغط الحاجات الاقتصادية، التحرر منها لبناء الإنسان في كليته في وحدته مع الطبيعة والبشر. تصبح مغترباً عندما يصبح العمل كائناً مغرباً، منفصلاً عنك، إلى الحد الذي لا تشعر معه بنفسك إلا خارج عملك، عندها يفقد العمل صفته الأولى كتعبير عن الطاقة، ويفقد صلته بنا، عن إرادتنا ومشروعنا، عندها يستلبنا في نظامه، وعندها يتحول سلوكنا ذاته إلى حتمية، وعندها نتحول إلى آلة، وأي حرية تلك التي تمنح للآلات!

الرأسمالية، تدمير الفرد

تباه يصل حد الغطرسة ذاك الذي تمارسه الرأسمالية في الحفاظ على حرية الفرد، تنكشف الأكذوبة وينجلي الوهم عند عجز البشر السلعيين، “عند عجزهم تحت سيطرة آلات مكتملة الرجولة”.

إن إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي متمازج إلى حد كبير مع الحاضنة الإجتماعية لعلاقات الناس المادية، لنمط انتاجهم، لعلاقات انتاجهم. من رحم هذه الحاضنة تصاغ لغة السياسة ولغة القانون ولغة الأخلاق، ولغة الحرية كذلك، وللحرية في الرأسمالية لغة محددة بحدودها، لغة بلا أبجديات إلا أبجديات الرأسمالية، ووجه بلا ملامح إلا ملامحها. وهكذا يقفز النظام إلى إنتاج مفاهيمه، إلى إنتاج تعريفاته الخاصة بالمفاهيم، الحرية أن تقل ما تشاء ونفعل نحن ما نريد، الحرية أن تبني مشروعك الخاص ونحتكر نحن ما نشاء، الحرية أن تنتقي ما شئت من السلع ولكن بثمن، المال، العمل، العمل لدينا، بشروطنا، بشروط استلابنا لك وشروط اغترابك.

خارج المفاهيم السائدة، خارج وعي الرأسمالية، داخل المخطوطات نقرأ “إن الحاجة للنقود هي حاجة واقعية عندما خلقها الإقتصاد الحديث، إقتصاد الرأسمالية، إنها الحاجة الوحيدة التي جاء بها النظام، إن هذا يظهر ذاتياً في الإنتاج والحاجات، تصبح الحاجة في شكل التبعية الحاذقة، والمحسوبة دائماً للميول الخيالية، اللاطبيعية، الفاسدة، وغير الإنسانية”

الرأسمالية تخلق الاغتراب، والاغتراب يخلق الاستلاب، ينفي الذات، يخلق البؤس، وتتحرر الطاقة في شكل عجز وانحطاط.

الاغتراب، اغتراب العمل يجد ذروته في الرأسمالية، الحرية تفقد معناها هناك في تلك الذروة، والطبقة العاملة هي الأكثر اغتراباً، هي الأقل حرية، والرأسمالي أقل اغتراباً وأكثر حرية.

من الصناعة إلى التكنولوجيا الرقمية، نلحق بالآلة البسيطة والأنظمة الذكية، يمسي عملنا كدحا مكروها، نظن أننا أسياد الطبيعة ونحن عبيد السلع والأشياء.

تضاريس الحرية في جغرافيا الاشتراكية

كذبة كبرى هزت العالم، عالم الشرق الأكثر دفئاً: الاشتراكية والحرية لا يلتقيان. يتفاجأ رواد الكذبة أن ذاك الرجل الطاعن في الفكر، كارل ماركس، اقتحم هوسه تحرير الإنسان قبل المساواة في الدخل، تحرير الإنسان من ذاك العمل الذي يدمر فرديته، يحوله إلى شيء، إلى عبد للأشياء.

الإشتراكية هي نمط إنتاج، يحمل في قلبه لغته الخاصة في السياسة، وفي القانون، وفي الحرية كذلك، الحرية التي تقهر الاغتراب، اغتراب الإنسان عن عمله، عن نتاجه، وعن الإنسان. وللحرية في الإشتراكية تصور آخر، مختلف تماماً عن حرية “الديمقراطية” السائدة، حرية لا تراوغ، تكره اللون الرمادي، حرية الطاقة في عملية فهمنا للعالم، حرية توقف الإنسان على قدميه، تنهي عجزه، كدحه المكروه، وتحقق ذاته، وتقهر اغترابه.

تحيط بالحرية عناوين ثقيلة، أكبرها حجماً الاغتراب والضرورة، الفعل الأول في تلمس الحرية هو تلمس الاغتراب، الاغتراب إلى أقصاه، والثاني إدراك الضرورة، وضرورة عصرنا هذا، هدم لا هوادة فيه، هدم الحاضنة، حاضنة المفاهيم والتعريفات الغريبة والمغربة، الرأسمالية.