نحو تملك عالمي للحداثة والتغيير تأملات حول شيوعية القرن العشرين


ياسين الحاج صالح
2005 / 3 / 21 - 13:21     

بعد أكثر من عقد ونصف على انهيار شيوعية القرن العشرين ومعسكرها الدولي سيكون من غير المجدي أن ننطلق في تناول تلك "التجربة" من "مقاربة داخلية"، أعني الاستناد إلى الماركسية وأدوتها التحليلية لدراسة "تطبيقها التاريخي" الذي عرفناه. لقد كانت "المقاربة الداخلية" منحازة على الدوام وغير شرعية عقليا، اما اليوم فهي مفارقة تاريخية بالكامل. سنختبر، بدلا منها، مقاربة تمكننا، في الوقت ذاته، من نقد الشيوعية التاريخية ومن اقتراح أفق للفاعلية التغييرية في عالمنا المسدود اليوم. تتمحور المقاربة المذكورة حول مفهوم تملك التغيير أو الحداثة الذي يمثل، في تقديرنا، جوهر الرؤية التحررية الماركسية ذاتها، والمضمون الحي للديمقراطية والاشتراكية معا.

الشيوعية انتهت
كان الاتحاد السوفييتي رأس اليسار الشيوعي وعقله المفكر. وليس ثمة ما هو أكثر طبيعية من أن يفضي قطع الراس السوفييتي إلى موت الكائن الشيوعي وتحلل جسده. التحلل هذا "سمة العصر" خلال السنوات الخمسة عشر الماضية. وما جعل الأمر حتميا حقيقة أن اليسار الشيوعي كان قد أهدر كرامته الفكرية والسياسية بولائه الأعمى والدوني للرأس السوفييتي، وبدفاعه عن الهياكل القمعية والمتعصبة والتمييزية لشيوعية القرن العشرين وحلفائها، وبموقفه الاعتقادي من الحقيقة. لقد كان في العموم يسارا بلا رأس ذاتي وبلا إرادة ذاتية، عاجزا من ثم عن التفكير والاختيار المستقل. هذا لا ينفي مبادرات تمردية متفاوتة النجاح انقذت بعضا من الكرامة الفكرية والسياسية لليسار الشيوعي. وإنما مثل هذه المبادرات هي التي يمكن ان تكون تراثا يستند إليه من اجل موجة يسارية ثالثة في العالم بعد الموجة اليعقوبية الأولى التي اطلقت مفهوم الجمهورية والموجة الشيوعية الثانية التي أطلقت الاشتراكية.
ما يصنع ملامح زمننا الراهن هو أزمة الثقة بالنفس التي اصابت اليسار بعد فشل الاعتراض الشيوعي على الرأسمالية والسيطرة العالمية المرتبطة بها. الفكرة اليسارية بالذات دخلت في أزمة فكرية وسياسية ومعنوية ورمزية بدرجة تتناسب مع احتكار الشوعية تمثيل اليسار. وفي الجوهر هي أزمة شرعية الموقف اليساري أو شرعية الاعتراض على الراسمالية ومشروعها للسيطرة العالمية.
كان يلتقي في مدرك اليسارية ثلاث انحيازات تأسيسية: انحياز للتغيير، وانحياز للضعفاء، وانحياز للحداثة في مجالات الحساسية والفكر والثقافة. وبينما سنقتصر هنا على مقاربة مفهوم اليسار الشيوعي للتغيير وتناول سياساته التغييرية بشيء من التوسع، فإننا سنشير بسرعة إلى بعض عناصر الانحيازات اليسارية الأخرى.
كان ضعفاء اليسار الشيوعي يحتلون موقعا واضحا (موقع المستغلين) في نمط الإنتاج الرأسمالي. ولذلك حاربت الشيوعية النمط ودمرته في البلدان التي حكمتها. تغيرت صيغة الضعف والقوة بالكامل ضمن النمط الجديد الذي سمي الاشتراكية الواقعية. لقد تكون أقوياء جدد لم تحز الطبقة البرجوازية يوما على ما يداني ما حازوه من قوة وسلطة وبذخ. أما الضعفاء فكان أسوأ ما في وضعهم أنهم محرومون من الحق في الكفاح وتغيير أوضاعهم.
على الصعيد الفكري كان ثمة مفارقة: تحول العلم إلى عقيدة تغييرية في ظل شيوعية القرن العشرين، وتبدلت وظائفه من إضاءة الواقع إلى تقديم ميثاق توحيد وتعبئة الإرادة الجمعية للمكافحين من أجل التغيير. المقصود بالعقيدة مذهب للحقيقة، اي مزيج متجانس لا تمييز فيه بين العلم البرهاني والأخلاق والجمالية و...اتجاه التاريخ. وكان يطلق على هذا المزيج اسم الماركسية أو الماركسية اللينينية أو الشيوعية العلمية. الحقيقة موجودة كاملة في المذهب وخارجه ليس ثمة غير الباطل. لذلك إما أن تؤخذ كلا أو تترك كلا: لا انتقاء ولا انتقائية. والحزب الذي يتكون حول العقيدة كارتل احتكاري للحقيقة.
لقد اسست شيوعية القرن العشرين نظام التملك الخاص الحديث للحقيقة، وإن على أسس غير دينية وباسم الطبقة العاملة واتجاه التاريخ. كانت تسعى إلى التملك العام للثروة لكنها تركز الحقيقة كلها في ذاتها. فإما ان يصير كل الناس شيوعيين او يخضع غير الشيوعيين للشرعية الشيوعية التي تنكر عليهم الجدارة العقلية.
وهكذا اقترنت الشيوعية بخصخصة الحقيقة، فيما ترك للرأسمالية ان تنتحل عمومية الحقيقة والشراكة الإنسانية فيها وتوزعها على الفاعلية البشرية جمعاء
في مجال الحساسية كانت الشيوعية التي عرفناها محافظة على العموم رغم تجارب طليعية في بدايات الثورة البلشفية في روسيا. التجارب المناظرة في غرب 1968 كانت ضد شيوعية أو غير شيوعية على الأقل. وكانت الحساسية الشيوعية مضادة لها بكل قواها. جماليا كان لديها مذهب فني يدعى الواقعية الاشتراكية معاد للجمال واستقلالية الجمالي وذو نزوع نفعي ضيق ويفخر بأنه يفضل القمح على الورد مذهبيا. في مجال الثقافة أظهرت نزوعا نحو عسكرة الوعي والفن والتفكير والقيم والأخلاق اي احتوائها ضمن كل عقيدي يأخذ بمجمله أو يرفض كله، ما سميناه للتو كارتل الحقيقة. وقد أفضت العسكرة الثقافية هذه إلى تصحر ثقافي وأخلاقي في المجتمعات المحكومة وترك الجانب الإبداعي والتطويري في الفن والفكر والأدب والنقد للفن والثقافة البرجوازية التي حققت ثورات جمالية متعاقبة.
قد ينبغي أن نضيف إلى الانحيزات اليسارية المذكورة أن تاريخ اليسارية منذ ايام الثورة الفرنسية يختزن بعدا احتجاجيا نشطا أو نضاليا يضعه في موقع معارض للسلطة القائمة مع ما قد يستتبعه ذلك من مخاطر وتضحيات.


اليسار الشيوعي وتغيير العالم
انحاز اليسار الشيوعي للتغيير، لكن بمنطق جامد: كان مع تغيير الملكية لا مع تملك التغيير، أي النفاذ المتساوي للناس إلى التغيير، قرارا وتفاعلا وثمارا. فمن المعلوم أن البرنامج الشيوعي المعياري تكون من الاستيلاء على السلطة وتاميم وسائل الإنتاج أو نقل ملكيتها من الرأسماليين والملاك العقاريين إلى الدولة الاشتراكية التي يفترض أنها اكثر ديمقراطية من اية ديمقراطيات نعرفها.
والحال إنها لم تكن كذلك في اي مكان. وهو ما يعني على الفور أن ما تملكه الدولة لا يطابق ما تملكه الأمة المحكومة. ولعل الشيء الذي لم تكن الأمة تملكه أو تسيطر عليه اكثر من اي شيء آخر هو الدولة بالذات التي استحالت جهازا خارجيا غريبا يخضع لمنطقه الخاص ولا قبل لأمة المحكومين بضبطه والتاثير على سلوكه. ومعنى ذلك بالطبع تفريغ برنامج تغيير الملكية من مضمونه الديمقراطي او الاشتراكي المحتمل. لقد فإذا كانت الراسمالية الكلاسيكية تنحو إلى انقسام المجتمع إلى أمتين، أمة البرجوازيين وأمة العمال حسب ماركس، فإن الشيوعية "الكلاسيكية" سارت على المنوال ذاته، لكن الأمتين هنا هما أمة الحاكمين وامة المحكومين. لقد خلقت الدولة الاشتراكية غير الديمقراطية انفصاما بين الدولة والأمة حيث حكمت. وليس في ذلك أية غرابة. فقد ولدت الدعوة اشتراكية في حضن الديمقراطية فكريا وسياسيا. ولذلك اقتصرت على أن تكون تحديثا للاستبداد (و"الأمتان" نتاجه الطبيعي) في "تجارب الاشتراكية الواقعية" التي استغنت عن الديمقراطية.
المقصود بالتغيير القوى والفرص التي أطلقتها الحداثة، اي التراكم الراسمالي والطفرات الإنتاجية والثورات العلمية والجمالية والسياسية والحقوقية، وكذلك جملة التفاعلات الاجتماعية والبيئية والدولية التي تشكل التاريخ العام ولا مجال ليعيش احد خارجها. التغيير، بعبارة اخرى، هو الحداثة بوجوهها المادية والسياسة والثقافية. ونستخدم مفهوم تملك التغيير لنغطي هنا شيئان: (1) توطين التغيير، اي أن يتكون الداخل الوطني حول إنتاج الحداثة وتنظيم الفاعلية التغيرية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمؤسسية والثقافية، أن يتحكم المجتمع بالقوى المادية والمعنوية التي تؤثر على حياته كلا وأفرادا. وتتناسب فرصة الدولة الحديثة في السيطرة على التغيير مع قدرتها على إحداثه، ما يقتضي نموا اقتصاديا متكامل الأبعاد بالنظر إلى أن الاقتصاد هو اقوى وأشمل محركات التغيير في المجتمعات الحديثة، أو لنقل إن المجتمعات التي لا تنتج "حياتها المادية" حسب التعبير الماركسي مرشحة أكثر من غيرها لفقدان السيطرة على نفسها، وتاليا للانجراف العشوائي في تيارات تغيير خارجية غير مستوعبة وغير مسيطر عليها اجتماعيا؛ (2) تأميم التغيير، اي أن تتاح للمواطنين جميعا فرص النفاذ إلى قرارات التغيير ومؤسساته، وأن يكون لهم رأي في توجهاته وتوزيع ثمراته. ولا نعرف صيغة لهذا النفاذ المتساوي أو المتقارب تفوق حرية الانتظام الاجتماعي المستقل وحرية الاحتجاج الجمعي العلني ضمن تنظيمات الديمقراطية الحديثة القائمة على مبدئي المواطنة المتكافئة وسيادة القانون.
وقد نضيف بعدا ثالثا لا يقل أهمية اعني الاستيعاب الثقافي للتغيير. والمقصود بذلك المعرفة العلمية للتفاعلات والدنياميات التغييرية والتغطية القيمية والأخلاقية والرمزية والجمالية لها. فالثقافة القومية تتكون حول الاستيعاب الثقافي للتغيير أو للحداثة، قدر ما تتكون الدولة القومية حول توطين قوى الحداثة التغييرية وتأميمها. والواقع أن فاعل تملك التغيير هو الدولة، الفاعل الحداثي بامتياز.
إن المجتمعات التي تفشل لأي سبب في توطين التغيير وتأميمه واستيعابه، ما سميناه تملك التغيير، تخفق في تكوين داخل وطني حي قابل للتطور. فالداخل يتكون نتيجة الحل الإيجابي لتحدي الحداثة أو للمسألة التغييرية التي تطرح ذاتها على المجتمعات الحديثة جميعا. ومن نافل القول أن تتعلق المسالة التغييرية بكيفية تملك التغيير وتوطينه وتعميم منافعه والتمرس العمومي به... لا بقبول التغيير أو رفضه. فالتغيير لا يستأذن أحداً: يجرفنا من خارج ويغيرنا، أو نغيره نحن ونحاول السيطرة عليه. ومن المألوف في التجربة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين أن برانية التغيير أو الانجراف السلبي في مجراه من جهة، وفئويته (احتكار قراراته وعملياته وثمراته من قبل أقلية اجتماعية...) وفوقيته من جهة ثانية، و"عجمته" وإبهامه والعجز عن تغطيته الفكرية والروحية من جهة ثالثة قد تواكبت معا. وكانت نتيجتها إخفاق عملية تكون داخل وطني حي وذاتي التطور، عربي أو "قطري"، وإخفاق تكون ثقافة قومية حية ومتفاعلة، عربية او "قطرية" ايضا. فالوظيفة الأساسية للمجتمعات اليوم هي إنتاج التغيير وضبطه والهيمنة عليه والتمرس بقواه وآلياته ونتائجه. إنها بعبارة أخرى التفاعل مع الحداثة. وما يجعل من ذلك وظيفة هو البنية التنافسية للنظام العالمي التي تحكم على من يخفق بالخروج من السباق العالمي وصولا ربما إلى انهيار الدولة وتكافئ الناجحين بمكاسب اقتصادية وسياسية وقيادية كبرى.

تغيير الملكية
ما حصل من تغيير للملكية في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية والصين، وما كان مقدرا له ان يحصل في غيرها لو لم يخن التاريخ الحتمية التاريخية، هو تغيير لمرة واحدة اسمه الثورة، يشبه ما ينعى على الإسلاميين من أنهم يفكرون في الديمقراطية كعملية انتخابية لمرة واحدة. وبعد أن يقع التغيير وقعته الوحيدة ينتهي – ينتهي التغيير وينتهي التاريخ. لا تغيير بعد اليوم. ويتكون جهاز سياسي جبار ل"حماية الثورة"، أي لمنع لتغيير.
ما الذي جرى في تلك "التجارب"؟ لقد تغيرت الملكية بالفعل، وانتقلت المصانع والأراضي والمصارف والتجارة الخارجية والداخلية، فضلا عن التعليم والجامعات والإعلام، إلى يد جهاز سلطة غير منتخب ولا يخضع لرقابة سلطة تشريعية منتخبة أو سلطة قضائية مستقلة او سلطة إعلامية حرة. ومن المفهوم، تاليا، ان تتغير الوظيفة الاجتماعية لـ"نزع ملكية نازعي الملكية": فهي لم تصبح وسيلة لتقوية الأكثرية المحرومة أو الجماهير الكادحة أو الشعب أاو الطبقة العاملة وتعزيز سيطرتها على شروط حياتها الاجتماعية بل أضحت وسيلة جديدة للسلطة وللتحكم بالمجتمع. فالواقع أن "الطلائع" الشيوعية من شاكلة النومنكلاتورا السوفييتية حازت سلطة لا تدانيها سلطة في القديم او الحديث، لا البرجوازية ولا الإقطاع، لا القومية ولا الامبراطورية، لا العلمانيين لا رجال الدين. وكان تشكل هذه الطبقة التي حلت محل الطبقة البرجوازية أو الارستقراطية القديمة هو المضمون الأبرز لتغيير الملكية الشيوعي. وكانت نتيجتها المتوقعة تعميق اغتراب الشعب السياسي والروحي واخذ اغترابه الاقتصادي شكلا جديدا.
ولم تكن في متناول الجمهور اية آليات او سبل مستقلة للتاثير على هذا الوضع. فقد تم إطباق غطاء سيطرة شمولية بلا نوافذ ولا حتى مسام على المجتمعات المنكوبة. ففيما عدا الحزب الشيوعي، الواحد بداهة، كانت النقابات تابعة وتمثل رب العمل الذي هي الدولة وليس أجراءه الذين باتوا في وضع ادنى من وضع "العمل الحر" في ظل الراسمالية. لا شك انهم لم يكونا جياعا كحال العمال البريطانيين قبل منتصف القرن التاسع عشر مثلا، لكنهم كانوا معدمين سياسيا أكثر من العمال في أي بلد رأسمالي. وكانت كل اشكال التنظيم الاجتماعي تحت رقابة سلطة الدولة الحزبية المعززة فوق ذلك باجهزة مخابرات فتاكة. وإلى ذلك كله كانت اشكال الانتظام الاجتماعي التقليدية من طوائف دينية وروابط اهلية محاربة بصراحة.
وبالنتيجة، إذا عجز الشعب عن تغيير أي شيء في واقعه فلأنه فقد سيطرته على نفسه وانكشف امام نظام هيمنة صارمة متعددة الوجوه والأدوات: بوليسة وثقافية وإعلامية واقتصادية. وما كان يمكن إحداث التغيير من ضمن آليات عمل النظام مغلق بهذه الدرجة من الحرص. فحيث يكون التغيير مطلبا فإنه سيفضي إلى تغيير النظام كله، وحيث ينبغي الحافظ على النظام فلن يتاتى ذلك دون قمع التغيير ومقاومته. هذا هو درس غورباتشوف.
وهكذا لم يندرج تغيير الملكية في توسيع الديمقراطية البرجوازية أو تعميمها ونقلها إلى مجال الاقتصاد. لقد تغيرت الملكية حقا لكن الشعب لم يمتلك التغيير. ولم تتح له فرص التجمع والاحتجاج والتعبير من أجل إحداث التغيير والتمرس بالقوى والعمليات التغييرية والاستفادة من ثمارها، ما سميناه تملك التغيير. والنتجية ان المجتمعات المحكومة خرجت عبر التغيير الثوري لنظام الملكية من المشاركة في عملية التغير العالمية أو من المشاركة في الحداثة، قوة ومعنى.

تملك التغيير في دولة الرفاه
هذا بينما اتيح للمجتمعات الراسمالية المركزية بعد الحرب العالمية الثانية بخاصة درجة من المشاركة في التغيير ومن تملكه لم يحظ بها شعب في القديم ولا في الحديث. إن الديمقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان الاسياسية كانت مرعية على العموم. وكانت دخل أكثرية الناس يتزايد، وفرص وصولهم إلى معلومات موثوقة مضمونة. وتمتعت الجامعات باستقلال في تحديد مجالها ومعايير عملها. وكانت وسائل الإعلام أكثر حيوية وحرية، والفنون مزدهرة، والأحزاب الشيوعي الوفية لعقيدة تغيير الملكية ذاتها تمتعت بحرية اعلى مما تمتعت به في البلدان الشيوعية بالذات. وباختصار تسنى للناس هناك ردجة اكبر من الرقابة الديمقراطية على الحداثة والدولة والراسمالية.
قد يجادل بعضنا في وجوه مما ذكرنا أو فيها كلها، لكن الإنصاف يقتضي الاعتراف بان إنجازات الحداثة الديمقراطية الراسمالية كما تجسدت في دولة الرعاية الاجتماعية كانت معيارا لغيرها. وهو ما يعني انه لا يمكن نقدها إلا على ارضية وعودها هي بالذات وإلا كان النقد تحكميا. والحال إن نقد الحداثة الغربية الشرعي والمطلوب والواجب كان مصادرا لمصلحة نموذج فاشل للحداثة هو النموذج الشيوعي. ولعله لذلك قد يكون الخروج من قبضة النقد الشيوعي الخطوة التي لا بد منها لنقد الحداثة الراسمالية بالذات.
على كل حال بفضل تملك التغيير الحداثي الديمقراطي الراسمالي تمكن الغرب من قيادة العالم حضاريا وتقديم النموذج الذي لا منافس له اليوم إلا تطوره المتوقع.
هل كان عادلا؟ هل كان حريته حقيقية؟ هل كان إنسانيا؟ هذا كله مجادل فيه. لكن المعضلة أنه لا محيص لنا من اللجوء إلى منجزه لتعريف قيم العدل والحرية والإنسانية. وهنا مشكلة خطيرة في الواقع قلما ننتبه إليها. فإبداعية الحداثة الغربية ورياديتها تجعل منها معيارا كونيا، وتخفي بذلك اشكال اللاعدالة واللاحرية واللاإنسانية في سياسات دول الغرب وفي نظمها الاجتماعية. بعبارة اخرى يبدو الغرب عادلا لأنه معيار العدالة وإنسانيا لأنه معيار الإنسانية وحرا لانه مثال الحرية. وهو بالطبع لم يغد كذلك إلا لأن نظمه أعدل من غيرها واكثر حرية من غيرها. لكنها عدالة منحازة وتزدادا انحيازا منذ نهاية الحرب الباردة، وبالخصوص في مجال العلاقات الدولية وبصورة اخص في ما يسمى "الشرق الأوسط" الذي يحتل اليوم موقعا شبيها بموقع البروليتاريا في منظومة ماركس: موقع الوطأة الشد للسلطة والهيمنة العالمية.
ما نريده هو ضرورة التحرر من السحر الغربي ومن الهيمنة الغربية التي تتوسل تفوق أنظمة الغرب الراهنة لتابيد الراسمالية والسيطرة العالمية. هذا يستحق عصرا من النقد.
المعضلة أن نقد الحداثة الغربية من خارجها يغدو تحكميا او تأمليا أو حتى رجعيا، لكن النقد من داخلها يحيل إليها ويثبتها كمقياس للعالم. كيف يمكن خلخلة هذا الشرط دون انزلاق جدانوفي؟ كيف يمكن نقد الحداثة وتمركزها الغربي دون اصطانع اشكال مشوهة وتعويضية من التمركز القومي او العرقي او الثقافي المعكوس؟ المسالة نظرية وعملية معا، وكان فشل الجواب الشيوعي عليها قد شوشها ومنح الحداثة الراسمالية والديمقراطية عمرا جديدا. إن غرضنا ليس تمجيد الحداثة الراسمالية الديمقراطية بل تبديد النقد الشيوعي لها من اجل ان نتمكن من رؤية حدودها ونباشر عملية نقدها.
وبقدر ما إن الحداثة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، تزداد أنانية وتحجرا، وتمعن في دفع العدالة والمساواة والحرية في العالم إلى طريق مسدود وتنذر بمستقبل يزداد قتامة ولاعقلانية فإن الحاجة تلح، اكثر فاكثر، على نقد فكري وفلسفي وأخلاقي للحداثة هذه وبلورة رؤية اكثر عدالة وحرية.

الأرض تدور، العالم يتبدل، والتغيير ذاته يتغير
هل يمكن اليوم بلورة سياسة يسارية حول تملك التغيير؟ سياسة لا ترد من مستنقع تغيير الملكية الآسن الذي وردت منه شيوعية القرن العشرين وتنأى بنفسها عمن يعرجون عليه إن حاكينا لغة لينين في "ما العمل"؟ سياسة لا ترتد كذلك إلى محض التبشير بالديمقراطية، وبالخصوص في مجتمعات متدنية الدخل تكتنفها مشكلات الاندماج الداخلي ومخاطر إقليمية جمة، حال مجتمعاتنا؟ هل يصلح تملك التغيير ركيزة لموجة يسارية ثالثة؟
جوابنا أن تملك التغيير غير كاف، لسببين: (1) لقد تغير التغيير، ودخلت الحداثة في ازمة، سواء كانت ازمة تحلل كما يرى ما-بعد-الحداثيون، أو عدم اكتمال كما يرى هابرماز. وفاعلو الحداثة السياسية الذين عرفناهم من مثقف وحزب سياسي ودولة شرعية قانونية ومحتكرة للسيادة، وأدواتها من إيديولوجية كلية أو "سردية كبرى" ومدرسة وجيش وطني وسياسة اقتصادية حمائية، ونماذجها التحليلية العقلانية التي تفترض فردا "يقف" على رأسه وكذلك دولا واحزابا وفاعلين اجتماعيين عقلانيين ... يعانون من أزمة لا جدال فيها حتى في بلادنا التي لم تعرف الصيغ الأنضج لهذه النماذج وتلك الأدوات وأولئك الفاعلين. ولعل بروز مفهوم ما بعد الحداثة على غموضه يغطي تغير التغيير أو تبدل نظامه.
(2) مفهوم تملك التغيير مثل تغيير الملكية، يقوم على مركزية الدولة الوطنية والتمركز حول التنمية. وهو مثله أيضا مبني على انقسام العالم إلى دول قومية سيدة. لم يكن العالم كذلك في اي يوم. كان هناك مزيج من دول قومية وامبراطوريات ودول ناقصة المقومات والسيادة. اليوم وبعد انتهاء مرحلة التحرر الوطني لم يعد تعميم نموذج الدولة القومية مغريا فوق كونه لم يعد ممكنا. وتكون "دول فاشلة" حسب المفهوم الأميركي، دول عاجزة عن تحمل اعباء سيادتها، ودخول فاعلين منظمين من خارج الدول إلى مسرح العلاقات الدولية مؤشران على الحاجة إلى نظام مختلف للعلاقات الدولية. وتمس الحاجة في تقديرنا إلى مؤسسة عالمية تستفيد وحدها من تدهور مفهوم السيادة الوطنية وتملك وحدها حق التفويض بالتدخل الإنساني. وقد تكون الرؤية اليسارية هنا أقرب ما تكون إلى عالم ثنائي القطب: قطب الدول وقطب سيادة عالمية تتوسع شيئا فشيئا تحت الرقابة الديمقراطية للدول وللمجتمع المدني العالمي. من المبكر الكلام على عالم بلا دول او على دولة العالم. في الشروط الراهنة من المؤكد أن دولة العالم ستكون دكتاتورية، والدول القومية الراهنة هي أحزابها السرية.
وقبل كل شيء ربما هناك حاجة لتحرير مفهوم التغيير من حمولاته التنموية الراسمالية، أعني التوسع المادي باي ثمن، او البرنامج الديكارتي للسيطرة على الطبيعة بحيث نصير سادتها وملاكها، البرنامج الذي أنجب الراسمالية والاستعمار و... الاشتراكية، فضلا عن مشكلات البيئة. إن في "البرنامج الوراثي" للحداثة وللصراع على الحداثة نزعة توسعية نووية على حساب الطبيعة وعلى حساب المجتمعات الضعيفة التي يسهل إلحاقها بالطبيعة.
وبالمجمل يبدو لنا أن انهيار الشيوعية وازمة اليسار تحيلان إلى أزمة عالمية أعمق هي أزمة الحداثة. فبنظامها الاقتصادي الراسمالي ونظامها السياسي الديمقراطي الليبرالي ومركزيتها الغربية لم تعد الحداثة تمكننا من استيعاب التغيير الجاري في العالم فوق كون تنظيماتها غير قابلة للتعميم. هذا بينما قابلية اي نظام للتعميم هي مقياس عدالته وشرعيته.
إن شرط رؤية يسارية من أجل عالم اليوم أن لا تحلق فوق وقائع اللاتكافؤ العالمي.
على الصعيد العملي قد تكون أولى مهمات اليسار في كل مكان هو العمل على تضييق الفجوة بين أقوياء العالم وضعفائه، اغنيائه وفقرائه. السؤال هنا كيف يمكن تأميم التغيير عالميا، اي مشاركة البشر جميعا في منافعه وتحمل مغارمه والتمرس بالتحديات والممشكلات التي يثيرها.
ونميل إلى ان الدولة القومية لم تعد إطارا كافية لتملك التغيير، وأن التملك العالمي للتغيير صار يقتضي أطرا جديدة للسياسة والسلطة في العالم من النوع ثنائي القطب الذي أشرنا إليه للتو. ومع ذلك فإن برنامج تملك التغيير، اي الجمع بين الديمقراطية ومستوى معقول من التنمية، يحتفظ بدرجة من الراهنية في البلدان التي تعاني من الدكتاتوريات ومن تدني مستويات المعيشة وهو ما ينطبق على اكثر الدول العربية. بعبارة أخرى لا يزال لدى الأطر الراهنة للسياسة والدولة في بلادنا ما تقوم به، وبالخصوص في مواجهة الموجة الراهنة من الليبرالية الجديدة. فالهدف الراهن للعمل اليساري، السياسي والفكري، هو دمقرطة هذه الدول بما يمكن مجتمعاتها من الإشراف على العملية التغييرية الجارية الآن ومراقبتها والحد من خضوعها للمصالح الجزئية التي استفادت من زمن الدولانية الآخذ في الانقضاء راهنا. فالدمقرطة ومراقبة التغيير تسهمان في تقوية الداخل الوطني في هذه البلدان وعدم ترك شعوبها ومجتمعاتها في العراء الليبرالي الجديد. ونميل إلى ان الرؤية الشيوعية التقليدية ذات النزوع الدولاني القوي وتصور الدولة المالكة والمربية أو المهندسة للمجتمع ليس ملائما للرد على التحديات الجديدة. ففيما عدا أن نموذج الدولة هذا أفرز تكوينات اجتماعية مافيوية تفضل الخصخصة و"الانفتاح" دون ديمقراطية ودون رقابة اجتماعية، وفيما عدا أن هذا النموذج أيسر تعرضا للفساد من غيره، فإن نموذج الدولة المالكة لم يسجل نجاحات تنموية ذات قيمة بعد المرحلة التدشينية، مرحلة تغيير الملكية أو نقلها. لقد كان اليسار العربي وفيا لبرنامج تغيير الملكية الدولاني (والاستيلاء على السلطة) أكثر مما لتملك التغيير الديمقراطي. ومن الطبيعي أن يكون عاجزا عن نقد الدكتاتورية على أرضية فكرية لا تولد غير الدكتاتورية. وبذلك حرم نفسه أيضا من نقد الطور الامتيازي والمافيوي الراهن في دورة حياة النظم الدولانية.
لكن ليست الأسباب التنموية والديمقراطية وحدها هي التي تدعو إلى تغيير منظورات اليسار في مجالنا "الشرق اوسطي". إن موقع "الشرق الأوسط" كموطئ للسيطرة العالمية الجديدة، للنزوعات الامبراطورية الأميركية والإسرائيلية، يقضي أن يسهم اليسار العربي في بناء صورة اليسار العالمي في المرحلة المقبلة. هذا يحتاج منا إلى نقد التمركز الإيديولوجي حول الذات وكذلك نقد التمركز القومي. إن تفاعلا أوسع مع الأكراد والأتراك والإيرانيين ينبغي ان يكون عنصرا تاسيسيا في المنظورات اليسارية الجديدة.
منطقتنا بؤرة نظام السيطرة العالمية الحالي ومركز إنتاج أوضاع إقليمية وعالمية غير متكافئة ومنتجة للعنف والتعصب. إن تغيير "الشرق الأوسط"، ما يعني تحريره من السيطرة العالمية، هو أكبر إسهام يمكن تخيله في معركة التحرر الديمقراطي العالمية في القرن الحادي والعشرين.