كيف يهاجمنا الرأسماليون؟ لودفيغ ميزس نموذجاً

محمد فرج
2012 / 12 / 29 - 18:20     

ميزس من الأشخاص الذين تحدثوا كثيراً في تفاصيل الإقتصاد الرأسمالي بشكل مجرد، بمعنى الحديث عن حلول لإشكاليات النقد، والتضخم، والإستثمار، وغيرها. في هذا الموقع سنناقش ميزس من زاوية الحرية، هذه الحرية التي يرى هو وغيره من المنظرين الرأسماليين أن أرقى أشكالها يتجلى في حرية النشاط الإقتصادي وفي ظل المنظومة الإقتصادية الرأسمالية.

ميزس والدولة

ميزس (1881- 1973) هو أحد المنظرين للنظام الإقتصادية الرأسمالي، له عدد من المؤلفات أهمها “الفعل البشري”، “الإشتراكية”، و”النظرية والتاريخ”. قامت مجموعة مصباح الحرية المروجة للأعمال من هذا الطابع بنشر كتاب بعنوان “السياسة الإقتصادية، آراء لليوم والغد”، ويشتمل الكتاب على مجموعة من المحاضرات قدمها ميزس في الأرجنتين عام 1959م (الرأسمالية، الإشتراكية، التدخل، التضخم، الإستثمار الأجنبي)، وهذا العام يمثل ذروة الفترة التاريخية للحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الحرب إتخذت طابعين أساسيين، الأول هو الحرب الإعلامية السياسية والتي تتناول تفاصيل الأحداث، وترصيد الأخطاء المتبادل بين الدولتين العظمتين، وحرب إعلامية فكرية نظرية كان هايك وميزس وفريدمان أشهر أعلامها من الجانب الرأسمالي، في الوقت الذي ضم الجانب الآخر “الماركسي” قائمة أطول بكثير لم تغب عنها الأسماء العربية، والأمريكية الجنوبية والإفريقية والأمريكية الشمالية والآسيوية كذلك .

على كل حال، ميزس من الأشخاص الذين تحدثوا كثيراً في تفاصيل الإقتصاد الرأسمالي بشكل مجرد، بمعنى الحديث عن حلول لإشكاليات النقد، والتضخم، والإستثمار، وغيرها. في هذا الموقع سنناقش ميزس من زاوية الحرية، هذه الحرية التي يرى هو وغيره من المنظرين الرأسماليين أن أرقى أشكالها يتجلى في حرية النشاط الإقتصادي وفي ظل المنظومة الإقتصادية الرأسمالية.

يرى ميزس أن الواجب الأساسي للدولة هو حماية والدفاع عن حياة وممتلكات الأشخاص الذين يعيشون في كنفها، ولا يجب على الحكومة أن تكون راعية للناس أنفسهم وإنما لظروفهم التي تجعل النشاط الإقتصادي آمناً، وإن فعلت ذلك سيصبح الناس قادرين على العناية بأنفسهم أكثر مما يمكن للحكومة أن تفعل. وعلى كل حال بدأ هذا الواجب يتحول إلى مسلَمة، إلى واقع، إلى بند أساسي في بيانات حقوق الإنسان العالمية، يقتنع الناس أنه لا بديل عنه، ولا شكل آخر في الحياة سواه. الدولة لا ترعى الأشخاص أنفسهم، وإنما ترعى الشروط المناسبة لحريتهم في النشاط الإقتصادي، وكل ما يلزمها في ذلك أجهزة الأمن التي تضمن هذه “الحرية”، وتتمكن من الإنفاق على أجهزة الأمن، وكل مؤسسات الفساد التي تبنيها، من خلال أجر عال تتقاضاه من جميع المواطنين من جهة، ومن خلال تآمر مع “الناشطين الأحرار” إقتصادياً، فيلتفي القانون والسلطة والنشاط الإقتصادي في عصابة واحدة مشكلة من رجال الأعمال ورجال الدولة، وبذلك تتشكل المافيا الكبرى المروجة للحرية والمدافعة عنها، تمتلك المال وتمتلك حق التشريع وتمتلك الإعلام والسجون والعقوبات الخفية الأخرى.

حرية الصحافة والملكية الفكرية

يتناول ميزس مسألة حرية الصحافة في حزمة واحدة مفادها: أن تكتب ما تريد، و أن تتذكر دائماً ملكية النص. يهاجم ميزس الإشتراكية في هذا الجانب، ليذهب إلى عدم إمكانية تحرير الصحافة، إن لم تكن المطابع خاصة الملكية. هنا لا بد من الإشارة إلى المسائل التالية:
■من الطبيعي أن يتقاضى الكاتب أجراً مقابل ما يكتب، ولكن ما ليس طبيعياً أن يكتب مقابل أجر. هذه الصيغة هي التي تتكرس بالضبط في مجتمع الرأسمالية، لا يمكن أن تكون صحافياً حراً، لأن المطبعة خاصة، والأجر مرتبط عضوياً بتوجه المالك، والمالك لا يستطيع الخروج عن أمر المافيا الكبرى في الدولة، ولإبقاء “باب الرزق” مفتوحاً، لا بد أن تبقى هذه المطبعة في خدمة النظام القائم الذي تحميه أجهزة الأمن وتحمي كذلك حرية النشاط الإقتصادي حتى وإن قمعت الصحافة!
■في الشق الثاني من معادلة ميزس، يتحدث عن ملكية الكلمات، أو ملكية النص بالكامل “حرية الصحافة لا تعني أن لك الحق بأن تنقل حرفياً ما كتبه غيرك ، إنها تعني أن من حقك أن تكتب شيئاً آخر”. السؤال الكبير هنا، هل كان هناك قانوناً ناظماً للملكية الفكرية عندما كتب هوميروس ملحمة الإلياذة والأوديسا؟ ومع ذلك حفظ التاريخ أنها ملحمة هوميروس الشعرية الرائعة. في الجانب الآخر، عجز السورياليون والدادائيون من طمس إسم المؤلف عن العمل، كانوا يحاولون جمع الكلمات بشكل عشوائي من كيس ، ليقولوا للناس خذوا هذه القصيدة التي لم تكن من تأليف أحد، وإعتبروا أن لا رسام يملك اللوحة الفنية ، فمن صنع ريشة الرسم شريك له في تلك اللوحة. هناك فارق كبير بين أن تحفظ عملاً ومؤلفه وخدمة تراكم الفعل البشري لصالحه وبين قانون الملكية الفكرية التجارية المعمول به لغايات الأرباح. لنأخذ أمثلة على ذلك: من تخدم الملكية الفكرية عندما تمنع طباعة المناهج التعليمية في الجامعات؟ من تخدم الملكية الفكرية عندما يطالب الباحث بدفع المال للحصول على نسخة من ورقة بحث؟ إذن ملكية الأفكار والمنجزات العلمية تحولت إلى ملكية شبيهة لملكية السوبر ماركت، هذا هو بالضبط تسليع العلم والأفكار في إطار أخلاقي إسمه الملكية الفكرية. هدفه لا علاقة له بحفظ الإسم في صفحات التاريخ..

الحرية الإقتصادية كل شيء!

ميزس: “ما هو الإقتصاد الحر؟ ماذا يعني هذا النظام من الحرية الإقتصادية؟، النظام الذي يتم من خلال تعاون الأفراد في التقسيم الإجتماعي للعمل عن طريق السوق، هذا السوق ليس مكاناً وإنما عملية مستمرة، إنه الوسيلة التي تتم للأفراد من خلال البيع والشراء والإنتاج والإستهلاك والمساهمة في مجموع أعمال وفعاليات المجتمع.معنى الحرية الإقتصادية أن يكون الفرد قادراً على إختيار الطريقة التي يود بواسطتها إدماج نفسه في المجتمع، وقادر على إختيار سيرة حياته، وحر في عمل ما يريد أم يعمل”. ولكن هل حقاً في الرأسمالية يكون الإنسان حراً في إختيار سيرته الذاتية، هل حقاً يستطيع عابر الثانوية العامة بنجاح إختيار الفلسفة كسيرة ذاتية، ولا سيما إن كان من عائلة متوسطة الحال؟ هل حقاً، إن كانت الفلسفة في الدرك الأسفل من العرض والطلب في السوق، فإن إختيارها كسيرة ذاتية سهل إلى هذا الحد؟ إن الربح هو العنوان الأساسي للرأسمالية، والعرض والطلب هما المدخل الأساسي للقرار في تحديد السيرة الذاتية، وهنا تسقط بالكامل سحرية الحرية الإقتصادية كحرية أساسية.

وبالتالي، لا معنى للترويج هنا للحرية في إطار الليبرالية الإقتصادية ،فالفرد عملياً لا يملك حرية اختيار العمل الذي يود إنتهاجه، و هو عاجز عن اختيار طريقته الخاصة في تحقيق إندماجه في المجتمع إختياراً حراً، ومعنى الإختيار الحر هو التحرر الكامل من الظروف المحيطة بهذا الإختيار، وإبقاء الرغبة هي العامل الأساسي والوحيد، وهذا ما يمنعه بالكامل نموذج العرض والطلب. وبالمقابل يهاجم ميزس الإشتراكية، ويحاول دائماً تصويرها بالنمط القاسي، الآمر والمأمور، ويعتبر أن هذه الصيغة إنتهت إلى الأبد في عصر الرأسمالية والشركات الخاصة، ويعتبر أن الليدي باسفيلد ،والتي كانت إبنة رجل غني، قصيرة النظر عندما كانت تقول في مذكراتها أن كل شخص كان يعمل مع أبيها عليه أن يطيع أوامره، فهو الزعيم الأوحد، وإعتبر ميزس هذا القول قصير النظر جداً، لأن والدها كان يتلقى أوامره من الزعيم الأعظم في السوق، المستهلك.

يعتبر ميزس أن ليبراليو اليوم يطالبون بعكس ما كانت تطالب به ليبرالية القرن التاسع عشر، فهم يعتنقون الفكرة الرائجة، ألا وهي، حرية الخطاب، حرية الصحافة، حرية الدين، التحرر من السجن دون محاكمة، ويعتبر أن هذه الحريات بمعزل عن الحرية الإقتصادية تصبح سراباً، ففي النظام الخالي من السوق توجه الحكومة كل شيء. ولكن في الحقيقة الحرية الإقتصادية هي المحدد الأساسي الذي يفتح الباب على مصراعيه لمجتمع العصابات والمافيا والجرائم، وهي التي تطارد الصحافة وتبني السجون وتتاجر بالدين وكل شيء لتعبر عن الزعيم الأعظم للسوق، ليس المستهلك، بل الربح.

التخطيط الفردي والتخطيط المركزي

يقول ميزس أن الأفراد قادرين على إدارة شؤونهم أفضل مما يمكن أن تفعل الدولة ذاتها، أليس كذلك؟ ولكن المسألة على العكس تماماً، فوجود الدولة لترعى الأشخاص هو الضمانة الوحيدة لإطلاق إبداعاتهم، كيف؟ التخطيط الفردي للحياة مرهق، ومستنزف، ويستلب الإبداع، كما يجعل لممارسة الإبداع ضريبة، لربما الجوع! التخطيط الفردي سلعي الطابع، فهو دائماً المسؤول عن أي خلل في تزويد الفرد بحاجاته الأساسية من المأكل والمشرب والمأوى. التخطيط المركزي يعني إجراء اللازم لإخراج الناس من كل هذه الهواجس ومن حالة الخوف الدائم من المستقبل “الموت جوعاً، الموت مرضاً، النوم على الرصيف،…..”،

تحدث ميزس عن الشعراء والموسيقيين الذين يطالبوا بدعم الدولة، أنه أمر خاطئ لأن الأسلم هو التخطيط الشخصي، فمن سيتمكن في الدولة من تحديد الإنتاج الفني السيء من الإنتاج الفني الراقي؟، ويأخذ ميزس الرسام الهولندي فان جوخ مثالاً الذي عاش عمره لم يبع سوى لوحة زيتية واحدة إشتراها إبن عمه، ومات وهو على هذا الحال واليوم تباع لوحات جوخ بمائتي ألف دولار. هذا الرسام الذي إنضم إلى مؤسسة غوبيل آند سي العاملة في التجارة الفنية، وبعد توتر العلاقة مع هذه المؤسسة تركها ، وإنتقل إلى العمل كمدرس ثم العمل في الكنيسة ثم ليتابع دراسة الرياضيات ويفشل، مالذي أجبره على ذلك ومنعه من التفرغ لهوسه؟ هل هي الإشتراكية أم الرأسمالية؟ هل هو التخطيط الفردي أم التخطيط المركزي؟ مالذي منع البشرية من الإستمتاع بالمزيد من أعمال جوخ؟ هل هو التخطيط المركزي أم التخطيط الفردي؟ وعندما بدأ بالتعاطف مع عمال المناجم، هاجمته الكنيسة ليجد نفسه هارباً في إحدى القرى فقيراً . تابع دراسته الفنية من خلال الدعم المالي من قبل أخيه وما كان لأعماله أن ترى النور لولا ذلك. يحاول ميزس من خلال فان غوخ إيصال رسالة غير مقنعة للرسامين والشعراء والصحفيين والمسرحيين الذين يعتبرهم الأكثر تعصباً للإشتراكية. يعتبر ميزس أن جوخ لو قدر له أن يعيش في مجتمع إشتراكي، سيتهم بأنه يضيع الزيت أو أن الحكومة سترسله إلى مصنع حليب، متناسياً تماماً أن غوخ عاش في مجتمع غابت عنه الإشتراكية،و مات منتحراً وهو يقول “الحزن يدوم إلى الأبد”.