هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الرابعة: ثورة 17 ديسمبر-14يناير/ جانفي وتعقيدات المرحلة


جبران أديب
2012 / 12 / 25 - 14:29     

هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟
الحلقة الرابعة: ثورة 17 ديسمبر-14يناير/ جانفي وتعقيدات المرحلة
بقلم: جبران أديب

1. معطيات أولية عامة :
غريب أمر اليسار الجذري التونسي؛ يتقدم ليلغي - من خطابه وقاموسه السياسي، وإلى حد بعيد من برنامجه ومن نظريته الثورية - مقولات "الثورة المسلحة"، و"حرب الشعب طويلة الأمد"، و"دكتاتورية البروليتاريا". وليتوافق توافقا عاما - وإن كان غير مصرح به- مع الجو التحرري الذي اجتاح العالم بعد سقوط حائط برلين. وليدفع من أجل تبني الديمقراطية والدفاع عن الحريات السياسية، وأخيرا – بعد اندلاع الثورة الشبابية والشعبية - ليقبل على الحوار والنقاش في المنابر الإعلامية مع اليمين والوسط، مع الإسلاميين والليبراليين دون تحفظ، ولكن ليتردّد طويلا في الوقت نفسه في شأن التحالفات فيما بينه،ناهيك مع الليبرايين و التحرّريين والوسطيين.
إذن لمناقشة مظاهر هذه الاضطراب الموقفي والفكري والسياسي نركز على الظاهرتين الآتيتين:
أولا: إذا كان اليسار لا يتميز شأنه شأن بقية الأطراف الحداثية بوضوح الرؤية الواقعية لخارطة البلاد الحقيقية سياسيا وإيديولوجيا وعقائديا، فإنه يتمتع بنظافة الشخصية الاعتبارية التي لم تتورط في أي موقف مضرٍّ أو انتهازي أو مائع أو جبان مع النظام السابق لا قبل الثورة ولا بعدها، أقصد مع بقايا النظام الذي يتهافت النهضاويون عليه. وكل الأقاويل من قبيل تعاطي بعض الأفراد مع البوليس السياسي هي مغالطات؛ فهم ليسوا إلا بعض الأفراد قد سبق الحديث عنهم أعلاه في الحلقة الثالثة، كانوا مندسين في التيار الكبير لليسار؛والسبب هو عدم تشكل اليسار في حزب موحد بعد، فحتى الجبهة الشعبية الحالية هي أقرب إلى الجبهة الانتخابية منها إلى الجبهة السياسية المكتملة البناء، وهي ليست يسارية صرفة لوجود بعض القوميين والوسطيين فيها، وهي مازالت تشق طريقها نحو التنسيق، ولم تدعُ ولن تدعوَ في المدى المتوسط إلى الاندماج في حزب واحد؛ ومن يفهم أبجديات السياسة يدرك أن الأحزاب نفسها رغم هيكليتها الدقيقة قد تكون مخترقة بالبوليس وغيره. هي - إذن- أكاذيب وأراجيف ينشرها النهضاويون وأحلافهم لغاية التشويه. ونذكّرهم بأن الأفراد المتعاملين مع السلطة كانوا أيضا من جميع فصائل المعارضة بمن فيهم الإسلاميون.
ثم إن نظافة الشخصية الاعتبارية يستمدها اليسار أيضا من سلامة الموقف الاجتماعي في انحيازه للمحرومين والكادحين رغم عدم دقة الطرح السياسي وعدم وضوح البرنامج إلى حد الآن عند أي حركة أو حزب في اليسار.
ثانيا: أعتقد أيضا أن اليسار بدأ يتحسس ضرورة تعديل أطروحاته الفكرية بعد مراجعة عميقة للموقف من الإسلام السياسي بالمقارنة مع الإيمان العام للشعب التونسي . وفي هذا الصدد يمكن ذكر موقف الحزب الوطني الديمقراطي الموحد وحزب العمال وبعض الحركات الأخرى الذين يرون في النهضة قوة رجعية لم تغادر مواقعها الدوغمائية التقليدية وتعبيرها عن مصالح فئات غير شعبية، خطابها المزدوج يفضحها لأن مواقفها العملية تكشف عن حقيقتها.
و يستمد اليسار قوته الجديدة أو بالأحرى المتجددة والجدية بعد الثورة - كذلك - من مراجعة الموقف الإيديولوجي من نظام الحكم عامة والمسألة التنظيمية الحزبية. ومن الواضح أن فصائله أجرت مراجعة فعالة للموقف من الانتخابات والمنافسة الديمقراطية والحريات السياسية التي كانت تُرى مظاهر بورجوازية وغير ذلك من المسائل الأساسية في الفعل السياسي.
لقد شارك معظم اليسار في كل المبادرات اليسارية والتقدمية، وكانت آخرها المؤتمر الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل ونظمه في 18 نوفمبر 2012. ويبدو أن هذه المبادرة قد انقلبت من مبادرة توافق وطني إلى غموض سياسي يجب على الجميع البحث عن حلول لتجاوزه ...
واليسار- مع ذلك- ينسّق مع أطراف يراها نزيهة ضمن القوميين والاشتراكيين والوسطيين، ويتجنَّب أطرافا مشبوهة وأخرى يراها لا تتوافق مع برنامجه، وهذا حقه الطبيعي .
2. في أخطاء التقدميين في مرحلة الثورة وما بعدها:
الحلقة الثالثة السابقة بمحاورها بفقراتها تغني بعض الإغناء في شرح أسباب الكامنة وراء أخطاء التقدميين؛ لذلك لن نتوسع في ذكر هذه أخطاء. هذا، وقد سبق أن تعرض لها بعض الدارسين والكتّاب؛ ولئن ذكرها أكثرهم بشكل عرضي لعدم الرغبة في الخوض في الشأن اليساري علنا أو لأسباب أخرى شخصية، فإن قلة منهم تميزوا بالجرأة والعمق والجدية في التناول: فمن أهم ما قرأتُه في هذا الصدد هو ما كتبه الباحث مصطفى القلعي في مقال منشور في الحوار المتمدن عنوانه " نقد الجبهة الشعبيّة- اليساريّة التونسيّة الجديدة " وكذلك الباحث بيرم ناجي في مقال منشور في موقع الحوار المتمدن عنوانه "أخطاء الديمقراطيين القاتلة في الثورة التونسية: تقييم يساري ديمقراطي"، وكذلك الباحث العربي بن ثائر في مقال منشور في موقع الأوان أون لاين تحت عنوان "الإسلام السياسي ومفارقات الفلسفة الذرائعية للمشروع المجتمعي: تونس أنموذجا بل سنكتفي بملاحظات أولية حول أسبابها:
لقد ذكر بن ثائر انّ الليبراليين واليساريين والتقدميين عموما الذين دخلوا اللعبة الديموقراطية منذ دخول أغلبهم الهيئة العليا لأهداف الثورة – بمن فيهم من لم يدخلها أيضا- من الواضح أنهم كانوا قد قرروا أن النهضة قوة وطنية، وربما يعود ذلك – فيما يعود - إلى أصداء حركة 18 أكتوبر 2005 التي شارك فيها أغلبهم أيضا، والتفاهمات التي رافقتها، والاحتجاجات المشتركة التي نظمتها، والأدبيات المنبثقة عنها والتوجهات "التوحيدية" بين أغلب تيارات المعارضة التي أثمرتها.
كما قرروا كذلك أنهم سيعملون معها في إطار الديمقراطية رغم اختلافهم في تقييم فكر النهضة دينيا كان أو مدنيا، وكذلك في خصوص تباينها حول طرحها السياسي والاجتماعي والثقافي، ومدى قبولها بالديموقراطية والتزامها بها؛ إذ تمسّك قسم من اليسار الجذري برؤيته السابقة لها عامة واعتبار أنها مازالت حركة "فاشية" وانها تحمل معيقات نظرية وعقائدية بنيوية تحول دونها ودون المدنية. أما لماذا حصل ذلك القرار، فالإجابة عن هذا السؤال تستدعي بعض التفاصيل التي تحتاج إلى مقال خاص وإن كان بعضها ستتم الإشارة إليه في غضون هذا المقال.
ولئن أخطأ هؤلاء المنافسون للنهضة الحساب، المتحزبون منهم والمستقلون، وارتكبوا أخطاء انتخابية كبيرة جدا تخص تصوراتهم وخططهم وفعالياتهم وأنشطتهم…إلخ، وليس هذا مجال تحليلها على كل حال، فإنهم بعد انتخابات 23 أكتوبر لم يختلفوا عميقا في تقييم التجربة؛ فقد ظهرت للجميع أخطاء شكلية وأخرى بنيوية. وجمجم بعضهم أيضا بما يمكن تسميته بخطيئة واقعة التزييف أو ملامح الانقلاب على النتائج من طرف النهضة، ومعظمها ارتكبتها النهضة منذ ما قبل الحملة الانتخابية وفي أثنائها (ماعدا الانقلاب عليها لأنها لم تكن في حاجة إلى ذلك بعد اعتراف منافسيها بها "طوعا" أو "كرها" من الناحية الانتخابية طبعا). فمن الواضح، ولكن غير المصرح به، أنهم اعتبروها أخطاء كبيرة ولا تغتفر في الظروف العادية، أي ظروف استقرار الديمقراطية، ولكن يبدو أنهم "قبلوها" عن مضض بسبب الظروف الانتقالية التي تعيشها "التجربة الديموقراطية"! وربما لأن بعضهم وقع في ما يشبهها من أخطاء وإن لم تكن في درجتها وحدتها، أو لأن البعض الآخر فوّت على نفسه فرصة توثيقها…إلخ.
ولئن قيّموا جميعهم الموقف بأن النهضة ارتكبت خطيئة حين ذهبت بعيدا في اعتباراتها الموغلة في الوسواس أن "الكل" يتآمر ضدها (لذلك كانت تعمل في سرية تامة على الفوز في الانتخابات بأي ثمن ومهما كانت الوسيلة بما في ذلك استعدادها للانقلاب على نتائجها إذا لم تناسبها؛ وهذا ما ظهر من ندوة صحفية متشجنة قبيل الانتخابات حين قال زعيمها أنهم سيلتحقون "بحراس الثورة" في صورة عدم مصداقية النتائج وشفافيتها! ) لئن كان ذلك، فإنني أظن أن عدم خوضهم فيها يعود أيضا - ويا للمفارقة - إلى أمر هو في غاية الغرابة بالنسبة للمنطق العادي، ولكن له معقولية ما بالنسبة للمنطق السياسي: لقد خشي المجتمع المدني والسياسي الوسطي واليساري في تونس من تكرار سيناريو التجربة الجزائرية ! ولعلّ جزءا من خوفهم القائم على العامل الداخلي على الأقل كان مبنيا على هشاشة السلطة والاضطراب في المؤسسة الأمنية وعدم تأكدهم من قوة الجيش وتماسكه وصلابته، في المقابل سطوة الإسلاميين في تلك المرحلة واستنادهم إلى قوى إقليمية ودولية تدعمها ماديا وسياسيا في كل الحالات، في حالة السلم أو ربما أيضا في حالة العنف. ولعلهم رأوهم على استعداد كبير وبالغ الحماس وفاقد لضبط النفس إلى حدود عالية لتكرار ذلك السيناريو؛ إذ برزت علاماته في تشنجهم ذاك، وفي شحنهم " المقدس" لأنصارهم وتأطيرهم العسكريتاري لهم في جمعة التنديد بفيلم بيرسيبوليس خاصة.
وأخيرا، يمكن القول إنّ أكثر اليسار يين الجذريين –موضوع دراسة الحالة - لم يستعيدوا شيئا من توازنهم إلا مع ظهور الجبهة الشعبية؛ فهل ستشكل الجبهة تحولا نوعيا في مسار اليسار؟ أم هل ستكون مجرد تجميع لقوى ضعيفة خاسرة؟
3. أهمية تعميق الفكر اليساري:
إن الأمل الذي رافق اندلاع الثورة رافقه في الوقت نفسه توجس بسبب غياب قيادة للثورة، ولكن غاب عن نخبتنا التقليدية الفكر - رغم إدعائها الحداثة - أن استنقاص الثورة بغياب قيادة لها لا ينم إلا عن فكر يعجز عن استيعاب المفهوم العميق للثورة؛ وهذا ما جعل النخبة تقع في عديد من الأخطاء القاتلة رغم المنجزات المهمة التي أسهمت فيها منذ الثورة إلى الانتخابات التي كانت أبرز دليل على فشلها الذريع في الإنصات إلى نبض الثورة وفهم مساراتها. وصحيح أن أغلب أفراد النخبة يصرحون بتصريحات من قبيل أن المهمة المطروحة على الثورة هي أن تجبّ ما قبلها لا أن تستعيده، وهي حين تجبُّه تضع آليات لاستيعاب العناصر الإيجابية فيه، ولكنهم قَلَّ أن أدركوا أن هذا هو دور "المثقف العضوي" الذي لا أرى سماته واضحة جلية في نخبتنا، ذلك أن المثقف المؤهل لأن يكون "عضويا" في تونس مازال لا يجسد شخصية المثقف العضوي الذي يسعى إليه إلا طفيفا .
صحيح أنه قد حصلت بعض التطورات الإيجابية على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي؛ منها على سبيل المثال لا الحصر تجاوز مقولة دكتاتورية البروليتاريا لدى أغلب اليسار الراديكالي. وعلى الصعيد العملي رأينا بعض الأحزاب يصعدون القرارات من مجالس الرابطات فهي لم تعد مركزية، وهذا في حد ذاته إنجاز طيب وتجاوز لما كان معهودا. ولكن متى حصل هذا؟ إنه بعد الثورة لا قبلها وهذا من العوامل التي جعلت الثورة غير مؤطرة.
أما عن قراءات طبيعة المجتمع والدراسات الاقتصادية والفلسفية الجديدة فهي لا تعدو أن تكون اجتهادات أفراد معزولين، و لم تصبح –لا قبل الثورة ولا بعدها - تقليدا مؤسساتيا؛ فمعظم القواعد فكرهم يساري اتباعي - تقليدي، وهذه معضلة رغم أن التجديد السياسي والدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الفكر اليساري بل التنظيرات الفكرية والفلسفية باتت قديمة بعض الشيء منذ التجارب الفكرية مع الأحزاب اليسارية الأوروبية والأمريكية اللاتينية ومع المدارس الفلسفية مثل مدرسة فرنكفورت مرورا بألتوسير وغرامشي، وريجيس دوبريه، وميشال فوكو، وجيل دولوز، وبيار بورديو وإدغار ومران وآلان تورين... إلخ.
كما يلاحظ أيضا أن المثقفين اليساريين في تونس غير سياسيين فهم لا يكتبون في مسائل التنظيم والثقافة الحزبية، وفي المقابل هناك كتابات يسارية فلسفية ودراسات اقتصادية واجتماعية كثيرة لا نرى الأحزاب تستفيد منها. وصحيح أنه على المثقفين المستقلين أن يقتربوا من الأحزاب، لكن أيضا على الأحزاب أن تعمل على جسر الهوة الموجودة بينها وبين الباحثين اليساريين وتخلق فرصا حقيقية ودائمة للنقاش والحوار والتفاعل، بل يجب إيجاد لجان و هياكل ومجالس وفضاءات ومؤسسات وغير ذلك من الروابط التي تخلق جسرا بين المثقف المستقل وبين الأحزاب. وهذا يحتاج إلى مرونة وخيال وإبداع، واطلاع واسع وعميق على التجارب الناجحة في هذا المجال.
من الواضح إذن أن ما حصل في تونس هو تأخر الكتلة التاريخية عن التشكل لأسباب ذاتية ونظرية في أغلب الأحيان، غير أن الشعب - بمخزون شخصيته النضالية الضارب في القدم - وإن لم يُظهر تحفزه للتغيير؛ بسبب طبيعة الثورة نفسها وآلياتها الداخلية التلقائية بما هي عمل إنساني إبداعي متفجِّر لا فقط بسبب غياب القيادات إذا استثنينا المجال النقابي ، ثار ثورته عندما نضجت الظروف؛ فكانت مفاجئة للحكم والنخبة في آن معا... لقد كان على النخبة الثورية في اليسار التونسي ولا سيما الماركسي أن تستجلي علامات ذلك التحفز الشعبي، وأنى لها ذلك! إذ لم تسع سعيا حقيقيا للاطلاع على الأطروحات المستجدة ما بعد لينين واللينيين، ومناقشة القراءات الفلسفية الجديدة منذ مدرسة فرنكفورت بألمانيا وغرامشي في إيطاليا مرورا بأجيال من اليسار الفرنسي والألماني والأوروبي عامة بل وحتى الأمريكي والأمريكي اللاتيني.