عظمة الرأسمالية: حول“القدرة المدهشة-


عذري مازغ
2012 / 12 / 23 - 19:46     

في عز الأزمة الإقتصادية التي تعصف بالكثير من البلدان الرأسمالية، نشطت حركة فكرية رائعة هذه الأيام يمكن تجميل خطابها بشكل عام في قدرة الرأسمالية أن تتكيف مع كل جديد، الرأسمالية عادة تجدد نفسها، وكأن في الأمر جديد، في الأدبيات الماركسية مثلا، الرأسمالية تعيد إنتاج علاقات الإنتاج السابقة بما يديم سيطرتها، وطبعا يختلف هذا المفهوم في ارتباطه بالسيطرة عن مفوم مستحب جدا: "الرأسمالية تجدد نفسها بنفسها"، وهو تحديد يؤسس لمنطق التكيف، معروف جدا للجميع، في حقل الطبيعيات، أن الحشرات أيضا تجدد نفسها، وهذه هي الإشكالية، ليس فقط الرأسمالية من يجدد نفسها بنفسها: الطبقة العاملة أيضا تتكيف مع المستجدات، بعبارة أخرى هي أيضا تجدد نفسها، بمنطق الإستحباب ايضا، تجدد نفسها بنفسها، تماما كما هي الرأسمالية، تتكيف مع المعطيات، وهذا ايضا يعرفه كل الرأسماليين، ومع ذلك تبقى علاقات التناقض قائمة، بعبارة أخرى تبقى هذه العلاقة من التناقض قائمة في التجدد ذاته، بمعنى في تجدد أطراف التناقض، من هنا يحق لنا أن نسأل: لماذا بالتحديد الرأسمالية تجدد نفسها وكأنها استثناء؟ والجواب بسيط للغاية، لأنها ببساطة تتمثل بفكر السيطرة نفسها، فكر يديمها أبدية، فكر أحادي الجانب ينظر إلى الأمور من موقع احتوائها، فكر يمارس الصراع من حيث يقوي موقعه في السيطرة. بخلاصة شديدة هو فكر يمارس أثره الإيديولوجي ليطمئننا بشلة من القضايا التي تؤرقه وهو بالتالي فكر ينتصر لذاته وهذا بالتحديد ما تثبته كل الكتابات الرأسمالية او اللبرالية.
يعتبر جيمس فولتشر «…. أن الأزمات الإقتصادية هي من الملامح المتكررة في الإقتصاد الرأسمالي»
يؤكد أيضا في قول سابق: «...غير أن تاريخ الرأسمالية ـ على اية حال ـ مملوء بالأزمات وفترات إطراد النمو الإقتصادي هي الإستثناء....»
نستخلص من هذا أن القاعدة العامة في الرأسمالية هي الأزمات بينما النمو هو الإستثناء ، وطبيعي جدا أن تكون عظمة الرأسمالية في أزماتها، يمكن استنتاجا من هذا، قياس عظمتها على سلم عظمة أزماتها، يمكن التسليم بهذا دون أي انزعاج، يمكن للمرأ أن يتكيف مع هذا المعطى بدون أن يثير هواجس مقلقة، ويمكن أيضا أن يتكيف مع عظمة أخرى موازية لعظمة الأزمات الإقتصادية هي عظمة الحلول، يمكن ببساطة أن يعيش المرأ القاعدة الأزمية ليخلص إلى الإستثناء الرأسمالي الذي هو شيء من النمو، هو"فترات إطراد"، وهكذا فإن الدول التي عصفت بها الأزمة الإقتصادية تعرف الآن عظمة الحلول: تعيش قداسا هو الأعظم في التاريخ، تضحية عظيمة مست كل جوانب الحياة، الشغل، الصحة التربية، السكن، المعاش، وهي أمور يجب أخذها في الإعتبار حين يعيش المرأ نوعا من الإستثناء، يجب أن يتكيف المرأ مع القاعدة ويترك الإستثناء، وعادة حياتنا مليئة بالإستثناءات التي لها مواعيد كمواعيد الأعياد، يجب التضحية أثناء الأزمات لنعيد من جديد بناء الإستثناء بشكل ما، نعيد للنظام عافيته ليثمرنا في موسم الإستثناء، ليمنحنا حقوقا كانت قد تحققت سابقا، لكنها هذه المرة تبقى بكل صدق حقوقا جديدة، حقوقا "مدهشة" بتعبير جيمس، حقوقا مكيفة أيضا للمستجدات، حقوقا تجدد نفسها بنفسها. لكن هذا لا يقوله سيدنا جيمس فولتشر، بل يتحدث عن "قدرة مدهشة على استعادة النمو بعد انتهاء الأزمة"، والحقيقة أن جيمس مدهش هو الآخر لوحملنا هذا القول حنجرة راخوي رئيس الحكومة الإسبانية، سيصبح نعاقا يملأ كل افاق الإعلام الرسمي عرش الرأسمالية، ستبدو "القدرة المدهشة للرأسمالية" لدى جيمس، في نعاق راخوي، هي وفقط إعادة الدينامية للنظام المهتز على حساب التضحية العظيمة لجماهير الشعب الإسباني، وهي عند راخوي الطريق الوحيد إلى عيد الأمة أو استثناء جيمس فولتشر. كثير من التقشف ونكران الذات لإنقاذ النظام، يستطيع بتغليفة ساخرة ممجدة في الخطاب الأوربي إنقاذ منطقة اليورو أيضا، يمكن بأثر إيديولوجية الرأسمالية أن يعيد المرأ نفس الخطاب، أن ينتج نفس "القدرة المدهشة للرأسمالية" لو تعمد طريق راخوي المنقذ، "الطريق الوحيد"، طريق الترويكا الأوربية، يستطيع من اقتطاعات الجماهير على اختلاف مواقعها القطاعية، أن يعيد الدينامية للأبناك المفلسة، أن يصفي الديون الوطنية التي في جزء كبير منها (أكثر من 70 في المائة هي ديون خاصة) يستطيع بذلك أن يعيد للأعياد بهجتها ويكون بذلك امرءا مدهشا هو الآخر. أليست القدرة المدهشة في كل الأزمات هي هذه القدرة المدهشة في قدرة الجماهير المدهشة على التحمل؟ أليس لولا هذه القوة الإيديولوجية المؤثرة لانهار النظام الرأسمالي على عواهنه؟ ومع ذلك يمكن بجلاء واضح أن نقر لهذه القوة الإيديولوجية الرأسمالية بأثرها المدهش في مسار الأزمات السابقة من تاريخ الرأسمالية، لكن من المدهش أيضا تغييب أثر الوعي الموازي، كحركة تضاد لهذا الأثر الإيديولوجي، في خلق ممانعة قوية يمكن استخلاصها من حركة الرفض الجماهيري لمسار الطريق الوحيد، طريق التقشف، طريق إنقاذ النظام الرأسمالي، طريق الإقتطاعات الإجتماعية التي مست مختلف مجالات الحياة اليومية للمواطنين، طريق ضرب مجمل المكاسب الإجتماعية والحقوقية التي تحققت بفضل قرن او قرنين من من النضال العمالي والحقوقي والجمعوي الذي مس كل مجالات الحياة، وبعبارة مجملة، حركة الرفض للطريق المدهش للرأسمالية. هل يمكن للرأسمالية أن تنقذ نفسها وليس تجدده بدون اللجوء إلى ممارسة عنفها السياسي؟ يمكن بهذا الصدد الإشراة ردا على بعض كهان الرأسمالية المولعون بالمجد الاوربي، التأكيد استنادا إلى الخطاب الرسمي الأوربي نفسه، استنادا إلى خطاب الرأسماليين أنفسهم الذين يتمتعون ببعض النخوة الواقعية، خطاب بلغة إنسانية تبعث على الشفقة، أنهم يتكلمون عن عملية إنقاذ وليس عملية تجديد والفرق طبعا شاسع بين المصطلحين.
لم يعد هناك من الضرورة نبش ذاكرة ماركس، بل هناك من المعطيات العينية ما يفتح شهية عارمة للطروحات، هناك من المعطيات ما يفتح شهية السؤال على مسراعيه، بدءا من جهود الإنقاذ والخروج من الازمة الإقتصادية، بدءا برزمة الإصلاحات التي مست المجال الحقوقي والسياسي لضمان وتعبيد الطريق لتحقيق مسار "القدرة المدهشة"، هناك من المعطيات مايثير الدهشة نفسها في "القدرة المدهشة للرأسمالية"، فهل مقترحات الترويكا والأبناك الدولية هي ما يخرج الراسمالية ذاتيا من أزمتها؟، هل مثلا الحكومات المنتخبة في الدول المهزوزة اقتصاديا تقترح حلولا غير حلول الترويكا الأوربية أو الأبناك الدولية؟، بعبارة أخرى هل تقترح حلولا رأسمالية ذاتية تعبر عما يسميه جيمس وكثير غربان الرأسمالية ب"المدهش"أم أنها بما هي في موقع السيطرة تمارس عنفها السياسي لإخضاع الجماهير على دفع ثمن تناقضها الأزمي المزمن؟ وبعبارة بسيطة جدا، هل تستطيع الدول الرأسمالية المهزوزة ازميا أن تقترح طريقا آخر غير سرقة شعوبها؟، فإذا كان هذا هو الحل المدهش للرأسمالية فالحشرات الطبيعية ادهش منها بكثير حين تطور مناعتها الذاتية تجاه المبيذات القاتلة، بعبارة أوضح جدا، وهذا يقربنا إلى مفهوم تستغفله الكثير من الكتابات العقيمة، أليس المستهلك، العامل، المستخدم، هو من يدفع في المطاف الأخير ثمن ما يسميه جيمس القاعدة في النظام الرأسمالي؟، وماذا تعني القاعدة هذه التي ليست استثناء سوى هذه الطبيعة المبهجة للرأسمالية، الإحتكار، السمسرة، القمار، المضاربات، الغزوات، القرصنة، تعني كل طريق يؤدي إلى البذخ الفاحش وهو الطريق المدهش أيضا في سرد جيمس فولتشر نفسه لنماذجه الرأسمالية الثلاثة (1).
سأنطلق هنا من قاعدة عامة في الفهم الرأسمالي تعتبر أن "الرأسمالية هي استثمار المال لجني أرباح" وهي ايضا خلاصة جيمس المدهشة، بالمقابل أيضا، استثمار المال، وفي جانب من هذه العملية الإستثمارية، يعني عمليا حركة في الإنتاج، وطبعا يمكننا أن ندخل كل التفاصيل الأخرى، تفترض عملية الإنتاج وجود رأسمال، تشغيل قوة عمل، أدوات وما إلى ذلك، وهذا كله يشكل جزء في النظام العام (الإستثمار لأجل الربح)، وهو جزء يمثل القاعدة المادية للإقتصاد الحقيقي، في الجانب الآخر، يمكن أيضا عن طريق المضاربة والرهان والمقامرة عن طريق التلاعب بالسندات والأصول المالية، جلب فائدة خارقة من الأرباح، كما يمكن أيضا مزج الإثنين (الإستثمار في الإنتاج والإستثمار في البرصة)لخلق طريق ثالث للربح.
يفترض الربح وجود مستهلك كسقف أخير وطبعا يمكن الحديث عن هوية المستهلك، يمكن أيضا استخلاصا أنه هو أي مواطن قادر على اقتناء ضرورات الحياة وهو عادة اي مواطن، لص، عامل، تاجر، متسول، برجوازي، قمار، بائع متجول وما إلى ذلك، معنى هذا أن الناس بمختلف مواقعم الإجتماعية يشتركون في خاصية اجتماعية هي عملية الإستهلاك بغض النظر عن درجة قيمها الإستهلاكية. في أوربا مثلا تتحقق مواطنة الأفراد بالإستناد إلى حقيقة جلية يمثلونها، فهم مستهلكون في المطاف الأخير، ومعنى هذا، وبهذه الخاصية الشريفة، ومن حيث أن السلع والخدمات تتضمن قيما خاصة مضافة إلى قيمها في أعمال الإنتاج، تتضمن ضرائب متنوعة، قيم الإشهار، قيم التنقل والمواصلات، قيم التكافل الإجتماعي وما إلى ذلك فإن المستهلكون هم المعنيون الأساسيون بدفع كل هذه القيم المتنوعة، لهذا يتأسس مفهوم المواطنة على هذا الأساس، وهم ايضا متساوون بشكل عادل في دفع هذه القيم (يجب هنا قلب تلك المعادلة التقليدية، للفرد حسب قوته العملية لتصبح للفرد حسب قوته الإقتنائية)، وعلى أساسها أيضا يقوم أو يتبلور الوعي بتحقيق المساوات، إن البرجوازي والرأسمالي هما الآخران يدفعون هذه القيم كمستهلكين وليس كمستثمرين، فهم إذا دفعوها كقيم ضريبية في اعمال الإنتاج، فهم يضمنوها في منتجاتهم ليدفعها المستهلك في المطاف الأخير، اما إذا كانوا يتملصون في دفعها كما هي اغلب الشركات فإنهم ببساطة يسرقون المستهلكون من حيث يدفعون قيما متضمنة في السلع غير مدفوعة أصلا، وهذه هي الحقيقة التي فجرت الشارع الأوربي في الدول المأزومة اقتصاديا، يمكن استنادا إلى الأرقام الرسمية في إسبانيا مثلا أن أكثر من 70 في المائة من الدين العام الإسباني هي ديون خاصة، هي نتيجة للتملص الضريبي، المضاربة العقارية، المشاريع الوهمية، الغش، تهريب الأموال، تبييضها وما إلى ذلك.كل هذه الأعمال الجليلة هي في الحقيقة جزء مما يشكل القدرة المدهشة للرأسمالية، لكنها قدرة مدهشة فقط حين يصير أكثر من 70 في المائة من الديون الخاصة دينا عاما، ثم تاتي الحلول المدهشة أيضا متضمنة أولويات مدهشة هي الأخرى: البحث عن صيغ كفيلة بإعادة الإستقرار، وهنا تأتي الإصلاحات متموجة في حركة مد أتت على كل المكتسبات السابقة التي تراكمت طيلة قرنين من الزمن.
يتبع
(1) أقصد كتاب "مقدمة قصيرة عن الرأسمالية" لجيمس فولتشر