في فهم الماركسية المعاصرة وواقع العالم الثالث


غازي الصوراني
2012 / 12 / 19 - 23:10     

ان الرأسمالية التي تحدث عنها ماركس قبل 150 عاماً، والتي قدم بخصوصها تحليلاً لأكثر بلدانها تطوراً آنذاك – بريطانيا وفرنسا وألمانيا – ليست هي رأسمالية اليوم التي تشمل العالم بأسره والتي طرأت عليها تغيرات نوعية، فلم تعد هي ذاتها حتى مقارنة بما كانت عليه في بداية القرن العشرين.
إذ أن الرأسمالية المعاصرة وعبر سنوات طويلة شهدت تحولات نوعية نتيجة اندماج الاحتكارات بالدولة، وإنتاج رأسمالية الدولة الاحتكارية التي جمعت جبروت العلم فيها لتطوير مجالات الإنتاج وإدارته وعززت من دور الدولة البرجوازية وتدخلها في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، وطورت دور البرمجة والتخطيط في الإنتاج والحياة الاجتماعية، وقد شهدت الرأسمالية في العقود الأخيرة عملية واسعة للعولمة والتدويل، شملت تدويل رأس المال وعولمة الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والسوق والمعلومات والاتصالات و العمل عبر ركائزها الثلاث : منظمة التجارة الدولية والبنك والصندوق الدوليين والشركات المتعددة الجنسية ، الى جانب التطور الهائل للثورة العلمية- التقنية التي بادرت لها الرأسمالية المعولمة وقطعت أشواطاً واسعة استطاعت أن تجدد نفسها وتتكيف مع التطورات العالمية الكاشفة عن امتلاكها لاحتياطات كبيرة للإسهام في التقدم الاجتماعي والتغلب على أزماتها العميقة والمتلاحقة.
وإذ نأخذ التغييرات النوعية بعين الاعتبار فإنه لابد من إعادة النظر في استنتاجات ماركس ومن بعده لينين عن قرب احتضار الرأسمالية وقرب اندلاع الثورة الاشتراكية فيها. أن هناك ضرورة لمراجعة النظرية عن الامبريالية كأعلى وآخر طور للرأسمالية وعشية الثورة الاشتراكية والتدقيق فيما قيل عن تعفنها، رغم أن مظاهر التعفن ما تزال قائمة في الرأسمالية لكنها ليست المظهر الرئيسي في الوقت الراهن.

لا شك أن تقدم الرأسمالية المعاصرة، في إطار العولمة الراهنة، يجد أحد أسبابه في نهب العالم الثالث، وربط دوله بعجلة الاقتصاد الرأسمالي عبر آليات متجددة لتبعية وإعادة الإنتاج التابع في بلدان العالم الثالث، وقد عمق النهب الإمبريالي للعالم الثالث من الهوة بين المركز الامبريالي وبلدان الأطراف، الأمر الذي ولد تناقضاً حاداً أصبح يؤثر على مسار البشرية بأسرها. ونتيجة هذا الأمر ولأسباب عديدة أخرى استمرت قضايا التخلف والتبعية والفقر مستفحلة في العالم الثالث، وأضيفت إليها معضلات جديدة كالتصحر وتلوث البيئة، واستنزاف الموارد والمديونية وغيرها، وقد ناءت شعوب العالم الثالث تحت وطأة وثقل توحش العولمة إلى جانب الدكتاتوريات الحاكمة في تلك البلدان، حيث لم تفلح كافة محاولات التنمية فيها، فاستمر تشوه اقتصادها وتخلف قواها المنتجة، وباتت معضلة الديمقراطية –وما تزال- في هذا الجزء من العالم مسألة تفصيلية على درجة كبيرة من الأهمية.
إن التناقض بين العالم الثالث والمراكز الامبريالية مرشح اليوم لمزيد من التفاقم وتعمق الفجوات بين بلدان الأطراف وتلك المراكز، بما سيؤثر تأثيراً كبيراً على مصائر العالم والتقدم الاجتماعي.
وبالتالي فإن الحديث عن تجديد الماركسية يجب أن يعني استيعابها لواقع العالم الثالث وخصوصيته والتطورات التي شهدها ارتباطاً بالمتغيرات العالمية الراهنة، وعلى ماركسيي العالم الثالث، الاستفادة من خبرة التجربة التاريخية السابقة للعمل على إنتاج الماركسية وتطبيقها وفق خصوصية الواقع في هذا البلد أو ذاك، وذلك عبر الكشف المتصل عن القوى ذات المصلحة في التحرر والتقدم الاجتماعي والتنمية المستقلة المعتمدة على الذات، وعليهم ايضا النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية بأبعادها السياسية الاجتماعية والاقتصادية، ومراكمة كل اشكال الوعي الثوري المنظم ( الحزب) عبر الممارسة اليومية المتصلة مع الجماهير الشعبية من العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين لمراكمة عوامل التغيير الثوري والتحولات النوعية الثورية الكفيلة بتحطيم بنية انظمة التبعية والاستبداد والتخلف والاستغلال الطبقي وتأسيس النظام الديمقراطي الشعبي بافاقه الاشتراكية .
في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، علينا تبني الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، خاضعة للتطور والاغتناء ارتباطاً بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلداننا العربية وكافة بلدان العالم الثالث.
فَـ لكي نكون ماركسيين فعلا ، علينا أن نقوم بزيارة التاريخ لا أن نُزَوِّره ، أن نَزُورَه عبر تحليل وفهم التطور التاريخي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لتطور مجتمعاتنا العربية منذ آلاف السنين وفق قوانين الماركسية ومقولاتها العلمية الموضوعية، ووفق مضمونها الطبقي الثوري الذي يرفع رايات الكادحين ضد رايات الرأسمالية وأدواتها المُستَغِلّه التي تنزف دماً من كلّ مساماتها ....أن نكون ماركسيين معناه ان نقوم بتوفير كل شروط ومقومات وأسس الحزب الثوري الذي يتقدم الجماهير معبرا عن همومها وتطلعاتها في انهاء كل مظاهر الاستغلال والافقار والقهر والاستبداد...حزبا ثوريا خاليا من كل عناصر الهابطين والانتهازيين والفاسدين والمرتدين ومن كل مظاهر وشخوص الشللية والتكتلات وتطهير الحزب او الفصيل منهم أولا بأول ليبقى ثوريا نقيا مناضلا في كل الاوقات والظروف.
أن نكون ماركسيين اليوم، معناه ان نراكم كل عوامل الثورة الشعبية لازالة وسحق انظمة التخلف والرجعية والاستبداد والتبعية واجتثاثها من بلادنا واقامة المجتمع الاشتراكي الديمقراطي ...أن نكون ماركسيين معناه أن نقاوم هذه الحركة الصهيونية، وليدة النظام الرأسمالي وربيبته، وان نناضل من اجل ازالة الصهيونية واجتثاث الوجود الامبريالي من بلادنا، وأن نقاوم نظام العولمة البشع ، لا أن نستهلك بضاعته الفكرية الرخيصة من الواقعية الى الليبرالية الى المهادنة.... أن نكون ماركسيين ، يعني أن نكون حاضنة دافئة للجماهير الشعبية العفوية، نحترم كل تراثها ومعتقداتها ونتعلم منها ، فأن تكون ماركسياً، يعني أن تنظر إلى الدين على أنه وعي اجتماعي وجزء هام ورئيسي من الوعي الإنساني، استطاع أن يلعب دوراً في تحرير الإنسان من الاستغلال عندما أحسن التعاطي مع أفكاره وجوهره عموما وفي بداياته الاولى خصوصا .
وأخيراً أن تكون ماركسياً، هو أن يتكامل وعيك ، فتنهل من النظرية وتدرك منهجها ادراكا ذاتيا ، وتؤسس لك أرضية صلبة تنطلق منها للعمل النضالي والديمقراطي، الوطني والقومي والإنساني، لا أن تأخذ السياسة على حساب الفلسفة، فالجزء يكمل الكل، ولا تنفصل النظرية الماركسية ومنهجها بالنسبة لنا وفي كل الظروف عن العمل السياسي، فإذا ضاع الجزء، ضاع الكل ، وضاعت معه هوية الحزب الفكرية .
أن تكون ماركسياً هو أن تعمل على أن يكون وطننا العربي كله، وطن لأبناءه ، وطناً مستقلاً حراً موحداً تسوده الاشتراكية والحرية والديمقراطية والمساواة ، يبنيه ويحميه أبناءه من العمال والفلاحين الفقراء والكادحين بإرادتهم الجماعية الحرة، وبقيادة الحزب الماركسي الطليعي الجماهيري الثوري والديمقراطي.