اليسار وأولوية خوض المعارك الفكرية من أجل الديمقراطية و العلمانية والثورة الشعبية


غازي الصوراني
2012 / 12 / 6 - 07:46     

(1)
العلمانية بالنسبة لنا تعني على الصعيد النضال الديمقراطي الثوري والمعرفي، تحرير العقل من المسبقات، والمطلقات، وتحرير الفكر من كل الأوهام والخرافات وكل مظاهر ورواسب التخلف، وتحرير الإنسان من العبودية والاستبداد والاستغلال، العلمانية ليست ضد الدين، لكنها ضد الوثنية الدينية وضد سلطة رجال الدين وتدخلهم في حياة الانسان، إنها عملية تاريخية او صيرورة تقدم في التاريخ والمعرفة، فالعلمانية لغوياً مشتقة من العالم الدنيوي أو عالم البشر الذي يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وهي بذلك تقيم سلطة العقل والمنطق، وتعلن نسبية الحقيقة وتاريخيتها وتغيرها، وذلك هو جوهر الحداثة التي لا ننكر أنها منظومة معقدة ومتشعبة، لابد من وعي جوهر حركتها اللانهائية.

(2)
بالرغم من نضالنا من أجل تكريس الحريات الفردية والحريات العامة والديمقراطية السياسية ، إلى جانب إيماننا العميق بأولوية العلمانية في سياق التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مجتمعاتنا العربية، إلا أننا نرفض الوقوف عند حدود الديمقراطية السياسية ، بمثل ما نرفض استخدام العلمانية بدون الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي معاً، فالعلمانية والديمقراطية، بالنسبة لكافة قوى اليسار، هما مفهومان مترابطان لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر، لان استخدام العلمانية وحدها يفتح الأبواب مشرعة أمام الاستبداد والتفرد بالحكم، وبالتالي فإن التطبيق الإكراهي للعلمانية ، لا يعدو كونه مظهراً بشعاً من مظاهر الاستبداد الدكتاتوري الفردي والشمولي ، من هنا يمكن تفسير فشل الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد ، وتفسير كراهية وحقد وتمرد جماهير شعوبنا على أنظمة الاستبداد وعبادة الفرد أو الزعيم ، ومشاركتها في الانتفاضات الشعبية العربية تحت شعار الحرية والعدالة والكرامة، بعيداً عن قيود الحاكم الفرد المطلق أو الزعيم أو الحزب الواحد ، وبعيداً عن الفكرة الواحدة والشعارات النمطية الواحدة التي قتلت روح الإبداع والحريات الفردية والعامة .
كما أن استخدام الديمقراطية بدون ربطها بالعلمانية والقضايا الاجتماعية، يعني إتاحة كل الفرص أمام قوى الثورة المضادة، وقوى التبعية والتخلف والإسلام السياسي، لاستغلال عفوية الجماهير الشعبية الفقيرة وتوجيهها لحساب الرؤى والسياسات الاقتصادية الرأسمالية التابعة بصورة ديماغوجية .



(3)

على الرغم من التجربة القصيرة لحركات الاسلام السياسي في مصر وتونس ، إلا أن القوى العلمانية الديمقراطية و اليسارية وقسم كبير من الجماهير الشعبية اكتشفت زيفها وحقيقتها الطبقية والسياسية التي لا تختلف في جوهرها عن نظام حسني مبارك وزين العابدين ، وزيف ما يسمى بـــــــ "الربيع العربي "وبالتالي كان طبيعيا أن تشتعل ثورة الشباب وجماهير الفقراء من جديد .
فقد بات من الواضح أن حركات الاسلام السياسي وكافة القوى الرجعية والبورجوازية الرثة ( المدعومة من الامبريالية الامريكية)يتحركون في بلادنا داخل حلقة دائرية تعيد انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتجدده، في محاولة منهم التهرب من تحدي الحداثة والنهضة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الثورية والتقدم بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية إعادة زراعته وإنتاجه باسم وأوهام ما يسمى بـــــــــ" الربيع العربي " عبر شكل " جديد "من أنظمة الاستبداد والتبعية والعمالة والتخلف والاستغلال الطبقي ، في قلب عفوية الجماهير الشعبية، ما يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، عبر منطق تراجعي، من خلال الدعوة للعودة، بحسب ادعاء هذه الحركات، إلى الماضي بذريعة العودة إلى أصول الإيمان والاعتقاد.
وهنا بالضبط تتبدى الضرورة التاريخية التي تستدعي من القوى اليسارية الثورية في كل بلد عربي، تركيز أهدافها ومهماتها النضالية، السياسية والمجتمعية، باتجاه تغيير وتجاوز هذا الواقع ، وان تتحمل مسؤولياتها الكبرى، في كونها تشكل في هذه المرحلة طليعة الحامل السياسي الاجتماعي الديمقراطي لعملية التغيير الثوري ، من أجل تغيير الواقع الراهن وتجاوزه وتحقيق تطلعات وأهداف جماهير الفقراء من العمال والفلاحين وكل المظلومين والمضطهدين .


(4)
الثورات الشعبية العربية تشتعل من جديد لتصنع ربيعها......
ما يسمى بالربيع العربي لم يجلب للجماهير الشعبية العربية سوى مزيد من الاستبداد والاستغلال والتخلف ، والمزيد من تأثير القوى اليمينية الليبرالية الرثة وقوى الإسلام السياسي والسلفيين خصوصاً، ما يعني عودة ادوات الظلم والظلام بلباس جديد لاعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أشكال جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي من خلال القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة ، الجيش ورجال الأعمال والكومبرادور وبقية اشكال الراسمالية الطفيلية المعادية لتطلعات الشباب الثوري و جماهير الفقراء من العمال والفلاحين وكل المضطهدين، وهو أمر غير مستغرب عبر قراءتنا لدورها السياسي ومصالحها الطبقية ، وهو دور مرتبط بوظيفتها الخاصة، الذي نلخصه في ابقاء حالة التخلف والتبعية للنظام الامبريالي ، إذ أن هذه القوى الطبقية كانت وستظل حريصة على إعاقة ربيع الثورة وتعطيل و تبهيت الصراع الطبقي ، وهي بالتالي تعمل دوماً على إرجاع مسيرة الثورة الشعبية إلى الوراء، فهي ضد التنوير وضد الحداثة وضد الديمقراطية وضد الاشتراكية والصراع الطبقي الثوري ، انطلاقاً من ارتباطاتها التاريخية بالإقطاع والأنظمة الملكية والبورجوازية التابعة بكل أنواعها ، ما يؤكد استعداداها لمهادنة الامبريالية والتعاطي معها ...لكن صيرورة الثورة الشعبية لن تنطفىء ، بل ستشتعل من جديد معلنة بداية ربيعها الثوري الديمقراطي القادم لا محالة .

(5)
الحراك الثوري العربي في اللحظة الراهنة
في ضوء متغيرات الوضع العربي الراهن ، وخاصة تزايد الحراك الثوري الديمقراطي ضد انظمة الاسلام السياسي ، من المهم ان ندرك ، بصورة واضحة، طبيعة الفرق الجوهري بين نشأة »الرأسمالية« في العالم الثالث، والرأسمالية في البلدان الغربية. ففي الغرب، بنت الرأسمالية قوتها الاقتصادية أولاً، ثم استولت على السلطة السياسية. أما في دول العالم الثالث، فالاستيلاء على السلطة يتم أولاً ثم يجري الحديث عن »بناء القوة الاقتصادية«، بما يعزز القاعدة المتبعة والمتداولة في العالم الثالث التي تقول أن السلطة مصدر الثروة ، وبالتالي فإن الفجوة بين الإطار الضيق لأصحاب السلطة المستبدة التي فقدت وعيها الوطني وسقطت رموزها أو طرابيشها ) حسني مبارك / زين العابدين بن علي / القذافي وغيرهم على الطريق ) دون ان تتغير الفجوة من جهة، والإطار الواسع للجماهير الشعبية الفقيرة من جهة أخرى، ظاهرة قابلة للتزايد والاتساع في مشهد الاسلام السياسي عبر إعادة إنتاج الاستبداد في سياق التراكم المتصاعد للثروة -ذات الطابع الطفيلي عموما ، مما أدى إلى تزايد أعداد الجماهير الفقيرة المقموعة والمضطهدة تاريخياً،والتي تتعرض اليوم إلى مواجهة أوضاع لا تحتمل، وبالتالي فان قطاعات منها تصبح مهيأة للثورة من جديد، مع بروز أشكال حادة من الصراعات التي قد تتخذ طابعا عنيفا و دمويا سواء ضد أنظمة الاسلام السياسي أو مع ما تبقى من أنظمة الاستبداد والتخلف ، ما يعني بوضوح شديد استنهاض الثورة من جديد رغم التضحيات الجسام ... لكن الآمال العظيمة في تحقيق الديمقراطية ودولة المواطنة والعدالة الاجتماعية الثورية بآفاقها الاشتراكية لن تتحقق إلا من خلال التضحيات العظيمة.