مشروع رؤية للنقاش


غسان الرفاعي
2012 / 11 / 21 - 09:13     

نعيش في عالم تسعى فيه راسمالية العولمة ان تسوده سياسيا واقتصاديا وثقافيا سيادة مطلقة .

فالثورة العلمية التكنولوجية في الوقت الذي عمقت فيه التناقض البنيوي الاساسي للراسمالية ، الذي اخذ يتفجر بسمات مميزة جديدة ، على الصعيد المالي بصورة خاصة ،
الى جانب ازمات فيض الانتاج وتداعياتها الاجتماعية ...زودتها بامكانيات وبقوة هجومية
عدوانية جامحة ، تتجلى باستراتيجية شمولية الطابع تستهدف الهيمنة العالمية ، كوسيلة للخروج من التداعيات المستعصية لتناقضها الاساسي . وهي تلجأ ، لتحقيق هذا الهدف
الى كامل قدراتها الاقتصادية والسياسية والاعلامية والى جبروتها العسكري !

لقد باتت الشعوب والدول والقارات تعاني ، جراء ذلك ، من النتائج السلبية على
جميع صعد الحياة . وساد العلاقات الدولية جو من الاضطراب ، اذ تزايدت التدخلات
العسكر ية والسياسية في الشؤون الداخلية للبلدان الاخرى ... وبنتيجة هذه الاستراتيجية
في التطبيق لم تعد الامم المتحدة اطارا ذا فعالية ، كما كانت تأمل الشعوب ، لتنظيم
العلاقات الدولية وفق مبادىء الديموقر اطية ، مما يعزز قضية السلم والتعاون الدولي على
اساس العدالة والمساواة والاحترام المتبادل بين الشعوب والدول ، بما يضمن حقوقها الوطنية والقومية المشروعة ، ويفسح في المجال لتطورها وفق ارادتها ومصالحها !

تحتل بلداننا العربية ، ومنها لبنان ، كما البلدان النامية جميعا ، مكانة خاصة في
هذه الاستراتيجية التي ترمي الى فرض تبعية من نوع جديد على هذه البلدان ، يادماجها
ادماجا عضويا في اطار العلاقات الراسمالية المعولمة، مع تخصيص دور مميز لكل منها وفق خصائصه ، في نظام جديد لتقسيم العمل العالمي يخدم مصالح الاحتكارات الاعظم ويساعد
على تنفيس ضغط الازمات التي يعاني منها النظام .

ان اضفاء المرونة على العلاقات الراسمالية تتطلبه موضوعيا هذه العلاقات حيث
انها باتت ضيقة ، سواء على صعيد البلدان الرئيسية ، ام على صعيد نظام العلاقات
الراسمالية الدولي بالاجمال . لقد صارت هذه العلاقات عاجزة عن امكان استيعاب نتائج
الثورة الانتاجية ! واخذت تنوء تحت ضغط تفجر ازمة الديون بشروط مسهلة اريد لها ان تكون وسيلة لاستيعاب ضيق السوق المتزايد . هذا في الوقت الذي تتفاقم فيه ازمة الديون
السيادية في مراكز رئيسية للراسمالية العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة نفسها ، وما اخذت
تولده من مضاعفات اجتماعية وسياسية . كما تبرز، بقوة خاصة ، ضغوطات الرساميل العائمة التي لا تجد مجالات " مجدية " لتوظيفها ، فتولد المراهنات والمضاربات على الصعيد المالي مزيدا من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والافلاسات ... ويترافق كل ذلك مع صراعات ضارية ، خفية او مكشوفة ، على النفط وعلى شروط التجارة العالمية ومد
النفوذ والهيمنة على المواقع الاستراتيجية .

ان الخطط التطبيقية لهذه الاستراتيجية تهدف ، بالدرجة الاولى ، الى تكييف الهياكل
الاقتصادية والدولتية للبلدان النامية ، ومجمل حياتها السياسية والاجتماعية لتتلاءم مع امتداد


2

راسماية العولمة وهيمنتها .كما تطال هذه الاستراتيجية الثقافة الوطنية لهذه الشعوب وتراثها الحضاري بالتحوير والتأويل ، استكمالا لعملية التكييف الشامل لبنية هذه البلدان . هكذا تخرج مسائل التطور الوطني والقومي ، وكذلك مسائل بناء الاقتصاد الوطني والتنمية من
ايدي شعوبنا وارادتها بصورة كاملة .

تستخدم الولايات المتحدة ، وهي القوة الرئيسية لراسمالية العولمة ، حالة التخلف والتردي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، واستشراء الاستبداد والفساد في الهياكل الدولتية
في مجتمعاتنا ، لتبريروتجميل استراتيجيتها الامبريالية الجديدة . وتحاول استخدام وتوظيف
الاستياء والغضب الشعبيين ، والطموح المشروع لدى الجماهير الى التغيير ... لاظهار
العولمة صنوا ومرادفا للديموقراطية ولحقوق الانسان ... وانها السبيل الى التنمية وتحقيق
الازدهار !

ان الظروف المستجدة ، بالاضافة الى التجارب والنتائج التي عانت منها مجتمعاتنا في ظل الانظمة التقليدية ، تشير وتؤكد على ان الاستراتيجيات الوطنية - القومية، بصيغها السابقة جميعا ، من مواقع السلطة او المعارضة ، لم تحقق ما تصبو اليه الجماهير ... .
وهي لم تعد تستجيب لمتطلبات المواجهة الجديدة ، ولم تظهر قوى اليسار، حتى الان انها مؤهلة لتحمل تلك المسؤولية .

ردا على هذا الفشل تفجر الاحتقان الشعبي في صورة الربيع العربي ، متجاوزا القوى
السياسية التقليدية ، كتعبير عن نفاذ الصبر والاحتمال من سوء الاحوال وترديها على جميع
الصعد ، وتحديا لحياة الاذلال الوطني والقومي واحتقار كرامة الانسان !

ان الطابع الشمولي لهجوم العولمة واستهدافاتها " التغييرية " الجذرية ، الطويلة
المدى ، تدخل النضال الشعبي في مرحلة جديدة : فاستراتيجية العولمة الهجومية الشاملة
تتطلب ، بداهة ، بالمقابل ، استراتيجية مواجهة شمولية ، متماسكة ومبررة علميا ، تضمن
استمرارية متصاعدة للنضال بابعاده الديموقراطية المتكاملة ، وتحصنه ، الى حد كبير ، بوجه
العفوية ، وذلك بالتاكيد على خوض النضال ، في آن ، على جميع الجبهات ضد وافدة
العولمة . فالانحصار في شكل وحيد للنضال وفي جبهة واحدة ، يترك نقاط ضعف عديدة
في جبهتنا تسهل اختراقها من قبل العولمة بهجومها الشمولي .

ان هذا الصراع المركب ، والمعقد، المتعدد الجبهات بطبيعته ، يجب ان يتبلور ،
من جانبنا ، في استراتيجية تعكس مصالح التطور الوطني والقومي العامة . اي المصالح
الاساسية العامة لتطور مجتمعاتنا ككل ، وعلى سائر الصعد ، بحيث يستجيب لحاجات
وطموحات اوسع الطبقات والفئات الاجتماعية التي تتعارض مصلحيا ، في اي درجة كانت ،
مع العولمة ومخططاتها، او تتعارض مع الطبقات الحاكمة التي هي بطبيعتها، وان بدرجات
مختلفة ، اما شريكة صغيرة في استراتيجية العولمة ، واما انها على استعداد لعقد تسويات
معها ... وترى ، في جميع الاحوال ، في طموح الجماهير الى التغيير الديموقراطي تهديدا
وزوالا لسلطتها وامتيازاتها .



3

هذه العملية السياسية – الاجتماعية ، ذات الابعاد التاريخية ، تتميز ، من جهة ،
بتفاوت طبيعة ودرجة نضوج شروط المواجهة على كل جبهة مع الاستراتيجية الهجومية للعولمة مما يفرض تنوعا في اشكال واساليب النضال الملائمة لكل حالة وكل مرحلة.
ومن جهة ثانية لابد من الاخذ بعين الاعتبار ان هذه العملية متناقضة داخليا بحكم طبيعتها،
نظرا لاختلاف التقديرات المتوقعة والمحتملة حولها ، وحول مسارها ، وحول كيفية التعاطي اليومي والبعيد المدى مع تطوراتها ... بحكم تعدد القوى السياسية المنخرطة
فيها ، وبحكم تنوع القوى الاجتماعية المشاركة . حتى داخل صفوف الفئات الشعبية
تبرز التمايزات والتفارق والاجتهادات : فلكل فئة نظرتها ، بل " ايديولوجيتها الواقعية "
التي تشكلت من تشابك وتآلف تيارات ومنابع فكرية متنوعة وتقاليد مختلفة ، عبر مراحل
تاريخية مديدة : دينية ، طائفية ، وطنيه ، قومية ... و " طبقية " ، وفق توازنات وتناسب
فيما بينها غير خاضع للحصر . هذا الواقع يتطلب الكثير من الدقة والمرونة والانفتاح والتدرج في اختيار الاهداف المرحلية والشعارات واساليب النضال ، وفي ابتكار اشكال
التعاون النضالي والتحالفات البينية بين الاطراف سواء على المستوى السياسي العام ، ام على مستوى النشاط في هيئات المجتمع المدني ... كل ذلك شروط لابد منها للنجاح في تعبئة اوسع القوى الشعبية حول المصالح الاساسية المشتركة التي تجمعها ، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لبناء " الكتلة الشعبية التاريخية الديموقراطية " المؤهلة والقادرة على انجاز التغيير !

ان التغيير الديموقراطي الجذري المنشود ، في اطار العلاقات الدولية والمحلية الواقعية ، وفي ظل التوازنات الحالية ، لا يتحقق الا عبر مراحل متدرجة طويلة المدى، عبر التعبئة والنضالات الشعبية ، لتحقيق تغيير في موازين القوى الداخلية ، على الجبهات المختلفة في مواجهة هجوم العولمة الشمولي وانصارها الداخليين .

ان الافق التاريخي لهذه النضالات وتراكم المكاسب التي تحققها هو وصول تحالف القوى السياسية الممثلة للكتلة الشعبية التاريخية الديموقراطية الى مواقع السلطة !

هذا التحدي الكبير والخطير يواجه اليوم قوى اليسار جميعا ، ويدعوها الى تحمل المسؤولية ، واستعادة دور لها في صنع مستقبل شعوبها واوطانها ! هذا يتطلب ان تنظر بعين ماركسية حقيقية ، غير دوغمائية ، وغير متكيفة مع " نظريات " التجديد التي تتنكر للماديةالديالكتيكية التاريخية . وفقط بهذا المنظور تستطيع قوى اليسار ان تعالج بمسؤولية شؤون بلادها التفصيلية والعامة في اطار مجمل التاثيرات التي تمارسها العولمة على مختلف مناحي حياة المجتمع ، وان تصوغ خطة مواجهة آنية واستراتيجية في كل ميدان من ميادين المواجهة .

ان نقطة الانطلاق للقيام بهذا الدور المسؤول هي ان تبني قوى اليسار ذاتها :
فكرا وتنظيما وفي الممارسة السياسية العملية وفي حياتها الداخلية على اسس ومباديء






4

جديدة ، ديموقراطية حقا ... ، لتصبح مؤهلة على مقاربة مهام النضال بواقعية ، وبقدرة على التاثير على مسار التطور .

هذا الموضوع ينبغي ان يبحث بواقعية وبتفصيل ، وبصراحة وبنظرة نقدية مسؤولة تتناسب مع المهام الجسام التي تنتظرنا !


18 تشرين الثاني 2012


غسان الرفاعي -- لبنان