الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية


فلاح أمين الرهيمي
2012 / 11 / 15 - 12:26     

الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية
1) نشوء وظهور الرأسمالية :
كان التاريخ بالنسبة إلى الفكر الماركسي عبارة عن سلسلة من التنازع والصراع الطبقي المحتوم ما عدا مرحلة (المشاعية البدائية). وقد استند ذلك الفكر على كنز كبير من التفاصيل والأمثلة عن كيفية تطور النزاع والصراع في الماضي وتراكم عبر آلاف السنين من خلال المنهج المادي للمفهوم الماركسي القائم على التشكيلات المتعاقبة حسب طبيعة الحياة وديناميكيتها التي تقوم على الحركة والتغيير في مسيرة التاريخ إلى أمام، لأن ليس في طبيعتها الجمود والثبات، لأن ذلك يخالف قانون الحياة وتطورها وتقدمها، ومن خلال هذه الرؤيا والبحث في الأسباب والعوامل الدافعة والنتائج الحاصلة تبين أن أية ظاهرة في الوجود تولد فتولد معها بذرة موتها فنظام المشاعية البدائية كان يحمل بذرة موته حينما ولد في رحمها نظام الرق والعبودية والإقطاعية، فكان هذا النظام الجديد يحمل معه أيضاً بذرة موته فولد من رحمه النظام البورجوازي فأدى إلى فناء النظام الإقطاعي، كما أن الاشتراكية تعتبر وليدة النظام البورجوازي. والآن نستعرض بشكل موجز تطورات هذه المراحل المتعاقبة.
لقد كانت في مرحلة المشاعية البدائية مجموعات بشرية كبيرة تعيش في المغاور والكهوف بشكل جماعي ومشترك وقد اكتشف عدد كبير من هذه الكهوف والمغاور في غابات الأمازون في أمريكا الجنوبية وغابات روديسيا في أفريقيا، وقد امتاز هذا النظام بتدني مستوى القوة المنتجة، مما أدى إلى ضعف تطور العلاقات الإنتاجية وغيرها من العلاقات الاجتماعية، وكان هذا المستوى المتدني البدائي لأدوات الإنتاج والعمل وطبيعتها البسيطة لا تسمحان للناس في ذلك المجتمع بالصراع مع قوة الطبيعة بشكل منفرد مما أدى إلى ظهور وضرورة العمل الجماعي وما نجم عنه من الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والملكية العامة للأرض، وكانت صلات العلاقة والقربى هي التي تربط الناس، كما كان يسود بينهم تقسيم العمل الطبيعي تبعاً للجنس والعمر، كما كان طبيعة عملهم لا يعطي من المنتوج أكثر مما تتطلبه طبيعة حياتهم المعيشية، ولم يكن هنالك عشيرة ولا طبقات ولا استغلال ولا دولة وإنما كان يوجد مجلس متكون من كبار السن من العاجزين عن صيد الحيوانات وجني الأثمار وغيرها من وسائل المعيشة الذي كان يقوم بها الشباب من تلك الجماعات، أما ذلك المجلس فكان واجبه توزيع ما يصطاد من حيوانات وما يجنى من ثمار على تلك المجموعة البشرية وكان المجلس أيضاً يوزع العمل بين رجال المجموعة وينظر في أمورهم الخاصة والعامة، وقد اعتبر المفكرون ذلك المجلس بداية ظهور وممارسة الديمقراطية حتى ظهورها وممارستها وتطورها بشكل فعلي في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد ثم شاعت بين قدماء اليونانيين الذين قدر لهم أن يمارسوا تأثيراً لا مثيل له على التاريخ العالمي (كتاب الديمقراطية ونقادها للكاتب روبرت دال).
لكن التحسن التدريجي الذي حصل على أدوات العمل أدى إلى ظهور فائض لمنتوج العمل بشكل خاص لدى الشباب الأقوياء الذين أصبحوا يصطادون أعداد كبيرة تزيد عن حاجة المجموعة البشرية، فأفرزت ظاهرة التبادل التجاري الذي أفرز أيضاً ظاهرة الجمع والتكديس لتلك الحيوانات مما أفرز قيام العمل الفردي وتدريجياً مع مرور الزمن ولدت الملكية الخاصة (تجمع قطيع تلك الحيوانات وإيجاد مكان خاص بها واستخدام الرجال والنساء من العاجزين والخاملين في المجموعة البشرية لرعاية تلك الحيوانات وخدمتها ثم مع توسع وكثرة الحيوانات ومن أجل توفير الغذاء لها تطلب زراعة الأرض بالحشائش وغيرها فتكونت أدوات العمل الخاصة والسكن الخاص وملكية الأراضي الزراعية مما أدى إلى انشطار المجتمع إلى فقراء وأغنياء وظهرت معها إمكانيات اقتصادية أدت إلى استغلال الآخرين وامتلاكهم للعبيد والأقتان وقد أدت ظهور هذه الظاهرة والتطور إلى تراجع نظام الأمومة وحل محله نظام السلطة الأبوية القائم على الزواج بين المرأة والرجل وخصوصيتهما بعد أن كان الرجل يمارس الجنس مع نساء من غير مجموعته لأن ممارسة الجنس مع أبناء مجموعته تعتبر من المحرمات وكان في تلك المرحلة تعتبر المرأة مشاعة لجميع الرجال. ومنذ ذلك الوقت تكونت البيوت الخاصة فنشأة العائلة والعشيرة والقبيلة ومن خلال اتحاد القبائل وتطورها تكونت الشعوب وانحلال نظام المشاعية البدائية وقيام تشكيلة جديدة تقوم على الصراع الطبقي التناحري وقيام نظام جديد العبودية والإقطاع.
في مرحلة الرق والعبودية والإقطاع، كانت طبقة الإقطاع تكتفي بامتلاك الأراضي الواسعة وتكوين الإقطاعيات الكبيرة وتستخدم أعداداً كبيرة من العبيد والأقتان لحراثتها وزراعتها وخدمتها مقابل أجور تدفع لهم أو مقابل لا شيء سوى لقمة العيش السوداء أو مقابل لا شيء أبداً أي السخرة، وكان الإقطاعي يستحوذ على جميع الإنتاج التي تدرها الأرض الزراعية ويقسمها بينه وبين الخزينة الملكية، من قبيل الجزية عما تمنحه وتخوله إياه السلطة الملكية من حق مطلق بالتحكم والتصرف بالجماعات المستعبدة له والقاطنة في إقطاعيته، وكان يسوقهم للحرب من أجل اغتصاب أراضي جديدة أو يضعهم تحت تصرف الملك يجندهم في حروبه ضد الملوك والأمراء لإخضاعهم لسلطته إضافة إلى الخدمات والأعمال التي كانوا يقومون بها في الأراضي الزراعية التي تعود للإقطاعي، وكان الإقطاعي لا يطمح بأكثر من دوام رضا الملك ما دام يكفل له دوام عبوديته على أولئك العبيد والأقتان في ذلك العهد، ولم يكن في ذلك العهد غير طبقتين وهما طبقة الإقطاعيين أصحاب الأراضي الزراعية الواسعة وهي القلة العددية من الشعب والطبقة الأخرى طبقة الرق المستعبدة والمغبونة والمحرومة والمضطهدة وهي الأكثرية الساحقة من الشعب. مع مرور الزمن حصل تطور تاريخي بما يطلق عليه بظاهرة (المانيفاكتوره) وهي شكل من أشكال الإنتاج نشأ في عهد انحلال المرحلة الإقطاعية من خلال بداية تطور التجارة وازدياد الطلب على المنتجات الحرفية البسيطة (كالفأس والمحراث والمنجل وغيرها من الأدوات البسيطة) المصنوعة من قبل الحرفيين، فكان التجار يشترون من الصناع الحرفيين منتجاتهم ثم يبيعونها في مناطق أخرى، ثم أخذ التجار يجلبون بعض المواد الأولية من تلك المناطق الأخرى ويقدموها إلى الصناع الحرفيين، ومع مرور الزمن أخذ التاجر يجمع عدداً من الحرفيين تحت سقف واحد وفي مكان واحد ويقدم لهم المواد الأولية وأدوات الإنتاج أيضاً، وقد سمي هذا المكان بـ (المانيفاكتوره) وهكذا انقلب الرأسمال التجاري إلى رأس مال صناعي وأصبح الصانع الحرفي عاملاً مأجوراً لدى رأس المال الصناعي ليس لديه ما يمتلكه سوى قوة عمله وجهده يبيعه للرأسمالي ويعمل مع زملائه تحت إشرافه في المانيفاكتوره، مما أدى إلى ظهور طبقة جديدة هي الطبقة البورجوازية فأصبح الشعب يتكون من ثلاث طبقات الأولى من الإقطاعيين وملاك الأراضي الزراعية والثانية من الطبقة البورجوازية (التجار والصناع الحرفيين المستقلين في عملهم) والطبقة الثالثة من العبيد والأقتان وعمال المانيفاكتوره وعامة الشعب.
في هذه الفترة أخذت طبقة الإقطاعيين وملاك الأراضي الزراعية الذين كان لهم الحول والطول في الماضي تفقد سلطاتها شيئاً فشيئاً للأسباب التالية :
1) هروب أعداد كبيرة من العبيد والأقنان من أراضي الإقطاعيين والملاك الزراعيين ولجوئهم إلى المدن والعمل لدى التجار كعتالين أو تجندهم لحماية القوافل التجارية التي تنقل بضائعهم إلى المدن والمناطق الأخرى، أو كعمال في المعامل والمصانع التي تمتلكها الطبقة البورجوازية، أو تجنيدهم في جيوش أنشأت من أجل الاستحواذ والسيطرة على المناطق الأخرى كأسواق للبضائع أو السلع التي تنتجها مصانع البورجوازيين أو السيطرة والاستحواذ على المواد الأولية لتلك المصانع في الدول والمناطق الأخرى واستعمارها، مما أدى إلى شحة الإنتاج الزراعي نتيجة هروب الأعداد الكبيرة من العبيد والأقتان من أراضي الإقطاعيين الزراعية فتركت تلك الأراضي بدون حراثة وزراعة ورعاية مما أدى إلى تلك الشحة للمواد الزراعية وإلى شحة الأموال التي يحصل عليها الإقطاعيين مما أدى إلى إفلاس كثير من الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، وهذا يعني عجزهم عن تقديم الأموال إلى الخزينة الملكية لكسب رضا الملك، مما دفع بالإقطاعيين إلى اللجوء إلى البورجوازيين ليستجيروا بهم ويستدينوا منهم، وكانت الطبقة البورجوازية أكثر اجتهاداً في العمل والأكثر مهارة وذكاءً في جمع الثروات مما جعلهم يفرضون على الإقطاعيين شروط التنازل عن بعض حقوقهم وصلاحياتهم وامتيازاتهم حتى يقرضونهم الأموال ويقدموها للخزينة الملكية من أجل أن يحافظوا على مراكزهم الممتازة من ناحية ومن ناحية أخرى لكي يقدموا للملك أثمان الوجاهة التي يخلعها عليهم.
2) كان التجار والصناعيون ينقلون بضاعتهم بواسطة القوافل إلى المدن والمقاطعات الأخرى، فكان طريقها عبر إقطاعيات الإقطاعي، فكان يفرض على مرورها (ترانسيت) ضرائب ورسوم مما يجعل تلك البضاعة التي تحملها القوافل تتحمل تكاليف كثيرة تؤدي إلى خسارتها مما يؤدي ذلك أن يتحمل التاجر أو الصناعي الأضرار والخسائر بسبب ذلك.
3) في المرحلة التي كان سائد فيها النظام الإقطاعي والرق والعبودية من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر تزامن معها ظهور أفكار متنورة وتقدمية لدى مفكرين من الطبقة البورجوازية تشجب وتستنكر الظلم والقهر والاضطهاد والحرمان ويدعون إلى الحرية ومكافحة وإلغاء الرق والعبودية، فكانوا يقودون ويتزعمون الحركات النضالية والثورية وتعبئة الجماهير الشعبية المسحوقة للنضال ضد العبودية والقنانة وكان موقف ونضال وانتصار الطبقة البورجوازية آنذاك يعني تقدما اجتماعياً هائلاً بدأ وامتد من أواسط القرن التاسع عشر.
4) بدأت الطبقة البورجوازية بالتحول الكبير من خلال قيادتها للثورات الشعبية انسجاماً مع مصالحها الاقتصادية وبروز الدولة القومية الذي أدى إلى ظهور الاقتصاد المشترك بعد اندثار النظام الإقطاعي وتوحيد المقاطعات ودولة المدن المختلفة التي من خلالها تم تكوين الدولة القومية، وتكوين السوق القومية والتكامل الاقتصادي البورجوازي، ويعتبر ذلك بداية متقدمة وصاعدة تاريخية لعصر الرأسمالية الاستعمارية.
لقد تزامن وصاحب ذلك التوسع في مفهوم التكوين القومي التي تكونت من خلال توحيد (دولة – المدن) والكيانات الصغيرة والمقاطعات الكبيرة، مما جعل الطبقة البورجوازية تلج عالماً أوسع، هو عالم الأمة ويعتبر ذلك إنجازاً كبيراً وليس مجرد فكرة، حيث اكتسب هذا التحول في القرن التاسع عشر زخماً كبيراً، لأن مسيرتها كان منذ ظهورها وفي بدايتها في جانب التقدم في الشؤون الاقتصادية وتحسين ظروف الشعب من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن هذه الظاهرة التي قامت بها الطبقة البورجوازية الجديدة منحتها انحياز الشعب لها وكسب ثقته وقيادتها له واستخدامه بما ينسجم مع مصالحها ومطامعها وأهدافها التوسعية في استعمار الدول واستعباد شعوبها ونهب ثرواتها وجعلها أسواقاً لتصريف السلع والبضائع التي تنتجها مصانعها من خلال تنمية وتأجيج الفكرة القومية والنعرة الشوفينية لدى الشعب، وتأججت واشتدت الروح القومية العدوانية التي ألبسها الرأسماليون لباساً جذاباً غزت وامتلكت نفوس عامة أبناء الشعب واندفاعهم باسم العنصرية القومية الشوفينية إلى خوض الحروب وتحمل ويلاتها وآلامها ومآسيها واحتلال البلدان الأخرى واستعباد شعوبها باسم التوسع القومي والنعرة العنصرية الشوفينية بما ينسجم ويصب في مصلحة الرأسماليين الذين لجئوا إلى الخديعة والابتزاز حينما أطلقوا حرية التصرف في شؤون الشعوب الداخلية باسم تطوير وتقدم الشعوب وتثقيفها، وسنت القوانين والمراسيم الديمقراطية المشوهة عن الحرية وحقوق الإنسان التي تصب وتخدم مصالحها في خلق بورجوازية طفيلية مرتبطة بمصالحها الاستعمارية في الإشراف وإدارة منتجاتها في سوق الدولة الوطنية، كما قامت الدولة الاستعمارية بمساعدة البورجوازية الطفيلية بتشييد المصانع والمعامل في الدول المستَعمَرة وذلك للاستفادة من توفر ورخص الأيدي العاملة ووجود المواد الأولية فيها من أجل كسب المزيد من الأرباح وتراكم رأس المال، من خلال سيطرتها على وسائل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك أصبحت الشعوب على اختلاف ظروفها وتشكيلاتها منقسمة إلى إقليمية ضئيلة تمتلك الثروة الكبيرة والمصانع والمعامل والسعادة والرفاه وتسيطر على التجارة والأسواق والسلطة وأكثرية ساحقة تعيش بجهدها وعرق جبينها تحت كابوس الجوع والحرمان والاضطهاد والفقر والقهر حسب القاعدة التي تقول (ليس هنالك دولة تستعبد شعوباً أخرى وشعبها حر). مما أصبح هذا النظام يخل بالتوازن بين حقوق أكثرية الشعوب في الحياة والعيش الكريم وبين أقلية رأسمالية تمتلك جميع وسائل العيش المرفه والسعيد، فجعل النظام الرأسمالي يعيش مرحلة من التناقض والصراع متمثلاً في الإنتاج الاجتماعي (المقصود به عشرات الآلاف من العمال والشغيلة جميعهم يشتركون في إنتاج السلع والبضائع في المصنع أو المعمل وإن مبالغ وأرباح هذه السلع والبضائع تذهب إلى مالكي المصانع والمعامل (الرأسماليين) بينما الذين ينتجون تلك السلع والبضائع لا يجنون منها سوى أجورهم اليومية التي لا تكاد تسد رمقهم وهذا هو ما أطلق عليه (الإنتاج الاجتماعي). والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (المقصود بها المصانع والمعامل وأراضيها وموادها الأولية التي تعود ملكيتها إلى فئة قليلة من الرأسماليين). إن هذا التناقض والصراع يؤدي إلى قيام ثورة في المجتمع (أي الأكثرية من الشعب التي تعاني من الجوع والحرمان والاضطهاد ولا تملك شيء سوى قوة عملها أي الجهد التي تبذله في إنتاج السلع والبضائع مقابل أجور يومية) تقوم ضد الأقلية التي تمتلك المصانع والمعامل والأراضي وتعيش على حساب جهد وعمل الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب) وقد تجسد ذلك الصراع والتناقض بين الاتحاد السوفيتي ونظامه الاشتراكي وبين الدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شرحنا ذلك بالفصول السابقة من الكتاب.