وعي اليسار في فرنسا (2-2)


عبدالله خليفة
2012 / 11 / 11 - 10:11     


تعمق انقسامُ اليسارِ في فرنسا بين الاشتراكيين عبر ظهور الاتحاد السوفيتي وهو الظهورُ الذي أدى الى نسخةٍ دوليةٍ من ماركسية دولية شمولية مؤثرةٍ تتآكلُ نظريا مع الزمن. فأخذتْ تضعفُ تطورَ الماركسية بشكل ديمقراطي في الغرب، ونجد ان أقطاب اليسار كجورج لوكاش وروجيه جارودي وهنري لوفيفر وجورج بوليتزر وغيرهم انضموا إليها وحاولوا التأثيرَ من خلال تعليمية ونقدية إنسانية وتطبيقية علمية متناقضة. كان مثل هذا الوعي خيارا عالميا مؤثرا من جهة حركات التحرر الوطني أكثر منه قدرة على فهم الغرب وقد حوّل الماركسية لعقيدة، ولهذا ازداد انقسامُ اليسار الفرنسي بقوة بعد ذلك إلى هذين المسارين المتصارعين.
البنيةُ ذات الظروف الديمقراطية كانت تطردُ الاختزالات الروسيةَ وصيغَ الدوغما، ولكن الوعي الاشتراكي الديمقراطي ليس بكليته معبرا عن نضالية الطبقة العاملة وتطورها النقابي السياسي، فثمة كتلٌ تستغلها لمصالحها الفئوية وهذا ما يؤدي الى سيطرة اليمين بشكل غالب. ولكن الاشتراكية الديمقراطية لا تتوقف عن النمو بسبب حراكها داخل حياة المجتمع وليس عبر النص المستورد من دولةٍ شمولية، الأمر الذي لاءم تخلف الشرق ثم تجاوزه بعضُ هذا الشرق نفسه بشكل مضطرب فوضوي.
الأفقُ السوفيتي المغلقُ جمدَ الفلسفةَ الماركسيةَ حتى عند كبار المفكرين كلوكاش، ولكن مناخ الحريات الفكرية في فرنسا كان من الصعب أن يلغيها. نهايةُ هذه الحقبةِ يمكن أن نراها في حركة الطلبة في 1968 حين ثبتت صعوبةُ الثورةِ بالشكل الشرقي في مجتمعٍ ديمقراطي متطور.
لقد جمدتْ السيطرةُ الفكريةُ السوفيتية بعضَ مفكري اليسار الفرنسي كجارودي، الذي بقي في التفسير المادي الآلي السوفيتي حتى الستينيات ثم راح يخرج عنه عبر وعي صوفي ديني إنساني مفتوحٍ لكل الجوانب التي يراها مفيدة طارحا واقعية بلا ضفاف وتقدمية بلا ضفاف، ولهذا فإن قدراته لتطوير الاشتراكية في الغرب انتفت. إن منهجا انتقائيا تجميعيا لكل الفضائل الدينية القديمة والحديثة هو تجميعٌ فضفاضٌ لم يكن بإمكانهِ أن يحللَ فرنسا أو انهيارات رأسماليات الدول الشرقية والعولمة الرأسمالية العاصفة.
في حين غدا تأثيرُ النموذج السوفيتي في لويس ألتوسير من داخل المنهجية التحليلية الماركسية، فهو جعلَ من البنيوية أداة منهجية مهمة وعميقة لدراسةِ البُنية الاجتماعية، ولكن مع فقدان الدراسات التطبيقية للظروف الفرنسية والعالمية.
إن البنية عبر تحليل التوسير هي ذات مستويات ثلاثة هي المستويات الاقتصادية والايديولوجية والسياسية، المستقلة والمتداخلة كذلك، التي يمكنُ أن نفهمَ من خلالِها الثورةَ عبر وجودِ التناقضِ المحوري في المستوى الاقتصادي حيث يصعدُ التناقضُ الى المستوى الأعلى حتى يتفجر عبر المستوى السياسي الذي يغدو مفتاحَ تحويل البنية من نظامٍ لنظامٍ آخر.
وهذه الرؤية المركزة في علاقات الانتاج في بُنيةٍ محددة، لا تدخلُ مفهومَ التشكيلةِ في خريطتها، وهو الخطأ الرئيسي للشيوعية الروسية وتوابعها التي قفزتْ على التشكيلات بإراديةٍ سياسية لم تكن ممكنة في بلدان ديمقراطية متطورة خاصة مثل فرنسا، لهذا كان من الممكن أن يحلل ألتوسير الاتحادَ السوفيتي عبرها، ولكن فرنسا لا تستجيبُ لمقولةِ الثورةِ على النمط الشرقي الاستبدادي، حيث تؤدي آلياتُ الديمقراطية الى السيطرة على الأزماتِ من خلال حوار الطبقات الديمقراطي، في حين لا يجري ذلك في الاتحاد السوفيتي، وكذلك في دول العالم الثالث وهو ما يجعلها ميدانا خصبا للثورات التي تهدمُ مثل هذه الماركسيات الزائفة.
ولهذا فإن مشكلة البنيوية الماركسية هي هنا في غياب الدراسات التطبيقية للعالم عامة بغض النظر عن النظام، ولكن تجريد ألتوسير لم يوجه رؤيته النظرية لتفكيك التشكيلة العالمية بمستوييها المختلفين الغربي والشرقي، ولهذا فإن الماركسية اللينينية تخفقُ في روسيا بينما تتطور الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا.
كان يمكن تعديل مصطلح الديمقراطية البرجوازية في الغرب، بمصطلح الديمقراطية البرجوازية- العمالية فالطبقتان تصنعان الغربَ لا طبقة واحدة، وبالتالي تغدو البنيوية الماركسية مفيدة في درسها ودرس دول العالم.
وميراثُ اليسار حاشدٌ وطويل في فرنسا وليس هنا سوى ومضة عنه.