ستالين ومآساة الشيشان والانغوش


طريف سردست
2012 / 11 / 4 - 00:19     

تهجير الشيشان والانغوش
من اجل فهم افضل لموضوع يخص شعوب القفقاس لابد لنا من نظرة سريعة على خصائص هذه الشعوب المميزة والتي نجهلها، ومع ذلك حاسمة في تفسير سلوكيتهم واسلوب تعاملهم مع االاحداث.
تتميز شعوب القفقاس بأنها قبائل رعوية ، معزولة بين الجبال، حتى عن بعضها البعض، وانها لازالت تحيا في عصر " الفروسية". يخضع المجتمع القفقاسي، والشيشاني - الانغوشي على وجه الخصوص الى نظام شبه عسكري في سلوكه. في عام 1984، وبعد الحصول على موافقة من جهاز الامن السوفيتي تمكنت من السفر الى جمهورية الشيشان بصحبة صديقي الشيشاني ايليتش دوفتايف. في مطار غروزني كان في استقبالنا ممثل عن الامن تقدم الى مجموعة القادمين وسألنا عما إذا كان بيننا اجنبي. دفتايف اشار نحوي. نظر ممثل الامن الي وابتسم، ثم غادر. اوضح دفتايف الى انهم يحتاجون الى رؤيتي وجهي حتى يعرفوني اثناء مهمتهم بمتابعتي عن بعد. في الحقيقة لم الاحظهم بعد ذلك ابداً.

مدينة غروزني كئيبة على النمط السوفيتي. وعلى الرغم من ان اكثرية السكان من الشيشان الا انه لم يكن يوجد بها ولاجامع ولكن فيها كنيسة واحدة للأقلية الروسية. على العكس، نجد ان كل قرية من قرى الشيشان، في غالبيتها، تملك جامع. ولكن.. كان كبار السن، الذين، اينما حللت استقبلوني بالحفاوة الشديدة، بسبب انني " أحمل رائحة من بلاد الرسول"، كانوا على الدوام يحذروني من شيوخ الجوامع، على انهم عملاء لجهاز الامن. كان سوء الظن والحذر متجذرا عميقا في نفوسهم، وكانت احاديثهم تطفح بالالم.

تقاليد المجتمع الشيشاني تحكمها قواعد يلتزم بها الجميع انطلاقا من ضرورة " الاحترام"، وتقوم على الفصل بين السكان على اساس الجنس والعمر. الرجال من اعمار الخمسين فما فوق يقفون على قمة الهرم الاجتماعي. يأتي بعدهم طبقة الاشخاص حتى الثلاثين نزولا، ثم بعدهم طبقة الشباب حتى العشرين. وبعد ذلك تأتي النساء والاطفال. كلما ازداد المرء سنا كلما تحتم على الاقل منه سنا ان يبدي " مظاهر الاحترام الجليل" والتي تعني ان افراد الطبقة الاصغر يقومون بخدمة طعام افراد طبقة الاكبر، ولايحق لهم الجلوس معهم وانما الوقوف قرب الباب استعدادا للخدمة، كما لايحق للاقل سنا ان يدخن او يشرب الخمر امام الاكبر سنا. والفتيات، يخدمن الشباب فقط، ولكنهن يقفن خارج الباب انتظارا لتقديم الخدمات، يدخلن بسرعة ويخرجن بسرعة.

لحسن الحظ جرى استثنائي من هذه القواعد، مما سمح لي بالجلوس مع كبار السن على طاولة واحدة. عندما تكون على طاولة الطعام مع شيشاني، مهما كانت طبقته، عليك بالوقوف والجلوس في كل مرة يقف هو للذهاب الى التواليت مثلا والعودة منه. بطبيعة الحال على الجميع الوقوف والجلوس في كل مرة يدخل او يخرج شخص من الغرفة حتى لو كان مجلسا عاديا. ولو حدث لسبب ما ان دخل شخص اكبر سنا من طبقة الجالسين، يبقى الجميع واقفين حتى يخرج كبيرهم من الغرفة.

النساء لايجوز لها الجلوس ابدا على مقعد طالما ان رجل في الغرفة حتى لو كان زوجها. في احسن الاحوال تجلس على الارض عند قدميه ( لاادري اذا كان يحق لها الجلوس على مقعد بشكل عام). هذه القيم السائدة، والتي تمجد الرجل " الفارس"، وتنظم المجتمع، اصبحت مهددة بالنظام الجماعي البيروقراطي الجديد، ولم يكن بالامكان القضاء عليها بالطرق الادارية البيروقراطية، بمجرد أوامر إلهية من الاب القائد، في سعيه لنقل الشيشان الى مجتمع عمالي، يبيع قوة عمله، ومُذاب في قومية واحدة "القومية السوفيتية". في النتيجة حظي ستالين، فقط، بكراهية شعوب القفقاس العميقة، له.

في بداية الثورة، الكثير من شعوب القفقاس كانوا معجبون بالبلاشفة، وانضموا الى الجيش الاحمر ، إذ بين تشكيلات الجيش الاحمر، كانت هناك كتائب كاملة من قوميات القفقاس الجسورة. ولكن مع الوقت، وبفضل سياسة ستالين، تغيرت عواطف سكان القفقاس تجاه الثورة البلشفية. بنتائج سياسة القضاء على الاديان التي اتبعها ستالين، اصبحت السلطة السوفيتية تحرم زيارة الجوامع، وبعد ذلك بدأت سياسة تهديم الجوامع او تغييرها الى مكتبات. هذا الامر اثار بطاركة الشيشان ( الطبقة العليا) الشديدي الايمان، واوقد الحقد في قلوبهم على السلطة السوفيتية. ائمة المساجد جرى ارسالهم الى معسكرات التشغيل الاجباري او جرى رميهم بالرصاص. [4] بعد ذلك جاءت الكلخزة الاجبارية، حيث اُجبر القفازيين، الذي تعودوا منذ قرون على العيش الانفرادي والقرار الانفرادي، على الدخول في تشكيلات زراعية جماعية والتخلي عن قطعهم الزراعية الصغيرة ومواشيهم. اي اعتراض علني او رأي مخالف ينتهي على الفور بصاحبه الى الاعتقال والارسال الى معسكرات العمل الاجباري، لاعادة التربية. [4] خطة ستالين قامت بالقضاء الروحي على الانسان وبالقوة. على هذه الخلفية يمكن فهم افضل للاحداث اللاحقة.

في 10 اكتوبر من عام 1942 قام الطيران الالماني بقصف صناعة النفط في مدينة غروزني ( عاصمة شيشان) وبنتيجة هذه المعارك حصلت مدينة غروزني على وسام الراية الحمراء العسكرية. ولكن، بعد سنتين فقط، في 31 يناير من عام 1944 صدر قرار برقم ГКО СССР N 5073 от 31.01.1944 г. يقضي بإلغاء منطقة شيشانيا-انغوشيتا، ذات الحكم الذاتي، وتهجير سكانها الشيشان والانغوش الى اسيا الوسطى وكازاخستان بسبب " مساعدتهم المحتلين النازيين". وقد جرى تنفيذ الامر في الفترة مابين 23 فبراير الى 9 مارس من نفس السنة. [1]

تتكون منطقة شيشانا - انغوشيتا، عدا عن العاصمة غروزني، ومدينة غوديرميسا ومالغوبيكا، من خمسة تجمعات سكنية اخرى، مجموع عدد سكانها يصل الى 24940 انسان. [2]
ويقطنها قوميتين متآخيتين، هم الشيشان والانغوش، (حاليا انفصل الانغوش عن الشيشان).

قرار ستالين بالتهجير الجماعي للشيشان والانغوش من موطنهم، جرى تحت تأثير، العديد من مظاهر المعارضة لاجرائته الغير شعبية، ولكن اخرها كان الغيظ من نجاح انتفاضة حسان اسرائيلوف عام 1940.
كان حسان قد تمكن من انشاء منظمة سرية، باسم الحزب القومي الاشتراكي للاخوان القفقازيين، (НСПКБ).، وقام بإنتفاضة مسلحة بهدف انشاء فيدرالية دول القفقاس، ذات ملامح ايديولوجية فاشية.. كان حسان اسرائيلوف عضو في الحزب الشيوعي وقد انهى المدرسة الحزبية العليا في موسكو، قبل التحول الى العمل السري، وعمل محاميا في منطقة شاتويسكي Шатойском районе. وقد سبق له العمل في جريدة الفلاح وأعتقل مرتين، مرة في عام 1931 ومرة اخرى في عام 1937، بسبب اتهام الامن الداخلي له بأن مقالاته تحتوي على انتقادات للسلطات التي تقوم بسرقة الفلاحين البسطاء. وعلى الرغم من ارساله الى معسكر العمل الاجباري في سيبيريا لغرض " إعادة التربية"، ولكن أعيد الى صفوف الحزب بعد ذلك. [3]

كان اسرائيلوف قد كون منظمته وجهز اعضائها للعمل العسكري ضد السلطة السوفيتية، ونجح بذلك بفضل اخطاء ستالين تجاه شعوب القفقاس والبنية العسكرية لمجتمع القفقاس . كان تنظيم خسان اسرائيلوف يملك نظاما داخليا وبرنامجا هدفه: القضاء على النظام السوفيتي وإقامة دولة اتحادية لشعوب القفقاس.. [2]

في نيابر من عام 1941 نشأت منظمة سرية اخرى، هي منظمة الشيشان الجبليين القوميين الاشتراكيين السريين، (ЧГНСПО), والتي كانت على علاقة مع ماييربيك شيريبوفا Майрбеком Шериповым ، عضو الحزب الشيوعي، والاخ الاصغر لإسلام بك، قائد الجيش الاحمر الشيشاني، والذي قتله البيض عام 1919، كما عمل في المسائل الحقوقية. في عام 1938 اعتقله الامن بتهمة " الدعاية المعادية للسوفييت" ولكن اطلق سراحه. في عام 1941 جرى تعيينه ممثل صناعة الاخشاب في جمهورية الشيشان السوفيتية، كما كان عميل في دائرة الامن الداخلي. [2] ولكن، في عام 1941 تحول الى العمل السري، لينتهي نشاطه بإنتفاضة مسلحة عام 1942 وانضمت قواته، التي وصل تعدادها الى 500 شخص، الى قوات حسان اسرائيلوف.

ضمن حملة الامن السوفيتي للتركيز على الجانب الفاشي في المعارضة الشيشانية، نشر الامن السوفيتي إدعاء نسبه الى ماييربيك انه، في معرض توضيحه اسباب انتفاضته على الرغم من تاريخ اخوه البلشفي، انه قال:" اخي اسلام بيك اراد اسقاط القيصر، لذلك انضم الى البلاشفة، وانا ارى الان نهاية السلطة السوفيتية لذلك اذهب لاستقبال الالمان". [4]

حاول الامن الداخلي نشر الاشاعات ان انتفاضة اسرائيلوف تجري بدعم مباشر من هتلر وبقيادة الالمان لها، في محاولة لتبرير فشلهم في القضاء عليها بسرعة، غير ان حقيقة ان هذه الانتفاضة لم يصلها اي دعم مادي من الالمان يطعن بالادعاء. غير أن اسرائيلوف استغل فعلا إنشغال القوات السوفيتية على الجبهة الالمانية مما سمح له بالتوسع. في عام 1942 اصبحت الانتفاضة خطيرة، وقامت الطائرات السوفيتية بقصف مواقع المنتفضين في الجبال. مع فشل السلطات السوفيتية في القضاء على الانتفاضة صدر قرار السوفييت الاعلى بترحيل قسري لشعب الشيشان والانغوش، وفي 23 فبراير من عام 1944 جرى البدء بتنفيذ القرار. بعد اربعة سنوات من الانتفاضة، وفي 15 ديسمبر من عام 1944 تمكنت قوات الامن الداخلي من قتل حسان اسرائيلوف في اشتباك عسكري مسلح.
بعد ذلك بسرعة خمدت الانتفاضة، غير ان بعض المناطق استمرت تقاتل فترة طويلة. اخر معاقل الانتفاضة جرى القضاء عليها، في داغستان، في عام 1969 .

وعلى العموم، وحسب وثائق الامن الداخلي، من 22 يونيو 1941 الى 23 فبراير 1944 ( بداية الترحيل الى كازاخستان) جرى قتل 3078 من اعضاء العصابات واعتقال 1715 ومصادرة 18 الف قطعة سلاح. وفي معطيات اخرى، من بداية الحرب الى يناير 1944 جرى تدمير 55 عصابة وقتل 973 من اعضائها وآسر 1901 شخص. كما انه، وحسب تقديرات الامن الداخلي، كان على ارض جمهورية الشيشان توجد 150-200 منظمة مسلحة اعضائهم 2-3 الف شخص، بما يساوي 0،5% من عدد سكان الجمهورية. بفضل هؤلاء جرى معاقبة سكان كل الجمهورية. [5]

في الوقت الذي عوقب شعب الشيشان - الانغوش على هذه الفئة الضئيلة كان عددا اكبر منهم يشارك في صفوف " جيش العمال والفلاحين الاحمر" حسب تسميته في ذلك الوقت. احدهم كان محمد اوزيف Магомед Узуев الذي حصل على لقب بطل روسيا الاتحادية، على مواقفه في الدفاع عن بريست كريبست، ولكن هذا اللقب حصل عليه في عام 1996. الى جانبه قاتل اخوه محمود فيسا اوزيف Магомеда Виса Узуев. والشيشاني ابوخدجي ادريسوف Абухаджи Идрисов حصل على لفب بطل الاتحاد السوفيتي في الحرب الوطنية. خان باشا خورديلوفا Ханпаше Нурадилову, حصل على لقب بطل الاتحاد السوفيتي في عام 1943 ، وفي المجموع كان هناك عشرة شيشان-انغوش من حملة لقب بطل الاتحاد السوفيتي.

عملية تهجير الشيشان-الانغوش
بعد صدور قرار رقم N 5073 القاضي بترحيل السكان وحل جمهوريتهم، جرى توزيع اراضي الجمهورية على داغستان واوستين الشمالية. 29 يناير أصدر بيريا قرار " تعليمات ونظام تطبيق ترحيل الشيشان والانغوش". [5] وصل بيريا الى غروزني في 20 فبراير ليقود شخصيا عملية تهجير شعبي الشيشان والانغوش، وشارك في هذه العملية 19 الف شخص من عناصر الامن الداخلي، إضافة الى مئة الف جندي لتمشيط قمم الجبال.. [6] في اليوم التالي التقى قادة الجمهورية والقادة الروحيين واعلمهم بالخطة وطلب منهم الانصياع والتحضير وتهيئة الناس لذلك. عن هذا رفع بيريا تقريره الى ستالين يقول:" جرى إعلام رئيس مجلس شعب الشيشان-الانغوش مالايف، حول قرار الحكومة بترحيل الشيشان - الانغوش وعن الاسباب التي وقفت خلف هذا القرار. بعد اطلاعي مالايف على الخبر اجهش في البكاء، ثم تمالك نفسه ووعد بتنفيذ جميع المهمات، الملقاة على عاتقه في مجرى تنفيذ الترحيل. بعد ذلك، وبمرافقته، تم الاجتماع مع 9 من قادة العمال الشيشان الانغوش وتم اخبارهم بالعملية وطريقة التنفيذ واسباب العملية. 40 من الحزبيين وعمال السوفيتات من الشيشان والانغوش جرى تفويضهم على 24 منطقة ومهمتهم اختيار من نشطاء كل منطقة سكنية 2-3 اشخاص لحفظ النظام.
كما جرى لقاء مع اكثر القادة الروحانيين تأثيرا، في جمهورية الشيشان-الانغوش، الشيوخ Б.Арсановым, А.-Г. Яндаровым и А.Гайсумовым, وطولبوا بتقديم المساعدة من خلال الشيوخ المحليين وبقية الوجهاء. [7]

تخبرنا وثائق الامن الداخلي انه جرى خروج 180 قافلة، بها 493269 شخص، في الطريق ولد 57 اشخاص ومات 1272. القافلة الاخيرة كان بها قادة الجمهورية والاشخاص الذين نظموا عملية الترحيل. [5]

في الوثائق الرسمية يشار الى أنه اضطروا الى قتل 780 انسان فقط، وأعتقال 2016، من العناصر المعادية للسوفييت، ومصادرة 20 الف قطعة سلاح، كما هرب الى الجبال 6544 شخص. كما جرى الاخبار عن " مجموعة من الاحداث الغير نمطية تخرق القوانين السوفيتية، مثل حوادث اطلاق نار تلقائي بعد عملية الترحيل، على العجائز الشيشان، والمرضى، والمعوقين، الذين لم يتمكنوا من مرافقة القوافل". [5]

في عام 1957 صدر قرار عن رئاسة مجلس السوفييت الاعلى بإلغاء قرار التهجير التعسفي، وعاد الكثير من الشيشان والانغوش الى موطنهم الام. [5]

--------------------------------------------------
1- Грозный – герой, или Очередная кавказская авантюра
2- ГАРФ. Ф.Р-9478. Оп.1. Д.55. Л.13
3- О Хасане Исраилове и его восстании на сайте «Нохчалла» http://nohchalla.com/lichnosti/hasan-israilov.html
4- Веремеев Ю Чечня 1941-44 годы
5- Наказанный народ. Как депортировали чеченцев и ингушей
6- Павел Полян. Принудительные миграции в годы второй мировой войны и после её окончания (1939–1953)
7- Документы из архива Иосифа Сталина (рус.), Независимая газета (29 февраля 2000).


يتبع