العدد الخامس.. مطلع اذار 2005

حوارات ماركسية
2005 / 3 / 7 - 12:04     

حــــــــوارات ماركســـــــــــــية
لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،
وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي في سوريا

المحتويات

سلامه كيله -------------- مأزق "اليسار الديمقراطي" و إشكالية "الاشتراكية الديمقراطية"
محمد الخضر ------------- الاشتراكية أو البربرية!
نايف سلوم -------- كاد أن يفحمنا باستخدامه حرف التوكيد " إنّ "
حسان خالد -------- عن التحالفات في سوريا على مشارف المنعطف الانتقالي

مأزق " اليسار الديمقراطي"
وإشكالية "الاشتراكية الديمقراطية"

سلامه كيله
نقصد هنا الميل لتجاوز الصيغة الشيوعية القديمة من خلال التعلُّق بصيغة الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية. حيث بدا أن فشل التجربة الإشتراكية التي قامت على " العقيدة الشيوعية"، يفرض الإنتقال إلى "الإشتراكية الديمقراطية" التي تشكَّلت كإنقسام عن الحركة الشيوعية، إنطلاقاً من الخلاف حول الموقف من الرأسمالية و من طريقة " الصراع" ضدها. فهل يمكن تأسيس " يسار ديمقراطي" ؟ أو تأسيس يسار مشبع بروح " الإشتراكية الديمقراطية" في الظروف القائمة في الوطن العربي؟
هذا السؤال المركَّب ضروري بعد تزايد الدعوات إلى تأسيس يسار ديمقراطي، أو إلى تأسيس أحزاب إشتراكية ديمقراطية. و للتوضيح مسبقاً فإن المسألة هنا لا تتعلَّق بالديمقراطية، التي باتت تضاف كـ " دمغة" ضرورية، أو باتت هاجس قطاع متَّسعٍ من المثقفين و " محترفي" السياسة. و إذا كانت تُطرح كبديل لـــــ " الثورة" و " التغيير الثوري"، فقد أصبحت ملاصقة لميل اليسار الشيوعي القديم نحو " التجديد" و إختيار سياسة " عاقلة" و " عقلانية" و أيضاً " واقعية"، و في إطار نشاط علنيٍّ و مطلبيٍّ و سلميٍّ و تدرجيٍّ، الأمر الذي يفرض تأسيس اليسار الديمقراطي. المسألة هنا ليست الديمقراطية التي هي ضرورة لأيّ تشكيل حديث، و هدف أساسيّ في إطار السعي لتحقيق التطوّر، المسألة في المعنى الذي يُعطى لليسار من جهة، و في إمكانية تحقُّقه الواقعي من جهة أخرى.
و لاشك في أن تلك " الأحلام " مشروعة، حيث أنها تنطلق من تمثّل " التطوّر الحضاري " القائم على حلّ الصراعات السياسية في إطار سلمي ديمقراطي، و وفق آليات متوافق عليها، إنطلاقاً من أن هذه الآليات هي التي تحقِّق تطوّر المجتمع في كل الحالات. و لهذا تُعطى هذه الآليات الأولوية، لتكون الخطوة الأولى في مسار التطوّر، و لتكون مدخل تحقيق كل الأهداف الأخرى التي تتعلّق بالإقتصاد و المجتمع، و حيث يتمّ عبرها السعي " الجاد " لتحقيق المطالب الشعبية و الرفاه.
و ربما كان " تمثُّل " الرأسمالية الأوروبية ( و أوروبا عموماً ) حاسم هنا، فأوروبا هي " المثال " الذي نسعى لتحقيقه منذ أن إنتقلت إلى النمط الجديد ( الرأسمالي )، و البنية الجديدة. و ليس أمامنا خيار سوى ذلك، لكي نصبح قوّة قادرة على فرض التكافؤ في العلاقات على الصعيد العالمي. و أصلاً أن نصبح قوّة منتجة. لكن المسألة الهامة هنا تتمثّل في تحديد الخطوات التي تقود إلى ذلك و نحن نسعى لـ " تمثُّل " أوروبا. هل أن تكرار التطوّر الرأسمالي هو الذي يسمح بذلك؟ و لكن هل أن تكرار ذاك التطوّر ممكن؟
إذن سيكون البحث في ممكنات نشوء إتجاه إشتراكي ديمقراطي محكوماً بظروف جديدة، لم تكن موجودة في أوروبا حينما تشكّلت الحركة الإشتراكية الديمقراطية. و بالتالي يصبح التساؤل حول إمكانية تأسيس " إشتراكية ديمقراطية " ذات أهمية، لأن المشكلة ليست في التصوّرات و " الأحلام " و الإستنتاجات " النظرية "، بل هي في ممكنات الواقع. فهل أن الواقع يؤسِّس لنشوء " الإشتراكية الديمقراطية " كتيار فكري و كحزب سياسي؟
هذا السؤال يبدو نافلاً من قِبل كل الذين يدعون لتأسيس يسار ديمقراطي، لهذا يجري القفز عنه، و من ثَمّ يجري الإنطلاق من " حتمية " تأسيس " يسار ديمقراطي "، أو حركة " إشتراكية ديمقراطية ". هذه الحتمية هي التي من الضروري أن توضع تحت ضوء الفحص، حيث أن المقاربة الشكلية لن تجيب على سؤال الواقع، بل أنها سوف تقدِّم إجابات " وهمية " لن تسهم إلا في تشكيل تكوينات سياسية منعزلة. كما أن " القياس " على ما هو أوروبي لن يقدِّم مقاربة لما هو واقعي بالضرورة. إن نشوء تيار إشتراكي ديمقراطي هو نتاج ظروف محدَّدة، يجب تلمُّسها في الواقع، كما أن الدور الذي يمكن أن يلعبه حزب إشتراكي ديمقراطي مرتبط بالواقع المحدَّد كذلك. و لهذا يجب البحث في ممكنات نشوء تيار إشتراكي ديمقراطي في الواقع الراهن، في مشكلات الواقع و في السياقات الممكنة التي تفضي إلى حلِّها، و ليس في " الحلم " أو في " الإرادة الذاتية "، أو كنتيجة لردّة فعل على تجارب بدت أنها فاشلة. حيث العمل العلني السلمي هو نقيض مطلق للعمل السرِّي الثوري، و لا يمكن أن تُرسم الصورة على هذا الشكل، لأنه ليست الإرادة الذاتية هي التي تحدِّد طبيعة العمل، إلا من زاوية التوافق مع القوّة المسيطرة ( أي الطبقة/ السلطة )، عبر تقديم كل التنازلات التي تريدها الطبقة/ السلطة، أما حينما يصبح الهدف هو تحقيق مطالب جادة و جدّية فإن الطبقة/ السلطة تفرض – من خلال آلياتها هي بالذات - الصيغة التي يجب أن يكون عليها العمل، أو تفرض الخروج من العمل السياسي. و بالتالي فإن أشكال العمل تتحدّد إنطلاقاً من طبيعة الصراع ذاته، و من تصوّر طرفيه.
هنا نحن إزاء أكثر من مسألة. نحن إزاء مسألة التطوّر، أي مسألة بناء قوى منتجة و تحديث المجتمع، و بالتالي إزاء الآليات الضرورية لتحقيق ذلك. و أيضاً نحن إزاء مسألة آليات الصراع السياسي التي تنطلق من السعي لتحقيق مصالح محدّدة. بمعنى ما هي الأهداف التي تبرِّر نشوء تيار إشتراكي ديمقراطي أو يسار ديمقراطي؟ هل هي مطلبية أو تغييرية؟ و هل يمكن أن تتحقَّق الأهداف المطلبية دون تغيير؟ و من ثَمّ هل يتحقّق التغيير في إطار سلمي أو أنه يمكن أن يتحقَّق في إطار ثوري؟
سنشير إلى أن " الحركة الإشتراكية " تبلورت في أربعة تشكيلات خلال القرن العشرين، و حقّقت أهداف مختلفة. و نحن هنا نعمّم تعبير الإشتراكية لأننا نوصِّف، و بالتالي نتعامل مع المسميات التي أطلقها كل تيار على ذاته. و التيارات هي:
1) الشيوعية التي إنتصرت في أكثر من نصف العالم الذي كان متخلِّفاً ( فيما عدا بعض دول أوروبا الشرقية، مثل ألمانيا الشرقية و تشيكوسلفاكيا و إلى حدٍّ ما بولندا، و التي تحقّقت فيها عبر الجيش الأحمر ). و لقد إنتصرت عبر الثورة ( أو الإنتفاضة المرافقة لدور الجيش السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية )، و كانت مهمتها تتحدَّد في إنجاز المهمات الديمقراطية ( أي تجاوز التكوين الإقطاعي و بناء الصناعة و الحداثة). بمعنى أن الهدف الأساسي كان تطوّرياً بقصد " اللحاق " بالتطوّر الرأسمالي، لكن الذي يتحقّق من خارج النمط الرأسمالي نتيجة الفشل في التطوّر من داخله. و بالتالي كانت المهمة أكبر من تحقيق مسائل مطلبية، رغم أنها تتضمَّنها. و كانت الإنتفاضة ( روسيا ) و الثورة المسلحة ( الصين و الهند الصينية و كوبا.... ) هما الآليات الضرورية للوصول إلى ذلك. و هذه التجارب تفارقت مع الديمقراطية، و أسّست لسلطة شمولية.
2) الإشتراكية الديمقراطية التي تشكّلت كإتجاه سياسي و فكري في أوروبا الرأسمالية، و أصبحت جزءاً من التكوين السياسي، و من " اللعبة " الديمقراطية، و وصلت إلى السلطة عبر الإنتخاب. و لقد كان نشوؤها ممكناً نتيجة " المساومة التاريخية " التي تحقّقت بين الطبقة العاملة و الطبقة الرأسمالية، و كمعبِّر عن الميل العام لخفض الصراع الطبقي و تحويله إلى " تنافس ديمقراطي "، و ضغوط و إحتجاجات سلمية، من أجل الحفاظ على التوازن بين الأجور و الأسعار و تحقيق ساعات عمل أقل و توسيع الضمان الإجتماعي. هذه المساومة التي إضطرّت إليها الرأسمالية بعد ثورة أكتوبر و الإنتشار الهائل للشيوعية، من أجل كبح طبقتها العاملة كي لا تتحوّل إلى قوّة تغيير، عبر تقديم تنازلات مهمة قامت على أساس تخلّي الطبقة العاملة عن هدف إزاحة الرأسمالية و القبول بمبدأ " التفاوض السلمي " من أجل تحسين الظروف المعيشية و شروط العمل. و كانت الرأسمالية قادرة على التكيُّف مع هذه التنازلات " الإضطرارية " نتيجة تحوّلها إلى نمط عالمي يسيطر على إقتصاد العالم و يُخضعه لمصالحه.
لكن السبب الأخر الذي أسّس لنشوء الإشتراكية الديمقراطية تمثّل في التوسّع الهائل لحجم الطبقة الوسطى ( طبقة المدراء و موظّفي الشركات و الدولة، و الأساتذة و الخبراء و التقنيين)، نتيجة الطابع العالمي للنمط الرأسمالي، و تمركز الوظائف في يد مواطني المراكز الرأسمالية في إطار الشبكة العالمية للشركات و لدور الدولة الرأسمالية.
في هذا الوضع أصبح الميل " التوافقي " هو المهيمن في تلك المجتمعات، حيث بات غير مطروح تجاوز الرأسمالية، و أصبحت المسألة هي مسألة " تحسين شروط ". و بالتالي أصبحت " الإشتراكية " هي هذا الميل لتحسين شروط الطبقة العاملة و الفئات الوسطى عبر الصراع السلمي مع الرأسمالية و في إطار اللعبة الإنتخابية. و كانت هذه المسألة ناجحة إلى حدٍّ بعيد، و أفضت إلى أن تبقى الأحزاب الشيوعية قوّة لكنها محدودة و محدَّدة مثّلت في لحظات نسبة تجاوزت ربع الناخبين ( الحزب الشيوعي الفرنسي و الحزب الشيوعي الإيطالي).
لقد بدت الأحزاب الإشتراكية و كأنها القوّة التي تحافظ على حقوق الطبقة العاملة و الفئات الوسطى و المدافعة عنها، و الساعية لأن يتشكّل " المجتمع الإشتراكي " مع إستمرار وجود الملكية الخاصة و الربح الرأسمالي. و بالتالي كانت حاملة مطالب تلك الطبقات و العاملة على تحقيقها كلما وصلت إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع.
3) " إشتراكية الأمم المتخلِّفة " التي نتجت عن وصول حركات التحرُّر الوطني إلى السلطة. و التي أسميت دول " التوجّه الإشتراكي " أو دول " التقدُّم الإجتماعي ". حيث قامت تجربتها على إلغاء الإقطاع و توزيع الأرض على الفلاحين، و تحقيق " النهضة " الصناعية إستناداً إلى دور الدولة التخطيطي و الإستثماري، و كذلك تحقيق الضمان الإجتماعي الشامل و حق العمل و التعليم المجاني. و بالتالي قامت على أساس تحقيق التطوّر و مطالب الطبقات الشعبية معاً. كل ذلك في إطار " تقديس " الملكية و ليس إلغاؤها. و إذا كانت حليفاً للدول الشيوعية، فقد حاولت أن تولِّف ميلها " الإشتراكي " مع الحركة الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية، و بات بعضها عضواً في الحركة و مؤتمراتها. كما عملت على أن تبقى في علاقة " تساومية " مع الرأسمالية.
4) الشكل الرث للإشتراكية الديمقراطية في الأمم المتخلّفة. و هو الشكل الذي إتّخذته الحركة الشيوعية في العديد من الأمم، رغم " إرتباطها " بالتجربة الشيوعية ( تجربة الإتحاد السوفييتي و المنظومة الإشتراكية ). و لقد أشير إلى أنها شكل رث لأنها إلتزمت السياسات العامة للحركة الإشتراكية فيما يتعلّق بدورها في الصراع الطبقي، حيث إنطلقت من ضرورة إنتصار الرأسمالية و من دعم هذا الإنتصار، و إكتفت بطرح مطالب ديمقراطية و شعبية مطلبية، و راهنت على " التطوير "، و ليس على التغيير، في إطار سيطرة الرأسمالية. و بالتالي كانت يسار الرأسمالية الساعية للحصول على سلطتها. ثم أصبحت جزءاً من تكوين سلطة حركات التحرُّر ( رأسمالية الدولة ) و المعبِّر – و إن بخجل – عن بعض الميول العمالية.
لقد راهنت على ضرورة إنتصار التطوّر الرأسمالي، على أن تلعب هي دور الناقد و المدافع عن " المطالب العمالية "، و المطالب الديمقراطية. هذه هي حدود دورها، التي كانت تعتبر أنه مقدّمة الوصول إلى الإشتراكية، لكن بعد أن تنجز الرأسمالية إنتصارها. و هي الفكرة التي كانت في أساس نشوء الحركة الإشتراكية الديمقراطية، و التي تطوّرت إلى العمل المديد مع الرأسمالية إنطلاقاً من السعي لأن تكون المعبِّر عن الجانب الإجتماعي ( دون أن تتخلّى عن التعبير عن كل الجوانب الأخرى، السياسية و العالمية ).
و لقد أنتج هذا الشكل الرث للتطوّر الشكل الرث الأخر الذي أشرنا إليه قبلاً، و الخاص بنشوء رأسمالية الدولة تحت مسميات إشتراكية. و كل منهما كان مصيره الفشل عكس التجربة الشيوعية و تجربة الحركة الإشتراكية الديمقراطية.
في هذه الصورة يمكن تلمُّس سياقين، الأول هو الشكل الذي وُضع تحت تسمية " الشيوعي" أو الإشتراكي، و الثاني الذي أصبح يعرف بالإشتراكية الديمقراطية. كما يمكن تلمُّس أن الهدف الأساسي مختلف لدى كلٍّ منهما، حيث سيكون هدف التطوّر و اللحاق هو الهدف الأساسي في التجارب الشيوعية، من أجل تجاوز البنية الإقطاعية و تأسيس النمط الإقتصادي الذي يقوم على الصناعة كقوّة منتجة حديثة، و إن كانت قد حقّقت مطالب إجتماعية مهمة. لكن سيكون تحقيق المطالب الإجتماعية و تخفيف غلواء الوحشية الرأسمالية و الحفاظ على توازن مجتمعيٍّ، هو الهدف الأساسي للحركة الإشتراكية الديمقراطية، دون أن نتجاهل الدور التطويري الذي تلعبه. و أيضاً يمكن تلمُّس أن التجارب الشيوعية نشأت في أمم متخلِّفة كانت مسألة التطوّر حاجة عميقة و مقدِّمة ضرورية فيها، حيث يجب الإنتقال إلى المجتمع الصناعي الحديث، رغم أن هذا الإنتقال إفترض تحقيق المطالب الشعبية. بينما نشأت الحركة الإشتراكية في الأمم الرأسمالية المتطوّرة و المستقرّة و التي تهيمن على العالم، و عبَّرت عن نزوع إجتماعي أكثر من تعبيرها عن ميل إشتراكي، تأسيساً على تحقيق " العدالة " في إطار النمط الرأسمالي و ليس عبر تجاوزه. و كان تطوّر هذه الأمم يسمح بذلك.
فقد أبرزت الحاجة العميقة لتحقيق التطوّر في الأمم المتخلّفة ضرورة الإنتقال إلى الإشتراكية، حينما سدَّت رأسمالية المراكز إمكانات التطوّر الصناعي في إطار رأسمالي فيها، فأنتجت الصيغة التطوُّرية في إطار سلطة إستبدادية التي سادت في القرن العشرين، لكنها إستطاعت أن تنجز التطوّر الصناعي و الحداثة.
و الحاجة العميقة للتطوّر هي التي أنتجت الشكل الرث الذي مثّلته دول حركات التحرُّر ( شكل رأسمالية الدولة )، عندما لم تفعل الحركة الشيوعية ذلك. و بالتالي فقد عبّر هذا الشكل عن محاولة للتطوّر، لكن بأدوات قاصرة و إستناداً إلى طبقة تميل إلى التبرجز السريع. بينما كانت الأمم الرأسمالية قد تجاوزت هذا الوضع، و باتت المشكلة التي تعيشها هي مشكلة ضمان عدم تفاقم الصراع الطبقي، الأمر الذي تحقّق من خلال ما ســـــمي بـ" المساومة التاريخية" بين العمل و رأس المال، و أصبحت مهمة الإشتراكية الديمقراطية هي الحفاظ على هذه المعادلة و إعادة إنتاجها. مما جعل سياساتها تعبِّر عن نزوع إجتماعي و ليس عن ميل لتجاوز الرأسمالية.
إذن نحن إزاء إشتراكية عبّرت عن ميل لتحقيق المهمات التي أنجزتها البرجوازية الأوروبية ( و الأميركية ثم اليابانية )، و أخرى عبّرت عن نزوع إجتماعي فرضته الظروف العالمية و ظروف الصراع الطبقي، هدِف إلى ضمان تماسك المراكز الرأسمالية في سيطرتها على العالم و في مواجهتها للشيوعية التي تجاوزت وضع " الشبح " الذي وسمها ماركس به، إلى وضع القوّة الزاحفة، و الميل الجارف، منذ إنتصار ثورة أكتوبر.
و إذا كانت الحركة الإشتراكية قد دافعت عن حقوق العمال و الفئات الوسطى، و قادت نضالها لتحقيق منجزات مهمة على هذا الصعيد في إطار النضال الديمقراطي، فقد حقّقت الشيوعية كل ذلك ( و ربما أكثر ) لكن في إطار سلطة مستبدّة و شمولية. و لاشك في أن "إشتراكية الأمم المتخلِّفة " توافقت مع إشتراكية الشيوعية في أنها كانت تحمل برنامجاً تحديثياً ، يقوم على بناء القوى المنتجــة ( في الصناعة و الزراعة )، و على تعميم التعليم و تكوين المؤسسات، لكن في إطار سلطة شمولية مستبدّة. لكنها توافقت مع الحركة الإشتراكية الديمقراطية في أنها لا تلغي الملكية الخاصة بل تنطلق منها، مع إلتزامها بحقوق العمال و تعميم حق العمل و الضمان الإجتماعي و مجانية التعليم، و تدخُّل الدولة في الإقتصاد عبر دورٍ محفِّزٍ في مجال الإستثمار ( و هذه مسائل تحقّقت في الشيوعية كذلك ). و هي هنا لا تمسُّ الاقتصادي (الملكية ) إلا في حدود تعبيرها عن دور حداثويٍّ، بل تحسِّن من شروط الإجتماعي محاولة تكريس مبدأ " التصالح الإجتماعي " و تعايش العمل و رأس المال.
بمعنى أنهما معاً هما أقرب إلى التعبير عن نزوع إجتماعيٍّ معيَّن منه إلى الإشتراكية، إلا إذا قلَّصنا الإشتراكية إلى نزوع إجتماعي. الذي عبَّر عن نزوع حقيقيٍّ لدى قطاع من الطبقة العاملة الأوروبية و جزء كبير من الطبقة الوسطى، لكنه عبَّر عن " إحساسٍ " لحظيٍّ لدى الفئات الوسطى و بعض الفئات الريفية الفقيرة العربية، تحوَّل إلى ميل للترسمل عبر النهب الذي وفّرته السيطرة على الدولة و إدخالها كربّ عمل. حيث أن " الميل الإجتماعي " ذاك الذي كان " ضابطاً " للرأسمالية الأوروبية، كان لحظياً لديها هي، لم يصمد أمام ميلها لتحقيق "التراكم الأوّلي "، لأن " إشتراكيتها " كانت بالضرورة تفتح الأفق لتحقيق الترسمل الخاص ما دامت إعتبرت الملكية الخاصة أمراً " مقدّساً ".
لكن النزوع الإجتماعي كان أكثر وضوحاً لدى الحركة الشيوعية العربية ( و في العديد من الأمم المتخلِّفة )، حيث قامت سياستها على " حتمية " الرأسمالية و ضرورتها، و إنطلاقاً من ذلك يتأسّس " النضال " الديمقراطي من أجل الديمقراطية و " المطالب الشعبية". و هي هنا تتقاطع مع الحركة الإشتراكية الديمقراطية من هذه الزاوية، حيث بدت و كأنها تعبِّر عن الميل الإجتماعي في سياق التطوّر الرأسمالي. و من ثَمّ لم تطرح على ذاتها دور تحقيق المهمات الديمقراطية، التي تتمركز حول تحقيق التطوّر الإقتصادي الإجتماعي. بمعنى أنها حاولت أن تلعب دور الحركة الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية في وضع يفتقد إنتصار الرأسمالية، و يفتقد القوى المنتجة و الطبقة العاملة القويّة. و بالتالي تحتلُّ مسألة التطوّر نقطة المركز، دون أن تكون الرأسمالية قادرة على تحقيقه رغم أنها ( و هي المتداخلة مع الإقطاع ) تمارس النهب و الإستغلال و الإضطهاد الطبقيّ، الأمر الذي كان يصعِّد من حدّة التناقض بينها و بين الطبقة العاملة و كل الطبقات الشعبية. و كانت مشكلة الحركة الشيوعية أنها تخلَّت عن دورها في تحقيق التطوّر (الذي كان يفترض أن تصبح هي السلطة )، و تمسّكت في النزوع الإجتماعي الديمقراطي الذي ساعدت " الماركسية السوفييتية " على تعميمه، لأنها في إطار الصراع العالمي لم تكن – في مراحل عديدة – معنية بتطوير الصراع ضد النمط الرأسمالي، بل كرَّست الميل للضغط و الإنتقال التدرُّجي و تحسين أوضاع الأمم المتخلِّفة، في إطار السياسة العامة للدولة السوفييتية القائمة على " ضبط " الصراع العالمي، و الإفادة من الظروف لتحقيق " المكاسب ".
و إذا كنا نستطيع تركيز صورة " الإشتراكية " في خيارين، إنطلاقاً من أن الخيارين الآخرين هما " الصورة الكاريكاتور " عنهما، فإن الفارق أساسيّ بينهما، حيث أنهما عبّرا عن وضعين مختلفين و طريقين مختلفين كذلك. و هنا تُطرح مسألة آليات التحقيق، حيث تحقّقت الإشتراكية الشيوعية عن طريق الثورة و " النضال الثوري " و العنف، بينما تحقّقت الإشتراكية الديمقراطية عن الطريق السلمي و عبر الإنتخابات الديمقراطية. و الخلاف هنا ليس شكلياً أو أنه نابع من ميل " إرادوي "، بل كان نتيجة الإختلافات العميقة في الظرف الموضوعي، في الواقع في كل من الأمم المخلّفة و أوروبا الرأسمالية الإمبريالية. و إذا كانت أوروبا هي مركز النمط الرأسمالي حيث أنجزت التطوّر الرأسمالي و أصبح النمط الرأسمالي هو المنتصر دون منازع، فإن الأمم التي إنتصرت فيها الإشتراكية كانت لازالت تعيش النمط السابق للرأسمالية، أي النمط الإقطاعي و " شبه الإقطاعي/ شبه الرأسمالي "، و بالتالي لم تكن قد أنجزت الإنتقال إلى " العصر الصناعي ". و لهذا يمكن تلخيص الفارق في التالي:
1) لقد تبلور " الطريق الثوري " لأن الظرف الموضوعي كان يفترض أن يتحقّق تجاوز النمط السائد و المرور بغير طريق الرأسمالية، و بالتالي تجاوز الرأسمالية من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية. إن بناء المجتمع الصناعي يفرض أن تعمل القوى المناهضة للرأسمالية من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية. و في هذا الوضع تصبح الثورة هي الخيار الممكن، خصوصاً و أن التناقضات التي تحتويها البنية الإقطاعية ثم الرأسمالية التابعة، تفرض الصراع الطبقي الحدّي، بمعنى هزيمة الطبقة المسيطرة الحاكمة وإقامة سلطة طبقية جديدة لكي يصبح ممكناً تنفيذ برنامج تطوير إقتصادي و حداثة. حيث من الضروري إدخال الدولة كلاعب مركزي في الإستثمار في القطاعات المنتجة التي يهرب الرأسمال الخاص من التوظيف فيها، لكي تتأسّس القاعدة الأساسية في مجال القوى المنتجة الحديثة ( أي الصناعية ). و هذه المهمة، التي هي مهمة مركزية، هي التي أسّست لنشوء أنظمة شمولية في تلك المجتمعات التي كانت زراعية في الغالب، رغم أنها بتأسيسها البنية المدنية الحديثة أسّست لنشوء الضرورة التي تفرض الحاجة إلى الديمقراطية.
إذن الثورة هنا ضرورة، و إلتباسات التطوّر ممكنة. و سوف يكون خيار الإصلاح و النشاط السلمي ( وحده ) غير معبِّرين عن حقيقة الواقع، و بالتالي يقودان إلى الفشل كما لاحظنا فيما يخصّ الحركة الشيوعية العربية، التي بدت ككاريكاتور الحركة الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية، لأنها طرحت سياساتها في وضع مختلف بل و مناقض، ويحتاج إلى آليات أخرى لتحقيق التطوّر. لقد إنتصرت الإشتراكية الشيوعية في أمم عدّة و في مناطق واسعة حينما إلتزمت برنامج التطوّر و قامت بالثورة ( الصين، الهند الصينية و كوبا...)، لكنها فشلت في الأمم التي إتَّخذت فيها صيغة الإشتراكية الديمقراطية. و بهذا كانت صيغة الثورة هي الصيغة الضرورية في الأمم المخلَّفة، لأن الهدف هو تحقيق الثورة الديمقراطية.
2) و لقد تبلورت الإشتراكية الديمقراطية على أرضية " المساومة التاريخية " و إنتصار النظام الديمقراطي، إنطلاقاً من مستوى التطوّر الذي حقّقته الرأسمالية، حيث بات من الممكن أن تصل إلى السلطة الأحزاب التي تلتزم النمط الرأسمالي، و إن كانت تسعى لتحقيق قدرٍ من العدالة الإجتماعية. و بالتالي بات " الطريق السلمي " ممكناً لأن التكوين المجتمعي توافق على إحترام الملكية الخاصة و الملكية الرأسمالية تحديداً. لهذا أصبح " الطريق السلمي " ممكناً لأنه لا يتجاوز البنية الرأسمالية بل بات يعيد ترتيب التوازن فيها. و لقد نجح ذلك لأن الوضع لازال يحتمل إستمرار البنية الرأسمالية، و يفترض إستمرارها. إن " المساومة التاريخية " التي عقدتها الرأسمالية مع الطبقة العاملة، باتت الأساس الذي جعل الصراع يدور على أرضية الرأسمال و ليس من أجل هزيمته و تجاوز الرأسمالية. حينها أصبحت اللعبة الديمقراطية ممكنة، و بات الخيار السلمي الديمقراطي هو الخيار الممكن. لقد غدت الديمقراطية هي قاعدة حل الصراعات، و بات النشاط الإحتجاجي السلمي ( المظاهرات و المسيرات و الإضرابات، و النشاط النقابي) ممكناً.
لكن الحركة الإشتراكية الديمقراطية إنحصرت في الغالب في البلدان الرأسمالية ( أوروبا خصوصاً )، و إمتدّت بنجاح جزئي إلى بعض دول أميركا اللاتينية ( التشيلي و البرازيل )، و إن كانت تواجدت في مناطق أخرى لكن دون حظٍّ بالنجاح.
و في هذا الوضع الرأسمالي بات خيار الثورة مستحيلاً، لأن الطبقات لا تتناحر بل تتنافس، و لأن الديمقراطية هي الصيغة المثلى لحسم التنافس. لهذا بدت كل الحركات المتطرِّفة في أوروبا كحركات هامشية ( الألوية الحمراء الإيطالية و الجيش الأحمر الياباني و بادر ماينهوف الألمانية ). كما بدت الميول التي تدعو إلى التناحر الطبقي و الثورة الإشتراكية كميول مهمّشة كذلك.

الآن، هل يمكن تأسيس حركة إشتراكية ديمقراطية في الوطن العربي؟ طبعاً يمكن أن تتأسّس، لكن السؤال الأهم هنا هو هل تستطيع أن تلعب دوراً فاعلاً؟ يمكن أن تتواجد في إطار البنى القائمة كما تواجدت الحركة الشيوعية طيلة أكثر من خمسين عاماً، لكن لتبدو كيسار للسلطة و ليس كيسار يعمل من أجل التغيير. و سوف يتوقّف وجوده على ممكنات تحقيق الديمقراطية التي تبدو صعبة المنال، لأن الطبقات المسيطرة الحاكمة تمعن في النهب و تفتح السوق المحلّي لنهب الشركات الإمبريالية الإحتكارية، و بالتالي تفقر الطبقات الشعبية و تدفعها للتمرُّد و الإنتفاضة. الأمر الذي يفرض على الطبقة المسيطرة الحاكمة أن تحكم بالعنف، و تمارس الإقصاء السياسي، مما يحوّل أي حركة إشتراكية ديمقراطية إلى قوّة هامشية لأنها لا تطرح سوى الجزئي.
بمعنى أن الأساس الذي يولِّد الحركة الواقعية هو الصراع ضد النهب و الإستغلال الطبقي من جهة، و " الحلم " العميق الجذور بتحقيق التطوّر و الإنتقال إلى المجتمع الحديث في المستوى الإقتصادي الإجتماعي و من ثَمّ السياسي. و هذا يفترض تجاوز الرأسمالية و ليس سيادة النزوع الإجتماعي. و يفترض الثورة و ليس " النضال السلمي ". و إن كان التطوّر يتضمَّن النزوع الإجتماعي، و الثورة تتضمَّن النشاط السلمي و الديمقراطي.
و إذا كانت الحرب الباردة سمحت بأن تتحوّل تجارب دول حركات التحرُّر إلى ما يشبه التيار الإشتراكي الديمقراطي، و إن كان قد تلاشى مع تراجعها و من ثَمّ نهايتها دون أن يتحقّق التطوّر الضروري الذي يجعل المجتمعات التي إنتصر فيها جزءاً من " المدنية الحديثة " و من الأمم الصناعية ( عكس ما تركته المنظومة الإشتراكية )، فإن الوضع الجديد يؤسِّس لظروف طبقية بالغة التفجُّر، حيث بدأت الرأسمالية هجومها الوحشي على العمل في المراكز، و على الأمم المخلّفة في الأطراف. و إذا كان يعمم هذا الهجوم تحت غطاء نشر الليبرالية الجديدة القائمة على " الحرية المطلقة للسوق "، فإن الحرب الأميركية تفرض إحتكار الشركات الإمبريالية الأميركية كقوّة مسيطرة و نهّابة، و هي تعيد الأمم إلى الوضع الذي حاولت هذه الأمم تجاوزه خلال مرحلة الحرب الباردة. و لهذا يمكن أن نشير إلى عنصرين أساسيين يحدّدان طبيعة الواقع، و يؤشِّران إلى أشكال النشاط السياسي الممكن:
أولاً: إن السيطرة التي يفرضها النمط الرأسمالي العالمي تكرِّس اللاتكافؤ، إضافة إلى أنها تقوم على النهب و الحروب و بالتالي الإفقار و التهميش و الإستغلال. و يتعزَّز ذلك بميل الرأسمالية المحلية إلى النهب و النشاط في القطاعات غير المنتجة، و بالتالي تعزيز البطالة و الإفقار و التهميش، و كذلك النمو الهش. الأمر الذي يؤسِّس لتفارق طبقي واسع لا يني يزيد في الإتِّساع، و يقود إلى نشوء أزمات عميقة تدفع نحو التمرُّد.
ثانياً: تشكُّل تناقض طبقيّ حاد يصل حدَّ التعادي و بالتالي الصراع، إضافة إلى أن عالمية النمط الرأسمالي تؤسّس لتناقض متداخل، طبقيٌّ نتيجة النهب و السيطرة الإقتصادية، و قوميٌّ نتيجة التدخُّل السياسي و إحتجاز التطوّر.
في هذا الوضع، حيث التناقضات متفاقمة و الواقع يفرض الصراع، و في مجتمع ينزع نحو التطوّر ( أي التصنيع و الحداثة) يصبح تجاوز الرأسمالية هو الخيار الممكن، و بالتالي تكون الحاجة ليسار ثوري يسعى لتحقيق التغيير من أجل تحقيق التطوّر و المطالب الشعبية، هي التي تكمن في أساس بناء أي حزب يساري أو ماركسي أو إشتراكي. لقد حاولت الحركة الشيوعية أن تلعب دور الإشتراكية الديمقراطية في سياق سيطرة الرأسمالية (البرجوازية الوطنية ) لكنها كانت كاريكاتوراً، ليس لأنها لم تتملّك الديمقراطية فقط فهذه مشكلة كل التيارات في الأمم المخلّفة، بل لأن الوضع مختلف إلى حدٍّ بعيد. فهنا في المجتمع المخلَّف تصبح مسألة بناء القوى المنتجة هي التي تحظى بالأولوية، و تكون أساس بناء المستقبل. كما أن التكوين " القروسطي " الذي لازال سائداً في المستوى الإجتماعي و على صعيد الوعي، و الطبيعة الطفيلية و التابعة للرأسمالية المحلية، و إفتقاد القوى المنتجة الحديثة، و التناقضات الطبقية التي لا تميل نحو الإستقرار بل إلى التفاقم، كلها تجعل إمكانيات " رسوخ " الديمقراطية - الذي هو ضرورة لتشكيل حركة إشتراكية ديمقراطية – مستحيلاً، لهذا يغرق الميل الإصلاحي السلمي في تناقض مع ذاته، لأن الواقع يفرض السرية و التصادم، مما يقود إلى أن يتهمَّش وينعزل. حيث أن وجوده مربوط بــــ " مساومة " مع الطبقة/ السلطة تسمح بترتيب آليات الصراع على أساس ديمقراطي سلمي، و هذا ممكن إذا تخلّى اليسار عن تعبيره عن الطبقات الشعبية و عن تناقضها، و بالتالي عن دوره في تنشيط حركتها من أجل مطالبها. و لاشك في أن وضع مصر هو المثال في هذا المجال، حيث يمكن المطالبة و المناشدة لكن دون السعي لتنشيط فاعليات الطبقات الشعبية، و في إطار برنامج لا يلمس القضايا الجوهرية التي تؤسّس لتحقيق نقلة جديّة في الواقع. مما يُبقي اليسار مهمشاً في المستوى السياسي دون قاعدة شعبية ونضال طبقيّ حقيقيّ، و بالتالي يعزله و يقوده نحو الموت.
السؤال الأساسي الذي يجب أن يُطرح إذن هو: هل أن المطلوب هو تأسيس حزب من أجل أن يعبّر عن تناقضات الواقع كممثِّلٍ للطبقات الشعبية و أن يلعب دوراً تغييرياً، أو أن المطلوب هو نقل تجربة أوروبا في واقع لا يحتملها؟ في هذا الإطار تُطرح مسألة الإصلاح أو الثورة، مسألة التحسين المضطّرد للواقع أو تغييره؟ طبعاً إنطلاقاً من ممكنات الواقع ذاته.



الاشتراكية أو البربرية!

محمد الخضر
في رائعة غوته يقول مينفستو لفا وست : لو أنك فقط تحتقر العلم والعقل الذين هما أكبر قوة للبشر عندئذ امتلكك تماماً .
وقبله ردد الغزالي متهماً الفلسفة والعلوم العقلية :بأن الفلسفة هي أس السفه والانحلال، مادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة .
قادت البرجوازية نهضة العقل والتنوير مدشنة مشروعها الحداثي محطمةً المقدس المتعالي الذي استثمره النظام الإقطاعي الكنسي ليأبد سيطرته .
ولأن البرجوازية ونتيجة لتنامي قوة النقيض الطبقي[البروليتاريا] وبحكم قوانين الصراع تحاول تأبيد سيطرتها وأن تصنع العالم على شاكلتها فكان لا بد من إنتاج مقدس آخر لكنه مقدس معكوس ظلامي عدمي وبالتالي أنتجت ما بعد حداثتها لتلغي مشروع العقل والتنوير وتنشر اللاعقلانية على كافة الأصعدة الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية. اللاعقل كمقدس ظلامي عدمي يعمّي على الحقائق ويحاول أن يحرف الصراع الحقيقي إلى صرا عات هامشية وغير منتجة .
تتردد الكثير من المصطلحات في إطار الحرب الكونية الدائمة ملبّسة الفهم على كثير من الحقائق .
كان الخطر الشيوعي الذي يحاول قتل الحرية والرفاه في دول المعسكر الإمبريالي هو الشغل اليومي لمكنة الإعلام والثقافة الإمبريالية في المراكز .
ونفس هذا الخطر، أي الخطر الشيوعي الذي يعمم الإلحاد وينشر الإباحية وينزع الملكية ويشيع الأرض والنساء، هو الهم الأعظم في المكنات الإعلامية " الثقافية " عبر كل المنابر الممكنة وخاصة في المساجد والمواسم الدينية في دول العالم الإسلامي .
ومكنة الاستغلال الإمبريالية ماضية في نهب العالم في المركز والأطراف ممولة سباق التسلح المجنون بأرقام فلكية تضخ في مكنة الصناعات العسكرية لتصبح قاطرة لبقية قطاعات الاقتصاد وبالتالي إطالة عمر الرأسمالية وإطالة عذابات البشرية .
بعد سقوط المنظومة الاشتراكية كان لا بد من أجندة إعلامية جديدة فصراع الخير والشر يجب أن يستمر في مكنة ما بعد الحداثة الإمبريالية فكانت مصطلحات: الدول المارقة ومحور الشر هذا بالنسبة للأطراف . وبالنسبة للمراكز كانت مصطلحات : الشيطان الأكبر ـ اليمين المسيحي ـ المؤامرة اليهودية . وخاصة في عالمنا العربي والعالم الإسلامي .هذا الخطاب المجوهر ما قبل الحداثي يعّمي على الحقائق التي يجب كشفها وكشف زيف هذه الشعارات في المركز والأطراف . مع إعلاء لشأن العلم والعقل والفلسفة ولإنتاج مشروعنا الحداثي برافعته الحقيقية بفكر الطبقة العاملة السياسي عبر علم التاريخ بمفهومه المادي وبمنهجه الجدلي لنعرف ونوصف حالنا وأين نقف في هذا العالم ومن نواجه وبما ذا نواجه .
لقد انتهت المذبحة العالمية الأولى [الحرب العالمية الأولى ] بتحطم اقتصاد المهزومين والمنتصرين، وحدها الولايات المتحدة الأمريكية خرجت الرابح الأكبر لدخولها الحرب قبيل نهايتها ولهجرة رأسمال أوروبي كثيف إليها وهجرة كفاءات علمية وتقنية كبيرة إليها هرباً من أتون المذبحة العالمية ولأن الحرب والتوسع هو من بنية الإمبريالية فإن الإعداد لجولة أخرى من المذابح قد بدء فعلاً .
نعم لقد انحطت الرأسمالية وتستمر في انحطاطها الذي سيكون مليء بالعذابات والدماء ويظهر هذا الانحطاط بصعود الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا والكم الهائل من الرأسمال الموظف في إنتاج أدوات الموت وتوسع الاستعمار ليشمل كل العالم الرأسمالي الطرفي . لقد بدأت الصناعات العسكرية كقاطرة للاقتصاديات الرأسمالية المأزومة إلى جانب النهب الكبير المتحقق من إعادة استعمار العالم وإعادة اقتسامه ونهبه حتى العظم ، كل ذلك لم يخرج الإمبريالية من أزمتها ولم ينقضي زمن طويل على انتهاء الحرب الأولى حتى بدأت أزمة اقتصادية عاصفة تدوخ النظام الرأسمالي وتجعل الدولة قائدة للاقتصاد عبر عسكرته الكاملة كما في ايطاليا وألمانيا وعبر تدخل الدولة في ضخ كمية هائلة من السيولة في التوظيفات في البنية الأساسية وفي الصناعات العسكرية. خرجت هذه الإمبرياليات من أزمة نهاية العشرينات تترنح. وحدها الإمبريالية الأمريكية تنتعش وتضخ المزيد من رأس المال في صناعة عسكرية مجنونة لتلبي طلب الأسواق التي بدأت تعد العدة لجولة جديدة .
كانت المذبحة العالمية الثانية أشد ضراوة ودموية وخرجت منها الإمبريالية العالمية كلها(عدى الولايات المتحدة الأمريكية )مهزومة واقتصادها مدمر، ونصف القارة الأوربية تسوده الاشتراكية ، وحركات التحرر في المستعمرات بدأت تخوض الحرب الحقيقية للاستقلال .
الرابح الأكبر من هذه المذبحة كانت الولايات المتحدة التي تضاعف إنتاجها الصناعي ثلاثة أضعاف واستحوذت على 40% من الثروة العالمية. هذه المعطيات نقلت الهيمنة من الإمبريالية البريطانية إلى الإمبريالية الأمريكية التي بدأت وعلى نطاق واسع وعالمي تحاول تأبيد هذه الهيمنة عبر مجموعة من الأنشطة والاتفاقيات الدولية المغلفة بشعارات إنسانية كاذبة: من مشروع مارشال في أوروبا إلى مارشال آخر في أقصى الشرق، لتعاود مكنة الرأسمالية المنهكة العمل من جديد في أوروبا الرأسمالية وفي اليابان شرقاً مشكلة قوس حماية للعالم الرأسمالي وحصار للمد الشيوعي المفترض.
لقد لعبت الاتفاقيات الدولية التي أنشأت بموجبها مجموعة من المنظمات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة دوراً كبيرا في فرض عملة رئيسية للتداول العالمي هي الدولار الذي أصبح بحد ذاته سلعة تنتج بكثافة ، ضاربة عرض الحائط بالمعادل الذهبي وأصبحت المنظمات المالية العالمية هي الضامن الوحيد لهذه السلعة التي تحولت إلى إله واحد لمكنة الاقتصاد العالمي وللتجارة العالمية يبشر رسله الكثر بقدسية هذا الإله وبقدرته غير النهائية على فتح جنان الأرض لكل الراغبين بالتعبد في محرابه الأخضر، رغم أن كل المعطيات المنشورة وغير المنشورة ، تبين تهالك هذه السلعة وعدم قدرتها على شيء وأنها أصبحت بنية وهمية حيث تشير أكثر التقديرات على أن كتلة الدولار الموجودة في التداول تساوي أو تزيد على خمسين ضعف الكتلة الواجب وجودها كمعادل موضوعي لحجم الناتج الإجمالي القومي الحقيقي للولايات المتحدة فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا لم يأفل نجم هذا الإله ؟!
لقد تحول من إله جنات خضراء إلى رب جنود مدججين بالسيوف الطويلة والعربات الثقيلة وبالطيور التي تقصف السجيل فارضة صورته ومحرابه على كل العمل الاقتصادي العالمي .
لنرسم حدود الصراع جيداً والذي تريده الإمبريالية لتحافظ على هيمنتها ومعدل ربحها العالي جداً مع أن قوانين الاقتصاد الرأسمالي تقول بميل معدل الربح للانخفاض .ولتحافظ على هذا الربح العالي لا بد لها من أن تؤمن الحرية الكاملة لرأس المال في الدخول والخروج وعدم إزعاجه وفتح كل الأسواق أمام كل المنتجات، لا بد من إلغاء دور الدولة التدخليّ في الأطراف وبالتالي إتباع سياسة الخصخصة الكاملة. وتحرير رأس المال من كل أشكال الضرائب المفروضة إن أمكن، مع تعزيز دور الدولة في المركز لتأمين الهيمنة سياسياً وعسكرياً ولتقديم الدعم الاقتصادي عبر التوظيفات المباشرة والمساعدات للشركات المتعثرة إن لزم الأمر، وتعزيز الطبيعة الطفيلية للإمبريالية عبر أرباحها الكبيرة المتحققة كريوع من عمليات المضاربة الكبيرة والخيالية في الأسواق العالمية، عبر احتكار صناعة المعلومات والتقنيات المتقدمة في دول المركز للمحافظة على التقسيم الدولي الإمبريالي للعمل، استمرار النهب العلني والمنظم للمواد الخام وللطبيعة وتدمير البيئة وتلويثها الشديد، نهب الإمكانيات العلمية المحققة في الأطراف عبر الهجرة إلى المركز وإن الآلاف من الأخصائيين والعلماء الذين دفعت دول الأطراف دمها ثمناً لتعليمهم، تأخذهم المراكز لقمة سائغة وبدون أي جهد كأي مادة أولية لازمة لمكنتها الصناعية .
يد الدولة المركزية المدججة بالسلاح والقوة لتفرض فتح الأسواق في كل العالم أمام الرأسمال ولحماية حقوق الملكية والعلامات التجارية هذا الاحتكار الذي تدفع البشرية ثمناً باهظاً له خاصة في قطاع الأدوية والمواد الزراعية ، إنتاج المزيد من سلع الخدمات غير الضرورية بل المضرة في أغلب الأوقات /تجارة المخدرات، تجارة الجنس /
ملكية وسائل الإعلام الكبيرة والمؤثرة لتستطيع تسويق نفسها وثقافتها وبالتالي سلعها ضاربة عرض الحائط بكل ما هو جميل وخير وإنساني محولة الإنسان إلى وحش متفرد يستهلك ويستهلك حتى الفراغ والعدم .
نعم الآن تتحقق نبوءة لوكا ش العلمية : بأنه في بلدان الاقتصاد الإمبريالي التي تبنت ونشرت اللاعقلانية ستنجب فاشستي سيظهر هتلر بجانبه بمظهر عامل متدرب، هذه الإمبريالية الأمريكية رأس الإمبرياليات تنتج البربرية والدمار والفاشيين الجدد محاولةً الذهاب بالعالم بما فيه سكان الولايات المتحدة إلى الجحيم ومهما كان الثمن .
لقد سوقوا مقولة العالم كقرية صغيرة وهاهو يتحول إلى حفنة من القصور ومجموعة هائلة من بيوت الصفيح. قلة يقتلها البطر وتقتلها التخمة والملايين يقضون من الجوع. سوقوا المشاركة العالمية لكل الشعوب ونحن نعرف أن من لا يملك يفقد القدرة على التدخل بل لقد تحولت مجموعات واسعة في العالم قاطبة إلى مهمشين وغير فاعلين. مشكلين بيئة ممتازة لإشعال الصراعات الدامية الأثنية والدينية .
لكن ما العمل لوقف زحف البربريين والفاشيين الجدد ودحرهم .
نعم إن حركات الاعتراض العالمية على الهيمنة مهمة وحتى تكون لهذه الحركات فاعلية لا بد من تجذ ير هذا النضال، لنردد مع ماركس : نحن لا نقول للعالم كف عن النضال فكل نضالك باطل، إنما نعطيه فقط الشعار الحقيقي للنضال/رسالة ماركس إلى روغة 1843 / نعم إن شعارنا هو إما الاشتراكية أو البربرية. لينتصر خيارنا لا بد من حرب مواقع طويلة وصعبة وعلى عدة مستويات ثقافية ـ اقتصادية ـ سياسية .
لا بد من إعادة الاعتبار للفكر الماركسي الذي يحاول الكثير من المرتدين رميه في الظل وقول الباطل تجاهه .
لا بد من كشف زيف الشعارات المطلقة والتي تعتمد على الثنائيات نحن /هم وكشف زيف الخصوصية المزعومة وجوهرة التاريخ وجوهرة النصوص، ومن كشف أكاذيب الأصوليات الدينية وتبيان حقيقتها كوجه آخر للعولمة الإمبريالية وجزء من المشروع الرأسمالي العالمي .
لا بد من العمل الحثيث على مشروع للنهضة العربية والتحديث قوامها العلمانية والديمقراطية ، لا بد من إعادة الاعتبار للعقل ومواجهة قوى ما قبل الحداثة وقوى ما بعد الحداثة وكشف زيفها وظلاميتها المشتركة.
وضمن النضالات الاقتصادية لا بد من الرد الفكري على السلع التي يروج لها أبطال الإعلان المأجورين لفكرة السوق.
1 ـ الوقوف بحزم ضد الخصخصة ، مع عدم إهمال دور القطاع الخاص في العملية الإنتاجية .
2 ـ عدم الاعتماد على الزراعة والصناعة التصديرية وبالتالي نهب الأرض والماء والإنسان والمستقبل وارتهانهم للسوق العالمية.
3 ـ تقوية دور الدولة التدخليّ في الاقتصاد عبر التخطيط والبرمجة المتوسطة والطويلة الأجل من أجل تنمية متكاملة .
4 ـ عدم تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي خاصة في التعليم والصحة والمرافق العامة .
5 ـ العمل العربي المشترك على إنشاء أسواق مشتركة قدر المستطاع .
6 ـ وضع ضوابط صارمة للرأسمال الأجنبي المستثمر وأن يخدم الخطة الموضوعة من قبل الدولة .
7 ـ عدم تعويم العملة والحفاظ على سعر الصرف بيد الدولة حتى لا نكون عرضة لتدخلات المقامرين والمضاربين الدوليين وبالتالي دماراً اقتصادياً في أية لحظة وفي سياق الصراع السياسي الضاري الواجب خوضه ضد قوى العولمة عالمياً وقوى السوق محلياً . إضافة إلى ما سبق لا بد من العمل على :
1 ـ الديمقراطية السياسية وحرية الرأي وسيادة القانون.
2 ـ قانون أحزاب عصري وقانون انتخاب جديد .
3 ـ استمرار العمل على المشروع القومي العربي الديموقراطي بروافعه الحقيقية .
4ـ إنشاء تحالف حقيقي لليسار الديمقراطي ومنه الديموقراطي الماركسي.
5 ـ التصدي الحازم للفكر الانعزالي الأثني والطائفي .
6 ـ متضمنة كل ما سبق لا بد من نشر ثقافة المقاومة في كل الأوجه الممكنة .
أخيراً : أن هذا الجبار المهيمن الذي يعاني من نسبة تضخم فلكية والذي يعاني أزمة نقص استهلاك مستفحلة ناتـــجة عن نقص مدا خيل العمل وازدياد الفقر والتهميش ليس قدراً لا يهزم ، لا بل أن هزيمته ضرورة للحياة .






كاد أن ُيفحمنا باستخدامه حرف التوكيد "إنَّ "

نايف سلوم

نناقش هنا رأياً لـ سامر خوري ، رأي في المطارحات أو الفرضيات التي تشكل الأساس المنهجي النظري لقيام تجمع يسار ماركسي في سوريا.
يعترض سامر بشدة على مفهومين مستعملين في المطارحات هما مفهوم "الزمن" ، ومفهوم "الحقيقة".
حول مفهوم الحقيقة . يكتب صديقنا "إن الحقيقة بسيطة" وباستخدامه حرف التوكيد "إنَّ" يكاد يفحمنا دفعة واحدة وينقضنا. لكن ما هو "البسيط" ، إنه المباشر والواضح المتسع وغير المركب. وبناء على كلام صديقنا من "أن الحقيقة بسيطة" يكون كل جهد لإنتاج العلم بالواقعة ومعرفة حقيقتها هو جهد مفتعل ومتكلف، بالتالي هو جهد مدّع .
نلفت انتباه صديقنا إلى أن بسط الحقيقة يأتي بعد معرفتها بالتالي صياغتها نظرياً . يكتب ماركس في رأس المال المجلد الثالث الجزء الثالث : "لو كان مظهر الأشياء متطابقاً مع جوهرها ، لغدا العلم نافلاً " [نقلا عن موريس غودلييه](1) . إذاً العلم بالأشياء ليس بسيطاً ولا نافلاً ، معرفة حقيقة الأشياء عمل يحتاج إلى فاعلية خاصة للمفهوم . هكذا الفكر الفلسفي الباحث عن الحقيقة في الواقع الاجتماعي /التاريخي المعطى "هو في الوقت نفسه تركيبي ويتجلى بوصفه فاعلية المفهوم نفسه. هذا يتطلب جهدا لاتقاء الأفكار الشخصية والآراء الخاصة الطارئة التي تميل بشكل ثابت إلى احتلال مكان الصدارة "(2 ) يكتب لينين : "بالنسبة إلى الأشياء البسيطة والبدائية ، إلى التأكيدات الإيجابية الأولى ، "اللحظة الديالتيكية" أي الطريقة العلمية – تشترط أن نشير إلى الاختلاف، الارتباط ، الانتقال. بدون ذلك يكون التأكيد الايجابي ناقصاً ، جامداً، بلا حياة " (3 )
اللحظة الديالكتيكية تماثل الطريقة العلمية في كونها تأخذ الأشياء في انتقالاتها وحركتها وتعقيدها وتركيبها وفي كونها مكونة من قوى أو لحظات مختلفة فكثيراً ما تتخذ كلمة لحظة عند هيغل معنى لحظة الرابطة، لحظة في الترابط أو عزم الربط [ عزم الأمور](4) وأنطونيو غرامشي يستخدم كلمة "لحظة" moment بطريقة تجمع ما بين فكرة "اللحظة الزمنية" وفكرة "المظهر أو الوجه" "aspect" أو "السّمة" وفكرة "القوة المحركة" motive force .ص 482 "كراسات السجن" [دفاتر السجن]
وعزم الأمور يحيلنا إلى تاريخية الظواهر والوقائع ، فحركة الأشياء تقطع مع أمر وتأتي بآخر . أي أن الأمور في حالة حركة دائمة وهي تغير من علاقاتها وشكل ترابطاتها بالتالي الحقيقة تاريخية مشروطة بزمان ومكان . وما الحقيقة سوى معرفة هذا الشرط والروابط الجديدة للوقائع والتي تولّد وقائع جديدة وظواهر جديدة . بهذا المعنى نقول: توجد لحظات متزامنة أي توجد ترابطات متزامنة، وهناك أيضاً أكثر من عزم يعملان بشكل متزامن . من هنا أيضاً نؤكد أن الزمن الماركسي ليس ذو بعد واحد كما يشير سامر خوري بثقة غير مبررة . فحركة النظام الرأسمالي تقوم على وجود زمنيين متناقضين هما زمن قوى الإنتاج التي تأخذ طابعاً سهمياً متقدماً أو متقهقراً ، وزمن علاقات الإنتاج التي تأخذ طابعاً دائرياً مسطحاً ، ونقصد بـ قوى الإنتاج : القوى العاملة من عمال وفلاحين، أدوات العمل وموضوعاته ، والعلاقة المعقدة بين هذه العناصر ، لذا يدخل في المفهوم هذا شكل العمل وتنظيمه ، وتطور العلوم والتكنولوجيا " (5) . أما علاقات الإنتاج فنقصد بها العلاقات الاقتصادية من تبادل وتداول وتوزيع واستهلاك من جهة ، وعلاقات الملكية الخاصة وتعبيراتها في البنية الفوقية من حقوق ودولة وأيديولوجيات مكرّسة. من جهة أخرى لدينا زمن رأس المال ، حيث يعيد فيه رأس المال إنتاج نفسه بشكل موسع . وهذا الزمن محافظ يسيطر عليه الشكل الاقتصادي للبنية وهو "دائري" . يقابله زمن القطع مع البنية الرأسمالية ، وهو زمن الثورة ، وإعادة توجيه العملية الاقتصادية بشكل جذري. ويسيطر في هذا الزمن المستوى السياسي ، أي فاعلية الطبقات وأحزابها المعبرة عنها ، حيث يسيطر الانتقال من شكل ملكية إلى آخر، ومن أسلوب إنتاج إلى آخر.
الماركسية ترى زمن النظام الرأسمالي في هذا التناقض بين تطور قوى الإنتاج وبين شكل الملكية الخاصة السائد [الملكية الخاصة البورجوازية]. بين تعاظم الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين التملك الخاص لوسائل الإنتاج . إن علاقات الإنتاج تتوسط بين قوى الإنتاج الاجتماعية الاقتصادية وبين فاعلية الأفراد الذاتية . هكذا نفسر أيضاً وجود أفراد معارضين للنظام الرأسمالي . الزمن الرأسمالي حسب الماركسية مركّب ، والتقدم يقوم من خلال التناقض والصراع، ولا يقوم بشكل بدهي . زمن علاقات الإنتاج القائمة محافظ ورجعي يحاول أن يؤبد نفسه ، وزمن قوى الإنتاج "ثوري " يتوسع باستمرار ويثوّر التقنية باستمرار . نقتبس من ماركس : "تتناقض قوى المجتمع الإنتاجية المادية ، في مرحلة معينة من نموها ، مع علاقات الإنتاج القائمة أو مع علاقات الملكية التي ترعرعت في صميمها حتى ذلك الحين ، وهذه العلاقات الأخيرة[علاقات الملكية] ليست سوى التعبير الحقوقي عن علاقات الإنتاج . وتتحول هذه العلاقات من أشكال لنمو القوى الإنتاجية إلى عوائق في وجه هذه القوى " (6) هكذا تشكل أشكال الملكية الخاصة السائدة الملكية الخاصة البورجوازية في أطراف النظام الإمبريالي الرأسمالي عقبة حاسمة أمام أي تطور لقوى الإنتاج في هذه البلدان، أو أي تحديث اجتماعي وتطور صناعي على شاكلة بلد متطور صناعياً . "هذا المجتمع البورجوازي الذي خلق وسائل الإنتاج والتبادل العظيمة الهائلة أصبح يشبه الساحر الذي لا يدري كيف يقمع ويخضع القوى الجهنمية التي أطلقها من عقالها بتعاويذه" البيان الشيوعي [نقلا عن حداثة التخلف] (7) . هذا المجتمع البورجوازي ذاته في شكل تملكه وتنظيمه للعملية الاقتصادية أصبح عقبة في وجه أي تصنيع حق في أطرافه التي تشكل ثلاثة أرباع العالم [العالم الثالث ثلاثة أرباع العالم] .
أما بخصوص استغراب صديقنا لمفهوم "العقلانية التقنية" واستخدامنا لهذا المفهوم ، ننوه إلى عبارة لينين التي تشير إلى رجعية البورجوازية في شروط الاحتكار والإمبريالية وفي ظل جميع النظم ، يكتب لينين : "إن الاحتكارات والطغمة المالية والنزوع إلى السيطرة بدلا من النزوع إلى الحرية ، واستثمار عدد من البلدان الصغيرة أو الضعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنية أو القوية كل ذلك خلق السمات المميزة للإمبريالية التي تحمل على وصفها بأنها الرأسمالية الطفيلية أو المتعفنة... ومن الخطأ الظن أن هذا الميل إلى التعفن ينفي نمو الرأسمالية بسرعة.. بالإجمال تنمو الرأسمالية بسرعة أكبر جداً من السرعة السابقة .. ولكن هذا النمو يغدو بوجه عام أكثر تفاوتا(*) ، ويتجلى بوجه خاص في تعفن البلد الأقوى بالرساميل (إنكلترا)" (8)
وكان لينين في موضع سابق من كتابه الإمبريالية قد عرّف الإمبريالية بالقول : "الإمبريالية ، من حيث كنهها الاقتصادي ، هي الرأسمالية الاحتكارية. "(9) كيف نقرأ نصوص كهذه على ضوء إصرار صديقنا سامر على التمسك بتعاريف يسميها لينين بالأقوال المقتضبة . فمثلاً القول بأن جوهر السيارة هو المحرك الداخلي الاحتراق لا يحيط بمفهوم السيارة كلية . لأن مفهوم المحرك ذو الاحتراق الداخلي يترك مفهوم العجلة خارجه ، والعجلة أساسية لإكمال مفهوم السيارة . وهكذا يتم التعاطي مع مفهوم الإمبريالية . فالقول بالجوهر الاقتصادي الذي هو الاحتكار لا يلغي القول بالنزوع إلى السيطرة والميل نحو التفاوت الإضافي خلال النمو والميل للتعفن . وكلها مقولات ضرورية لإكمال مفهوم الإمبريالية. إضافة لذلك وصف بعض الكتاب اللامعين الإمبريالية التي وصفها لينين وحللها بالإمبريالية الجديدة تفريقاً لها عن الإمبراطوريات القديمة قبل الرأسمالية لذلك نجد استخدام مصطلحات من مثل الإمبريالية الرأسمالية .
لا نستطيع فهم كلام لينين حول التعفن في الرأسمالية في عصرها الإمبريالي وكون التعفن هذا لا يلغي تقدمها بل، هي تتقدم تقنياً أسرع من ذي قبل؟! إلا عبر مفهوم "العقلانية التقنية". يعطينا مفهوم "العقلانية التقنية " فرصة لفهم رجعية الإمبريالية الرأسمالية في السياسة وتقدمها التقني السريع في نفس الوقت . وهذا التناقض المتوسع باستمرار بحكم الثورات التقنية المتلاحقة يخلِّع أوصال الكلية البورجوازية . ونقصد بالعقلانية التقنية تشجيع الانضباط والدينامية المتواصلة ، والذهنية الإنتاجية والمقتصدة في العمل والتسيير العلمي للمشاريع ومبادهة المديرين ومسؤوليتهم وتقنين استخدام الموارد الإنسانية والمادية . وهو ما يمكن التعبير عنه إلى حد ما بـ "التسيير العلمي" (10) فالرأسمالية التي كانت ذات أيديولوجية تحررية وفكر مستنير على المستويين السياسي والأيديولوجي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فقدت مع المرحلة الإمبريالية هذه السمات الديموقراطية التحررية والإنسانية ، ولكنها حافظت على التقدم التقني و "العقلانية التقنية" . وحتى نبين ضرورة مصطلحات من مثل الإمبريالية والاستعمار والكولونيالية الاقتصادية والنزعة العسكرية كلها مصطلحات لها دلالة غير إرجاعية ، أي لا يمكن لمرادف لغوي آخر أن يشرح مدلولاتها بالشكل الكافي والمطلوب . وحتى نزيل آثار الدهشة عن وجه صديقنا والناجمة عن استخدامنا لمصطلحات "كثيرة ونافلة" من مثل "الكولونيالية الاقتصادية" التي تشير إلى الحوافز الإضافية للغزو الاستعماري الرأسمالي "الأولي" والتي هي مصادر المواد الأولية وخاصة النفط والمعادن النادرة "فالرأسمال المالي قد أضاف إلى بواعث السياسة الاستعمارية – إلى البواعث "القديمة" العديدة – الصراع من أجل مصادر الخامات ، من أجل تصدير الرساميل ، من أجل مناطق النفوذ، من أجل الأقاليم الاقتصادية بوجه عام" (11) الاستعمار "الأولي" البورجوازي كان ينهب منتجات المستعمرات أما اليوم فهو يصدّر منتجاته الصناعية وينهب ثروات المستعمرات والأطراف الرأسمالية من المواد الأولية (المعادن النادرة الاستراتيجية والنفط) . ولهذه الكولونيالية عواقب اقتصادية في أطراف النظام الرأسمالي ، حيث تتميز الاقتصادات الطرفية بالتخلع في القطاعات الإنتاجية وتشوه البنى والتخلف الاجتماعي والتأخر الصناعي، وبظهور النظام السياسي على شكل نظام عصبوي يشتمل على عناصر أيديولوجية وسياسية من التشكيلات ما قبل الرأسمالية معاد إنتاجها هنا في العصر الرأسمالي ووفق احتياجاته المشوهة . أي يعاد إنتاج التراث الثقافي القديم على شكل أيديولوجية وعلاقات سياسية رأسمالية طرفية تابعة أي علاقات كولونيالية . يكتب توماس سنتش المفكر الماركسي المجري : "إن الوضع الاجتماعي الاقتصادي للبلدان النامية ليس مجرد "تخلف اقتصادي" أو محض علامة على عدم اشتراكها في التطور أو تلكؤها في مجرى التقدم ، بل هو ثمرة تطور خاص ، وثيق الارتباط بتطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي ، بل بالأحرى ناشئ عنه . ولهذا فإن تحليل تطور هذا الأخير هو الشيء الوحيد الذي يقدم لنا مفتاح فهم الوضع الراهن للبلدان النامية ومعضلات نموها " ويضيف سنتش : "وطالما أن الشيء الذي لعب الدور الحاسم من وجهة نظر العواقب النهائية وما تمخض من ظواهر وعمليات اقتصادية ، ليس الرأسمالية "الأولية"، أي ليس غزوات القرنيين الخامس عشر والسادس عشر ، بل بالأحرى انبثاق النظام الكولونيا لي ، انبثاق الكولونيالية المتجسدة اقتصادياً ، أي النظام الكولونيالي للرأسمالية الاحتكارية كما ظهر في العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر، لذا فإن بحث الوضع الراهن للبلدان النامية يستدعي أن نوجه انتباهنا إلى هذا الأخير، أو إذا توخينا الدقة ، إلى التقسيم العالمي للعمل والتغيرات التي سببتها الكولونيالية له "(12) أما بخصوص مقولة الاستعمار نقتطف من ماجد وف المفكر الأميركي الشمالي الماركسي: "لقد كان الاستعمار الذي يعتمد التطبيق المباشر للقوة العسكرية والسياسية ، كان أساسياً لإعادة تشكيل المؤسسات الاجتماعية – الاقتصادية للبلدان التابعة [الكولونيالية ] وفق حاجات المراكز المتر وبولية. ومتى تم التشكيل هذا تصبح القوى الاقتصادية البحتة قوة فعلية بحد ذاتها من أجل تعزيز واستمرار علاقة السيطرة والاستغلال بين المراكز والأطراف الرأسمالية" ويضيف ماجدوف "من الخطأ القول أن الإمبريالية الجديدة كان يمكن أن تظهر من دون الاستعمار ، ومع ذلك فنهاية الاستعمار لا تعني بحال من الأحوال نهايـــة الإمبريالية" (13)
في تعليقه على مسألة الخاص والعام ، ومفهوم الأدوات النظرية يقول سامر: "غالباً ما يقع المرء على أفكار غريبة وغير صحيحة في هذه المطارحات ، مثلاً جاء في شروحات المطارحة الثانية ما يلي: "وهنا تطرح مسألة منهجية خاصة بعلاقة العام أو الأدوات النظرية بالخاص أو بالواقع الفعلي المعطى لنا" [يعلق كاتبنا] من الواضح هنا أن المقصود بالأدوات النظرية هو العام نفسه. ولكن كيف يمكن للأدوات النظرية أن تكون هي العام نفسه؟ وما هو المقصود أصلاً بالأدوات النظرية ؟ هب هي أدوات البحث العلمي؟ إن هذا الخطأ هو أمر غير مفهوم إطلاقاً "
لاحظ أيها القارئ أن كاتبنا يقرر أمراً ما على أنه خطأ ، وهو أي هذا الأمر غير مفهوم بالنسبة إليه إطلاقاً . لقد أوقعته كلمة إطلاقاً هذه في مشكلة ، فلو فهم الأمر إلى حد ما لكان تبرير ادعائه بخطأ هذا الأمر مبرراً ومشروعاً أما أن يكون جاهلاً بالأمر وبشكل مطلق حسب اعترافه هو فهذا ما لا يمكن القبول به في النقاش الجاري. فكاتبنا لم يفهم ما يقال ويقرر بكل خفة خطأ هذا القول وكما يقول الياس مرقص مستنداً على التقدم الذي أحرزه فيورباخ : "يجب أن "نفهم" . أن التعليل بالجهل (التعلُّل) ، بالباطل ، بالوسواس، بالخوف ، بالخداع ، لا يكفي" [حول المسألة اليهودية ص6]. وحتى لا نبقيه في جهله سوف ننعم عليه ببعض الاقتباسات من دفاتر لينين الفلسفية لكي نأخذ عليه عدم اطلاعه على أساسيات من عمل لينين الفلسفي ، وهو أي كاتبنا الذي نصّب نفسه مدافعاً مستميتاً عن "الماركسية اللينينية" [والتي ثبت أنها لم تكن سوى ستالينية متهافتة]. يقول لينين في مقالة له حول الديالكتيك : "لنبدأ بأبسط قضية : أوراق الشجرة هي خضراء ، جان هو إنسان، ميدور هو كلب، [سامر هو كاتب]الخ..، ثمة هنا ، بدءاً من هنا ، (كما لاحظ هيغل بعبقرية ) ديالكتيك : الخاص هو عام ص 145 [البيت بوجه عام والبيوت المفردة ص 150] 14. يكتب الياس مرقص في تقديمه لترجمة كتاب روجيه غار ودي "فكر هيغل " باسطاً مفهوم العام والخاص : "حين الذكاء - الفهم (الإنساني) يتناول الشيء الفردي [البيت الفعلي المفرد] يسحب منه صورة une image (= مفهوماً un concept) هذا [التجريد الذاتي] ليس فعلاً بسيطاً ، مباشراً (غير موسّط) ، ميتاً ، هذا ليس انعكاساً في مرآة ، بل فعل معقد ، ذو وجه مزدوج – فعل يتضمن إمكانية الطيران الخيالي خارج الحياة " 15 . فاعلية المفهوم تتوسط هذا التجريد ، حيث يعاد ذاتياً ترتيب عناصر الواقعة حتى يغدو القبض عليها ممكناً من ناحية مفهومية .
أما قولنا عن العام أنه أدوات فهذا ما يوضحه هذا الاقتباس من ماركس . يكتب ماركس في مقدمة الطبعة الأولى لرأس المال : "لا يمكن لدى تحليل الأشكال الاقتصادية استخدام المجهر أو الكواشف الكيماوية . بل يجب على قوة التجريد أن تحل محل هذا وتلك "16
عودة إلى سامر حيث يقول: "بعض الكتاب يسعون لعرض أفكارهم بطريقة معقدة وضبابية مما يوهم بعض القراء أن الحديث يدور حول قضايا صعبة ومعقدة إلى درجة أن القارئ لا يفهمها ... أن هؤلاء الكتاب وما أن تفك طلاسمهم حتى نجد وراء هذه الطلاسم سراباً لا أكثر . وأن أفكارهم المكتوبة نفسها تتخذ معاني هم أنفسهم لا يقصدونها" وبعد أن فُكّت الطلاسم تبين للقارئ أن القضايا المطروحة للنقاش صعبة ، وأن كاتبنا واحد من القراء الذين لم يفهموا منها شيئاً .
يلاحظ ميل كاتبنا لجوهرة الأمور فيقول على سبيل المثال : "نابع [الاستغلال والتفاوت في الثروة ] من جوهر العلاقات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي ... أيضاً يقول : "حسناً كم نوع للإمبريالية ؟ وما هو الفارق الجوهري بين الإمبريالية العالمية وهذه الأنواع الجديدة من الإمبرياليات؟"" . إذا اعتمدنا وبشكل منهجي على جوهر العلاقات الرأسمالية لا نعود بحاجة لأي جهد جديد لتحليل الأشكال الجديدة من الاستغلال الرأسمالي ، ويغدو جهد لينين في تحليل الإمبريالية نافلاً . ومن هنا نحيل كاتبنا إلى اقتباسات من لينين حتى نبين أنه تلميذ مقصر في واجباته ، تلميذاً ليس لـ لينين وماركس بل لـ ستالين ، أي ستالينيّ مقصر في دروسه . يقول لينين : "كان انجلز يقول في معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه الشهير أن مذهبهما ليس بمذهب جامد إنما هو مرشد للعمل. إن هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان" ص 65 . ويضيف لينين : "وبالضبط لأن الماركسية ليست عقيدة جامدة ، مذهباً منتهياً ، جاهزاً ثابتاً لا يتغير ، بل مرشد حي للعمل ، لهذا كان لا بد لها (الماركسية ) من أن تعكس التغير الفريد السرعة في ظروف الحياة الاجتماعية" 17 ثم يحاول كاتبنا سامر أن يتهم المطارحات وأصحابها بالتنصل من اللينينية ، حيث يقول : "إنه من الواضح أن "التجمع" يستند إلى الماركسية دون اللينينية ، وهي قضية كان يجب أن ينصب عليها النقاش ، طالما أن الحديث يدور عن وضع أسس لحركة تدعي الفكر الشيوعي" بالطبع تهمته هذه مردودة عليه بشكل أولي نظراً لجهله بـ لينين وتنظيراته ، وثانياً أن المطارحات منشغلة بنقد "الشيوعية" الستالينية والتي أعطى سامر صورة كافية عن عيوبها وعقلها البسيط الاتهامي والتكفيري ، إضافة إلى طابعها النصي، والتجريدي أي عبادتها لتعليم ونصوص أقل ما يقال أنها جاهلة بها. النقطة الثالثة في الرد على هذا التهافت والتسرع بتوزيع التهم والتجريم ما جاء في المطارحة التاسعة IX قولها : "فالنظام الاقتصادي الراهن ما يزال يحتفظ بطابعه الاحتكاري الإمبريالي مع الإشارة إلى التوسع العالمي الشديد بفعل الثورة التقنية الناجمة عن الحرب العالمية الثانية وما وفرته من سهولة التحرك الدولي لفروع الشركات الاحتكارية العملاقة ، وسهولة الاستثمار في الخارج ، وتوفير تقنيات وإمكانات مالية أكبر بفعل سيطرة الدولار الأمريكي تسهل انتشار القوات الأميركية حول العالم وتمولها. تعيد الإمبريالية المعولمة أمنياً إنتاج عالمها الطرفي مخلعاً ومحطماً ، معيدة إنتاج كل أشكال التفكير والاعتقاد ما قبل الرأسمالية.." أيضاً نقول لكاتبنا ما قاله هاري ماجدوف الماركسي الأمريكي الشمالي في الرد على آراء زيمانسكي : "من الجدير بالملاحظة ،والكلام لـ ماجدوف، أنه برغم التحولات العديدة التي حدثت في الستين سنة التي تلت طهور مؤلف لينين "الإمبريالية.." هذه التحولات التي تمثلت في الحرب العالمية الثانية وانتشار الاشتراكية وتصفية الاستعمار و فورة الإمبراطورية الأميركية ، فإن النظرية التي رسم خطوطها الأولى ما تزال هي أفضل إطار لاستيعاب مسيرة الإمبريالية الرأسمالية ، شريطة ممارستها بطريقة غير جامدة ، وأعتقد أن السبب في ذلك هو الطريقة التي حدد بها لينين المرحلة الاحتكارية الجديدة للرأسمالية ، ومن ثم وضع إصبعه على أهم سماتها المميزة . ورغم أن الفضل في هذا الإنجاز يعود إلى قدرة لينين التنظيرية العظيمة في تفسير عصره ، فإن علينا ألا ننسى أنه كان معنياً بالدرجة الأولى في فهم الحقيقة الموضوعية كشرط للإعداد للثورة الاشتراكية. وقد كان آخر ما يفكر فيه لينين ، هو التأمل العبثي حول التغيرات المستقبلية الممكنة في العلاقات بين الرأسمالية والإمبريالية "18. إن عمل المطارحات هو في صميم هذه الشهادة الحاسمة عن إسهام لينين في فهم الإمبريالية بداية القرن العشرين واليوم أيضاً كإطار لتحليل المظاهر الجديدة للإمبريالية الرأسمالية . لذلك نشير إلى عبارة سامر التي تقول : "أما الاعتراف بالماركسية فقط، فهو إما عدم اعتراف بالتطورات اللاحقة للينين ، أو أنها ردود أفعال على انتكاسة الثورة الروسية" وهي عبارة تظهر عليها البلبلة والضياع .
سامر محق في اعتراضه على عبارة "العلم العربي الماركسي الجديد" وقد جرى نقاش موسع حول صفة العربي التي أسبغت على العلم الماركسي الجديد ، وتبين أنها خاطئة ، وقد استبدلت بـ عبارة العلم الماركسي الجديد المعاد إنتاجه عربياً كتمييز ضمن كونية العلم الماركسي الجديد . إننا ضد "انفلات الخصوصي" [حول المسألة اليهودية – من مقدمة مرقص ص26] إننا نؤكد على الفرق والخصوصية للوصول إلى هوية جديدة . والتأكيد النقدي على الخصوصية للوصول إلى كونية ماركسية جديدة أكثر غناً .
ينتقل صديقنا إلى موضوع وراثة البروليتاريا لكل ما هو حي ونابض من تاريخ البورجوازية ، حيث يستخف بهذه الإرث بحيث يكتب : "هناك ولع عند واضعي المطارحات بديمقراطية البورجوازية الصاعدة .. إلا أن البورجوازية خذلت "التجمع" ، ولم تكمل مشروعها الديمقراطي . وافت المنية هذا المشروع . وحيث أن الموتى يتركون وراءهم ورثتهم ، فقد تبين بعد التمحيص ، أن الوريث الشرعي لهذا الميت ، هو البروليتاريا . وهذه المرة يجب أن نرفع القبعات عالياً ، تحيا البورجوازية التي أورثت البروليتاريا هذا المشروع الديمقراطي التافه" وسوف نرد على كاتبنا بحجة من عنده هو حجة تناقض كلامه وتدحضه ، كما سنأتي بمقتطف من لينين كي يرد على هذا اللينيني الأصلي . يقول سامر في الصفحة التالية لتصريحه الذي اقتبسناه أعلى : "فديمقراطية البورجوازية (الصاعدة أو الهابطة) الشكلية ، هي ثورية فقط بالنسبة لديموقراطية الإقطاع . ولكنها رجعية ومتخلفة تاريخياً عن ديمقراطية المجتمع الشيوعي [الديموقراطية الاشتراكية ] . يقيناً أن المجتمع البشري (والتطور بشكل عام ) يحتفظ خلال تطوره بكل ما هو حي ، وقابل للحياة ، من التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السابقة . ومن وجهة النظر هذه ، فإن ديموقراطية المجتمع الشيوعي تحمل في ثناياها كل العناصر القابلة للحياة ، ليس من ديموقراطية البورجوازية فحسب، بل من كل التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السابقة ، منذ بدء تاريخ تطور المجتمع البشري" هذا ما يقوله سامر ، وهذا ما نؤكد عليه ويعترض عليه هو ذاته في كلام سابق . فالمرحلة الصاعدة والديمقراطية من حياة البورجوازية هي فترة تصفية حساباتها مع الإقطاع المتخلف حيث واجهته بالتحديث الصناعي والعلم التجريبي والعقلانية الاجتماعية الاقتصادية وتحطيم القدسي . وما أن بدأت البروليتاريا بالظهور كطبقة وكقوة سياسية في أوربا على شرف نمو الصناعة الكبيرة حتى راحت البورجوازية تدخل في طورها الإمبريالي وراحت تتحالف مع الطبقات القديمة والرجعية لمواجهة صعود البروليتاريا ، وهكذا راحت البورجوازية الإمبريالية تتخلى عن الديمقراطية وتتحول إلى رجعية في السياسة والإيديولوجيا على طول الخط وفي ظل جميع النظم الخاصة بها . أما اقتطافنا من لينين فيخص وراثة البروليتاريا والماركسية لكل ما هو حي ونابض في تاريخ البورجوازية والتاريخ البشري . يكتب لينين : "لقد اكتسبت الماركسية أهميتها التاريخية العالمية بوصفها أيديولوجيا البروليتاريا الثورية لأن الماركسية لم تطرح جانباً على الإطلاق أثمن مكتسبات العهد البورجوازي ، بل على العكس، استوعبت وأعادت صياغة كل ما كان ذا قيمة في تطور الفكر البشري والثقافة البشرية خلال أكثر من ألفي سنة "19 يخلط سامر بين الديمقراطية الاشتراكية المفترضة عند قيام الاشتراكية وبين تبني البرنامج البروليتاري للديمقراطية البورجوازية كبرنامج تخلى عنه أصحابه بعد أن نمت البروليتاريا كطبقة وبرنامج سياسي وحزب مستقل عن البورجوازية . يقول سامر : "إن القول بأن البروليتاريا هي الوريث الشرعي التاريخي للبرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة هو دعوة صريحة لتبني الديمقراطية البورجوازية ، مع ما يستتبع ذلك من تبني أفكار بورجوازية أخرى ، تحت غطاء الماركسية " وحتى لا يبقى صديقنا في حيرته و ا اندهاشه من تبنينا للبرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة ، نريد تذكيره بأن اليعقوبية الفرنسية كتحالف بين البورجوازية الصاعدة وبين الفلاحين لم تتكرر إلا في روسيا لقد ورث البلاشفة هذه اليعقوبية (التحالف مع الفلاحين ) كمسألة ديمقراطية من الدرجة الأولى عن الثوريين البورجوازيين الفرنسيين. بينما كانت البورجوازية الليبرالية الروسية ممثلة بحزب الكاديت [الحزب الدستوري الديموقراطي] تتآمر على الفلاحين الروس الفقراء لخدمة رأس المال الإمبريالي الفرنسي والألماني وقتها . "لقد عرف اليعاقبة ،على حد تقدير غرامشي ، كيف يقودون – بواسطة تنظيم سياسي مد فروعه إلى مجمل التراب الفرنسي وبواسطة أيديولوجيا وحدت مجموع الفرنسيين غير الأرستقراطيين ، وبواسطة منظومة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ربطت الفلاحين والمعدمين بالبورجوازية – عرفوا كيف يقودون ثورة حقيقية مبنية على إرادة جماعية قومية وشعبية ... أما في العصر الحديث فعلى المثقف الجماعي ، الحزب البروليتاري ، أن يلعب الدور الذي عزاه مكيا فلي إلى الأمير ، أي تشكيل إرادة جماعية من خلال توحيد الطبقة الفلاحية ، لا بالبورجوازية هذه المرة ، وإنما بالطبقة الثورية الحديثة ، البروليتاريا " 20 لقد ورث البلاشفة اليعقوبية عن اليعاقبة الفرنسيين بهذا المعنى وراثة تاريخية ، وورثت البروليتاريا هذا التحالف كأساس للديمقراطية البروليتارية.
أما تفنيد رأي صديقنا بما يخص المسألة القومية ومسألة الأمة والتراث القومي فسوف نخصص لكل واحدة من هذه المسائل مقالة خاصة نظراً لأهمية هذه الموضوعات .
أخيراً يقدم لنا سامر الموعظة التالية يردفها بتكفير وتخوين كل من لا يعمل بموجبها ، يقول : "على أي تيار سياسي في سوريا يدعي أنه ماركسي ، أن يتبنى النضال ضد الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية ، كما عليه التحالف مع جميع القوى الوطنية الموجودة على الساحة [بما فيها الحكومة] والنضال ضد البورجوازية البيروقراطية . والأمر الثالث والأساسي هو النضال ضد البورجوازية الطفيلية الكومبرادورية ، وجميع القوى الظلامية السوداء التي تنمو على الساحة .وإن هذا يجب أن يبقى محكوماً بالدفاع عن مصلحة الطبقة العاملة وجميع الكادحين .. وأن خروج أي تيار عن هذه الاتجاهات الأساسية ، يعني أن هذا التيار تائه، أو معادي للوطن ، أو كلا الاثنين معاً " هذا الوعظ ينطبق بالحرف على تعاليم "الشيوعية" الستالينية . ما يعني أن كل انحراف عن هذه التعاليم تصب في معاداة الوطن أو الخيانة العظمى ومعهما الضلال البعيد .

يؤسفنا أن ننقل لقراء "حوارات ماركسية" - ونحن نردّ على انتقادات سامر خوري للمطارحات – أن ننقل خبر وفاته . "فقد شيعت قرية الروضة التابعة لمحافظة طرطوس بتاريخ 19/11/2004 ابنها البار سامر خوري إثر نوبة قلبية . والفقيد ينتمي لأسرة شيوعية معروفة ومن مواليد 1963 وتخرج من كلية الهندسة المدنية . وكان سامر قد وضع كتاباً بعنوان " أزمتنا.." والمقصود أزمة الحزب الشيوعي السوري. نشر الكتاب سنة 2003 تحت اسم مستعار هو "دياب". يفند في الكتاب وبشكل نقدي أزمة الحزب الشيوعي السوري منذ تأسيسه سنة 1924 وحتى آخر انشقاق له سنة 2000 تحت اسم "جماعة ميثاق.."
يكتب سامر في الصفحة الأخيرة من كتابه المذكور: "إن الشيوعيين الفعليين هم الأشخاص الذين يعتنقون مبادئ الماركسية - اللينينية كنظرية علمية متحيزة لصالح الطبقة العاملة وجميع الكادحين، والذين تحركهم أنبل الدوافع وأسمى القيم الإنسانية ، المبنية على كره الظلم والاستعباد ، والمقت الشديد للصفات الشخصية الأنانية ، إنهم أشخاص يملكون " قلباً دافئاً وعقلاً بارداً ويداً بيضاء "، ويشعرون بألم الصفعة التي يصفع بها أي وجه في هذا العالم . وعلى هؤلاء – عليهم وحدهم فقط - تقع مسؤولية بناء الحزب من جديد"

دياب [سامر خوري] في 19/2/2003












عن
التحالفات في سورية على مشارف المنعطف الانتقالي

حسان خالد

فيما يحل عيد العمال للعام 2004 والمشرق العربي يقف من فلسطين إلى العراق على عتبة حرب مدن معادية للإمبريالية والصهيونية، فإن التحالفات الطبقية والسياسية لإنجاز مهام التحرر والانتقال الديمقراطي تكتسب لدى إعداد البرامج المحلية أهمية إستراتيجية ذات أولوية على غيرها من الموضوعات. هذه التحالفات وإن كانت تشق طريقاً جديدة أمام الأحزاب المعارضة في سورية لتجمع بينها حول برنامج مشترك، إلا أنها أبحرت حتى الآن فوق موجة العمل السياسي متناسية ، في غمرة العاصفة الليبرالية المعولمة ، أن التحالفات من أجل إنجاز مجتمع من نمط جديد، متحرر وديمقراطي، هي في المقام الأول تحالفات طبقية. ذلك أن اجتياز منعطف الانتقال من الاستبداد السياسي والاقتصادي للطبقة الحاكمة نحو مجتمع متحرر ودولة وطنية وديمقراطية، وهو منعطف بمقدار 180 درجة ، يستدعي قبل الانهماك في تسويات ومساومات تاريخية بين أيديولوجيا ت وأحزاب متناقضة توفير أدوات الجمع بين طبقات وقوى مجتمعية تتشابك مصالحها وتلتقي حول ضرورة إنجاز الانتقال للخروج من أزمة النمو والتحرر بفضل شق طريق أمام إعادة توزيع المال والسلطة,فإذا كان الانتقال يعني إعادة لتوزيع الثروة المالية والبشرية بعدما احتكرتها الطبقة الحاكمة لنفسها طوال أربعة عقود ونيف، فإن تحديد الطبيعة الطبقية للانتقال هو الذي يضمن أمام التحالفات السياسية بين الطبقات وفئات الشعب إنجاز مثل هذا الانتقال في المستقبل.
لقد طرأت في أوساط اليسار الشيوعي في الشرق كما في الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين تطورات جوهرية على المفاهيم الكلاسيكية للماركسية، كالدولة والطبقة. فقد اتسع مفهوم الصراع الطبقي ليشمل شرائح واسعة من الطبقات والفئات الوسطى. حتى بات اكتساب ثقة هذه الطبقات ، وتشييد البرامج السياسية لاجتذابها إلى النضال من أجل التغيير ، موضعاً للتنافس بين أحزاب اليسار على اختلاف مصادرها الفكرية.
وليس الغرض هنا تصنيف الطبقات أو الدفاع عن فرضية وأطروحة ، فإن مثل هذا التصنيف يأسر نفسه دوماً في جدل لا طائل منه ، وإنما المقصود من وراء الحديث عن الطبقة الوسطى هو متابعة الأشكال الجديدة من الصراعات الطبقية التي وإن كانت هي امتداد بالمفهوم التقليدي للصراع الطبقي للطبقة العاملة ، إلا أنها ليست صراعاً طبقياً بالمعنى التقليدي لأنها غير مرتبطة بالطبقة العاملة من حيث هي ذات واعية لها تاريخ. ففي هذه الأشكال الجديدة من الصراع الطبقي تشارك الطبقات الوسطى بقسط منها. ودون أن تلغي الأشكال الجديدة سابقاتها فإنها تحتويها في صراعات أوسع. فالمقصود إذاً من وراء الحديث عن الطبقات والفئات الوسطى هو التذكير بالتداخل والتشابك بين الأشكال القديمة وبين الأشكال الجديدة من الصراع الطبقي.
وكان المفكر الماركسي هنري لوفيفر (1901-1991) لاحظ (الجزء الثالث من "نقد الحياة اليومية") أن ماركس أخطا إذ هو تنبأ بأن المهندسين والتقنيين سيذوبون في الطبقة العاملة بفعل التناقض الرئيس بين البروليتاريا والبورجوازية, فهذه الفئات من أصحاب الأجور ، فنيين وتقنيين ومهندسين، تناما عددها حتى بات المجتمع رازحاً تحت سيطرة أيديولوجية الطبقات الوسطى، وتحت هيمنة الرأسمالية الكبيرة . بيد أن هذه الفئات والطبقات "تفتقد-على حد قوله في العام 1981- إلى القدرات الخلاقة. إنها عاجزة عن ابتكار الأشكال والقيم الجديدة ، وتستهلك بنهم منتجات الصناعة الثقافية ، وهي غير قادرة على ابتداع ثقافة وبالأحرى حضارة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، إنها تسير في منحى الانحطاط". ويلاحظ أيضاً لوفيفر أن مطالب الطبقات والفئات الوسطى ليس من شانها أن تغير من الحياة اليومية ونمط الإنتاج ، وإنما هي على النقيض من ذلك تقتصر على المساهمة في تحسين تقسيم العمل على الصعيد اليومي. وينتهي دوماً العمل من أجل الانتقال بمشروع مجتمعي للطبقات الوسطى إلى حيز الواقع إلى الإبقاء على تبعية المجتمع للرأسمالية.
وهذه الطبقة تتسع لشرائح طفيلية تملأ الأجهزة البيروقراطية وأنظمة التوزيع حتى التخمة، أو شرائح تقدم إنتاجاً غير مادي وإن كان من الناحية المجتمعية ضرورياً (قطاع الخدمات). أما شرائحها غير الطفيلية "فإن الفرد منها أقل اندماجاً من الفرد البروليتاري في المجتمع ككل واحد، وأقل انتماء للإنسانية ككل واحد، إلا أنها أقل تشتتاً من البورجوازية في انغماسها بالفر ديات، وهي كالطبقة العاملة تبلغ حداً ما من الوحدة المنسجمة بين حاجتها إلى العمل وما يخلفه العمل المأجور من شعور بالرضا أو المتعة" (أرمان أجزينبرغ، La somme et le Reste، العدد الأول).
لم تعد القوى المنتجة هي نفسها التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, فقد لحقت في زماننا الراهن بالقوى المنتجة تحولات أدخلت على العمل متغيرات ما كان لها أي وجود في عصر ماركس. والصراع الطبقي بدوره لم يعد هو نفسه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن الماضي. فالاستغلال والاستلاب الذي طال كل منهما فئات وشرائح جديدة بالإضافة إلى الطبقة العاملة أضاف أبضاً إلى الصراع الطبقي أشكالاً لم يكن يعرفها في السابق.
ويلاحظ لوفيفر "أن النشاطات التي درسها ماركس وعنيت بها التيارات الماركسية من بعده كانت تصب جل جهدها على العمل والإنتاج وأماكن الإنتاج من أدوات وقوى منتجة، إلا أن ما قدمته من تحليل لعلاقات الإنتاج ليست كافية لاستيعاب نمط الإنتاج بصورة كاملة ، وهي تقصر في استيعاب عمله في القرن العشرين، قدراته ومرونته المطاطية(...) فما الذي يجري خارج أماكن العمل ؟ لقد اقترحت وما زلت أقترح لإدراك جملة من الوقائع مفهوم "الحياة اليومية". وهو مفهوم يتضمن العمل المنتج دون أن يلغيه ، بل ويستكمله (...) آخذاً بالاعتبار المواصلات ، والترفيه، والحياة الخاصة، والأسرة، وغيرها من المتغيرات التي لحقت في زماننا المعاصر بمختلف أوجه الحياة والممارسة المجتمعية "(نص منشور في بلغراد في العام 1983 بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ماركس). ويضيف لوفيفر إن نقد الحياة اليومية يضيف إلى التحليل الماركسي أشكالاً بقيت مهملة :العمارة، وسياسة وتخطيط المدن، والفضاء، والزمان المجتمعي اللذين تحولا إلى بضاعة (...) أي "ممتلكات" هي موضع لصراعات كبرى(...) من أجل الاستفادة منها، وهي شكل جديد من الصراع الطبقي (نشرة La somme et le Reste، العدد الأول). إن الصراع الطبقي بهذا المعنى يستكمل –برأي لوفيفر وحسب ما يلاحظه أحد تلامذته (أرمان أجزينبرغ، النشرة La somme et le Reste، العدد الأول، وصحيفة لوماننيتيه 29 أيار 2003) –في الدراسة والتحليل ما كان سائداً في الماضي من أشكال تقليدية للصراع الطبقي دون أن يلغيها.
والمواطنة الجديدة هي حسب رأي لوفيفر إحدى هذه الأشكال الجديدة للصراع الطبقي. "إن بعض النضال من أجل السيطرة على الزمان والمكان ينطوي على صراع طبقي شديد من أجل تقليص ساعات العمل، وتحسين التقاعد وأوقات الراحة والترفيه والشروط الحضرية للضواحي (...) إلا أن هذا كله ليس في الوقت نفسه صراعاً طبقياً بالمعنى التقليدي للصراع الطبقي. وذلك على غرار أشكال كثيرة غيرها من الصراع، فكما أن الصراع من أجل السلام ليس صراعاً طبقياً بالمعنى الحصري والضيق وإن كان مرتبطاً به بصورة غير مباشرة، وكان أيضاً استمراراً له، فإن الصراع من أجل المواطنة الجديدة هو أيضاً وبدوره صراع طبقي، وإن لم تكن كل محتوياته صراعاً طبقياً. فالنضال من أجل المواطنة الجديدة ليس مرتبطاً بصورة جوهرية بالطبقة العاملة من حيث هي ذات تاريخية وطبقة مكونة تاريخياً" (كأن يلتقي المستغل والمستغل في نشاط مشترك للدفاع عن البيئة أو بعض الحقوق المدنية) (مجلة إم M ، ديسمبر 1991). وما النضالات اليوم ضد العولمة ومن أجل عالم من نمط آخر والملتقيات العالمية ضد الحرب في العراق أسوة بنضالات المرأة والمحرومين من الأوراق الثبوتية أو "البدون" سوى أشكال حية وخاصة من الأشكال المعاصرة للصراع الطبقي في العالم.
هذه المعاينة للتغيرات لا تلغي تحليل علاقات الإنتاج ضمن العمل وأماكن الإنتاج حسب تحليل ماركس، وإنما هي على النقيض من ذلك تستكمل أفكار ماركس وتطورها، وذلك في ضوء ما آلت إليه القوى المنتجة في الرأسمالية المعاصرة، والصراعات الطبقية المعاصرة والتقليدية للقوى المنتجة. وإن مفهوم لوفيفر عن الحياة اليومية يجمع إليه العمل المنتج وصراع الطبقات التقليدي بعدما يستكملها ويند كل منهما إلى الحيز الأوسع من الصراع الطبقي في حالته الراهنة.
وإذا كان صراع الطبقات يشمل بدوره في عالمنا المعاصر أصحاب الأجور من الطبقات الوسطى، إلا أن هذه الطبقة ليست هي التي تغير نمط الإنتاج.
ومن سمات العصر أيضاً أن الأشكال الجديدة من الصراع الطبقي تواجه صعوبات في التعبير عن نفسها، ويجب رد الاعتبار إلى دور الطبقة العاملة في التاريخ طالما أن القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي مستحيل ما لم تستعد الطبقة العاملة كرامتها بعدما هزمتها البورجوازية. فإذا كانت الطبقة العاملة في فرنسا على سبيل المثال شبه غائبة منذ أحداث أيار 1968 التي تسجل الصعود الكمي للطبقات الوسطى، وتؤرخ في الوقت نفسه للانقسامات التي لحقت بالطبقة العاملة، إلا أن الطبقة العاملة تبلغ من حيث الكمية في البلدان الصناعية الكبرى حوالي 30 بالمائة من السكان المنتجين. بيد أن الوزن الكمي للمنتجين ليس هو بالعامل الحاسم في تكوين الطبقة. إذ أن وعي المنتجين بوظيفتهم النوعية من حيث هم مصدر لتراكم رأس المال يبقى هو العامل المركزي في تكوين الطبقة.
إن تعريف البورجوازية من حيث هي طبقة ترفض تقسيم المجتمع إلى طبقات هو عينه تعريفها الطبقي. إنها كذلك لأنها لا تعمل. لذا فإنها تقلص العمل إلى "السعر" ، وهي تتمتع بالمال المتأتي عن المضاربة بدون أن تعمل. وهي تعزو المآسي التي تلحق بالمنتجين إلى قوانين السوق . وقد جاءت عولمة الإنتاج والتبادلات وما يرافقها من سيطرة للبضاعة والمال من حيث هما "قيمة"، إن لم يكن تسويق الأخلاق ومعها الثقافة، لتجعل من الإنسان مجرد منتج للثروات مادية كانت أم ثقافية، وسخرة تتحكم بحياته وحياة أسرته، أو حتى تلغيه حسب مقتضيات السوق والعرض والطلب. والطبقة العاملة تقلصت من حيث الكمية أمام اتساع الطبقات والفئات الوسطى. وهي التي تضررت من العولمة أكثر من غيرها، وهي بعدما كانت الطبقة التي أنيط بها مهمة تحرير العالم أضحت تحتل موقعاً من الدرجة الثانية. ومع ذلك فإن الطبقة العاملة هي مصدر لاستخراج فائض القيمة الرأسمالي. وهي لم "تتوارى" تاريخياً كما تزعم البورجوازية تحت تأثير التطور المجتمعي الذي "ألغاها"، وإنما هي في الحقيقة هزمت بعدما ضيقت موازين القوى عليها الخناق.
لكن الظاهرة الجديدة في الصراع الطبقي هي –من جهة- التضخم الكمي الذي لحق بالطبقات الوسطى التي تحولت إلى أصحاب أجور، حتى أن هؤلاء يفوقون عدداً أصحاب المهن الحرة، وهي –من جهة ثانية- تعميم الاستغلال الذي كان يقتصر أولاً على الطبقة العاملة واتساعه في ما بعد ليشمل أكثرية الطبقة الوسطى من أصحاب الأجور والتي غالباً ما تزوغ ما بين المنتجين والمديرين الإداريين لرأس المال. غير أن هذا الاستغلال المشترك يعتبر مصدراً للتضامن بين جميع المنتجين من أصحاب الأجور.
ويبدو أن تحرر الإنسان في سورية فيما تجتاز البلاد مرحلة النضال من أجل الانتقال سيبقى افتراضياً ما لم تتحرر الطبقة العاملة من سيطرة الطبقة الحاكمة ونقاباتها وتنفض عن نفسها ما فرضته الطبقة الحاكمة عليها من عقلية انتهازية، وتستعيد النقابات العمالية نضالاتها الطبقية ، عهدها في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وما لم يعد العامل إلى المجتمع في سورية بعد غياب استمر أربعة عقود ليمارس شكلاً جديداً من المواطنة، فيعقد علاقات متساوية مع غيره من العمال في المصنع وفي مدينته ومع المستهلك والمواطن وعلى الصعيد الوطني والعالمي ، فإن المجتمع سيراوح في مكانه دون أن يقطع خطوة واحدة على المسار الذي يقود نحو الانتقال . وكانت الطبقة الحاكمة التي احتكرت لنفسها منذ أربعة عقود ونيف سلطة المال والسياسة شنت حرباً على الطبقة العاملة وتفوقت فيها على النقابات التي تخلت عن تنظيم نفسها في صفوف الصراع الطبقي وامتنعت عن شن هجوم معاكس على السلطة.
على هذا النحو، فإن التحالف بين الطبقة العاملة وأصحاب الأجور من الطبقات الوسطى هو الذي يفرض نفسه ويشغل حيزاً مركزياً في التحالفات عبر ما يوحد بينهما من صراع الطبقات في أشكاله الجديدة وامتداداته التي تعبر عن نفسها في المواطنة وما ينبثق عنها من نضالات حقوقية ، سياسية ودستورية ومدنية، وفي "الحياة اليومية" حسب مقولة هري لوفيفر ، أي في مكان العمل وخارجه أيضاً ، سواء أكان ذلك في المدينة أم الحياة الحضرية، فضلاً عن مقاومة العولمة، والنضال ضد الإمبريالية وحروبها وحلفائها ومن أجل رد حقوق البدون. إلا أن الواقع غير ذلك، طالما كان التحالف بين البورجوازية والطبقة الوسطى هو الراجح حتى الآن، وهو الذي يتيح للرأسمالية والطبقة الحاكمة المستبدة البقاء. الأمر الذي يستدعي عملاً مضاعفاً بجهة العمال من جهة ، وأصحاب الأجور من الطبقة الوسطى من جهة أخرى، كل على حدة لفسخ كل منهما عن الطبقة الحاكمة المستبدة بالمال والسلطة، ومن ثم توحيدهما في المعركة من أجل إنجاز الانتقال الذي لن ينتقل إلى حيز الواقع ما لم ترجح إستراتيجية التحالفات الطبقية على تحالفات سياسية هي أشبه ما تكون بالألعاب البهلوانية عندما تتجاهل التحالفات الطبقية، فتراها حينئذ تنقلب بين اليمين واليسار، حيث فراغ سياسي بدون أرض تسير عليها نحو المنعطف الانتقالي.