الوعي الفكري عند ماوتسي تونغ (1-2)


عبدالله خليفة
2012 / 10 / 25 - 05:53     


يتشكل وعي ماوتسي تونغ من المقتطفات التي يأخذها من دون أقواس بشكلٍ غالبٍ من السابِقَين: أنجلز ولينين بدرجةٍ أساسية، فأنجلز يوفرُ مادة كبيرة ليأخذَ منها ماو ما يشاء في تعريف الجدل وكيفية تشكل التناقضات وكونها أساس الحركة في الطبيعة والمجتمع.
ونجدُ مؤلفَه(في التناقض) يبدأ بسطو كثيف على هذه الكتب القليلة وخاصة من الكتاب الجدالي المهم (ضد دوهرنج)، وهو الكتابُ التعليمي الحواري، الذي ظل على مستوى الحوار والتفنيد ولم يعرض فيه أنجلز أشياءَ جديدة عميقة عن ختام القرن التاسع عشر واحتمالات التطورات القادمة ومستقبل الرأسمالية المحتمل. إن الاستنتاجات الفكرية السياسية عن اتجاهات التطور العالمية كانت صعبة حينذاك.
وماو يأخذُ الفقرات من هذا المؤلَّف ذلك ويعرضها بين قوسين وأغلب الأحيان من دونهما. أما لينين فيأخذ بعض الجمل منه أو عبارات قليلة حين يجري الحديث عن الاستعمار، ويستشهد بكلامه عن انقسام التفكير البشري بين المنهج الجدلي والمنهج الميتافيزيقي.
(يقول لينين: «إن وجهتي النَّظر الأساسيّتين (أو الممكنتين أو المُشاهدتين تاريخيا) عن التطولار (الارتقاء) هما: التطولار كنقصان وازدياد، كتكرار، والتطولار كوحدة الضدَّين (انقسام الواحد إلى ضدَّين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة). إن ما يعنيه لينينين هنا هو هاتان النَّظرتان المُختلفتان إلى العالم)، في التناقض».
لا تشكل هذه الجزئياتُ الصغيرةُ أي فلسفةٍ ورؤية واسعتين بل هي ملاحظاتٌ جزئية، وقد استعارَ لينين ذلك من أنجلز في كتابه السابق الذكر، حيث ظهر منهجان لدراسةِ العلوم في الغرب زمن التحولات العلمية، فقد أدى التوسعُ في العلوم وفروعها إلى ظهور نظراتٍ جزئية تخصصية للمزيدِ من التوغل في المواد المدروسَة، وقاد ذلك إلى عدم رؤيةِ الروابطِ بين العلوم والظاهرات وتغييب الحركة العامة.
وحين نشأت الطريقةُ الجدليةُ نشأتْ بشكلٍ فلسفي تجريدي اسطوري عند هيغل، ولم يستطعْ هيغل أن يُدغمَ هذه المنهجيةَ إلا في قراءاتهِ التاريخية المثالية، فلم تصل الى مستوى العلوم، ولكن ماركس في كتابه (رأس المال) استطاع ذلك عبر دارسةٍ محددة عن رأس المال منذ كونه بضاعة حتى أشكاله العليا وكيفية إعادة إنتاجه، الذي استغرق ثلاثة عقود تبدلت فيها آراؤه حسب هذا التغلغل مبتعدا عن الثورة البروليتارية (الراهنة) وإسقاط الطبقات حسب شعاريته الشبابية إلى الاشتراكية الديمقراطية التي لم تتبلور بعمق نظري كاف، ولكن لينين وماو الشرقيين لم يكن لديهما قراءة تحليلية علمية مطولةٍ لدرس أي ظاهرة، فاعتمدا على المقالات وجلب الاستشهادات من ماركس وأنجلز المناسبة لعمليهما السياسيين الشموليين، وكانت المجتمعاتُ بصددِ التحول الديمقراطي وليس بصدد الاشتراكية.
لهذا فإن ماو يعتمدُ النقلَ للعبارات المطولة، وحين يخرجُ لتفكيرهِ الخاص يتحفُنا بالفكاهاتِ الفكرية، يقول عن الميتافيزيقيين:
(إن دعاة هذه النَّظرة يعتبرون أن جميع الأشياء في العالم، جميع أشكالها وفصائلها، منعزلة بعضها عن بعض إلى الأبد، وثابتة لا تتبدل بصورةٍ أزلية، وأنه إذا كانت هناك تبدلالات فإنها لا تعني سوى ازدياد أو نقصان في الكميّة وتغيّر في المكان، وأن علَّة هذا الازدياد أو النقصان وذلك التغير لا تقوم في باطن الأشياء نفسها، بل تقومُ خارجها، أي بفعل قوى خارجيّة)، نفسه.
تعميماتٌ كبيرةٌ وحلٌّ للفلسفات والأفكار المثالية كافةِ في تركيبةٍ ساذجةٍ واحدة، ولكن ما حدث من فصل للعلوم الخاصة لم يلغِ تماما السببيات الداخلية، كذلك فإن الكثيرين من فلاسفة المثالية اهتموا بالتناقضات الداخلية كأرسطو المعلم الأول، ولكن السيرَ العام للمثاليةِ الفلسفيةِ الدينية في العصور الوسطى راح يضعُ الأسبابَ للتحولاتِ من السماء والآلهة، أي يجعلها في الخارج لتوقفِ القراءاتِ العلمية للطبيعة والمجتمع، ولكن هذه القراءة لدرسها تحتاجُ إلى فصول تنقيبية مطولة لكنها لدى ماو تعتمدُ على جُملٍ سريعة، وهي تصدرُ عن رجلٍ سوف يقودُ دولة هائلة.
ماو كفلاح شعبي يلتقي ثقافة الجدل ويفهمها بطريقةٍ عامية، ويضيف:
(وفي رأي الميتافيزيقيّين أن الاستغلالَ الرَّأسماليّ والمنافسة الرَّأسماليّة والأيديولوجيّة الفرديّة في المجتمع الرَّأسماليّ، وهلم جرا، يمكن أن نجدها في المجتمع العبوديّ في الزمن القديم، بل في المجتمع البدائي، ولن تبرح موجودة إلى الأبد من دون أدنى تبديل)، السابق.
الفلاسفة والباحثون يتحولون إلى كلمتي الميتافيزيقيين المنهجية، وهم سذجٌ إلى درجة أنهم يرون ان الرأسمالية ظهرتْ في المشاعيةِ حيث العملة النقدية وقوة العمل كبضاعةٍ غير موجودتين، وأن المجتمعُ الرأسمالي لا يتحول وهو المجتمع الأكثر تحولا في التاريخ الحديث.
وهو يخلط بين المنهجية الميتافيزيقية لدرس العلوم في الغرب والعقلية الميتافيزيقية التي تمثلُ كلَ عقلية دينية، لهذا فهو يُدخلُ حتى الإمبراطور الصيني ضمن المتبنين لـ(التفكير) الميتافيزيقي الرجعي:(أما الصين فقد ظهر فيها التفكير الميتافيزيقي القائل ان السماءَ لا تتبدل، وداو كذلك لا يتبدل)، وداو هو الإله الصيني الحاكم في السماء، فهنا ليست ثمة حقبٌ مختلفة بين مجتمع حديث متطور وصين عتيقة.
يعسكرُ ماو الأفكارَ والطبقات إلى فريقين وتغدو الحضارات والمجتمعات شديدة التبسيط، وحين يأتي لحل معضلات الشرق سوف يستعملُ العدة الفكرية المبسطة نفسها لحل قضايا الشعوب، وهنا تبدأ المخاطر.