حاتم الجوهري و-الصهيونية الماركسية


سعيد مضيه
2012 / 10 / 23 - 11:25     


أشغل الباحث الفلسطيني ، حاتم الجوهري، نفسه وقراءه بعبثية التعرض ل "الصهيونية الماركسية" و" خرافة الاحتلال التقدمي"؛ وهو يعرف ، كما ورد في مقالته (المنشورة ) أن ماركس ولينين وتروتسكي رفضوا من الأصل فكرة الصهيونية والتعصب الديني لليهود. ولا أرى مبررا للتركيز على بيرخوف وإغفال ماركس ولينين في مضمار البحث الجاد في موقف الماركسية من الصهيونية. فالصهيونية ، فكرا وحركة سياسية ، مرتبطة بالرأسمال الاحتكاري اليهودي؛ بينما الماركسية نظرية وفكر الطبقة العاملة. لست هنا في معرض الدفاع عن الماركسية، ولا عن إسهامات الشيوعيين، وما نالهم في خضم الدراما الفلسطينية وتطوراتها؛ ولست اعترض على حق الباحث حاتم الجوهري في أن يقر " لست ماركسيا بطبيعتي واختياري... كما أحتفظ بحقي فى ذات الوقت – كاختيار شخصي – بالاختلاف مع العديد من تعميمات الماركسية الفكرية والسياسية". إن خصوم الصهيونية وأنصار الشعب الفلسطيني في محنته الراهنة ينتمون لمختلف الأديان والمعتقدات الإيديولوجية والأفكار والحركات السياسية . لكن اعتراضي ينصب على إقحام مشاكل مفتعلة على الموضوع الفلسطيني التي تكاثرت إشكالياته بفعل الأخطاء والخطايا المقترفة أثناء مقاربة المشكلة الفلسطينية. اختلطت الأمور وعم الارتباك، ونحن نشتبك في صراعات داخلية وثانوية ، فمرقت أثناء ملهاتنا أطروحة " حق إسرائيل في الوجود الآمن" كمشكلة أساس في الشرق الأوسط! ومَثَلنا الفلسطيني يردد " نزلت لقاع البير وتقول وحياة حبابي ما بنزل!!!" حقا فما أوجب بعد كل ما جرى وقف مناورات الإقصاء، وما أحوجنا أن نقلع عن المناكفات ونقدم التفكير في حلول الإشكاليات على الحسابات الخاصة، ونجمع على التصدي لمهمة وقف زحف الاستيطان والتهويد اللذين يستشرفان منعطف الإجهاز التام على الوجود الفلسطيني برمته على أرض الوطن.
كتابات عديدة قاربت الموضوع ، كان بمقدور الباحث أن يسترشد بها للاستدلال على الأعداء والحلفاء في الصراع ضد الاستيطان الصهيوني. ويبدو أن الباحث حاتم الجوهري لم يطلع على الكثير منها . وأثناء الإعداد لكتابي " رواد التنوير في فلسطين"، الصادر عام 2008عن دار "الانتشار العربي" في بيروت تجمعت لدي جملة من الحقائق أوجزها على النحو التالي :
تاريخيا تعاطف بعض العرب مع المشروع الصهيوني لدى الانفتاح على الثقافة التنويرية مع بدايات القرن الماضي. فقبل صدور وعد بلفور واتفاق سايكس بيكو، استقبل العرب المنبهرون بحضارة الغرب كل فرنجي برنجي بدون تمييز. وانطلى على نفر من الليبراليين العرب تمويه الامبريالية والصهيونية ، بمهمة تحضير الشرق، فأفرزت الصهيونية من أوساطها عناصر ادعت أنها تمثل اليسار الصهيوني( غير ماركسي) ، وانطلى زيفها على الحكومة التركية وأغلبية مجلس المبعوثان في استنبول، وكذلك على عدد من الليبراليين العرب أمثال شبلي شميل ، الذي علق الآمال على "دور حضاري" للصهيونية في فلسطين، وهاجم خصوم الصهيونية واعتبرهم قوميين شوفينيين. وجدير بالذكر أن هذا الجناح الصهيوني تناسل عبر العقود وشارك في إنشاء الدولة وفي حروبها؛ ومازال هذا التيار يكتسي وجها منافقا يغطي به التزامه بنهج الصهيونية في الحرب والتوسع. ولابد من التنويه أن هذا التيار لم يخرج منه محمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وغيرهم ممن أشار إليهم الباحث في مقاله.
دمج دعاة الفكر التنويري في فلسطين نضالهم ضد الاستبداد والجهل والتخلف بالنضال ضد الغزو الصهيوني لوطنهم . برزت الثقافة التنويرية في فلسطين ، ومنذ البدايات، مناهضة للتخلف والاستبداد ومناهضة في الوقت نفسه للاستيطان الصهيوني. ومنها استمدت الحركة التحررية ثقافتها الوطنية، المناهضة للانتداب البريطاني والاستيطان اليهودي. في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين نشطت الكتابات التنويرية في فلسطين تحذر من الاستيطان اليهودي بفلسطين. تصدى النائب الفلسطيني في المبعوثان ، الأديب والمنور محمد روحي الخالدي للصهيونية تحت قبة المجلس. وانضم إليه في حملاته النائب عن دمشق ، شكري العسلي ، الذي أعدمه السفاح جمال باشا في نهاية الحرب العالمية الأولى. وبصفته النيابية زار الخالدي عددا من المستوطنات واطلع على حياة المزارعين المرفهة وقارنها بقلق بالغ، بالأوضاع المزرية للفلاح الفلسطيني. كما كتب أطروحة في الصهيونية أنذر من خلالها وحذر . غير أن المنيّة وافته عام 1913 وبقيت المخطوطة محجوبة عن القراء.
كما تصدى للصهيونية منور فلسطيني آخر هو نجيب عازوري، وقرن حملته ضد الصهيونية مع الحملة ضد الاستبداد التركي . وفي كتابه "يقظة العرب" دوّن تجربته عندما عمل مساعدا لمتصرف القدس تحت الإدارة العثمانية، ثم استقال احتجاجا على تواطؤ المتصرف (رشيد بك) وكبار رجال الإدارة مع حركة الاستيطان اليهودي بفلسطين. وشأن الاثنين كان بندلي الجوزي وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وخليل بيدس وكلثوم عودة والدكتور توفيق كنعان.
وتصدت الصحافة الفلسطينية ، خاصة "الكرمل " لمحررها نجيب نصار، في حينه لتفنيد مزاعم " اليسار الصهيوني". وكتب نصار في كراسة أصدرها عام 1911" دلتنا الأبحاث في مجلس الأمة حول المسألة الصهيونية أن حقيقتها ما زالت مجهولة. وأن الذين يديرون دفة السياسة في الآستانة ليس لهم وقوف تام على خطورة حركة الصهيونيين رغم كل ما كتبناه نحن وغيرنا عنها. فالحركة تهدف السيطرة على بلادنا وكامل حياتنا ، والمطلوب قيادة صلبة جريئة ، فنحن العرب بحاجة للاعتماد على النفس والكف عن انتظار كل شيء من الحكومة". كما كتب معاتبا الدكتور شبلي شميل لموقفه المضلل من الصهيونية.
أما الباحث حاتم الجوهري فيستهل بحثه التاريخي بالعام 1923، ويخلط بين يسار صهيوني وآخر خارج الحلبة الصهيونية ومناهض لها. فقد أورد في إحدى مقالتين نشرهما حول الموضوع "لقد ظهرت كلمة "شيوعى" لأول مرة داخل أحزاب الصهيونية في عام 1923 م، عندما قامت مجموعة كانت قد انشقت عن حزب بيرخوف (بوعلى زيون) أن تطلق على نفسها ذلك الاسم". أما المؤكد تاريخيا ، نقيضا لما سرده الباحث، فهو أن لماركس موقف من المسألة اليهودية ، وأن لينين رفض في مطلع القرن الماضي قبول بوعالي صهيون داخل حزب العمال الاشتراكي الروسي، وأعلن معارضته للصهيونية فكرا وحركة سياسية مؤكدا أنها إيديولوجيا الرأسمال اليهودي. كما أن الأممية الشيوعية اشترطت على الحزب الفلسطيني الوقوف موقفا مناهضا للصهيونية وأن يهتم بجذب العرب إلى صفوفه.
يقر الباحث، أن حزب الشيوعيين الفلسطيني انشق عام 1923 عن بيرخوف الصهيوني. والمنطق يفيد أنه بذلك طلّق الحركة الصهيونية، وباتت تربطه بالصهيونية علاقة التناقض التناحري . وهذا لا ينفي قيام التأثر والتاثير بصورة غير مباشرة بين الحركتين ، وعلى عدة مستويات، الأمر الذي لا ينعدم بين الحركات السياسية في البلد الواحد. والماركسية خبرت تلاوين التحريفية والانتهازية ومختلف الانحرافات.
غير أن الباحث يصر في الوقت نفسه على أن الشيوعيين الحاليين ، وأثناء إقامة الدولة هم أتباع الصهيوني بيرخوف. يكتب: " لم يعترف بيرخوف بحل الدولتين، فى حين رضخ أحفاده وورثته لحل الدولتين القوميتين مع قرار تقسيم فلسطين، وشاركت مليشيات اليسار الصهيونى المزعوم التابعة للمستوطنات الصهيونية فى التطهير العرقي، وفق الوثائق الثابتة والدامغة!! وكانت تلك المليشيات حجر الأساس فى حرب 1948م".
ولدى تقييم الموقف من الدولة الصهيونية يتخذ الباحث موقفين نقيضين : يثني في مقاله المنشور في حزيران الماضي على "الصديق الكاتب العزيز الأستاذ طلعت رضوان تناول أطروحتى العلمية؛ مدافعا عن دور اليسار الصهيونى المتمايز قياسا بيمينه. لذا أفتح صدري باتساع المدى... وعلى أساس هذه النظرة التوظيفية..".
وفي مقال آخر نشر في شهر اكتوبر الحالي يواجه ماركسيا، أي غير "صديق" فيضيق صدره!! وبما لا يليق بباحث، يمضي عبر زقاق ضيق ، مناكفا حيال "ماركسي" يرى أن "اليسار الماركسي المزعوم فى إسرائيل اليوم يتحدث من منطلقات ديمقراطية، تدافع عن حقوق العرب، وترفض احتلال أراضى ‘غزة والضفة’، ويقدم نفسه – أقصد اليسار الإسرائيلي المعاصر – على أنه جزء من اليسار العالمي العمالي". لنلاحظ أنه يجامل بشأن اليسار الصهيوني ويهاجم بشأن اليسار الماركسي، يرمي الباحث بأشنع المطاعن هذا الموقف، جازما " أن بيرخوف كان أكثر صدقا ووضوحا مع نفسه ومشروعه الصهيونى الأساسي، من هؤلاء الذين يتمسحون برداء العمالية الماركسية في الدولة الصهيونية الآن."
هل يليق هذا التلون بباحث في الدكتورأة؟! ترى هل" الوثائق الثابتة والدامغة" التي استند إليها الباحث استخلصها من كتاب له مصداقيته، مثل " التطهير العرقي في فلسطين" للمؤرخ البروفيسور إيلان بابه؟ هل اطلع على كتاب أبراهام بورغ " لنتحرر من هتلر؟" وهل التقط وثائقه الثابتة والدامغة من كتاب البروفيسور شلومو ساند " اختراع الشعب اليهودي" كي يشكل رؤية موضوعية لأساليب التزوير والتلفيق الصهيونية ؟
الصهيونية من جانبها تحارب بلا هوادة خصومها داخل إسرائيل والولايات المتحدة وفي شتى بلدان العالم فهل يريد حاتم الجوهري من خصوم الصهيونية داخل إسرائيل أن يرحلوا ويتخلوا عن "النظرة التوظيفية" التي رحب بها من جانب صديقه؟! هل هي وصمة عار العيش داخل دولة عنصرية ومولعة بالحروب ودولة احتلال وتوسع استيطاني وخوض الصراع مع نهجها ؟!
ميكو بيليد ، ابن الجنرال المعروف، يخرج باستخلاصات منافية لكنها شافية، حين يستند إلى وثائق دامغة حقا، حيث ضمّن كتابا نشره مؤخرا حقائق مازال الكثيرون ، ومنهم الباحث، يزوغون عنها، منها حقيقتان تؤكدان أن مسعى تفويت الفرصة على مخطط التطهير العرقي صدر عن يقظة سياسية وبعد نظر . وحان الوقت كي تسكت الانتقادات التي لا تخرج عن محاولات إقصاء الآخر:
• إن قبول الوكالة اليهودية قرار التقسيم عام 1947 كان موقفا تكتيكيا خالصا، فلم يكن هناك أي استعداد للقبول بالحدود المنصوص عليها في قرار التقسيم كحدود نهائية للدولة اليهودية المطلوب تأسيسها.
• امتلكت الجالية اليهودية فى فلسطين قبل حرب 48 جيشا قويا منظما ومدربا ومجهزا بأحدث الأسلحة، لم يكن قوامه يقل عن أربعين ألفا، وهو أكبر دليل على أن إسرائيل كانت تستعد للحرب حتى من قبل أن تتدخل الدول العربية لنصرة الشعب الفلسطينى، وأصبحت جاهزة لكل حرب بعد ذلك، بل ساعية لها من أجل المزيد من التوسع.

مواقف الماركسيين من الاستيطان اليهودي قبل وبعد إنشاء الدولة سردْتُ أخبارها مطولا في كتابي " هيكل الأبارتهايد" الصادر عام 2011، إلى جانب استخلاصات علمية ألقت الضوء على تلفيقات الفكر الاستشراقي ، طلع بها عدد من المؤرخين وعلماء الآثار برزوا في الربع الأخير من القرن الماضي. الأبحاث الأركيولوجية قوضت رواية المستشرقين الغربيين بصدد "دولة يهودية قديمة في فلسطين" ، تلك التي منها انطلقت الفكرة الصهيونية .
في هذا الكتاب أبرزْتُ الحقائق التالية، ولا أظن الباحث بقادر على دحضها:
• أن الحركة الصهيونية ووليدها الأول دولة إسرائيل نتاج مخطط امبريالي تجاه المنطقة العربية؛ وبالمقابل ساندت الصهيونية ومشروعها الكولنيالية الغربية ضد حركة التحرر الوطني العربية كافة وليس الشعب الفلسطيني وحده.
• الماركسيون اليهود تصدوا لنهج بن غوريون الداعي لمنع العرب من العمل في المشاريع اليهودية، وخاصة البيارات.
• الماركسيون في فلسطين، دمجوا مقاومة الانتداب مع مقاومة الغزوة الصهيونية ، وطرحوا برنامجهم من أجل فلسطين مستقلة . لكن الأمور جرت في اتجاه آخر لأسباب لا مجال لتفصيلها في هذا المجال.
• الماركسيون اليهود تعرضوا لاضطهاد قيادة الوكالة اليهودية ـ بن غوريون وحاشيته، حيث اعتقل العديدون ، وتمت تصفية البعض منهم وهجر البعض قسرا على بواخر بدون وثائق ثبوتية .
• الماركسيون في فلسطين طوردوا من قبل البوليس البريطاني ومنع نشاطهم العلني.
• العمال الماركسيون داخل الهستدروت عارضوا خطة بن غوريون ومعه " اليسار الصهيوني"، لقصر المنظمة العمالية على اليهود فقط. وقام أنصار بن غوريون بطرد كل نقابة تقبل عضوية العرب من عضوية الهستدروت، ومنها نقابة الخبازين في تل أبيب ونقابة عمال الحديد. أطلق بن غوريون لقب " الفاشلون" على أنصار الشيوعيين، ممن عملوا داخل الهستدروت باسم (عصبة العمال) ، وهم من رفعوا شعارات النضال المشترك ضد الانتداب البريطاني ، ومن أجل إبعاد المزارعين في الكيبوتسات عن المنظمة النقابية للعمال ، كما عارضوا إقامة الكيبوتسات والعمل داخلها .
• وإلى جانب الماركسيين وبالتعاون معهم انضوى تحت لواء الصهيونية في بداياتها مثقفون رفعوا شعار التعاون مع العرب ضد إقامة الدولة اليهودية، منهم يسرائيل بيلكند (1861ـ1929)الذي رفض مزاعم رحيل اليهود عن فلسطين وآينشتين والأديب برينر ومارتن بوبر أستاذ الفلسفة بجامعة القدس وهنريتا شولد إحدى مؤسسات حركة النساء هداسا ، والفيلسوفة حنة آرندت ويهودا ماغنس. وكلهم عارضوا مشروع بمبدئية فكرة إقامة الدولة اليهودية، لكنهم فشلوا في تصديهم للتيار العارم، وطمس أثرهم.
• وكان نوعام تشومسكي وأسرته من بين هؤلاء. وقال في إحدى مقابلاته الأخيرة أنه في شبابه تزعم في عقد الثلاثينات منظمة شبابية منضوية تحت لواء الحركة الصهيونية لا يمكن اعتبارها صهيونية في الوقت الراهن؛ ذلك أنها ناهضت قيام دولة إسرائيل. كان والده وأصدقاء له يرون في إنشاء دولة لليهود في فلسطين مشروع تدمير للروح اليهودية. وعندما أعلن قرار تقسيم فلسطين ساد الحزن بيت الأسرة وبين أصدقائها.
تلك هي الحقائق الموثقة بالوثائق الثابتة والدامغة لكل من تشغله في المقام الأول مهمة التصدي للمشروع الاقتلاعي في فلسطين. وحري بمن تستهويه الحقيقة أن يلتزم بالموضوعية و يتصدى لقضايا حقيقية واقعية، غير " الصهيونية الماركسية" والاحتلال التقدمي".
أخيرا يتوجب القول أن منهجية الباحث ليست فريدة في بابها؛ فالمجتمع الفلسطيني لم يقلع بعد عن مناورات الإقصاء والفصيلان الرئيسان يخوضان صراع إقصاء متبادل ويتم عزل العناصر القيادية التي أدركت عقم وعبثية هذا الصراع . كما أن فصائل اليسار عاجزة لم تزل عن مغادرة حلبة المناكفات وولوج درب التعاون والأعمال المشتركة بلا تحفظ أو نظرة للوراء.