في الإستعمار و الدولة الوطنية: تعليق على بعض من تراث عبد الخالق محجوب


مجدي الجزولي
2005 / 3 / 4 - 10:45     

يحمد لدار عزة للنشر أنها أتاحت لمثلي فرصة الإطلاع على بعض مما كتبه أحد السودانيين الأذكياء، شهيد فكره و نضاله عبد الخالق محجوب، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني حتى إغتياله في 28 يوليو
1971 . يعيب المكتبة السودانية أنها تفتقر لعمل موثق حصين يؤرخ لرجل هو عرّاب الحداثة السودانية؛ حداثة فكرية منعها عن إكتمال بدرها بطش السلطان و رصاص قاهر مقهور، و حجبها عن كامل جمهورها ضباب ايديولوجي كثيف و لسان اليمين الطويل.
 
 ربما جاز لنا على أعتاب "سودان جديد" و بعد إنحسار مد العقائد السياسية ان نفكر بهدوء و رويّة في سعي خلاق و سباق لمد فتور الحياة الفكرية و السياسية و الثقافية السودانية بناضج من الخيال و "العلم النافع" ماركسي الوجد و سوداني الوجدان، كتب بلغة لا تخجل من تعيين العدو إسماً ولا تمل من الحلم، في زمان لم تكتمل فيه بعد سطوة "بريتون وودز" و كعبة نيو يورك الأمميّة، زمان عرف نساءاً و رجالاً لا تشتريهم دولارات إمبراطور واشنطن الباطش منهم شهيدنا، فأي قائمة يمكن أن تضمه و رفاقه سوى قائمة لوممبا، اليندي، جيفارا .. و غيرهم لا تعلمونهم الله يعلمهم.
 
بسبب من فتنة التنافس الحاد و الدموي على مقاعد السلطة السياسية لم تنل افكار محجوب كبير إهتمام بحثي خارج دوائر الحزب الشيوعي السوداني التنظيمية، حيث اكتفى معظم اهل الأكاديميا بالختم الايديولوجي لسعي الرجل الفكري و السياسي سبباً لإستبعاده من قائمة احسن القول و تصنيفه من ضمن الزبد الذي يذهب جفاءاً و هو مما ينفع الناس حقاً و لو بعد حين. إن إدراك سبق محجوب يتطلب عيناً قارئةً متحررةً من الاحكام المسبقة و الجاهزة، تذهب أبعد من اسطورة "الخطر الشيوعي" و تعي القيمة المفصلية لجهاد محجوب في دفع حركة الإستقلال الوطني و تثويرها بما يتجاوز صالونية الأحزاب و مناوراتها الميكافيلية. العمل الفكري و السياسي الجماهيري لمحجوب لا يستقيم عدلاً تقييمه فقط وفق مقولة "الشيوعية سقطت في بلدها" برغم صحتها كمعلومة، فالرجل لم يكن سوفييتياً يعمل في السودان!
 
لا مناص عند طلب حقيقية المسألة من موضعة سعي محجوب في إطاره المكاني و الزماني بكامل شروطه الإقتصادية-الإجتماعية و السياسية و الثقافية، عندها قد يتبين لمن أراد العدل أن القضية المركزية لشيخ الشيوعيين السودانيين كانت الإستقلال الوطني و التحرر من الإستعمار، في هذا الصدد كتب عبد الخالق محجوب في مقالته "كيف أصبحت شيوعياً"، قائلاً: ” بمجهودي المتواضع إتضح لي أن هولاء الزعماء >زعماء حزب الأشقاء< لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الإستعمار و أنهم ما أن دخلوا غمار مجتمع متقدم معقد كمصر حتى صرعتهم النظريات المتضاربة فأصبحوا يتقلبون كما تشاء مصالحهم، عرفت أن الإستعمار له نظريته السياسية التي يحارب بها الشعوب الضعيفة و أن هذه النظرية نشأت على تطور الرأسمالية الأوروبية خلال القرن الخامس عشر. و إذا كان لشعبنا المغلوب على أمره أن يتحرر فلا بد أن يسير على هدى نظرية توحد صفوفه و تصرع الإستعمار، على هدى نظرية تسلط أضواءها على كل زعيم أو متزعم و لا تترك له الفرصة لجني ثمار جهاد الشعب لنفسه، على هدى نظرية سياسية تخلص الشعب من الجهل و الكسل الذهني، الذي يتركه كقطع "الشطرنج"، تحركه ايدي الزعماء أينما شاءت.“[1]        
 
 عند محجوب الإستعمار حالة لا تنتهي بخروج الجيش الغازي و تحقيق عضوية الأمم المتحدة و ما يلزم الدولة من تشريفات و طقوس، تلك جنة النخبة الذي ترث الملك الإستعماري، و التي بحكم رضاعتها من ثدي الدولة "الكولونيالية" و تدجينها في مؤسساتها الفوقية و بحكم موقعها الطبقي تلعب دور الخليفة الوريث لتدشن مرحلةً جديدةً من الإستعمار أرخص في الكلفة المادية، أقل ضرراً بالصورة المعنوية "للرجل الأبيض"، و أكثر فعالية في نهب موارد الشعب لصالح البرجوازية الأوروبية، فهي- أي النخبة الوطنية – لا تستطيع تحقيق ما يفوق تغيير علم و رسم الدولة بينما تبقى شبكة العلاقات الإقتصادية و السياسية الإعتمادية و الإستغلالية التي تربط الدولة المستقلة حديثاً بالإستعمار في مكانها، و ذلك في إتساق تام مع مصالح النخبة بما هي نواة لبرجوازية محلية ناشئة تعيش على أفضليتها التعليمية و الإقتصادية النسبية بالمقارنة مع عامة الشعب و تحتكر بذلك صناعة الرأي العام و قيادة الدولة و إدارة المؤسسات الإنتاجية و لها القدرة على عقد الصفقات و لعب دور الوسيط و الوكيل المحلي للمصالح الرأسمالية الدولية، بما يضمن لها الإعتراف و الدعم الخارجيين و النفوذ الداخلي. على هذا الأساس ليس من المستغرب أن تستمر غربة الدولة عن مواطنيها بعد تحقيق الإستقلال، فهي ما تزال جسم غريب تائه في البحر الشعبي،  تعيد تدوير الإرث السياسيي، الإقتصادي، القانوني و الإداري للإستعمار دون كبير تغيير يطرأ عليه ليناسب الاهداف و المهام الملقاة على عاتق دولة يصارع شعبها الفقر و الجهل و المرض و يسعى لإعادة إكتشاف ذاته و إصلاح ما أفسده داء الحكم الأجنبي. في هذا الصدد كتب محجوب: ” بجهاز الدولة في قطاعاته العليا عناصر ذات أثر روضها الإستعمار الأجنبي، و بحكم ما حولها من تشريعات تدربت على إحتقار الجماهير الشعبية، و بحكم إمتيازاتها تتطلع للدفع الرأسمالي تحت سيطرة الإستعمار الحديث و القديم. إن المراكز الأساسية لهذه العناصر تقوم بين أجهزة السلطة.“[2]
 
إنتهجت النخبة الحاكمة و المتنفذة أساليب متعددة في تدعيم مشروعيتها السياسية، لم تقم في مجملها على تصورات عملية و واقعية لمجابهة القضايا المعيشية و التنموية الضاغطة في بلد فقير و ملغوم، بل كانت في أغلبها صياغات فجة و عاطفية لعناصر الهوية الدينية و اللغوية (الإسلام و العروبة)، جوهرها الولاء الطائفي التقليدي، ما أن تحقق الإستقلال السياسي حتى بدا بوارها بل حمقها حين الإعتبار في الكارثة الإنسانية و السياسية التي سببها تعامل الأحزاب الإنتهازي مع قضية البناء الوطني والتي انفجرت ملتهبة و دموية في تمرد 1955. تنافست الحكومات المتوالية في الشمال دكتاتورية و برلمانية على تعقيد مشكلة الجنوب و تحويلها إلى احدى ورقات التنافس السياسي على مقاعد السلطة. ” أصبحت العداوات خلال فترة رئاسة (محمد أحمد) المحجوب (1965) أشد ضراوة من أي تجربة سابقة عاشها الإقليم بما في ذلك فترة حكم عبود العسكري. و من المفارقات تمت إدانة حكم الجنرال العسكري عبود، بالتحديد لإتهامه بالفظائع التي ارتكبها في الجنوب، و بالرجوع إلى الماضي، يبدو واضحاً بأن الأحزاب الشمالية كانت أكثر رغبة في إستغلال مشكلة الجنوب للقضاء على نظام عبود العسكري، من سعيها لإيجاد حل سياسي للمشكلات.“[3] في نفس العام قدم عبد الخالق محجوب خطابه الشهير أمام مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم بصدد قضية الجنوب و الذي  تجاوز فيه بإمتياز الرؤى الذاتية و الإستعلائية للسياسيين الشماليين، مقدماً تحليلاً واقعياً للقضية ربط فيه بين المطالب السياسية للجنوبيين و مهمة التحرر الوطني و الصراع الطبقي في البلاد بعد أن سجل سابقة مجيدة في المناقشة العامة لدور الرق المحوري في القضية: ” إن التغييرات التي شملت بلادنا امتدت أيضاً لمفاهيم الدوائر السياسية المختلفة فانتصر صوت العقل و أصبح هناك إتفاق جماعي حول وجود مشكلة و قضية في الجنوب و أن الحل الديمقراطي السلمي هو السبيل، بعد أن عانينا سنوات عدة من سياسة الإرهاب و البطش و إراقة الدماء. و كنا نأمل لو شملت تلك التغييرات مفاهيم بعض اخواننا هنا الذين يسموننا بأحفاد الزبير باشا، و نحن نقول لهم بصراحة و وضوح، نعم نحن أحفاد الزبير باشا، فنحن لا نتهرب من تاريخنا، لكنا ننظر إليه نظرة موضوعية ناقدة، و في غير مرارة، نستفيد منه الدروس و نستقي منه العبر، فتجارة الرقيق التي تتحدثون عنها كثيراً كانت مدفوعة من المستعمر الأوروبي و لمصلحته و هي عار عليه في تلك العهود و عار على كل من نفذها.“[4] يمضي محجوب في خطابه ليطور الفكرة الجنينية التي طرحها و رفاقه في الجبهة المعادية للإستعمار قبل تمرد 1955 و التي صاغتها اللجنة التنفيذية في إجتماعها بتاريخ 21 سبتمبر 1954 و نشرتها جريدة الصراحة 28 سبتمبر 1954: ” ترى اللجنة أن حل مشكلة الجنوب يتم على الأساس التالى : تطوير التجمعات القومية فى ‏الجنوب نحو الحكم المحلى الذاتى فى نطاق وحدة السودان“، أرفقت اللجنة موقفها بمقال تفسيري جاء فيه أيضاً: ” كذلك نقر بأنه ليست لدينا ‏وجهة نظر محددة عن الموقف بين القوميات السودانية الأخرى فى الشمال ‏والشرق ، الا أنه مما يبدو لا توجد مشكلة حالية بالنسبة لها . ولكننا من ناحية ‏المبدأ لا ننكر أنه اذا جاء وقت ، حتى ولو كان بعد الاستقلال بفترة طويلة ‏واقتضت ظروف هذه القوميات نوعاً معيناً من الحكم الداخلى فيجب أن ينفذ .‏“
 
في مرحلة لاحقة قدم محجوب تصوره لمهام إستكمال الإستقلال في مرحلة "الثورة الوطنية الديمقراطية"، المناط بها تصحيح المسار الإقتصادي و السياسي للبلاد في إتجاه تحقيق مطالب الجماهير الشعبية الغالبة و تهشيم جهاز الدولة القديم "الإستعماري"، و ذلك في وثيقة "حول البرنامج" التي كتبها في معتقله بالشجرة في يونيو1971، فيها يطور و  يفصل ما أجمله برنامج المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني 1967 وفق القاعدة الماركسية القائلة بأولوية الممارسة و ضرورة التعلم المتواصل من التجربة الماثلة و الواقع الملموس. حدد محجوب في وثيقته أولويات العمل بالقول: ” نبدأ بتحديد القضية الأساسية في الثورة الديمقراطية، و التي تتفرع منها كل القضايا الأخرى لتلك الثورة. أعتقد أن قضية الثورة الإقتصادية (التنمية) هي تلك الحلقة. فإذا كان العدو الإستراتيجي الأساسي لثورتنا الوطنية هو الإستعمار الحديث و الحلف البرجوازي شبه الإقطاعي في الداخل، و أن الهدف الأول للثورة الوطنية الديمقراطية هو دعم و تطور السيادة الوطنية.. فإن هذا غير ممكن من غير النهوض الإقتصادي و بناء مجتمع صناعي و زراعي.“[5] بعد أن قدم وصفاً تحليلياً لمصادر الفائض الإقتصادي الازم لتحقيق تنمية قوى الإنتاج يواصل محجوب جهده ليشمل بنقده الهياكل الإجتماعية و السياسية التي تعوق النمو الإجتماعي-الإقنصادي بما فيها البيروقراطية و جهاز الدولة الإستعماري، ثم ليحدد إطاراً نظرياً لتثوير نظم و مناهج التعليم، كونها تلعب الدور المركزي في تهيئة العنصر البشري؛ أساس و هدف التنمية: ”إن المجتمع الصناعي-الزراعي المتقدم يبنيه الإنسان السوداني الذي يتحرر من تلك العوامل و يخرج من نطاق الخوف إلى رحاب المعرفة حيث يحتل الإنسان مركزاً كريماً بوصفه أكرم الكائنات، إن تحرر الجماهير الكادحة من ذلك الخوف و من مؤسساته الإجتماعية لا يتم بالتشريع و القهر بل بنشر المعرفة اليومية، بالثورة الثقافية التي تخرج من منابت المجتمع و تهز قاعه ضجيجاً و حركةً، هو إنتصار الإرادة الديمقراطية و المعرفة و الوعي بين الجماهير، و الوعي أساسه حرية الإختيار و الإقتراب من الحقيقة، و القهر و التشريع و حجب الإختيار ليست من وسائل إكتشاف الحقيقة في شئ.“[6]
 
في ختام وثيقته أورد محجوب نقداً للديمقراطية الليبرالية و ممارستها في السودان (1956-1958 ، 1964-1969)، و التي شارك فيها الحزب الشيوعي السوداني حتي طرد نوابه من البرلمان في نوفمبر 1965 ، في تقويض صارخ و معيب للدستور و للحقوق السياسية للناخبين و نوابهم، الحادثة التي فتحت الباب واسعاً للمغامرات الإنقلابية و انتهت بإغتيال قيادات الحزب في يوليو1971 و من ضمنهم عبد الخالق محجوب، الذي سجل في حقه محمد أحمد المحجوب هذه الكلمات المضيئة: ” إن إعدام زعيم الحزب الشيوعي السوداني يشكل نهاية عهد التسامح و الحلول الوسطى في حياة السودان السياسية، انني اعرف عبد الخالق محجوب منذ 20 سنة. كان يتحلى بنزاهة و شجاعة بالغين. و كانت الأخلاق السودانية تأتي في الطليعة في تفكيره السياسي. و قد ساهم كثيراً في ايجاد توافق بين تاريخ السودان الإسلامي و الآراء الماركسية الثورية- و هذا ما جعلني دائماً أصف الحزب الشيوعي السوداني بانه حزب سوداني لا يدين بالولاء لموسكو أو أي بلد شيوعي آخر في العالم.“[7] كتب الأستاذ كمال الجزولي كتاباً غنياً و فريداً عن إشتباك الشيوعيين السودانيين مع الديمقراطية : كمال الجزولي، الشيوعيون و الديمقراطية في السودان، دار عزة، الخرطوم 2003، ليس في إستطاعتي الإضافة عليه.
 
قد يستنكر الكثيرون توجيه النقد للديمقراطية الليبرالية في زمان يعتبره ايديولوجيو واشنطن نهاية التاريخ، لكن السؤال يظل مشروعاً ليس من أجل الهدم و لكن من أجل البناء، ليس من باب الرياضة الذهنية بل لأنه سؤال موضوعي و لازم عند الإعتبار في المسافة القائمة بين المشاركة الشعبية في إتخاذ القرار السيلسي و الإداري، الرقابة الشعبية على أداء الدولة، رفع مستوى معيشة الجماهير، توفير الخدمات، تحقيق الكفاية و العدل و صيانة كرامة الإنسان و بين حصاد برلمانية شكلية تتحكم فيها أغلبية حزبية ميكانيكية يقول عنها رائدها: ” لقد تمكنا من التخلص من أسيادنا الأجانب، و لكننا عجزنا عن محو الفقر و المرض و الجهل. لقد عجزنا عن القضاء على عنصر الخوف الذي زرعته أجيال من الحكم الأجنبي في نفوس شعوبنا. لقد فشلنا في المحاولة التي قمنا بها لتأمين مستوى أعلى للمعيشة و الصحة و التعليم لشعبنا.“[8]  هذه المحصلة القاسية يعزوها المحجوب في إتفاق مع عبد الخالق للعلاقات الإقتصادية الإستغلالية التي ما زالت تربط المستعمرات السابقة بالدول الإمبريالية؛ ” سعت الدول الإستعمارية- أي بكلمة أخرى الدول الرأسمالية الغربية- خلال بقائها الطويل في بلداننا، إلى إبقاء إقتصادياتنا قائمة على إنتاج المواد الأولية التي كانت تصدر إلى بلدان العالم الغربي الحاكمة علينا. و قد حددت هذه الدول الرأسمالية سعر تلك المواد، لأنها في الواقع، كانت الشارية الوحيدة. لقد استخدمت موادنا الأولية في صناعة السلع الخالصة ثم أعيد تصديرها إلينا بأسعار حققت ارباحاً طائلة، للحكام. و حتى بعد الإستقلال، بقيت طريقة التعامل هذه مستمرة. إذ لم يكن في وسع البلدان الحديثة الإستقلال أن تعيد تنظيم إقتصادها بين ليلة و ضحاها.“[9] السودان لم يبتعد كثيراً عن هذا الوصف بعد ما يفوق الثلاثين عاماً من كتابته، بل إنفجرت قضايا التنمية والمشاركة الشعبية أو بلغة البروتوكولات الثروة و السلطة حروباً و صراعات مسلحة، ترتد عن حداثة الطبقة الى أوليّة العرق و الإثنية،  لتضع نهاية لعهد التسامح و الحلول الوسطى، ليس فقط في الحياة السياسية بل في الحياة السودانية على الإطلاق، ولذلك سبب بائن، فعندما عجزت الأحزاب و الطوائف عن مخاطبة و تلبية حاجيات الجماهير الشعبية في الجهات و المدن، لم تبقى سوى روابط الدم و العرق معبراً للمظلمة الطبقية، التي تناسلت بخميرة من إهمال و إستغلال قضايا القوميات المذكورة آنفا، لتصبح ذات رؤوس عدة: دينية و جهوية و عرقية و لغوية. للإنجليز مثل يقول "إن الحقائق أشياء عنيدة"، لذا من المفيد تقديم وصف إحصائي[10] لبعض مؤشرات غليان المرجل الذي يخرج منه أباليس السودان:
 
 
عدد السكان                                                                                                               33,5 مليون
نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي (2003)                                       460 دولار امريكي
معدل وفيات الرضع تحت سن العام (2003)                                                            63 من كل ألف ولادة حية
معدل وفيات الأطفال تحت سن الخامسة (2003)                                       93 من كل ألف ولادة حية
معدل وفيات النساء أثناء الحمل و الولادة (2000)                                     590 من كل مائة ألف ولادة
                                                                     
نسبة السكان الذين يستغلون صرف صحي مناسب                                      34 %
تغطية التطعيم ضد السل للأطفال تحت سن العام (2003)                              53 %
تغطية التطعيم ضد شلل الأطفال تحت سن العام      - 3 جرعات (2003)           50 %
تغطية التطعيم الثلاثي الأطفال تحت سن العام (2003)                                                  50 %
تغطية التطعيم ضد الحصبة للأطفال تحت سن العام (2003)                           57 %
تغطية تطعيم النساء الحوامل ضد التيتانوس (2003)                                                    35 %
 
معدل إنتشار مرض الأيدز للفئة العمرية 15 – 49 (تقدير نهاية 2003)               2,3 %
عدد الأطفال (الأعمار 0 – 17 ) الأيتام لجميع الأسباب                                                1,3 مليون
 
نسبة الأمية بين البالغين الذكور (2000)                                                                31 %
نسبة الأمية بين البالغين الإناث (2000)                                                                 54 %
نسبة الإلتحاق بالمرحلة الأولية من الأطفال الذكور (1998 – 2002) 50 %
نسبة الإلتحاق بالمرحلة الأولية من الأطفال الإناث (1998 – 2002) 42 %
إجمالي نسبة الإلتحاق بالمرحلة الثانوية - الذكور (1998 – 2002)  34 %
إجمالي نسبة الإلتحاق بالمرحلة الثانوية – الإناث (1998 – 2002)  30 %
 
نسبة سكان الحضر                                                                                                       39 %
نسبة سكان الريف                                                                                                                         61 %
 
نصيب الصحة من الميزانية المركزية (1992 – 2004)                                                1 %
نصيب التعليم من الميزانية المركزية  (1992 – 2004)                                                8 %
نصيب الدفاع من الميزانية المركزية  (1992 – 2004)                                                28 %      
 
 
بينما يكتب "جماعة" الحكومة و الحركة دستور الفترة الإنتقالية و تتقلص عضلات قيادات الأحزاب في إنتظار الإنتخابات  لابد من التفكير في الوسائل و الطرق و أشكال التنظيم اللازمة لتجذير وعي الجماهير في كل السودان بطبقية قضيتهم المشتركة، و ضرورة تكامل جهودهم، في وحدة يستقوون بها على الأوليغاركية الجديدة (حكم القلة) التي تؤسس لها بعناد أخرق بروتوكولات طه - قرنق و يسيل لثروتها و سلطتها لعاب "سماسرة" التهميش و المحررون الكذبة؛ وحدة هدف و عمل  تمنح شكلانيات الديمقراطية مضموناً إقتصادياً و إجتماعياً، يكبح جماح السوق و السلاح و يحقق مطالب الجماهير في حدها الأدني على الأقل: الحرية و الخبز و السلام. إذ أنه ”يمكن للأساليب الديمقراطية أن تشجع النضال العلني ضد البنى السلطوية القائمة، مما يعد أمراً جيداً، ولكن يمكن احتواء هذا النضال عادة، ويمكن قمعه ضمن نطاق الدستور. بكلمة أخرى، يمكن إستبدال نظام ديكتاتوري ضمن بنية رأسمالية، بنظام "ديمقراطي" ضمن البنية نفسها. “[11] في حال تقاصرت قامة العاقلين من بنات و أبناء السودان عن هذا الجهد، و هذا النضال الحيوي فإن إرادة الجماهير ستبقى أسيرة عند حكومة كاد أمرها يشبه حال ملوك سنار عشية الغزو التركي، يجلسون على عرش خرب، و محررين إنتهازيين كزعماء القبائل الذين سعوا إلى محمد على طالبين تدخله في شئونهم المصطرعة[12]. هذه المقارنة " الشاطحة " تقفز إلى الذهن حين تأمل دور أطراف النزاع السوداني، من جمعتهم قسمة نيفاشا و من هم خارجها، في التحضير لسودان جديد- قديم تحكمه القوى الدولية عبر بعثة يرأسها مندوبها السامي في الخرطوم المستر برونك، مدعومة بقوة مسلحة قوامها ما يفوق العشرة آلاف فرد، تكاد مجالات المهام الموكلة لها تماثل مسؤوليات سلطة  وطنية ذات سيادة، تشمل السياسة و الرأي العام (بما في ذلك توجيه بإنشاء إذاعة خاصة ببعثة الأمم المتحدة في السودان)، حكم القانون، حقوق الإنسان، الشئون المدنية، الإنتخابات، نزع سلاح و تسريح و إعادة دمج القوات، جهود الإغاثة، حماية السكان المدنيين، التتمية و قضايا المرأة[13].
 
ذكر رئيس الجمهورية في إحدى خطاباته الحاشدة امام جموع أهل النيل الأبيض أن ثورة الإنقاذ إمتداد للثورة المهدية، تداعي الأحداث يدفع المرء أن يقول ربما هي كذلك، لكن منزوعة " الثورة " فما جمعت أهل السودان ضد مغتصب، و لا أعطت الأرض لمن يزرعها، و لا ألغت ضريبة جائرة، بل جاءت تحملها الدبابات، شنت حرباً غليظة على آمنين، فقدت ثقة أهل الجنوب قبل أن تكسبها أول مرة، إغتصبت الأرض من أصحابها، و أودعت من أسمتهم المعسرين السجون، و ماثلت إرث المهدي و خليفته في فرض دينها و شريعتها على عموم العباد قسراً، محاربة الجيران الأقربين و من لا قبل لها بهم عبر البحار إمعاناً في التيه و الفتوة، دفع معارضيها إلى أحضان القوى الأجنبية حمقا وعناداً، ثم  شاخت قبل أن تبلغ الحلم لتنقسم على نفسها، تأسر شيخها، و تبعث شياطين العرق و القبيلة أحياء يمشون بين الناس. التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه حافل بالدروس و العبر، فما للإنقاذ من "كرري" و لن تفديها أرواح  أحد عشر ألف سوداني، كما ليس لقادتها جلد و شموخ عبد الله التعايشي و علي ود حلو و أحمد فضيل إذ يستقبلون رصاص الغزاة و هم جلوس على "فروتهم" الوطنية.
 
                                                                                                                                                            فبراير 2005
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
       


[1]  "الأيام" 05/10/1954 ، منشورة ضمن عبد الخالق محجوب، دفاع أمام المحاكم العسكرية، ط 1 ، دار عزة للنشر، الخرطوم 2001، ص 20
[2]  الماركسية و قضايا الثورة السودانية: نص التقرير العام المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني-  أكتوبر 1967 ، دار الوسيلة، الخرطوم، بدون تاريخ، ص 110
[3]  د. فرانسيس دينق، صراع الرؤى؛ نزاع الهويات في السودان، ترجمة د. عوض حسن، ط2 ، مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2001، ص 136
[4]  خطاب عبد الخالق محجوب أمام مؤتمر المائدة المستديرة- الخرطوم 1965، الجزء الأول، تسجيل صوتي منشور على الموقع الإلكتروني www.omdurman.us
[5] عبد الخالق محجوب، حول البرنامج، ط 1، دار عزة، الخرطوم 2002، ص 10
[6] المصدر السابق، ص 44
[7] محمد أحمد محجوب، الديمقراطية في الميزان، ط 2، دار النهار، بيروت 1982، ص 246
[8] المصدر السابق، ص 279
[9] المصدر السابق، ص 280
[10] منظمة اليونسيفwww.unicef.org
 [11]رالف ميليباند، الإشتراكية لعصر شكّاك، ترجمة نوال لايقة، ط 1، دار المدى، بيروت 1998، ص 57
[12]  د. محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1820 – 1955، ط 2، مركز عبد الكريم ميرغني، أم درمان 2002، ص 37
[13] تقرير أمين عام الأمم المتحدة لمجلس الأمن حول السودان، معمم بتاريخ 31 يناير 2005، www.un.org