بصمات قوية تركها المؤرخ الماركسي الموسوعي إريك هوبسباوم


داود تلحمي
2012 / 10 / 3 - 21:36     

في الساعات الأولى من الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2012، رحل المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم، عن 95 عاماً، وهو عمر مديد شغله الراحل في إنتاج غزير للمعرفة والثقافة وقراءة التاريخ البشري المعاصر، بدءً من مقدماته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وهوبسباوم من مواليد مدينة الإسكندرية المصرية، حيث كان يقيم والداه. وجاء ميلاده في حزيران/يونيو 1917 قبل أشهر قليلة من حدث عالمي كبير سيترك تأثيره القوي على مساره وحياته، وهو ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا القيصرية. ووالده بريطاني من أصل بولندي، ووالدته نمساوية. وكانت محطة العائلة التالية هي العاصمة النمساوية فيينا بعد عامين من ميلاده، ثم انتقلت الى العاصمة الألمانية برلين، حيث نشأ وترعرع الشاب المتعدد اللغات والثقافات، وحيث واكب صعود النازية وزعيمها أدولف هتلر الى السلطة في ألمانيا في العام 1933. وهو الحدث الذي ترك أثراً قوياً عليه على المستويين الشخصي والسياسي، بحيث رسّخ خياره اليساري المناهض للفاشية والنازية، وعزز انتماءاته للتنظيمات الشيوعية في ألمانيا وبعد ذلك في بريطانيا، حيث انتقل مع عائلته في مطلع الثلاثينيات، وحيث بقي متمسكاً بانتمائه اليساري والتزامه بالفكر الماركسي حتى نهاية عمره الطويل. وفي بريطانيا ارتقى في المجال المعرفي والأكاديمي، فأنهى دراسته الجامعية في كيمبريدج وأصبح معيداً ثم أستاذاً فمديراً لبعض أهم الكليات والجامعات في بريطانيا.
وأصدر كتابه الأول في العام 1948، ثم واصل إصدار أعماله المتنوعة، وأحدها تناول موسيقى الجاز، التي كانت مجال اهتمامه وتذوقه، بحيث تجاوز عدد إصداراته العشرين مؤلفاً. وقد اهتم بتحليل "الثورة المزدوجة" في تاريخ أوروبا المعاصر، وعنى بها الثورة الفرنسية والثورة الصناعية البريطانية اللتين تزامنتا تقريباً، وكان مسارهما مصدر التحليل الغني الذي أتى به كارل ماركس وفريدريش إنغلز، في أواسط القرن التاسع عشر، لتلك المرحلة الهامة في سياق إنضاج تطور ونمو النظام الإقتصادي الرأسمالي، واستخلصا من هذه التطورات أفكارهما الهامة التي كان لها تأثير كبير على مسار التاريخ البشري بعد ذلك.
ومن كتابات هوبسباوم الأهم ثلاثيته الشهيرة التي تناولت ما أسماه "القرن التاسع عشر الطويل" (الذي يبدأ مع الثورة الفرنسية في العام 1789 وينتهي باندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914). وشملت الثلاثية: عصر الثورة:أوروبا 1789-1848، وصدر في العام 1962، ثم عصر رأس المال 1848- 1875، وصدر في العام 1975، وعصر الإمبراطورية 1875-1914، وصدر في العام 1987. لكن العمل الذي وجد الإهتمام الأوسع كان كتاب "عصر النقائض: القرن العشرون القصير 1914-1991"، وصدر في العام 1994، وتُرجم، كما وأعمال أخرى له، الى زهاء الأربعين لغة. وتناول هذا الكتاب تاريخ أوروبا والعالم منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثورة البلشفية في روسيا وحتى انهيار الإتحاد السوفييتي وتجربته في التحول الإشتراكي.
ولم يتوقف هوبسباوم عن الكتابة وعن النشاط الأكاديمي بالرغم من تقدمه في السن، وصدر أحد آخر كتبه في العام 2011، وكان تحت عنوان "كيف يمكن تغيير العالم: روايات عن ماركس والماركسية". والعنوان وحده يؤكد مدى التزامه بالفكر الذي اقترب منه منذ شبابه المبكر. وبالرغم من هذا الإلتزام الفكري والسياسي، نال هوبسباوم تكريماً واسعاً من قبل أوساط عديدة، بما فيها أوساط غير يسارية، في بريطانيا وخارجها. أما التكريم الذي حاز عليه من قبل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، فلم يمنع هوبسباوم من توجيه انتقاد لاذع له (أي لبلير) بشأن دوره في إشعال الحرب الأميركية- البريطانية على العراق في العام 2003. وما زالت لدى ورثة هوبسباوم مخطوطة كتاب آخر أعده المؤرخ الراحل، ويُتوقع أن يصدر في العام القادم 2013.
وتمتاز كتابات هوبسباوم التاريخية بدرجة عالية من الإحاطة بالأحداث والتطورات وبمستوى عالٍ من المعرفة والعلم بالتاريخ البشري، بتفاصيله ودقائقه، وبسعيه الدؤوب لقراءة الأحداث في سياقها ومحاولة تحليل دوافعها ونتائجها، مع التركيز على محاولة استجلاء الحقائق، والإبتعاد عن إسقاط مفاهيم أيديولوجية مسبقة على هذه الأحداث. وبالرغم من أن هناك بعض الإنتقادات له من قبل بعض المؤرخين ذوي الخلفيات اليمينية بحكم التزامه الفكري والسياسي، لكن العديد منهم يقرّون بمكانته المميزة في كتابة التاريخ المعاصر، ليس في بريطانيا وأوروبا وحدهما وإنما على الصعيد العالمي، بحيث يعتبر من أهم المؤرخين في العالم المعاصر. وليس مستغرباً والحال هذه أن تكون كتبه من بين كتب التاريخ الأكثر بيعاً في بريطانيا وفي بلدان أخرى في أنحاء العالم، بحيث دخل بعضها في قوائم "الكتب غير الروائية الأكثر رواجاً".

الثورات العربية: مصدر فرح كبير

ومؤرخ الثورات الكبرى في تاريخ البشرية المعاصر لم يكن ليهمل أو يقلل من أهمية الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية منذ العام 2011. ففي مقابلة مع إذاعة بي بي سي البريطانية في 23/12/2011 قال: "لقد كان فرحاً كبيراً أن نكتشف مرة أخرى ان من الممكن أن ينزل الناس الى الشوارع، وأن يتظاهروا، وأن يطيحوا بأنظمة حكم". وأضاف:
"هذا يذكرني بما جرى في العام 1848... ثورة أخرى ذات اندفاع ذاتي بدأت في بلد واحد ثم امتدت الى أنحاء القارة في زمن قصير"... في إشارة الى مسلسل الثورات التي شهدتها القارة الأوروبية في العام 1848، وبدأت في فرنسا وامتدت بعد ذلك الى معظم بلدان القارة.
ويضيف بشأن إحدى خصائص المنطقة العربية، قوله عن هذه الإنفجارات الجماهيرية "انها أكثر فعالية في بلدان يكون فيها الشبان والشابات، من الزاوية الديمغرافية، هم نسبة أكبر من السكان مما عليه الحال في أوروبا". وفي ذلك شهادة هامة، من رجل يعرف ماذا يقول، على أهمية دور الأجيال الشابة في إحداث التغييرات الجوهرية في التاريخ البشري المعاصر.