جانبا التشكيلة يمرضان


عبدالله خليفة
2012 / 9 / 24 - 08:35     

مفكرو الرأسمالية والماركسية كانوا في صراعهم المطلق ضد بعضهم بعضا يقعون بين تضاريس لحظات تاريخية محدودة ونسبية في فهم نمو التشكيلة الرأسمالية وتناقضاتها، فكانوا ينفون بعضهم بعضاً، لكونهم رأوا خواص أيديولوجية لا حركةً تاريخية مفتوحة، وأسقطوا مصالح قومياتهم ونخبها العليا على الواقع الحقيقي.

رأوا رأسماليات حكومية شرقية فتصوروها اشتراكيةً قادرةً على إكتساح أنظمة استغلالية وتقديم البديل، فيما رأى الآخرون أن رأسماليات الشرق الحكومية التي أسموها شيوعية، تستغللا المنتجين لصالح بيروقراطيات فاسدة، وشمولية، تتفاقم أزماتُها في نهاية المطاف، لكنها أزمات بنيوية كاسحة لا أزمات الغرب المؤقتة التي يتعافى منها ويصير أقوى.

هنا رأسمالياتٌ شرقيةٌ بدائية متدرجة وهناك رأسمالياتٌ متطورة بفضل الاستنزاف الكبير للأولى.

كان أي انهيار وضعف لأي من الجانبين هو في التصور السائد في الحرب الباردة هو لصالح الرأسمالية الأخرى لكونها هي الباقية والأخرى عابرة.

وكما يقول المفكر الألماني مانهايم ناقداً:

(الماركسية تركيبٌ بين الحدسية وأقصى إرادة العقلنة). أي أن الماركسية هي كذلك بها نسبةٌ من اللاعقلانية، خاصة حين تغيبُ الأبحاثُ الاجتماعية الدقيقة، وهذا كلامٌ قيل قبل عقود طويلة، قبل أن تظهر الماوية وبول بوت، فمن دون ترافق بين الماركسية والأبحاث الموضوعية تتحول إلى لاعقلانية، وتسكنها الأوهامُ الفكريةُ ثم المغامراتُ السياسية الخطِرة. وهذا أمرٌ مطروحٌ في كافة الأفكار والأيديولوجيات بما فيها الرأسمالية الغربية.

الحدسية تَنتجُ من عدم تراكم التجارب الاجتماعية العقلانية في مجتمع ديمقراطي حر، فتقوم الأجهزةُ بقفزة في الاحتمالات غير الواضحة.

والحدسية هي شكلٌ من الوعي غيبي غيرُ محددٍ علمياً، بسبب تصورها إمكانية قيام نظام اشتراكي في التشيكلة الرأسمالية، فهي تشكيلةُ نقدٍ وفائض قيمة ودولٍ واستغلال وأجراء وإدارات متنفذة فكيف تكونُ الاشتراكيةُ ممكنةً فيها؟ لكن حين تكون الاشتراكية سياسات وليستْ نظاماً وتتشكل لدعم مصالح المنتجين وقد تبنتها الأحزابُ في حراكٍ ديمقراطي ونفذتها وصعّدتها على مر السنين تكون تلك هي الاشتراكية، وهي الاصلاحاتُ المكرسة للعاملين والأنظمة التي تتغير مع مرور العقود.

إرادة العقلنة تتناقض مع الغيبية والحدسية والأفكار غير المجربة المدروسة، سواءً أكانت اشتراكية أم رأسمالية شرقية رافضةً لأسس التشكيلة، ويكون نتاج ذلك فوضى ومشكلات لاعقلانية هائلة. مثلها مثل الأنظمة الدينية العربية والاسلامية تتصور أن تصوراتها الأيديولوجية باقيةٌ بشكل مطلق، وأنها قادرة على الخلود بسبب تلك الآراء، وليس من خلال علوم الحساب وفحوص الأبحاث الاجتماعية.

بعضُ غيبياتِها تحولهُ إلى نظام اجتماعي، وفي هذا لاعقلانية وتجريبية خطِرة، لأن الأنظمةَ يجب أن تستند إلى ما هو مُجرب ودقيق في نتائجه، والمغامرات بالشعوب مكلفة. ونحن نرى الآن في الثورات العربية استفحالَ التجريبية فتختلطُ معها أشد مظاهر الهوس اللاعقلاني!

تصورت بعضُ القوى الغربية أن الرأسمالية مطلقة وذات هيمنة قطبية واحدة في مجتمعاتها وفي العالم، وهو أمرٌ مدمر لها ويسبب عواصف اجتماعية؛ فساد بذخي وضياع ثروات ودفع العالم الثالث للانهيارات الاقتصادية والتغرب والصراعات الدينية، ولكن الاشتراكية الديمقراطية تقدم بديلاً آخر لكلا الجانبين الغرب والشرق، كما يقول مانهايم عبر اعتماد سياسة لصالح الأغلبية الشعبية مستندة الى دراسات العلوم الاجتماعية المُراقِبة والديمقراطية السياسية.

والأبحاثُ الغربية كذلك تسيطر عليها أدلجات مغرضة، ولا تحلل سبب هذه الكوارث المالية وتفاقم الفقر والأمراض في العالم الثالث.

رأسمالية غربية ترحل شرقاً حيث الاستنزاف والأرباح، وعمالة ورساميل ترحل غرباً، وحراك الرساميل هو السائد ذو المصلحة المسيطرة، بينما حراك العمال حراك فقر وبحث عن أجور أفضل، وحمل المعتقدات الدينية من مستوى إلى مستوى آخر مختلف مقلق وقيام اضطرابات عالمية بسبب ذلك.

الرأسماليات الغربية استنزافية للشرق، وتتراكم لديها الفوائض الهائلة، والشرق يفتقر ويضطربُ ويبحث في الاشتراكية مرة والدين مرة، ويعيش حالاتَ جنونٍ اجتماعية واسعة، لأسباب التركيبة العالمية المختلة ولعدم وجود أنظمة غير مؤدلِجة وغير معبرة فعلاً عن درس الأوضاع فيها بموضوعية ومن خلال اليسار واليمين المنتجين المتعاونين، ولأن هذه الأنظمة تخلط بين أوهامها الأيديولوجية والواقع وهذا الخلط هائل وواسع في الشرق.