نظرة على مفهومي المواطنة والديمقراطية في المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية


غازي الصوراني
2012 / 9 / 20 - 17:09     


للوهلة الأولى، يبدو عنوان المقال متناقضاً إلى حد كبير مع السمات المأساوية الراهنة للمجتمعات العربية في ظل مشهد الإسلام السياسي ، ومع سمات التفكك والهبوط السياسي والاجتماعي في الواقع الفلسطيني في الوطن المحتل كما في المنافي والشتات ، حيث انتقل من حالة الأزمة إلى حالة المأزق ، التي لم يعد ممكناً معها الاستمرار في استخدام الخطابات والشعارات السابقة، الأمر الذي يستدعي من قوى اليسار الماركسي خصوصاً ، البدء بعملية مراجعة نقدية تستهدف صياغة رؤية ثورية ، تحررية ديمقراطية تتصدى لكل الممارسات السياسية والمجتمعية الهابطة التي جسدتها قوى اليمين الطبقي الكومبرادوري الطفيلي بشقيه، العلماني الليبرالي الرث واليمين الديني أو الإسلام السياسي في  فلسطين وبلدان الوطن العربي.
ففي قلب هذا المأزق ، يعيش المجتمع الفلسطيني نوعاً من الثنائية المتناقضة التي تتجلى بوضوح عند تناولنا لمفهوم المواطنة،  ومضامينه الحداثية الديمقراطية والعقلانية  في المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية المحكومة بمفاهيم وممارسات الاستبداد والقمع والاستغلال والمحسوبيات والتبعية والتخلف ، جنباً إلى جنب مع الممارسات العدوانية للتحالف الإمبريالي الصهيوني ، وهي ثنائية تستدعي مجابهتها وسبر أغوارها وتفكيكها، وتجاوزها، من على أرضية مفهومي المواطنة والديمقراطية ، كمحددين رئيسيين من محددات النضال الوطني التحرري  والديمقراطي ، على أساس أن تحقيق الأهداف الديمقراطية والقضايا المطلبية هو شرط لتوفير عوامل الصمود والمقاومة لإزالة الوجود الإمبريالي والصهيوني.
ومن ثم ، يجب إعادة التفكير في مفهوم الدولة الوطنية (والسلطة)، في ضوء الوقائع القائمة على الأرض، أي في ضوء الواقع العياني ، إذ أن التفكير في السلطة أو الدولة وإعادة تعريفها في بلادنا، هو في الوقت ذاته  تفكير في مستقبل الأمة العربية وإعادة تعريفها ، بدلالة الدولة الديمقراطية الحديثة، لا بدلالة الرغبات والأوهام الذاتية أو البرامج والرؤى المستندة إلى منطق الإسلام السياسي، الذي يتجاوز الدولة الوطنية أو القومية أو المنطق السياسي اليميني الهابط الذي يراهن على أوهام التحالف الإمبريالي الصهيوني في صياغة السلطة أو الدولة .
وفي هذا الجانب، أُشير إلى أن وعي مفهوم المواطنة ، والإقرار به كمرجعية ، يشكل بدوره أساساً معرفياً ومجتمعياً، يحكم العلاقة السياسية وينظمها بين حركات الإسلام السياسي، وبين الحركات الوطنية الليبرالية واليسارية العلمانية ، وفق أسس ونواظم دستورية وسياسية ومجتمعية محددة ، تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الألوان السياسية، وبدون ذلك، لا جدوى من الحديث عن المصالحة، إذ أن الاتفاق على تلك الأسس هو الشرط الأساسي لضمان انتقال المصالحة من طابعها الشكلاني، إلى محتواها وطابعها الوطني والديمقراطي العام ، الذي يضمن وأد الصراع والاقتتال الدموي والاحتكام لتلك الأسس عبر الحوار المشترك ، الهادف إلى توفير العناصر الكفيلة باستعادة وحدة النظام السياسي التعددي الفلسطيني وثوابته، وأهدافه الوطنية العامة في التحرر الوطني والديمقراطي، التي تضمن بدورها تواصل الصمود والمقاومة بكل أشكالها في وجه الاعتداءات والغطرسة الصهيونية، بمثل ما توفر مقومات تطوير النضال الوطني الديمقراطي المجتمعي وفق منظومات سياسية وقانونية تضمن وحدة الكل الاجتماعي الفلسطيني وتعدديته في آنٍ واحد ، بما ينتج فضاءً واسعاً للحريات الفردية والحزبية في طرح مفاهيمها ورؤاها وبرامجها، وفق قواعد الوحدة والصراع أو الاختلاف السياسي والفكري من ناحية ، ووفق قواعد الديمقراطية كمعيار ومحدد أساسي للقبول الشعبي بهذا الاتجاه أو ذاك من ناحية ثانية، بما يتيح للقطاعات والشرائح الاجتماعية بمختلف أوضاعها في الخارطة الطبقية أو السلّم الاجتماعي ، أن تتفاعل وتتنظم أو تتحالف مع هذا الفصيل أو الحركة أو الحزب، وفق رؤيتها ومصالحها، في فضاء تتوفر فيه حرية المواطن المرتكزة إلى حرية الاختيار والرأي والمعتقد والانتماء السياسي.
 
تعريف المفهوم :
 
يرتبط مفهوم " المواطن" أو " الفرد " بسياق تاريخي  محدد، بظهور النمط الرأسمالي عموماً، وفي عصر النهضة أو الثورات البرجوازية في أوروبا و الثورة الفرنسية، حيث برز مفهوم المواطنة، استناداً لمبدأ المساواة وحرية الفرد الحقوقية، في أوضاع وعلاقات سياسية واجتماعية ازاحت العلاقات الاجتماعية التقليدية القديمة ورواسبها الاقطاعية والعبودية بمثل ما أزاحت الانتماء للطائفة أو العائلة أو الحاموله ، أو الملة والمذهب.
وفي هذا السياق، نشير إلى أن النموذج الليبرالي لمفهوم المواطنة في ذلك العصر، لم يتطور كنتيجةٍ لمقولات محض فكرية أو فلسفية فحسب، بقدرِ ما تطور كمحصلة لصراعٍ طبقي اجتماعي داخل البلدان التي تطور فيها، عبرَ عدد من المراحل التاريخية، حيث يعود ظهور مبدأ المواطنة في أوروبا إلى بداية ظهور الفكر السياسي العقلاني التجريبي، وحركات الإصلاح الديني وما تلاها من حركات النهضة والتنوير ، "وقد ساعد على إرساء هذا المبدأ بأوروبا ثلاثة عوامل، هي بروز الدولة القومية، والمشاركة السياسية والتداول على السلطة، وترسيخ حكم القانون، ثم إقامة دولة المؤسسات"[1].
" استناداً إلى ما تقدم، يمكن أن نستخلص شرطين جوهريين من شروط تحقيق المواطنة، أولهما زوال مظاهر حكم الفرد أو القلّة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات وفق دستور ديمقراطي، ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته وآلياته الديمقراطية على أرض الواقع. وثانيهما عدم الجمع بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة، وتداول السلطة سلمياً بشكل دوري، وفق انتخابات دورية عامة حرة ونزيهة تحت إشراف قضائي مستقل، وشفافية عالية تحدّ من الفساد والتضليل في العملية الانتخابية"[2].
وعندما تتحقق تلك الشروط، تصبح أساساً متيناً وقاعدة صلبة، وحينئذ تنتقل المواطنة من كونها مجرد توافق اجتماعي وقانوني، إلى قيمة اجتماعية وأخلاقية وممارسة سلوكية يعبر أداؤها من قبل المواطنين، عن وعي ثقافي ورُقِيٍّ حضاري، وتتحول معاملة المواطنين على قدم المساواة دون تمييز بينهم بسبب الدين والمذهب والعرق والجنس، إلى فضيلة وتقاليد راسخة ونابعة من النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري للمجتمع والدولة.
بالنسبة لتعريف المفهوم حسب الموسوعات الغربية ، فقد أوضحت دائرة المعارف البريطانية ، أن "المواطنة  (Citizenship)  هي علاقة بين فرد ودولة ، بما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة ، تسبغ على المواطن حقوقا سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة" .
وتذكر "موسوعة الكتاب الدولي"، أن "المواطنة هي عضوية كاملة في دولة أو في بعض وحدات الحكم ، وهنا لا يوجد تمييز بين المواطنة والجنسية . وتعرف "موسوعة كوليير الأمريكية" كلمة (Citizenship)، بأنها أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالا" ، ويبدو من هذه التعريفات، انه في الدولة الديمقراطية الغربية، يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة بحقوق المواطنة فيها ، وهذا الوضع ليس نفسه في الدول العربية (ودول ما كان يسمى بـ "العالم الثالث")، حيث تكون الجنسية مجرد "تابعيه"، لا تتضمن بالضرورة حقوق المواطنة السياسية ، هذا إذا توفرت هذه الحقوق أصلاً لأحد غير الحكام ، وربما لرئيس الدولة أو رئيس السلطة ، كحاكم مطلق في جمهوريات وراثية تضاءلت فيها الفوارق بين الأنظمة "الجمهورية" وأنظمة الأمراء والمشايخ والملوك إلى أبعد الحدود.
أما بالنسبة لأصل المفهوم في اللغة العربية ، فهو مشتق من كلمة "مواطن" المشتق من الوطن، وهي صفة يكتسبها شخص ينتمي إلى وطن معين، يحمل جنسيته ويتخذه موطناً يقيم فيه، والمواطنة مصدر قياسي (مفاعلة) معناه المشاركة، ومنه المواطن الذي يشير إلى الانتماء إلى الوطن والولاء للدولة، وهذا يعني أن بين الوطن والمواطنة في اللغة، تقارباً شديداً وارتباطاً وثيقاً ، والجدير بالذكر أن المعاجم العربية تركز على الوطن ، وليس للمواطنة فيها أي ذكر"[3] ، واقتصرت هذه المعاجم على تفسير الوطن بأنه : "المنزل تقيم به" ، وهو موطن الإنسان ومحله حسب ابن منظور في لسان العرب ، ومن هذا المعنى أُخذ مفهوم الوطنية بمعنى حب الوطن ، وربطوه بالحرية والإنعتاق من التخلف ، والتحرر من الاستعمار ، وهذا ما نلاحظه عند رواد الإصلاح والتنوير في بلادنا بدءاً من إبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق وأديب إسحاق والطهطاوي وفرح أنطون وشبلي شميل وأنطوان مارون والكواكبي و محمد عبده وصولاً إلى أحمد أمين ولطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وخير الدين التونسي وغيرهم[4] ، حيث بقي مفهوم المواطنة محصوراً في إطار هذه النخبة ، التي لم تتناول هذا المفهوم بالتفصيل أو بصورة مباشرة ، رغم وعي وإيمان معظمهم بمفاهيم النهضة والتنوير والحداثة عموماً ، بسبب تخلف التطور الاقتصادي والاجتماعي من حولهم ، الأمر الذي أدى إلى ضعف انتشار  مفهوم المواطنة ، فعندما نعود إلى الأدبيات الفكرية والسياسية حتى منتصف القرن العشرين، نجد أن المفهوم السائد هو مفهوم الرعية ، بمعنى أن الناس رعايا للخليفة أو الإمام أو السلطان أو الملك أو الأمير ، وظل هذا المفهوم سارياً حتى بعد قيام وانتشار الأنظمة " الجمهورية " ، حيث بقية الناس أو الشعوب –وحتى المرحلة الراهنة – رعايا السلطة أو نظام الحكم أو على وجه الدقة رعايا للملك أو الرئيس أو الحاكم، رغم المظاهر الشكلية من دساتير وقوانين ومجالس شورى ونواب ... إلخ . إذ أن "الملوك والرؤساء" في بلادنا يبررون استبدادهم الطبقي بذريعة تراثية تقوم على أن "الرعية، بما هي رعيه، لا تعرف مصلحتها، وهنا لا يظهر من جوانب المشاركة إلا الواجبات والخضوع للأوامر ، أما الحقوق فتختفي باعتبار أن " الراعي الصالح" لا يهضم الناس حقوقهم، لكن دون الاعتراف بها كحقوق إن حصلت، بل باعتبارها فضائل من الراعي "الحاكم"، ومن هنا انتشر المثل الشائع (اعطوا الحاكم حقه ، واطلبوا من الله حقكم) فلاحق للمحكوم سوى التضرع[5]".
وفي هذا السياق، نؤكد على أن "العقائد ومناخها لا تنتمي إلى مناخ الحرية، خاصة إذا كانت عقائد دينية، فهي مُنَزَّلة من السماء، ومفروضة من المتعالي ، موروثة لا تعطي صاحبها حق الاختيار ولا التردد، ويجب تطبيقها بصرامة، كي تكون نقية وتؤدي الدور الخلاصي الذي يبحث عنه المؤمنون ، بما يحمله من دلالات أخروية"[6].
 
المواطنة والدين وموقف اليسار من الإسلام السياسي :
أما المسألة الأخرى في هذا الجانب، فهي ترتبط بالتباين الشديد بين الانتماء للدين أو الوطن، والشواهد على ذلك كثيرة فـ " قد ينتمي المؤمنون بدين واحد أومذهب إلى بلدان (أوطان) مختلفة، وقد تكون متناحرة متخاصمة، وهذا يجري كثيراً في التاريخ والواقع ، فقد يكون بلدان أبناؤها من دين واحد وبينهما حروب طاحنة (دفاعاً عن الوطن)، ويكون على أبناء كل بلد من البلدين أن يقاتلوا دفاعاً عن بلدانهم ضد أبناء عقيدتهم الدينية ومذهبهم، ومن هنا لا تصح المماهاة بين المسلم والمواطن، وهنا تصبح مقولة (الدين لله والوطن للجميع)"[7] هي المعيار الرئيسي الأول هذه العلاقة بين الوطن والدين .
وفي هذا الجانب ، أقول بأن أكثر ما يشغل أذهان القوى الديمقراطية واليسارية تجاه حركات "الاسلام السياسي" ، هي مرجعياتها السلفية المتزمتة ، وانعكاس ذلك على المسار التحرري والديمقراطي لمجتمعاتنا، فعلى الرغم من أن هذه القوى تبدي رفضا قاطعا إزاء قمع أو تغييب الأنظمة والطبقات الحاكمة لهذا الاتجاه، فإنها تنظر بنوع من التشكك والريبة إزاء ما يمثله الإسلام السياسي من موقف تجاه هذه المسألة، خاصة في ظل الانتفاضات العربية عموماً وفي مصر وتونس واليمن والبقية على الجدول،  حيث أن حركات الإسلام السياسي يمكن أن تتعاطى مع قضية الديمقراطية، بطريقة استخدامية ، كآلية للوصول إلى السلطة السياسية ومن ثم الاستفراد بها، وتحويلها من مهدٍ للتغيير الديمقراطي ، والتطور السياسي والمجتمعي إلى لحد لهذه العملية كلها، وما قد يترتب على ذلك من إعادة إنتاج التبعية والاستبداد بأشكال وصور مستحدثة إذا ما تم التحالف بين قوى الإسلام السياسي من ناحية والجيش ورجال الأعمال من ناحية ثانية، وما سيؤدي إليه هذا المشهد من قيود جديدة، يتم فرضها على عملية النهوض والتطور الديمقراطي لمجتمعاتنا، عبر تقييد وقمع حرية الرأي والتعبير والمعتقد، إلى جانب الموقف الرجعي تجاه مفاهيم الحداثة والتطور المجتمعي عموماً ومن قضية تحرر المرأة ومساواتها بالرجل خصوصاً .
أما بالنسبة للعلاقة بين اليسار الفلسطيني وحركات الإسلام السياسي، أود التوضيح هنا أنني لست في وارد تناول موضوعة " الدين" من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان واجبنا النضالي يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والاستقلال والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فهي تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع.
أما فيما يتعلق بالعلاقة الخلافية بين اليسار الفلسطيني وحركات الإسلام السياسي، فهي تستند – من وجهة نظري - إلى التحليل الموضوعي الذي يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...، عبر منطق غيبي تراجعي عاجز عن بلورة برنامج سياسي ديمقراطي اجتماعي تنموي ، يتناقض مع جوهر النظام المخلوع في تونس ومصر أو مع أي نظام استبدادي على طريق التفكك كما هو الحال في ليبيا وسوريا والبحرين والأردن...إلخ ، ما يعني إعادة إنتاج أنظمة ليبرالية رثة، وتابعة ومحتجزة التطور ، مع استمرار النظام الاقتصادي الاستغلالي على ما هو عليه  .
وعلى الرغم من كل ما تقدم ، فإن المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، تؤشر إلي أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً مستجدة, ما يفرض على قوى اليسار الفلسطيني والعربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديموقراطية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها ، بحيث تحرص على ان لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري الذي يحكم علاقتنا بالعدو الإمبريالي الصهيوني، انطلاقاً من رؤيتنا تجاه هذه الحركات ، التي تؤكد على "أن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على الرغم من أية خصوصيات تمثلها، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأننا نرى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل الوطني، وذلك وفق قواعد الديمقراطية والتعددية والحريات العامة والخاصة التي يتوجب الاحتكام إليها .
 
التخلف الاجتماعي العربي.. وغياب الوعي بمفهوم المواطنة :
بالطبع ، إننا ندرك أن استمرار تبعية وتخلف التطور الاقتصادي الاجتماعي العربي، أدى إلى تكريس الوعي العفوي في الشارع الفلسطيني والعربي ، وهو وعي بسيط محكوم لمفاهيم القضاء والقدر، غير قادر على استيعاب أو إدراك التناقض الموضوعي بين الوطن والدين، وبالتالي فليس من السهل إقناع الناس بأهمية الفصل بين الدين والسياسة، لأن الدين في حد ذاته هو علاقة فردية إيمانية مباشرة بين الإنسان وخالقه، أما علاقة الإنسان بوطنه من المنظور الفلسفي والحقوقي الحديث لمفهوم المواطنة ، فهي من الناحية النظرية مرتبطة بالبنية المجتمعية للدولة الحديثة التي تقتضي الوعي والتحفيز الجمعي لأبناء الشعب الواحد في الدفاع عن الوطن في مواجهة العدو بغض النظر عن معتقداته أو مذهبه الديني.
لكن ، الوعي العفوي أو الجماهيري ، الشعبي ، مازال حتى اللحظة قاصراً عن وعي العلاقة بين الوطن والمواطن ، وكما يقول المفكر الراحل محمد الجابري ليس من السهل  "إقناع الناس في بلداننا العربية بأن ما نعنيه اليوم بـ"المواطِن" و"المواطَنة" لا علاقة له بـ"الوطن" إطلاقاً، فالمعنى السياسي لـ"المواطِن" و"المواطَنة"، لا يعني مجرد الانتماء إلى "وطن"، أو مجرد الاشتراك في السكنى في وطن، وإن كان لا ينفي ذلك، ومن هذا المنطلق أقول: جميع العرب، في أي قطر كان، من المحيط إلى الخليج، هم "مواطنون" في بلدانهم، بالمعنى الذي تعطيه هذه اللفظة العربية, ولكن لا أحد من العرب من الخليج إلى المحيط -اليوم وقبل اليوم- يستطيع أن يقول: أنا "مواطن" بمعنى citoyen، citizen! ذلك لأن الشخص الذي يستحق أن يسمى بهذا الاسم، هو الشخص الذي لا يدين بالولاء لا للقبيلة ولا للطائفة ولا حتى للأسرة ولا لحكم على رأسه فرد، عادل أو غير عادل، ولا لدولة يكون بعض القائمين بها، يستمدون سلطتهم من مصدر غير إرادة الشعب المعبر عنها تعبيراً حراً "[8].
وبناءاً على ما تقدم ، أفلا يحق لنا القول –كما يضيف الجابري-: "إنه لا "مواطن" ولا "مواطنة" في العالم العربي المعاصر؟ نعم، في الوطن العربي ككل أو كأقطار، وطنيون ووطنية، قوميون وقومية. ولكي لا نقع ضحية سوء فهم من أي طرف كان، نقول: إن ما هو مستهدف من الخارج، في العالم العربي كمجموع أو كأقطار هو الوطنية والوطنيون، لكن ما هو مطلوب في الداخل هو "المواطَنة"، دون أن يعني هذا أن المواطَنة تقوم مقام الوطنية، ولا أن الوطنية تقوم مقام المواطَنة"[9].
 
الديمقراطية السياسية والاجتماعية شرط لمفهوم المواطنة :
تعددت الرؤى والتعريفات حول مفهوم المواطنة ومضامينها، فثمة من رأى أنها المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد. وثمة من قال إن المواطنة رديف للديمقراطية في بناء المجتمع السليم، لكننا نرى ، بالإضافة إلى ما تقدم، أن ممارسة مبدأ الديمقراطية السياسية على أرض الواقع، يتطلب توفير المقومات، أو المحددات السياسية التي تضمن تأمين حقوق المواطن الكاملة، والمقومات الاجتماعية والثقافية التي تشكل مرجعاً لضبط العلاقات والقيم الاجتماعية، وأخيراً المقومات الاقتصادية التي تتعزز بإقامة التوازن بين الاستهلاك والإنتاج وتوزيع الثروة العامة توزيعاً عادلاً ، وفق مبدأ تكافؤ الفرص، حيث أن توفير هذه المحددات ، سيعطي مفهوم المواطنة معناها الحقيقي، ويتحقق بموجبها، انتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الإيجابي مع مواطنيه ارتباطاً بشعور الانصاف والمساواة والعدالة، التي توفر الدافعية الذاتية لديه عند أداء واجباته في الدفاع عن الوطن، والمساهمة في عملية التطوير والتحديث الداخلية، من أجل تحقيق التقدم الاجتماعي والحضاري، وكذلك التزامه القيام بتنفيذ الواجبات المترتبة عليه بصورة ذاتية ، وفي كل الأحوال، لابد من التأكيد هنا بأن مفهوم المواطنة ارتباطاً بالديمقراطية السياسية فحسب، سيظل مفهوماً أحادياً وشكلياً في تطبيقاته العملية بالنسبة للمواطنين الفقراء ، فالديمقراطية السياسية لا بد أن تستند إلى مرجعية دستورية تتضمن الأهداف السياسية والمجتمعية الإستراتيجية التي يتم الاتفاق عليها بين كافة القوى، إلى جانب استنادها إلى أسس ومقومات الديمقراطية الاجتماعية ، وإلا فإنها تظل بلا أي مسوغ أو معنى، ولنا في فشل التجربة الفلسطينية وبعض التجارب العربية الشكلية أو الهشة ، دروساً وعبر ، الأمر الذي يفرض علينا "أن نتوقف عن اعتبار الديمقراطية قيمة ثابتة، ويجب إعادة النظر فيها وتعريضها للنقد والمراجعة ، وذلك استجابة لتحدي تجديد الديمقراطية ، تحقيقاً لمصالح الطبقات الأكثر عدداً والأكثر استغلالاً وظلماً"[10].
فالخطاب السياسي القانوني للدولة الرأسمالية الحديثة  "يتخذ من الفرد المجرد نقطة انطلاق، وبذلك يحاول إخفاء انقسام المجتمع إلى طبقات ، هذا التجريد هو تعبير عن فصل المنتجين عن وسائل الإنتاج ؛ فانفصال الدولة الحديثة عن المجتمع المدني تعبير عن نشوء مواطنة منطوقها غير متجذر اجتماعياً، وغير متحققة واقعياً للكل الاجتماعي، فالدفاع عن المصلحة العامة هو لعموم المواطنين، ويقتضي بالضرورة إخضاع الاقتصادي للخيارات السياسية والأخلاقية والبيئية المحددة على نحو جماعي وديمقراطي، إذ أن خلف كلمات المواطن المجرد يظهر الواقع : البرجوازي والبروليتاري ، الرجل والمرأة "[11].
 
محددات الديمقراطية ومفهوم المواطنة :
على أي حال، يظل مفهوم المواطنة وتطبيقاته بالمعنى الحداثي في بلادنا، مرهوناً بكيفية الالتزام بمضامين الديمقراطية السياسية والاجتماعية وتطبيقاتها ، فالديمقراطية بالنسبة لمجتمعنا وشعبنا الفلسطيني ( وكذلك الأمر لشعوبنا العربية) تكفل تعميق ثقافة ووعي المواطنين لدورهم، على الصعيد الذاتي والجماعي، في المساهمة الفعالة في خلق الأسس المادية في التحرر الوطني والديمقراطي وتقرير المصير السياسي وحق العودة،  والبناء والتقدم الاجتماعي والتطور الاقتصادي، وفق قواعد التعددية السياسية والفكرية وحقوق المواطنة ، انطلاقاً من أن توفر هذا الوعي لدى المواطن الفلسطيني ، وجموع المواطنين ، يشكل عصب العملية الديمقراطية وصمام أمانها ، فبدون توفر روح المواطنة لدى جميع الأفراد تفقد الديمقراطية معانيها ، ويصبح من السهل تجاوزها أو الخروج عليها كما جرى عندنا، عبر الصراع الدموي والانقسام الداخلي بين حركتي فتح وحماس في منتصف حزيران 2007 الذي أدى إلى وأد الديمقراطية قبل أن تكتمل صيرورة معالم تجربتها الأولى .
ولذلك فإن تناولنا لمفهوم المواطنة في هذه الورقة ، يستهدف التأكيد على أن هذا المفهوم أو المبدأ، يشكل الأساس أو المدخل الأول لعملية الاندماج وتوحيد الصف الوطني والوحدة الوطنية المبنية على التعددية ، سواءاً في المشاركة الشعبية في عملية النضال التحرري من أجل طرد المحتل واسترداد حقوقنا التاريخية من ناحية، أو في المشاركة الفعالة في أي عملية ديمقراطية للمجلس التشريعي، أو البلديات والنوادي والجمعيات ... إلخ انطلاقاً من شعور الجميع بالمساواة أمام القانون العادل الذي يضمن تحقيق سيادة الأغلبية، وليس القلة المهيمنة عبر هذه الحركة السياسية او تلك .
فبدون الاعتراف بـ"مجتمع المواطنين" وبأهمية دورهم، يكون الحديث عن الديمقراطية نوعا من الأوهام أو الشعارات الانتهازية المضللة، لا يراد بها سوى تكريس استبداد السلطة الحاكمة وتفردها، وتحقيق مصالحها بالدرجة الأولى، لكي تستمر في حكمها الإكراهي التسلطي دون مُنازع.
 لذا فان مفهوم المواطنة الذي يستمد منه جموع المواطنين في أي مجتمع قوتهم ووجودهم، هو الركيزة الأولى والمبدأ الأساسي لأي نظام يعتبر نفسه ديمقراطياً، وبدونه لا تتحقق الديمقراطية بمفهومها الحقيقي "، وفي المقابل فإن مفهوم المواطنة لا معنى له بدون الالتزام الخلاق بتطبيق المحددين الرئيسيين التي يستند إليهما هذا المفهوم ، وهما  "( أ ) دورية الانتخابات الديمقراطية والمشاركة فيها حق مكفول لكافة القوى والفعاليات ولجميع المواطنين على حد سواء.  (ب)المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية واجتماعية واقتصادية وبيئية متساوية ، بالإضافة إلى المساواة بين المواطنين أمام القانون.
وفي ضوء ما تقدم ، فإنه يترتب على مفهوم المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسة من الحقوق والحريات، التي يجب أن يتمتع بها جميع مواطني السلطة أو النظام أو الدولة دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر أو المعتقد أو الجنس أو أي وضع آخر، وهذه الحقوق كما يلي:
1- الحقوق المدنية [12]:
وهي مجموعة من الحقوق تتمثل في حق المواطن في الحياة، وعدم إخضاعه للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو الحاطة بالكرامة  ، وحق كل مواطن في الأمان على شخصه، وعدم اعتقاله أو توقيفه تعسفاً ، وحق كل مواطن في الملكية الخاصة، وحقه في حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته داخل حدود الدولة، ومغادرتها والعودة إليها، وحق كل مواطن في المساواة أمام القانون ، وحقه في أن يُعْتَرَف له بالشخصية القانونية وعدم التدخل في خصوصية المواطن، أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته وحق كل مواطن في حماية القانون له ، وحق التعاقد لكل مواطن في الدولة ، وحقه في حرية الفكر ، والوجدان والدين واعتناق الآراء وحرية التعبير.
2- الحقوق السياسية :
وتتمثل هذه الحقوق بحق الانتخابات في السلطة التشريعية والسلطات المحلية والبلديات والترشيح ، وحق كل مواطن بالعضوية في الأحزاب وتنظيم حركات وجمعيات ومحاولة التأثير على القرار السياسي وشكل اتخاذه من خلال الحصول على المعلومات ضمن القانون والحق في تقلد الوظائف العامة في الدولة والحق في التجمع السلمي . 
3- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية :-
وتتمثل الحقوق الاقتصادية أساساً بحق كل مواطن في العمل في ظروف منصفة، والحق في الحرية النقابية من حيث تكوين النقابات والانضمام إليها والحق في الإضراب ، وتتمثل الحقوق الاجتماعية بحق كل مواطن بحد أدنى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية، والحق في الرعاية الصحية والحق في الغذاء الكافي، والحق في التأمين الاجتماعي والحق في المسكن والحق في المساعدة والحق في التنمية، والحق في بيئة نظيفه والحق في خدمات كافيه لكل مواطن  ، إلى جانب الحق بالتعليم والثقافة .
 
والسؤال ... أين مجتمعنا الفلسطيني والمجتمعات العربية من هذه الحقوق ؟
إن هذه المجتمعات تجابه عموماً أنظمة محكومة من خلال الفرد القائد وأجندته الأمنية بدرجات متفاوتة بين الرئاسة "الجمهورية" وبين أنظمة "المشيخات والأمراء والملوك" حيث سادت واختلطت فيها مظاهر الاستبداد التقليدي أو المحدث ، بأنواعه ، الديكتاتورية ، والأتوقراطية ، والثيوقراطية ، التي تضمن احتكار الحكم ومركز السلطة من ناحية، ومن خلال "احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع "عبر اختراق مختلف مستوياته ومؤسساته الحكومية والمجتمعية وجامعاته وأحزابه ان وجدت"، من ناحية ثانية ، بحيث باتت المجتمعات العربية في المرحلة الراهنة، تعيش رهينة طغيانين[13]:
"الطغيان السياسي الذي يتحكم بسلطة الدولة ليهمش المجتمع ويستبعده من أي قرار، والطغيان الفكري الذي يتحكم بالرأي العام ويحوله إلى كتلة واحدة صماء وتابعة معا. وكلاهما يقومان على نفي الفرد وتجريده من استقلاله وحرية تفكيره ووعيه النقدي في سبيل إلحاقه بهما واستتباعه. فالطاغية (ملكا أو رئيسا أو أميرا أو شيخا) لا يقبل بأقل من الاستسلام والإذعان، وصاحب الوصاية الدينية لا يقبل بأقل من التسليم والانصياع لما يعتبره الرأي الصحيح والتفسير الحق". من هنا ليس من المبالغة القول، إن هناك تحالفا موضوعيا بين احتكار السلطة واحتكار الحقيقة. فهما يكملان بعضهما البعض . لا يعيشان إلا معا ولا يتواجدان إلا متجاورين ومتضامنين. فهما يتغذيان من نتائج عملهما المتبادل. فبقدر ما يجرد الطغيان السياسي الفرد من وعيه وضميره وحسه النقدي، أي من إرادته واستقلاله، يحوله إلى لقمة سائغة لأصحاب المشاريع الدينية أو المشاريع السياسية الهابطة بصورة إكراهية وبدواعي الحرص على تأمين لقمة العيش ".
وأمام هذا الواقع .. لابد من أن نملك الجرأة  على أن نعترف : فإن تكن حكومتا رام الله وغزة غير الشرعيتين ، أو الحكومات العربية القائمة، تقيم العثرات أمام الآلية الديمقراطية ، فإن المجتمعات العربية الراهنة ، في ظل مظاهر الإحباط أو اللامبالاة المنتشرة بين الناس بسبب الفقر والتخلف والجهل وضعف تأثير المعارضة عليهم، فإنها تسهم في مزيد من العثرات أمام الثقافة الديمقراطية .
فإذا كانت هذه الحكومات لا تتحمل انتخابا حرا، فإن موافقة " أحزاب" الأنظمة ومثقفوها على استخدام الديمقراطية تتوقف عند الشكل أو الممارسة، في السياسة فقط ، لكنهم يرفضونها في الفكر، كما يرفضون– بصورة أكثر وضوحاً – تطبيق أي جانب من جوانب الديمقراطية الاجتماعية ، الأمر الذي يعيد شعوبنا دوماً إلى نقطة الصفر من جديد باسم هذه الديمقراطية الشكلانية.
لذلك كله ، يبدو من غير المنطقي في أوضاعنا الحالية، أن نتحدث عن تنشيط عنصر المواطنة أو عن المجتمع المدني بمعزل عن سلطة ديمقراطية قوية ببرنامجها وبنظامها الدستوري وقوانينها المطبقة على الجميع ... لأننا محكومون بإرادات ومصالح متنافرة وأهداف وممارسات نقيضه لمفهوم المواطن، والحريات الفردية في الرأي والمعتقد والعدالة الاجتماعية .
فعلى سبيل المثال ، يمكن الإشارة في هذا المجال، إلى حالة المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع راهناً، فحيث تكون هناك إرادات فردية أو حزبية، تَدَّعى كل منها "المصلحة الوطنية" وتمارس في نفس الوقت كل أشكال الاقتتال والصراع الدموي والاستبداد والداخلي ، تتهاوى الأهداف الوطنية، لحساب الإرادات الحزبية وبرامجها الفئوية المعبرة عن مصالح شرائح اجتماعية وطبقية تسعى إلى فرضها على الجمهور بقوة القمع والاستبداد ، بصورها المباشرة وغير المباشرة، كما هو حالنا مع حركتي حماس في قطاع غزة، وفتح في الضفة الغربية ،  وحين يصبح الأمر على هذه الشاكلة، لا يكون هناك قانون، وتصبح السلطة عارية وضعيفة ومفككة إلى إرادات متنافرة، ويصبح الشعب مجرد كتلة سلبية هامدة أو "جماهير" محبطة أو مستسلمة لـ "أقدارها"، تُستَخدم لحساب تلك الإرادات والمصالح .
وفي هذا الجانب فان الوحدة الوطنية لا تعني، في أي حال من الأحوال، طمس الفروق ونفي الاختلاف وإلغاء المصالح الخاصة المتعارضة، بل تعني إعادة بناء الوجود الاجتماعي على مشتركات لا تفاوت فيها بين الأفراد والجماعات ولا تنازع عليها، وبالتالي فان المواطنة، هي الشيء المشترك بين جميع مواطني الدولة الحديثة، فبدون مبدأ المواطنة لا يمكن أن يقوم مجتمع  ديموقراطي حديث تسوده التعددية والحريات في إطار وحدته الداخلية.
ومن ثم ، يجب إعادة التفكير في مفهوم الدولة الوطنية (والسلطة)، في ضوء الوقائع القائمة على الأرض ، أي في ضوء الواقع العياني ، إذ أن التفكير في السلطة أو الدولة وإعادة تعريفها في بلادنا، هو في الوقت ذاته  تفكير في مستقبل الأمة العربية وإعادة تعريفها ، بدلالة الدولة الديمقراطية الحديثة، لا بدلالة الرغبات والأوهام الذاتية أو البرامج والرؤى المستندة إلى منطق الإسلام السياسي، الذي يتجاوز الدولة الوطنية أو القومية أو المنطق السياسي اليميني الهابط الذي يراهن على أوهام التحالف الإمبريالي الصهيوني في صياغة السلطة أو الدولة .
نشدد في القول على أن الدولة، أي دولة، بقدر ما تكون ملتزمة قانونياً وفعلياً بمبادئ ومفاهيم العقلانية والعلمانية والديمقراطية، وبقدر ما تظل وفية لهذه المبادئ تتيح أفضل الفرص لنمو هذه الانتماءات وتطورها، في رحاب المجتمع السياسي وتطوره الداخلي كشرط لبلورة المجتمع المدني، بما يضمن بناء العلاقات الاجتماعية على مبدأ المواطنة، الذي يعني المساواة والمشاركة والمسؤولية.
فالفرد في دولة القانون والحق هو المواطن الذي يهب الدولة مشروعيتها عبر الآليات الديمقراطية، والدولة هي مجموع المؤسسات الممثلة والضامنة للحق العام وللحقوق الفردية، ومن هنا اقتران الدولة الحديثة بالديمقراطية، إذ لا يمكن أن تقوم دولة القانون إلا في إطار ديمقراطي (نشير هنا إلى الركيزتين الأساسيتين للديمقراطية وهما النسبية والتعددية، فلا مطلق في الديمقراطية سوى النسبي وحده، فالديمقراطية هي علاقة بين أطراف متعددة، وإذا غاب التعدد غابت الديمقراطية، بل لعل دولة القانون هي من مقتضيات الديمقراطية الفعلية ومستلزماتها) .
أما بالنسبة لأوضاع السلطة الفلسطينية الراهنة ، من حيث انقسامها وتفككها والصراع بين طرفيها ، فليس لدينا أي وهم في أن النظام السياسي الفلسطيني الراهن، يكتنفه الكثير من المعوقات الإسرائيلية الأمريكية، التي تجعل من تحققها نوعاً من الوهم في ظل الخلل الفاضح في موازين القوى الراهنة، لكن الأمر في تقديرنا، يختلف بالنسبة لتحقق وتطبيق مفهوم المواطنة الفلسطينية – كإمكانية في إطار النضال التحرري والديمقراطي- رغم إدراكنا لصعوبة إنجازها بين عشية وضحاها، لا بحكم المصاعب والشروط الإسرائيلية الأمريكية التي تعترض طريقها فحسب، بل بحكم عوامل الصراع الداخلي بين القطبين الرئيسيين في مجتمعنا، التي تحول دون مشاركة جميع الفئات الاجتماعية مشاركة إيجابية في عملية البناء، الديمقراطي الفلسطيني بسبب عدم توفر الشروط الذاتية والموضوعية في ظل هذا الانقسام السياسي والانقسام الاجتماعي والصريح بين هويتين، الهوية الوطنية وهوية الإسلام السياسي، ما يتطلب البحث والضغط من أجل تفعيل العناصر والمساحات المشتركة بينهما – وهي إمكانية قابلة للتحقق – بما يعيد إطار وحدة الصف الوطنية الفلسطينية، بالمعنى السياسي والمجتمعي، القائم على التعدد والاختلاف تحت مظلة الديمقراطية، كضمانة وحيدة لتوليد وبلورة مفهوم المواطنة، أما المسألة الثانية في هذا الجانب، فهي ترتبط بمفهوم المواطنة وكيفية تطبيقه على مجتمعنا الفلسطيني وفق ضرورات مرحلة التحرر الوطني والديمقراطي، الأمر الذي يستوجب توحد مفهوم المواطنة والديمقراطية مع مفهوم الحرية، سواء بمعناها الفردي أو الجمعي في مسيرة النضال التحرري والديمقراطي، بما يعزز توليد آليات ومضامين "المجتمع المدني" في هذه المرحلة، إذ أن توصيفنا لطبيعة المرحلة الراهنة – كمرحلة تحرر وطني وديمقراطي - يحمل في طياته كافة مفاهيم وتطبيقات النضال من أجل الحرية والاستقلال وحق العودة والديمقراطية وعوامل البناء والصمود الداخلي، إلى جانب تكريس الشعور والوعي بمفهوم المواطنة.
ذلك إن الوطنية الفلسطينية التي نعني : هي عضوية كاملة في النظام السياسي التحرري والديمقراطي الفلسطيني المرتبط راهناً ومستقبلاً  بالمشروع النهضوي الديمقراطي العلماني التقدمي العربي ، وتحت هذا المستوى السياسي هي عضوية كاملة في المجتمع المدني الفلسطيني المأمول، الذي يمكن أن يتبلور وتتمدد معالمه إذا ما طبقنا قواعد الديمقراطية وحقوق المواطنة بصورة شاملة في بلادنا، بالاستناد إلى إدراكنا لضرورة تفعيل العلاقة بين النضال التحرري ومقتضيات الصمود والمقاومة والنضال السياسي عموماً ، وبين عملية الإنتاج الاجتماعي ، الأمر الذي يفرض ويضغط علينا بإلحاح في إطار اليسار الماركسي الثوري ، أن نسعى إلى تحقيق هذه العملية التفاعلية ، وذلك عبر تحليلها واستيعابنا ، للظاهرات القائمة عندنا اليوم في الضفة وقطاع غزة وأبرزها:
1-         الحصار والاحتلال الصهيوني وسبل الإعداد السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري لمقاومته وطرده من بلادنا .
2-   ضعف وسائل الضغط الشعبي المتصل لوقف مظاهر الانقسام واستعادة وحدة النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني .
3-         الركود الاقتصادي والفقر والبطالة.
4-   ضعف وتفعيل التواصل السياسي والمؤسساتي مع أبناء شعبنا في الشتات وتكريس كل الجهود النضالية تحت شعار حق العودة .
5-   تعطيل النظام الأساسي والعملية الديمقراطية بمجملها ، إلى جانب تفكك السلطة إلى "حكومتين" ، وتفكك المجتمع إلى "مجتمعين" أحدهما في غزة والآخر في الضفة، وما أدى إليه هذا الوضع من غياب الإرادة العامة للشعب ووحدته الوطنية .
في ضوء ما تقدم، فإن مفهوم الوطن ومقتضيات الدفاع عنه وتحريره من العدو أو الإسهام في بنائه وتطوره، لا يتحقق موضوعياً من دون الممارسة الفعلية في تطبيق مفهوم المواطنة، وبالتالي فان حرية الوطن واستقلاله لا تعني شيئاً إذا لم تتأسس على حرية المواطن، التي تكفل وتعزز بدورها تأجيج وتوسع والمقاومة بكل أشكالها الكفاحية والسياسية- كتجسيد لحرية المواطن باعتبارها المدخل الأول أو الأصل في أية ممارسة نضالية تحررية أو ديموقرطية، فإذا ما بقيت شعوبنا –على المستوى الفردي فاقدة لحريتها، فإنها ستعيش حالة من الاستبداد والخوف الكامن في صدورها، لن يمكنها من الدفاع عن الوطن أو عن حقوقها الديمقراطية أو حقوقها في العدالة الاجتماعية ، لذلك لا بد من كسر هذه الحالة كشرط أول لمراكمة مقومات ومضامين مفهومي المواطنة والديمقراطية وتطبيقاتهما، فالعلاقة بين المواطن والوطن تناظر العلاقة بين الحرية والقانون.
فالديمقراطية في المقام الأول صيرورة اجتماعية تاريخية موضوعية لا سبيل إلى فهمها إلا بتسليط الضوء على منابتها في التشكيلات الاجتماعية التي شهدتها ، بمعنى أنه علينا تحديد القوى الاجتماعية المؤيدة والأخرى المناهضة للديمقراطية وأسباب ذلك .
وللنفاذ إلى جوهر الديمقراطية الليبرالية (البرجوازية ) ، قد يكون من المفيد أن نبدأ بالقول إن وجود برلمان ليس ضمانة في حد ذاته على وجود ديمقراطية في المجتمع ؛إذ يمكن أن يسخر البرلمان أداة لطمس الديمقراطية وقواها في المجتمع .
والنقطة المهمة هنا هي أن أهمية البرلمان لا تكمن في شكله المؤسسي ، وإنما تكمن في مضمونه الطبقي.
إذ أن جوهر الديمقراطية ، وآلياتها التطبيقية في أي مجتمع ، يقوم على إدراك الرئيس المنتخب بأنه سيعود بعد انتهاء مدتهِ، مواطناً عادياً من ناحية ، وإدراك كل مواطن أن من حقه ترشيح نفسه ليكون رئيساً من ناحية ثانية ، هذا ما يتوجب أن تدركه الحركات والقوى السياسية في بلادنا، خاصة حماس والتيارات الدينية، حتى لا تتحول الديمقراطية من مهد للآمال في التحرر والتغيير والتقدم إلى لحدٍ لكل هذه الآمال.
ومن المؤسف والمحزن في أن كل القوى السياسية عموماً، وحركتي فتح وحماس خصوصاً، لم ترتق إلى مستوى العمل على تطبيق النظام الأساسي (كعقد اجتماعي وطني وديمقراطي) وحمايته ، بل تمت إزاحته جانباً لحساب رموز الفساد السياسي والمالي والإداري، الذين راكموا عوامل الفلتان الأمني، ومن ثم اشتعال الصراع الدموي الداخلي الذي أدى إلى الانقسام السياسي والمجتمعي، ليس على صعيد انقسام المكان إلى حكومتين غير شرعيتين في الضفة وغزة ، بل أيضاً على صعيد المفاهيم والثوابت الوطنية والديمقراطية، بحيث بات شعبنا في الوطن والمنافي قلقاً ومحبطاً ويائساً في معظمه بسبب النتائج المروعة التي أوصلته إلى أوضاع كارثية غير مسبوقة، دون أن يعني ذلك تجاوز تأثير الظروف الموضوعية (على جماهير الفقراء خصوصاً) التي أسهمت بدورها في الوصول إلى هذه الأحوال الكارثية .
فالإنسان الفقير ، البسيط ، العفوي ، المتخلف منذ أن ينشأ تبعاً لبنية اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها، نظرا لارتباطها ببنيته النفسية المرتبطة بالبنية الاجتماعية، المحكومة بدورها للأعراف والعادات والتقاليد الموروثة إلى جانب العنف المباشر من العدو الصهيوني ، والداخلي غير المباشر على الصعيد الاجتماعي .
العلاقة إذن جدلية بين السبب والمسبب (البنية والنمط الإنساني الذي ينتج عنها) مما يحتم علينا الاهتمام بهما.
أما بالنسبةِ للعنف، فإن شعبنا يتعرض لنوعين منه، الأول هو العنف المباشر من العدو الصهيوني، وهو عنف يعزز ويعمق العداء والحقد ضد التحالف الإمبريالي الصهيوني، بمثل ما يعمق الهوية الوطنية ويولد أشكالاً متنوعة من المقاومة ، أما الثاني فهو العنف المتمثل في الاستبداد الداخلي الناجم عن ممارسات أجهزة السلطة (في رام الله وغزة)، فهو عنف متعدد المظاهر والممارسات العميقة المباشرة وغير المباشرة ، إلى جانب مظاهر الفساد والمحسوبيات والفقر، والفجوة في الدخل وغياب تكافؤ الفرص، وما ينتج عن ذلك من مظاهر وممارسات عنيفة في العائلة أو في المجتمع، عبر تنوع أشكال الجريمة والانحراف: السرقات والتزوير والمخدرات وحبوب الهلوسة، في ظل غياب القانون والنظام ، حيث تتكرس سيطرة القوي على الضعيف، وتتوالد وتتراكم أشكال من الاغتراب بالمفهوم النفسي الذي نلاحظه لدى الكثيرين من أبناء شعبنا –في الوطن والشتات- الذين يعيشون حالة من ضعف الشعور  بالانتماء لمجتمعهم، والرغبة في الهجرة للخارج ، أو العزلة (أو الانكفاء على الذات) عن المجتمع، وما يجري فيه من ممارسات لا يستطيع (من يشعر بالاغتراب أو الدونية) وقفها أو معالجتها أو حتى التأثير فيها خاصة في ظل استمرار العدوان الصهيوني والحصار والانقسام والصراعات الجارية ، بين فتح وحماس، والبطالة والفقر، إلى جانب فقدان وغياب الديمقراطية، والشعور بالمواطنة .
ففي ظل هذه الأوضاع، يشعر المواطن  بان كل ما يفعله لا قيمة له عند الآخرين، خصوصا عندما تتكرس ظاهرة الانقسام، وانسداد أفق ما يسمى بـ"الحل المرحلي" أو السياسي، وانتشار مظاهر الانحطاط الاجتماعي والاقتصادي وغياب العدالة أو سيادة القانون، وغياب الكثير من القيم الايجابية والأخلاقية في المجتمع، لحساب قيم الانتهازية والمصالح الأنانية الفردية واللامبالاة، يذهب البعض إلى التمسك بالمفاهيم الأصولية السلفية والتراثية أو الغيبيات، كمخرج من أزمته أو يأسه أو إحباطه وعجزه.
ان تزايد انتشار وترسيخ هذه المظاهر ، جعلت من ظاهرة العنف الفردي أو المنظم الناجمة عن تزايد أوضاع البطالة والفقر ، ظاهرة غير منبوذة في مجتمعنا، بل تحول خلال السنوات الأخيرة إلى ثقافة مكتسبة، ارتباطاً بتفكيك النظام السياسي وغياب سلطة القضاء، حيث حلت مشاعر التفكك والإحباط والقلق واليأس محل التوحد والتحرر وبناء النظام السياسي الديمقراطي ، ذلك أن الإرادة الإكراهية للسلطة على المجتمع في غزة (حماس) أو الضفة (فتح)، رغم أنها قد تسهم في بعض الأحيان أو الظروف في تخفيف العنف، إلا أنها لن تحقق ثقافة الديمقراطية والمواطنة، لأن القيمة الحقيقية لثقافة الديمقراطية، تكمن في المكانة والمقومات التي توفرها لكرامة الإنسان كفرد مواطن، انطلاقاً من أن تأمين احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية له  ولأسرته عبر توفير العمل ومصدر الدخل الثابت له، هي المقدمة لكل حرية، فهي التي تكفل حقوقه السياسية ، بمثل ما تكفل تحفيز دوره في المسار الوطني والديمقراطي ، إذ أن من البديهي القول أن الفقر يعد من أهم كوابح المواطنة أو العمل العام او النضال أو أي ممارسة وطنية ومجتمعية على الصعيد العام ، لأن من لا يجد قوت يومه ، يصعب عليه أن يطالب بحرية التعبير وبقية حقوقه السياسية ، ناهيكم عن المشاركة في الأحزاب والفصائل السياسية ، ذلك أن الفقير ينشغل بتوفير الخبز له ولأهله، قبل أن يمارس حق الانتخاب أو الاقتراع أو يشارك في تظاهرة أو ينضم إلى حزب سياسي أو ينشط داخل جمعية....إلخ، وكما يقول ماركس بحق " يغيب العقل حين يغيب الدقيق " ، وبالتالي فإن الفقر قد يدفع الأفراد ليس إلى التنازل عن حقوقهم كمواطنين فحسب ، بل أيضاً يدفعهم صوب مزيد من الإحباط واليأس والميل للاستسلام.
لذلك فإن إحدى أهم مساهمات اليسار الجذرية المطلوبة في هذا الجانب ، تكمن في قدرتها على صياغة البرامج التنموية الهادفة إلى تأمين لقمة العيش الكريمة للعاطلين عن العمل، في إطار النضال الديمقراطي المطلبي الحازم دفاعاً عن قضايا جماهير الفقراء والكادحين والمضطهدين ، وذلك من خلال معايشة القوى اليسارية لهذه الجماهير والتأكيد على شعاراتها وأفكارها السياسية والطبقية المنحازة لهم ونشرها بين صفوفهم.
من هنا أهمية الحاجة ، سواء في نضالنا التحرري ضد التحالف الامبريالي الصهيوني ، أو في نضالنا الديمقراطي الاجتماعي الداخلي، إلى مهماز يتقدم بنا نحو الحداثة ، النهضة ، المواطنة ، المجتمع المدني ،  والقانون والنظام ، وبدون ذلك لن نستطيع أن ندخل الحداثة ونحن عراه ، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت أكثر من الحي، الماضي أكثر من المستقبل.
هنا دور المثقف في بلادنا لمجابهة هذا الواقع المهزوم وأدواته وأنظمته وطبقاته الحاكمة التي تسهم في احتجاز التطور الاقتصادي والاجتماعي ... وبالتالي تقتل فكرة المواطن وسيادة القانون .
إن وعينا لهذا الدور، يشكل البداية صوب تنشيط عنصر المواطنة ووعيه داخل كل فرد منهم، على قاعدة الالتزام والوعي العميقين بمبادئ وأهداف وبرامج أحزابنا وأسسها الفكرية والسياسية والاجتماعية والتنظيمية ، التي يجب أن نحرص على تعميمها ونشرها في أوساط الجماهير في الوطن والشتات، وتعبئتهم ليس فحسب ضد العدو الصهيوني وتناقضنا التناحري معه، بل أيضاً  في مجابهة تناقضنا الرئيسي السياسي، الديمقراطي ، مع السلطة المستبدة – في غزة أو رام الله – التي تخنق الاستقلال الروحي والفكري للمواطن الفلسطيني، بل وتتغذى من هذه العملية عبر تفريغ المواطن من الوعي والإرادة والضمير والحس النقدي والاستقلال، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد ، أو "رب" عمل واحد، هو جهاز السلطة أو نظام الحكم بمختلف تلاوينه ومنطلقاته . فبقدر ما يستدعي النضال السياسي والديمقراطي الداخلي أناسا على درجة عالية من الاستقلال السياسي و الفكري وحرية الرأي والمعتقد والإرادة والمسؤولية ، يقوم انحطاط السلطة على تعميم الاستلاب والتبعية الشخصية والإلحاق ، فرجل السياسة الاستبدادية لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر.
ولذلك فان هذا الواقع يحتاج إلى وقفة تأمل ومحاسبة للنفس،         من قبل كافة الفعاليات الديمقراطية العلمانية، أحزاباً ومثقفين ومفكرين وسياسيين وفنانين وأدباء وغيرهم .
فعلى هؤلاء تقع مسؤولية استعادة المبادرة لتحرير الفرد وانتزاعه التدرجي من الولاءات العصبية والالتزامات ، اللاأخلاقية واللاإنسانية ، التي دفعته إليها الديكتاتورية السياسية والديكتاتورية الفكرية معا.
ولكي نضمن تقريب المسافة بيننا وبين هذا الهدف، فإن المطلوب توفير العوامل الذاتية والموضوعية التي تستهدف توعية الجماهير وتحشيدها، لممارسة الضغط السياسي على السلطة أو النظام أو الدولة ، لكي تنتزع حقوقها والتعامل مع أعضائها بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ، في ظل مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة، التي أدى غيابها إلى تعطيل مسار النضال التحرري والتطور الديمقراطي الداخلي لبلادنا وأدخلها في مستنقع الخضوع  والتبعية والتخلف والاستبداد .
 
 


[1] المصدر : د.فرحان اليحيى – المواطنة : المفاهيم والأسس والأبعاد – الانترنت- موقع النور (الحزب الشيوعي السوري).
[2] د.فرحان اليحيى –  المصدر السابق .
[3] د.فرحان اليحيى –  مصدر سبق ذكره
[4] لم يتم التركيز على مفاهيم المواطنة والحداثة والعقلانية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين مع حالة النهوض القومي الناصري ، إلى جانب الانتشار الملحوظ في تلك المرحلة للأفكار الاشتراكية ، على يد عدد من المفكرين التقدميين والديمقراطيين، من أبرزهم قسطنطين زريق و رئيف خوري و محمود العالم وإلياس مرقص وياسين الحافظ وسمير أمين وصادق جلال العظم  ونصر أبو زيد و محمد أركون  والجابري وعبدالله العروي وعادل ضاهر . ... وغيرهم (غ.ص).
[5] حسن إبراهيم أحمد – المواطنة و المواطنية – مجلة النور – الحزب الشيوعي السوري – الانترنت .  
[6] المصدر السابق .
[7] المصدر السابق..
[8] المصدر: محمد عابد الجابري - المواطِن والمواطَنة... أمس واليوم  - الانترنت – موقع الحزب الليبرالي الديمقراطي http://www.liberaldemocraticpartyofiraq.com  -   20/4/2008 ، أنظر ايضاً موقع الجابري http://www.aljabriabed.net
[9] الجابري -  المصدر السابق
[10] قراءة في كتاب الماركسية والديمقراطية - عمار ديوب - الحوار المتمدن - العدد: 1837 - 2007 / 2 / 25
[11] عمار ديوب – المصدر السابق.
[12]  المصدر: ليث زيدان – مفهوم المواطنة في النظام الديموقراطي – الانترنت – موقع الحوار المتمدن – العدد 1933 – 1/6/2007
[13] برهان غليون – المجتمعات العربية بين طغيانين – الحوار المتمدن – العدد 1813 – 1/2/2007