حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة


خليل كلفت
2012 / 9 / 19 - 13:02     

إينياسيو رامونيه
 
 
 
 
حروب القرن الحادي والعشرين 
مخاوف وأخطار جديدة
 
 
ترجمة: خليل كلفت
 
الطبعة الأولى 2005، دار العالم الثالث، القاهرة
الطبعة الثانية 2006، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
إلى أمي †،
 
المناضلة الاجتماعية
 
 
 
إلى أبي،
 
مقاتل الحرب الإسبانية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هذه ترجمة لكتاب
 
Guerres du XXIe siecle
 
Ignacio Ramonet
 
ÉDITIONS GALILÉE
 
Paris
 
2002
 
 
 
 
 
 
 
 
الوجه الجديد للعالم
 
بعد هجمات 11 سپتمبر 2001، وبعد الحرب ضد شبكة القاعدة ونظام طالبان في أفغانستان - ماهي السمات الجغرافية-السياسية الرئيسية لكوكبنا في هذه البداية للقرن الحادي والعشرين؟
والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على العالم كما لم تفعل أية إمبراطورية مطلقا من قبل. فهي تمارس سيطرة ساحقة في خمسة مجالات تقليدية للقوة: السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والتكنولوچي، والثقافي. ويقدّر محلل أمريكي أن "الولايات المتحدة تمثل بطريقة ما النموذج الأصلي الأول للدولة العالمية. فهي تملك القدرة على قيادة طبعة حديثة من الإمبراطورية العالمية، إمبراطورية تلقائية يخضع أعضاؤها لسلطتها طواعية"[1].
وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، يغدو العالم، إذن، خاضعا لسيطرة قوة فائقة hyperpuissance واحدة. وقد أظهرت منذ وقت قصير في أفغانستان هيمنتها الإمبراطورية بثلاث طرق: ساحقة تحت القنابل في أسابيع قليلة نظام طالبان والشبكات المسلحة للقاعدة التي كانت تدعم ذلك النظام؛ مكونة ائتلافا دبلوماسيا كبيرا جدا يساند عملها الانتقامي (خاصة بدعم روسيا والصين) مقيدة في الوقت نفسه إلى الحد الأدنى مرجعية منظمة الأمم المتحدة؛ وأخيرا مجندة، كمجرد قوات إضافية، القوات البريطانية التي كانت متغطرسة منذ عهد غير بعيد، ومُبْعدة حلفاء مهرولين، ولكن يُعتبرون معرقلين، مثل فرنسا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو كندا، أو الياپان.
وعلى كل حال فإنه، في هذا العهد الجديد، يُعدّ مثل هذا الاستعراض للقوة العسكرية والسياسية مضللا. ورغم تفوقها الهائل إلا أن الولايات المتحدة ليس بمستطاعها، في الواقع، أن تفكر في احتلال وفتح أفغانستان عسكريا (كما حاولت إنجلترا أن تفعل في القرن التاسع عشر والاتحاد السوڤييتي في القرن العشرين)، مع أن هذا لا يشكل بالنسبة لها من الناحية التقنية أية صعوبة[2]. لماذا؟ لأن التفوق العسكري لم يعد يتجسد، كما كان الحال في القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين، في فتوحات إقليمية. ذلك أن الفتوحات الإقليمية صارت، في المدى الطويل، غير قابلة للإدارة سياسيا، ومكلفة ماليا، ووخيمة العواقب إعلاميا. ذلك أن وسائل الإعلام قد توطدت كفاعل إستراتيجي من الطراز الأول[3].
 
ديناميكا العولمة
ظاهرة رئيسية أخرى: كل الدول تم جرّها إلى ديناميكا العولمة. إنها بطريقة ما مسألة ثورة رأسمالية ثانية. وتؤثر العولمة الاقتصادية في كل أركان الكوكب، متجاهلة استقلال الشعوب تجاهلها لتنوع النظم السياسية.
وعلى هذا النحو تشهد الأرض عهدا جديدا من الفتوحات، كما كان الحال في زمن الفتوحات الاستعمارية الكولونيالية. ولكنْ، على حين أن القوى الفاعلة الرئيسية لتوسعات الفتوحات السابقة تمثلت في دول، فإن مشروعات، وتكتلات، ومجموعات صناعية، وممولين من القطاع الخاص، هي التي تريد، هذه المرة، السيطرة على العالم. ولم يحدث مطلقا من قبل أنْ كان سادة الأرض قليلي العدد إلى هذا الحد، ولا أقوياء إلى هذا الحد. وتوجد هذه المجموعات بصورة أساسية في ثالوث الولايات المتحدة-الاتحاد الأوروبي-اليابان. وتقع مقار نصفها في الولايات المتحدة.
وقد تسارع هذا التركيز لرأس المال والسلطة تسارُعًا هائلا خلال العشرين سنة الأخيرة، تحت تأثير ثورات تكنولوچيات المعلومات. وسيتم تحقيق قفزة جديدة إلى الأمام من هذه البداية للألفية فصاعدا، مع التقنيات الچينية الجديدة للتلاعب بالحياة. ذلك أن خصخصة الچينوم البشري وتعميم براءات اختراع الكائن الحي يفتحان آفاقا جديدة للتوسع أمام الرأسمالية. ويجري إعداد خصخصة كبرى لكل ما يمس الحياة والطبيعة، مما يدعم ظهور سلطة من المحتمل أن تكون مطلقة أكثر من كل ما كان بوسع البشر أن يعرفوه طوال التاريخ.
ولا تهدف العولمة إلى فتح البلدان بقدر ما تهدف إلى فتح الأسواق. ولا يتمثل الشغل الشاغل لهذه السلطة الحديثة في الواقع في فتح الأقاليم، كما كان الحال في زمن الغزوات الكبرى أو فترات الاستعمار الكولونيالي، بل يتمثل في السيطرة على الثروات.
وهذا الفتح مصحوب بدمار مذهل. وهذا ما يشهد عليه الانهيار المروِّع للأرجنتين في ديسمبر 2001. وكان هذا البلد هو المثال الحقيقي لما ينادي به صندوق النقد الدولي كنموذج عالمي ويسعى إلى تصديره بعناد عقائدي إلى الكوكب بأسره. ويعني انهيار الأرجنتين بالنسبة لليبرالية الجديدة، ما كان يعنيه سقوط سور برلين بالنسبة لاشتراكية الدولة: اتضاح عدم مصداقية، واكتشاف مأزق. ذلك أنه في كل مكان آخر في العالم، صارت صناعات بأسرها منكوبة بعنف، في كل المناطق. ومع صور المعاناة الاجتماعية التي تنشأ عن هذا: البطالة الجماعية، البطالة الجزئية، اختلال الأمن، الطرد. 18 مليونا بدون عمل في قلب الاتحاد الأوروپي، مليار من العاطلين والعاطلين جزئيا عن العمل في العالم... الاستغلال المفرط للرجال، والنساء، و-الأشد عارا أيضا- الأطفال: 300 مليون من بينهم من الأطفال، في أوضاع من الوحشية البالغة.
والعولمة هي أيضا النهب الكوكبي. وتقوم المجموعات الكبرى بتدمير البيئة بوسائل مفرطة؛ وهي تجني الربح من ثروات الطبيعة التي هي المنفعة المشتركة للبشرية؛ وهي تفعل هذا بلا وازع من ضمير. ويقترن هذا بإجرام مالي يرتبط بأوساط المال والبنوك الكبرى التي تعيد تدوير مبالغ تتجاوز الألف مليار [= مليون مليون= تريليون] يورو في السنة، أيْ ما يزيد على الناتج القومي الإجمالي لثلث البشرية.
 
نهب كوكبي
 
ويتجسد الإضفاء المعمم للطابع السلعي marchandisation في تفاقم هائل لأشكال عدم المساواة. وعلى حين يمثل إنتاج الكوكب من المواد الغذائية الأساسية أكثر من 110٪ من الاحتياجات العالمية، يواصل 30 مليون شخص الموت جوعا كل عام، ويعاني أكثر من 800 مليون من نقص الأغذية.
وفى 1960، كان اﻠ 20٪ الأغنى من سكان العالم يمتلكون دخلا أعلى ثلاثين مرة من دخل اﻠ 20٪ الأفقر. وكان هذا شائنا في ذلك الحين. غير أن الوضع، بدلا من أن يتحسن، تفاقم أكثر. لأن دخل هؤلاء الأغنياء بالنسبة لدخل هؤلاء الفقراء صار اليوم، ليس ثلاثين ضعفا، بل 82 ضعفا! ومن 6 مليار شخص هم سكان الكوكب، يعيش 500 مليون بالكاد حياة ميسورة، في حين يظل 5.5 مليار في حالة فقر وعوز. إن العالم يسير على رأسه.
هياكل الدولة، وكذلك الهياكل الاجتماعية التقليدية، جرى القضاء عليها بطريقة كارثية. وفى كل مكان تقريبا، في بلدان الجنوب أو الشرق، تنهار الدولة. وتنسحب السلطات، أويجري طردها إلى الأراضي الطرفية التي تغدو مناطق حقيقية لانعدام القانون. وفى پاكستان، أو الجزائر، أو الصومال، أو الكونغو، أو كولومبيا، أو الفيليپين، أو سري لانكا، تنتشر كيانات فوضوية يستحيل حكمها، وتتملص من كل شرعية، وتغرق في حالة من البربرية. وتنتصر القوة عندئذ على القانون، وتكون المجموعات العنيفة وحدها هي القادرة على فرض قانونها وابتزاز السكان.
وتظهر أخطار جديدة: الإرهاب الفائق hyperterrorisme، مختلف صور التعصب الديني أو الإثني، الانتشار النووي، الجريمة المنظمة، شبكات المافيا، المضاربة المالية، انهيارات المشروعات (الشركات) العملاقة (إنرون Enron)، الفساد الضخم، انتشار أوبئة عامة جديدة (الإيدز، ڤيروس إيبولا، مرض "كرويتسفيلت-چاكوب" Creutzfeldt-Jakob ["مرض جنون البقر عند انتقاله إلى البشر"]، إلخ.)، التلوثات العالية الكثافة، تأثير الدفيئة (الاحتباس الحراري)، التصحر، إلخ.
وعلى حين تنتصر، في ظاهر الأمر، الديمقراطية والحرية على كوكب يتخلص من أسوأ النظم السلطوية، فإن من المفارقات أن الرقابات، والتلاعبات، تحت مظاهر متباينة، تستعيد قوتها. كما أن "أفيونات الجماهير" المغوية تقدم نوعا من "أفضل العوالم"، وتلهي المواطنين، وتسعى إلى صرفهم عن العمل المدني والمطالبي. وفي هذا العصر الجديد من الاغتراب، في زمن الإنترنت، والثقافة العالمية World Culture (“culture globale”)، والاتصالات الكوكبية، تلعب تكنولوچيات المعلومات أكثر من أي وقت مضى دورا أيديولوچيا رئيسيا في تكميم الفكر.
 
العالم يتشظى
 
كل هذه التغيرات الهيكلية والمفاهيمية، التي تفعل فعلها منذ حوالي عشرة أعوام، أحدثت انفجارا حقيقيا للعالم. مفاهيم جغرافية-سياسية - مثل الدولة، السلطة، السيادة، الاستقلال، الديمقراطية، الحدود - لم تعد لها نفس الدلالة. إلى حد أننا، إذا لاحظنا السير الفعلي للحياة الدولية، نكتشف أن الفاعلين تغيروا.
وعلى مستوى الكوكب، فإن القوى المحركة الرئيسية الثلاث (التي كانت في ظل النظام القديم: النبلاء، الإكليروس، الطبقة الثالثة) صارت من الآن: 1) تجمعات الدول associations - ألينا l Accord de libre-échange nord-américain (Alena) [أو: نافتا North American Free Trade Agreement (NAFTA)] (الولايات المتحدة، كندا، المكسيك)، الاتحاد الأوروپي، ميركوسور، آسيان، إلخ.؛ 2) المشروعات العالمية والمجموعات الإعلامية والمالية الكبرى؛ 3) المنظمات غير الحكومية ذات النطاق العالمي (السلام الأخضر Greenpeace، منظمة العفو الدولية Amnesty International، منظمة "العمل من أجل فرض ضريبة على المعاملات المالية لمساعدة المواطنين" (أتاك)  Action pour une taxation des trasactions financières pour l aide aux citoyens (Attac)، هيومان رايتس ووتش Human Rights Watch، الحياة البرية العالمية World Wild Life، إلخ.).
وهذه القوى الفاعلة الثلاث الجديدة تعمل في إطار كوكبي لا تحدده منظمة الأمم المتحدة، وهذه سمة العصر، بقدر ما تحدده منظمة التجارة العالمية، الحَكَم العالمي الجديد.
وقلما يكون للتصويت الديمقراطي تأثير على النشاط الداخلي لهذه القوى الفاعلة الثلاث الجديدة. وقد حدث هذا التحول الكبير للعالم، الذي يفرّغ الديمقراطية من معناها، دون أن يأخذ أحد حذره ودون أن يدركه المسئولون السياسيون أنفسهم.
 
العمل ضد العولمة الليبرالية
 
كل هذه التغيرات السريعة والعنيفة، تزعزع بالفعل استقرار القادة السياسيين. ذلك أنهم، بأغلبيتهم، يشعرون بأنهم حوصروا بعولمة تغير قواعد اللعبة وتتركهم عاجزين جزئيا. لأن السادة الحقيقيين للعالم ليسوا أولئك الذين يملكون مظاهر السلطة السياسية.
وهذا هو السبب في أن المواطنين يضاعفون أعمالهم وتعبئاتهم ضد القوى الجديدة، كما رأينا، منذ ديسمبر 1999، بمناسبة قمة منظمة التجارة العالمية في سياتل، ثم في براغ، وداڤوس، ونيس، وكيبيك، وچنوا. وهم يظلون مقتنعين، في الواقع، بأن هدف العولمة الليبرالية، في هذه البداية للألفية، هو تدمير ما هو جماعي، واستيلاء السوق والقطاع الخاص على المجالات العامة والاجتماعية. وهم عاقدو العزم على مقاومة ذلك.
اكتشاف آخر: التفوق الجغرافي-السياسي وممارسة القوة الفائقة، في عصر الليبرالية الجديدة، لا يكفلان بحال من الأحوال لكل المواطنين مستوى كافيا من التنمية البشرية. وعلى سبيل المثال فإنه، بين سكان بلد غني كالولايات المتحدة، يوجد 32 مليون شخص يقل عمرهم المتوقع عند الولادة عن 60 عاما، و40 مليون شخص دون تأمين طبي، ويعيش 45 مليون شخص تحت خط الفقر، و52 مليون شخص من الأميين... وبالطريقة ذاتها فإنه، في قلب الاتحاد الأوروپي الغنيّ، في زمن ميلاد اليورو، يوجد 50 مليونا من الفقراء، و18 مليونا بلا عمل...
وعلى مستوى العالم، يبقى الفقر القاعدة والرفاهية الاستثناء. وقد صارت اللامساواة واحدة من السمات الهيكلية المميزة لعصرنا. وهي تتفاقم، مبعدة أكثر دوما الأغنياء عن الفقراء. وتمثل أضخم 225 ثروة في العالم ما يزيد إجماليه على ألف مليار [= تريليون] يورو، أيْ ما يعادل الدخل السنوي لنسبة 47٪ من الأشخاص الأكثر فقرا من سكان العالم (2.5 مليار شخص!). ولهذا فإن مجرَّد أفراد صاروا من الآن أغنى من الدول: تتجاوز ثروة الخمسة عشر شخصا الأكثر ثراء في الكوكب الناتج المحلي الإجمالي[4] الكلي لمجموع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء...
 
سادة ومسودون
 
مَنْ الذي يسود عالم اليوم؟ يمكن القول إن ثالوثا مزدوجا يمسك بقياد الكوكب ويعمل كنوع من السلطة التنفيذية العالمية. وعلى المستوى الجغرافي-السياسي، يتألف الثالوث الأول من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا. وعلى المستوى الاقتصادي، يتكون الثالوث الثاني من الولايات المتحدة، وألمانيا، والياپان. وفي الحالتين، تحتل الولايات المتحدة مركزا يتمتع بسيطرة فائقة.
ومنذ بداية القرن العشرين، لم يكف عدد الدول عن الزيادة، مرتفعا من حوالي أربعين دولة إلى ما يقرب من مائتي دولة. غير أنه على المستوى الجغرافي-السياسي، ما يزال العالم تسوده نفس المجموعة الصغيرة من البلدان (المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، الياپان، الولايات المتحدة، روسيا) التي كانت تقوده بالفعل حتى نهاية القرن التاسع عشر... وبين عشرات البلدان الناشئة عن تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى البريطانية أو الفرنسية، أو الإسپانية، أو الهولندية، أو البرتغالية، أو البلچيكية، وصلت ثلاثة بلدان بالكاد (كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايوان) إلى مستوى من التقدم سمح لها بالصعود إلى مرتبة البلدان المتقدمة. وتبقى البلدان الأخرى غارقة في أوحال تخلف مزمن وما يبدو أنه فقر أزلي.
وسيكون من الصعب على هذه البلدان أن تخرج من هذا الوضع، خاصة وأن أسعار المواد الأولية (بما في ذلك الهيدروكربورات hydrocarbures [= النفط])، التي يقوم اقتصادها من الناحية الأساسية على بيعها، تهبط بصورة لا مفرّ منها. ذلك أن منتجات أساسية عديدة (معادن، ألياف، مواد غذائية) صارت اليوم أقل استخداما من جانب الدول المتقدمة الكبرى أو حلت محلها منتجات صناعية. وعلى هذا النحو ففي الياپان، فيما يتعلق بعام 1973، خفضت كل وحدة للإنتاج الصناعي استهلاكها من المواد الأولية بحوالي 40٪!
والحقيقة أن الثروة الجديدة للأمم سوف تقوم بصورة متزايدة، خلال القرن الحادي والعشرين، على المادة الرمادية la matière grise، المعرفة، البحث، القدرة على التجديد، وليس على إنتاج المواد الأولية. ويمكن حتى أن نؤكد، بهذا الخصوص، أن العوامل التقليدية الثلاثة للقوة - مساحة الإقليم، الأهمية الديموجرافية، ثروة المواد الخام - لم تعد تشكل وسائل مرغوبة، بل إن من المفارقات أنها صارت حتى أعباءً ثقيلة في العصر ما بعد الصناعي.
وتظهر البلدان الواسعة جدا، والمأهولة جدا بالسكان، والغنية جدا بالمواد الأولية - روسيا، الهند، الصين، البرازيل، نيچيريا، إندونيسيا، پاكستان، المكسيك - بين أفقر بلدان الكوكب. واستثناء الولايات المتحدة يخفي القاعدة.
وبالمقابل فإنه في زمن العولمة المالية تتمتع دول بالغة الصغر micro-États، بدون أيّ إقليم تقريبا، وبدون عدد كبير من السكان، وبدون أية مادة أولية - موناكو، ليتشتينشتين، جزر كايمان، سنغافورة - بنصيب للفرد من الدخل بين الأكثر ارتفاعا في العالم...
 
فوضى معممة
 
لا يكف نطاق الفوضى المعممة عن الاتساع، ليضمّ ويبتلع كل مرة المزيد من الدول ذات الاقتصاد الراكد بصورة نهائية والمزيد من البلدان التي تعاني العنف الوبائي. ومنذ 1989، نهاية الحرب الباردة، حدث أكثر من ستين من الصراعات المسلحة التي أودت بحياة مئات الآلاف من البشر وتسببت في نزوح أكثر من 17 مليونا من اللاجئين! وفي جهات كثيرة من الأرض، صارت الحياة اليومية جهنمية بكل بساطة. إلى حد أن عددا متزايدا من الأشخاص، وبصورة خاصة من الأكثر شبابا، يسعون إلى الهرب من الفوضى والعنف ويرغبون في الهجرة بكل ثمن نحو مناطق متقدمة وآمنة.
بل حتى رأينا سكانا في بعض البلدان يتبرأون من نضال أجدادهم في سبيل الاستقلال ويطالبون بعودة الدولة الاستعمارية السابقة (في جزر القمر)، أو حتى الدمج دون قيد أو شرط من جانب المتروپول المسيطر (في پورتوريكو)... لقد كفّ العالم الثالث ككيان سياسي عن الوجود.
ويشهد كل هذا على أزمة الدولة-الأمة وأزمة السياسة في الزمن الذي تقوم فيه الثورة الرأسمالية الثانية، وعولمة الاقتصاد والطفرات التكنولوچية، بتحويل البيئة الجغرافية-السياسية. وأيضا في الزمن الذي يتضاعف فيه، بسبب الاندماجات والتركيزات، عدد الشركات العملاقة التي يفوق وزنها أحيانا وزن الدول. فرقم أعمال چنرال موتورز General Motors أعلى من الناتج المحلي للدانمارك؛ ورقم أعمال إكسون موبل Exxon Mobil يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للنمسا. وتبيع أيّ شركة من الشركات العالمية الرئيسية أكثر مما يصدّر أيّ بلد من البلدان المائة والعشرين الأكثر فقرا. وتسيطر هذه الشركات العملاقة والعالمية على 70٪ من التجارة العالمية....
ويملك مديروها، وكذلك مديرو المجموعات المالية والإعلامية الكبرى، الواقع الفعلي للسلطة ويضغطون، عن طريق مجموعات الضغط الجبارة المرتبطة بهم، بكل وزنهم على القرارات السياسية للحكومات الشرعية والنخب. كما أنهم يصادرون لصالحهم، على هذا النحو، الديمقراطية.
 
سلطات-مضادة ضرورية
 
مع أنها أكثر ضرورية من أيّ وقت مضى، تبدو السلطات-المضادة التقليدية (الأحزاب، النقابات، الصحافة الحرة) غير مؤثرة تقريبا. ويتساءل المواطنون عن طبيعة المبادرات الجسورة التي يمكن أن تعيد في القرن الحادي والعشرين، العقد الاجتماعي le contrat social ضد العقد الخاص le contrat privé. وهم يتذكرون أنه، في أكتوبر 1917، كانت عشرة أيام كافية للثورة البلشڤية لكي "تهزّ العالم". وأنه، للمرة الأولى، توقفت بصورة مستديمة مِحْدلة طريق [وابور زلط] الرأسمالية.
والواقع أن نمو الرأسمالية كانت قد حفزته أعمال المنظِّريْن الكبيريْن (آدم سميث Adam Smith، وديڤيد ريكاردو David Ricardo)، ومنجزات تكنولوچية حاسمة (الآلة البخارية، السكك الحديدية)، وثورات جغرافية-سياسية مهمة (توطيد الإمبراطورية البريطانية، توحيد ألمانيا، ظهور الولايات المتحدة). كل هذا مجتمعا أحدث الثورة الرأسمالية الأولى، تلك التي دعمت توسعا اقتصاديا كبيرا. غير أنه، في الوقت نفسه، قام هذا التوسع بسحق الشغيلة، أيْ نفس أولئك الذين، داخل المصانع الجديدة، خلقوا الثروة بكدهم، كما شهد على ذلك في روايات مؤثرة، تشارلز ديكنز Charles Dickens أو إميل زولا Émile Zola، أو چاك لندن Jack London.
فكيف يجنى البشر النفع بصورة جماعية من الثروة الهائلة التي أنتجها التصنيع، مع التفادي تماما لسحق عامة الناس اجتماعيا؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عليه كارل ماركس Karl Marx، في عمله الرئيسي رأس المال (1867). وسيكون لا مناص من الانتظار أيضا خمسين عاما لكي ينجح، إستراتيچي سياسي عبقري، لينين Lénine، على رأس البلاشفة، في غزو السلطة في روسيا على أمل خلاصىّ [ميسياني messianique] في تحرير "البروليتاريين في كل البلدان".
 
الثورة الرأسمالية الثانية
 
وبعد ثمانين عاما، تحطم الاتحاد السوڤييتي، وشهد العالم تحولا كبيرا جديدا، أطلقنا عليه اسم "الثورة الرأسمالية الثانية". وهي، مثل الأولى، تنشأ من التقاء مجموعة من التحولات المفاجئة في ثلاثة مجالات.
في المحل الأول، في الميدان التكنولوچي. فإضفاء الطابع المعلوماتي على كل قطاعات الأنشطة وكذلك الانتقال إلى الرقمية numérique (يجري من الآن بثّ الصوت، والنص، والصورة، بسرعة الضوء، بواسطة شفرة موحدة) يقلبان أوضاع العمل، الاقتصاد، الاتصال، التعليم، الإبداع، وقت الفراغ، إلخ.
وفى المحل الثاني، في الميدان الاقتصادي. تُعزز التكنولوچيات الجديدة توسع عالم المال. فهي تحفز الأنشطة التي تملك أربع سمات رئيسية: كوكبية، دائمة، فورية، لا مادية. وقد حفز "الانهيار الكبير" big bang للبورصات، وتحرير الاقتصاد من النظم واللوائح الحكومية، اللذين شجعت عليهما في الثمانينات مارجاريت ثاتشر Margaret Thatcher ورونالد ريجان Ronald Reagan، عولمة الاقتصاد، التي تشكل الديناميكا الرئيسية لهذه البداية للقرن والتي لا يفلت من تأثيرها أيّ بلد.
وفي المحل الثالث، في الميدان السوسيولوچي، أضرّ الانقلابان السابقان بالامتيازات والحقوق prérogatives التقليدية للدولة-الأمة ودمَّرا مفهوما بعينه للتمثيل السياسي والسلطة. وهذه السلطة، التي كانت منذ عهد قريب هرمية، ورأسية، وسلطوية، تبدو بصورة متزايدة منظمة في شبكات، وأفقية، كما تبدو - بفضل التلاعب بالعقول التي تتيحها وسائل الإعلام الجماهيرية الكبرى - إجماعية.
وفاقدةً الاتجاه، تنشغل المجتمعات باستماتة في البحث عن معانٍ ونماذج، لأن هذه التغيرات الثلاثة الكبرى تُحْدث في الوقت نفسه ما يزيد من حدة تأثير الصدمة.
 
الاتصال والسوق
 
وفي الوقت نفسه، فإن اثنين من الأعمدة التي كانت تقوم عليها الديمقراطية الحديثة - التقدم والتماسك الاجتماعي - حل محلهما اثنان آخران - الاتصال والسوق - يغيران من طبيعتها.
الاتصال، الذي صار الخرافة الأولى للعصر الراهن، يقدم إلينا باعتباره قادرا على تسوية كل شيء، وبصورة خاصة الصراعات بين الأشخاص، أو في داخل الأسرة كما في المدرسة، أو الشركة، أو الدولة. إنه يغدو صانع السلام الكبير. ومع هذا، يبدأ الناس في الشك في أن غزارته ذاتها تسبب صورة جديدة من صور الاغتراب وأن فيض الاتصال، بدلا من أن يحرر العقل يخنقه[5].
وتتجه السوق من الآن فصاعدا إلى إدارة كل الأنشطة البشرية، وإلى تنظيمها. وإلى عهد قريب، كانت ميادين بعينها - الثقافة، الرياضة، الدين - باقية بعيدا عن متناولها. والآن، ابتلعها عالم السوق. وتفوض الحكومات أمرها إليها بصورة متزايدة (التخلي عن قطاعات الدولة، الخصخصات). والواقع أن السوق تبقى الخصم الرئيسي للتماسك الاجتماعي (وللتماسك العالمي)، وهذا لأن منطقها يقضي بأن ينقسم مجتمع إلى مجموعتين: القادرين وغير القادرين. وقلما يهمه هؤلاء الأخيرون: إنهم إن جاز القول خارج اللعبة. وتبقى السوق، من الناحية الجوهرية، صانعة مختلف أشكال اللامساواة، غير أنها تحتفظ مع هذا بقدر مذهل من الغطرسة.
وهذا ما تشهد عليه هذه الحكاية: منذ فترة قصيرة، كان نفس المُلْصَق يغطي أروقة عشرات المطارات الأوروپية؛ معارضا بالمحاكاة الأسلوب الجرافيكي لصور الثورة الثقافية الصينية، وكان يمثل صفا من المتظاهرين يتقدمون على رأس موكب، بوجوه مشرقة، رافعين أعلاما متعددة الألوان تحركها الريح، صارخين: "يا رأسماليِّي كل البلدان، اتحدوا!"
كان الأمر يتعلق بدعاية ﻠ فوربيس Forbes، مجلة المليارديرات. مبدلين الشعار الشيوعي الأكثر شهرة ("يا عمال كل البلدان، اتحدوا!")، كان هذا بالنسبة لهذه المجلة طريقة ساخرة في الاحتفال بمرور مائة وخمسين عاما على ظهور "بيان الحزب الشيوعي" الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلس Friedrich Engels (وكانا شابَّيْن: كان عمر ماركس 30 عاما وعمر إنجلس 28 عاما)، وأيضا على ثورة 1848 (التي فرضت الاقتراع العام للذكور وإلغاء العبودية) وثورة مايو 1968...
وطريقة أيضا للتأكيد، دون خوف من التكذيب (لم تكن الملصقات ممزَّقة ولا منقوشا عليها)، لأمرين: الشيوعية لم تعد تخيف؛ الرأسمالية انتقلت إلى الهجوم. فكيف يمكن تفسير هذه الغطرسة الجديدة لرأس المال؟
 
وَهْم انقشع
 
بدأت هذه الغطرسة بعد سقوط سور برلين واختفاء الاتحاد السوڤييتي، في سياق غباء سياسي عبر عن نفسه فيه مأتم وَهْمٍ انقشع. وكانت التجليات المفاجئة لكل العواقب، في الشرق، لعقود من فرض سيطرة الدولة étatisation تصدم العقول وتحيّرها. لقد ظهر النظام المفتقر إلى حريات والمفتقر إلى اقتصاد السوق في لامعقوليته المأساوية وبكل نتائجه المنطقية من المظالم. وبالتالي فإن الفكرة الاشتراكية، بطريقة ما، انهارت بصورة دائمة. وأيضا نموذج التقدم كأيديولوجية تطالب بالتخطيط المطلق للمستقبل وببرمجة السعادة.
وفي قلب اليسار، ظهرت أربعة اقتناعات جديدة، تضع شروطا لأمل تحويل المجتمع تحويلا جذريا: ما من بلد يستطيع أن يتطور بصورة حقيقية بدون اقتصاد السوق؛ السيطرة المنهجية للدولة على وسائل الإنتاج والتبادل تقود إلى التبديد والفقر؛ التقشف في خدمة المساواة لا يشكل، في حد ذاته، برنامجا للحكم؛ حرية الفكر والتعبير تستوجب كشرط ضروري قدرا من الحرية الاقتصادية.
كما أن سقوط الشيوعية وانفجار الاشتراكية من داخلها قد أديا، بطريقة غير مباشرة، إلى التفكك الأيديولوچي لليمين التقليدي (الذي كان يتبنى، كما يكتشفون الآن، معاداة الشيوعية كأساس مذهبي وحيد) وقاما بتكريس الليبرالية الجديدة néolibéralisme باعتبارها المنتصر الكبير في المواجهة بين الشرق والغرب. فقد شهدت الليبرالية الجديدة، التي كانت ديناميكيتها مقيَّدة منذ بداية القرن، اختفاء خصومها الرئيسيين وهي تنتشر الآن على المستوى الكوكبي بطاقة مضاعفة. كما تحلم بأن تفرض تصورها للعالم، واليوتوپيا الخاصة بها، كفكر واحد وحيد، على الأرض بأسرها.
ويُسَمَّى هذا المشروع للفتح "العولمة". وينبع مشروع العولمة من الاعتماد المتبادل، الذي يغدو أوثق بصورة متزايدة، بين اقتصادات كل البلدان، والمرتبط بالحرية المطلقة لحركة رؤوس الأموال، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتحرير وتكثيف التجارة والتبادل الحر، بتشجيع من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية.
لقد توطد فصل بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي. ومن مبلغ يصل إلى حوالي ألف وخمسمائة مليار [= 1.5 تريليون] يورو تمثله العمليات المالية اليومية على المستوى العالمي، يجري تخصيص 1٪ فقط لخلق الثروة الجديدة. وتتسم بقية هذه العمليات بطابع المضاربة.
ويقترن هذا الازدهار الهائل للِّيبرالية الجديدة، حتى في البلدان الأكثر تقدما، بخفض كبير لدور القوى الفاعلة العامة، بدءًا بالبرلمانات. وأيضا بتدمير إيكولوچي، وبتفجُّر مختلف أشكال اللامساواة، وبالعودة الملموسة للفقر والبطالة وعواقبهما الاجتماعية: تفشِّي مختلف أشكال العنف الاجتماعي، ومختلف صور الإجرام، وانعدام الأمن. وكل هذا يمثل نفي الدولة الحديثة والمواطَنة citoyenneté.
 
العلوم التقنية والمجتمع
 
إننا نشهد أيضا فكّ ارتباط جذريا بين، من جهة، تطور التكنولوچيات الجديدة، ومن جهة أخرى، فكرة تقدم المجتمع. كما أن ازدهار البيولوچيا الجزيئية، منذ بداية الستينات، في ارتباطه بقوة الحساب التي أتاحتها الآن المعلوماتية l’informatique [=علم وتقنية معالجة المعلومات بالحاسوب]، قد جعل الاستقرار العام للنظام التقني يتطاير إلى شظايا. وصارت سيطرة السلطة العامة على هذا النظام صعبة بصورة متزايدة. والنتيجة: يبدو المسئولون السياسيون عاجزين عن تقدير التهديدات التي يُخَبِّئها لمستقبل البشرية هذا التسريع للعلوم التقنية[6]. إنهم، هنا أيضا، ينتقلون إلى الاعتماد على الخبراء غير المنتخبين الذين يوجهون في الظل القرارات الحكومية.
 
مستقبل البشرية
 
عند رؤيته من بعيد، يُغْوي كوكب الأرض بلونه الأزرق اللطيف، المرقط بسحب قطنية بيضاء، كما يغوي بانطباع الثراء والغنى الذي ينبعث منه. خضرة وافرة، حياة نباتية غزيرة، فيض من الحياة الحيوانية، وخلال الألفيات، سيطرت هذه الطبيعة السخية، الفردوسية، البالغة الحيوية، سيدة بلا منازع. والواقع أن الكائن البشري، منذ ظهوره، تغذى عليها، ومنذ وقت طويل عاش في تكافل مع أمنا الطبيعة.
غير أنه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والثورة الصناعية شرع الإنسان، باسم التقدم والتنمية، في التدمير المنهجي للبيئات الطبيعية. وتتابعت عمليات النهب والتدمير من كل نوع، التي حلّت بالتربة، والمياه، والغلاف الجوي للأرض. الحضرنة الجامحة، وإزالة الغابات المدارية، وتلوث البحار والأنهار، واحترار المناخ، وإفقار طبقة الأوزون، والأمطار الحمضية؛ والتلوث الناتج عن التأثيرات التي تهدد من الآن مستقبل كوكبنا بالخطر.
وفضلا عن هذا، يملك الإنسان من الآن فصاعدا القدرة على تعديل نفسه چينيًّا génétiquement. وتتسارع المغامرة العلمية، وتسمح باستشراف اللحظة التي يصير فيها استنساخ النوع البشري، بالنسبة للبعض، مرتقبا. ودون أن يتم إلى الآن، لا على المستوى الدولي ولا حتى على المستوى القومي، وضع الحدود التي لا يجوز عبورها. والحقيقة أن قضية دولي Dolly، هذه النعجة المستنسخة، التي صارت اليوم بالغة، قدمت الدليل على هذا، في ربيع 1997، لكل أولئك الذين كانوا يشكون فيه.
ومن جهة أخرى، فإن وصول منتجات مثل الذرة أو الصويا المعالجة چينيًّا إلى السوق الأوروپية يطرح أسئلة عديدة بخصوص الأخطار التي تجلبها معها: لمن ولأيّ هدف، جرى ابتكار الكائنات الحية المعدلة چينيًّا organismes génétiquement modifiés (OGM)؟ فهل كانت هذه السلعة ضرورية؟ وهل هي معقولة؟
وفي عام 2003، يمكن أن يواجه نصف سكان العالم أزمات نقص في مياه الشرب. وفي عام 2010، سيكون الغلاف الغابي للكرة الأرضية قد تقلص بأكثر من 40٪ بالمقارنة مع 1990. وفى 2025، يمكن أن يبلغ عدد سكان العالم 7.5 إلى 9.5 مليار نسمة مقابل 6مليارات اليوم. وفي 2040، يمكن أن يكون تراكم انبعاثات غازات الدفيئة (= غازات الاحتباس الحراري) قد أدى إلى ارتفاع يبلغ 1° مئوية إلى 2° درجة مئوية في متوسط درجة حرارة الكوكب، وإلى ارتفاع يبلغ 0.2 إلى 1.5 متر في منسوب مياه المحيطات.
وعلى البلدان الصناعية - التي يقوم رخاؤها جزئيا على نزعة إنتاجوية productivisme مفرطة وعلى استغلال مفرط للبيئة -، وأيضا على البلدان النامية، أن تبحث بسرعة عن وسائل تلبية حاجات الحاضر دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على إشباع حاجاتها الخاصة.
 
كوارث إيكولوچية
 
ما هي الرهانات الرئيسية التي تواجهها البشرية في هذه البداية للقرن الحادي والعشرين؟ تفادي انحرافات علم صار إلى حد كبير علما تقنيًّا، ومتزايد القرب من السوق؛ خفض التلوثات ومكافحة التغير المناخي العالمي؛ حماية التنوع البيولوچي ووقف استنفاد الموارد؛ كبح جماح تحات التربة والتصحر؛ العثور على وسائل لإطعام 8 إلى 10 مليارات من الكائنات البشرية.
والنزعة الإنتاجوية المفرطة هي المسئولة الأولى عن التدمير الراهن. ويشغل اتساع نطاق الكوارث الإيكولوچية والمشكلات التي تطرحها مواطني العالم بصورة متزايدة. ويخلق اختفاء أنواع عديدة من الحياة الحيوانية والنباتية اختلالات مثيرة للقلق. وتغدو حماية التنوع البيولوچي، أيْ تنوع الحياة، عن طريق التنمية المستدامة، أمرا إلزاميا. وتطرح مشكلة حماية البيئة سؤال بقاء الجنس البشري.
ويؤدي تدهور البيئة إلى عواقب على المدى الطويل، ويمكن أن تكون آثاره غير قابلة للإصلاح. مثال: سوف يستغرق الأمر قرونا عديدة، بل حتى ألفيات، لكي تفقد بعض النفايات النووية نشاطها الإشعاعي. إن العالم ينهار تحت الفضلات. وعلى مستوى الكوكب، تصل كمية المخلفات كل عام، إلى أكثر من 2 مليار طن من النفايات الصناعية الصلبة وحوالي 350 مليون طن من الفضلات الخطرة - وينبغي أن نضيف إليها 7 آلاف طن من المنتجات النووية التي لا نعرف دائما كيف يمكن أن نتخلص منها. والحقيقة أن بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مسئولة عن 90٪ من إنتاج هذه المنتجات الخطرة.
والهموم المتعلقة بحماية الطبيعة قديمة جدا: كتابات المهندسين الزراعيين اللاتينيين حول المحافظة على التربة؛ منذ القرن الثالث، النظم واللوائح الأولى الرامية إلى حماية الغابات من استصلاح زراعي واسع النطاق مرتبط بالتوسع الديموجرافي. غير أنه إنما في بداية القرن العشرين اتخذ الفكر الإيكولوچي صورته الحديثة.
وفي عام 1910، قام الكيميائي السويدي سڤانت أرينيوس Svante Arrhenius لأول مرة بصياغة فرضية الاحترار المناخي الكوكبي المرتبط بالتراكم المتزايد في الغلاف الجوي للغازات الصناعية. وهناك روّاد مثل، في 1926، البيولوچي ڤلاديمير ڤيرنادسكي Vladimir Vernadsky، ثم، في الخمسينات، اقتصاديون مثل كينيث بولدنج Kenneth Boulding، اهتموا بتأثير الأنشطة البشرية على البيئة.
ومنذ السبعينات، بدأ الرأي العام يصاب بالقلق إزاء النتائج المتوقعة على المدى الطويل لتوسع اقتصادي وديموجرافي سريع. وهناك أعمال مثل نحن لا نملك سوى أرض واحدة Nous n’avons qu’une terre (B. Ward, 1964)، و، في 1972، تقرير كفى تنمية Halte à la croissance، لنادي روما، غذت الخوف من كارثة إيكولوچية كبرى ترتبط بالانفجار السكاني، والتلوث، واستنفاد الموارد الطبيعية.
وقد حاول مؤتمر استوكهولم في 1972، ثم إستراتيچية المحافظة على العالم World Conservation Strategy (UICN, 1980)، تحديد السمات المميزة لنمط تنمية مستدامة تراعي البيئة. وبعد اختفاء لفترة أثناء أعوام الأزمة، عادت فكرة "التنمية المستدامة" أو "التنمية الإيكولوچية" إلى صدارة المشهد في 1987 مع نشر تقرير الأمم المتحدة مستقبلنا المشترك Our Common Future (“Notre futur commun”).
 
أزمات نقص مياه الشرب
 
في القرن السادس عشر، كان يعيش 450 مليون فرد على الأرض. وبلغ عددهم 1.5 مليار في 1900. وزاد مليارا آخر في 1950. واليوم، ينمو عدد سكان الكوكب بمعدل لم يسبق له مثيل. وتحمل الأرض 6.3 مليار فرد. ومن المحتمل أن يستقر هذا الرقم حول 10 مليارات حوالي عام 2050. وفي 2001، وُلد 95٪ من القادمين الجدد على الكوكب في البلدان الأقل تطورا.
ولو كان كل البشر على الأرض ينعمون بمستوى معيشة السويسريين، لكان بمستطاع الكوكب أن يُلبي بالكاد حاجات 600 مليون شخص. ولو قبلوا، على النقيض، بأن يعيشوا مثل الفلاحين البنغاليين، لكان بالمستطاع إعالة من 18 إلى 20 مليار شخص. ومنذ عقد مضى، كان 100 مليون شخص يعانون من نقص في الأخشاب اللازمة لطهو وجبتين في اليوم، والآن صار 1.5 مليار من الكائنات البشرية مهددين بنقص أخشاب التدفئة. ويُقَدَّر أن 800 مليون شخص يعانون سوء التغذية.
ونقص مياه الشرب على الكوكب مثير للقلق كذلك. والماء يشكل، في كل الأحوال، دافعا من دوافع التوترات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تصير ذات يوم بالغة الخطورة. وشمال أفريقيا والشرق الأوسط هما الأكثر تأثرا. ووفقا لإسقاطات الخبراء فإن نصيب الفرد من موارد المياه سوف يتقلص بنسبة 80٪ على مدى حياة بشرية. وبين 1960 و2025، سيكون قد تقلص من 3 آلاف و430 متر مكعب إلى 667 متر مكعب. ويُحَدَّد خط الخطر ﺒ 2000 متر مكعب للشخص. 
وتضغط تهديدات عديدة على المياه العذبة. أولا، يؤدي تحويل مجرى الأنهار من أجل الزراعة إلى تجفيف المناطق الواقعة في اتجاه المصبّ. وهذا هو السبب في أن بحيرة آرال، في الاتحاد السوڤييتي السابق، التي انخفض سطحها بنسبة 40٪ بين 1960 و1989، تتحول بالتدريج إلى صحراء مالحة. وعلاوة على هذا فإن بناء السدود، سواء تلك التي تستهدف الري أو الإنتاج الهيدروكهربائي، يغرق مناطق بأكملها، ويُخلّ بنظام هجرات الأسماك، ويمكن أن يُحدث فيضانات في اتجاه المصبّ. وترجع هذه الفيضانات أيضا إلى التصحر، الذي يُحَمِّل الأنهار أتربة وبقايا الغابات. وبسبب كل هذه المشكلات، صارت السيطرة على الأنهار موضوعا لصراعات متزايدة بين الشعوب. وهناك شاغل آخر كبير: مخلفات الزراعة والصناعة، وكذلك عدم معالجة المياه المستعملة. وعلى هذا النحو، صار نهر الدانوب ضحية تلوثات عديدة، وبصورة خاصة في ألمانيا حيث يوجد منبعه.
وتحملنا مؤشرات عديدة على الاعتقاد أن المياه في سبيلها إلى أن تصير شيئا نفيسا نادرا. ولا شك في أن التوترات التي تثيرها هنا أو هناك ليست سوى علامات تنذر بتصدعات أعمق. والماء العذب رهان لا يُنكر من رهانات القرن الحادي والعشرين، إلا إذا جرى التوصل، في العقد القادم، إلى طريقة أقل تكلفة لإزالة ملوحة مياه البحر... غير أنه حتى وإنْ       بدرجة أقل، فإن البحار والمحيطات ستصير رهانات من نفس النوع. كما أن ندرة موارد صيد الأسماك تشكل بالفعل مصدرا لنزاعات متعددة. وفي المستقبل فإن تلوث مياه بحار بعينها، بدءًا بالبحر الأبيض المتوسط، هو الذي يمكن أن يؤدي إلى المواجهة بين البلدان المشاطئة.
وقد صدّق مؤتمر برلين حول المناخات، في أبريل 1995، على فكرة أن السوق ليست على مستوى الاستجابة للأخطار العالمية التي تهدد البيئة. وأوضح مؤتمر كيوتو، في نوڤمبر 1997، أن تأثير الدفيئة (الاحتباس الحراري) يمكن أن تكون له آثار كارثية على المدى الطويل. وهذا ليس يقينا غير أننا، إذا انتظرنا إلى أن نحصل على حقائق علمية يقينية (أو أشباه حقائق يقينية)، فإن أوان العمل سيكون قد فات. ويمكن في ذلك الحين أن يكون ارتفاع منسوب المحيطات قد أحدث بالفعل أضرارا لا سبيل إلى إصلاحها ومن المحتمل أن تكون مناطق بأكملها قد تصحرت.
ونتيجة للتصحر، يختفي 6 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية كل عام. وفي كل مكان على الأرض، فإن التحات، والاستغلال المفرط، والرعي المفرط، تقضم بمعدل متسارع مساحة الأرض الزراعية. وبالتالي فإن المناطق القاحلة وشبه القاحلة تتحول إلى صحارى. إن الأرض لم تعد تطعم سكان هذه المناطق. وتقلّ كثافة الحياة الحيوانية والنباتية.
 
موت الأشجار
 
في بداية التسعينات كانت مساحة 141 مليون كيلومتر مربع من الغابات (ما يعادل مساحة فرنسا 28 مرة) قد تحولت بالفعل إلى صحارى، وكانت مساحة أكثر من 30 مليون كيلومتر مربع مهددة. وكان من الممكن عرقلة هذه الظاهرة بوضع حد لاستصلاح الأراضي، وللزراعات على أرض هشة، ولفرط الرعي. وقد قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتقييم خطة عمل بتكلفة 141 مليار دولار، أي أكثر من 107 مليار يورو!
وقد أصيبت التوازنات الإيكولوچية للكوكب بصورة جوهرية بالهشاشة نتيجة للتلوث الصناعي لبلدان الشمال، ولكن أيضا إقليميا، بفقر بلدان الجنوب، وهذا لا يعني القول إن الحدود المادية القصوى للإنتاج ولعدد السكان قد تم الوصول إليها على الكوكب. إنه يعني أن شروطا اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، عبثية تجعل الكائنات البشرية ما تزال تموت من الجوع.
ووفقا لمصادر أخرى، يختفي ما بين 10 و17 مليون هكتار من الغابات كل عام. مساحة سويسرا أربع مرات. وكل عام يُمْحَى من الكوكب إلى الأبد 6 آلاف نوع حيواني. وبصورة موازية، يؤدي اختفاء الغلاف النباتي إلى تسارع التحات على ملايين الهكتارات. وتنبعث من استصلاح الأراضي بإحراق الأشجار كميات كبيرة من الغاز الكربوني إلى الغلاف الجوي. ولم تعد هناك الأشجار لتمتص الفوائض منه. والنتيجة: تمثل إزالة الغابات أحد الأسباب الرئيسية وراء تأثير الدفيئة (الاحتباس الحراري).
والغابات الأكثر تأثرا هي الغابات المدارية، التي تفقد 1.5 إلى 2٪ من سطحها كل عام. وعلى هذا النحو، ففي إندونيسيا، اختفت نسبة 80٪ تقريبا من الغابة الرطبة لجزيرة سومطرة منذ السبعينات. وفي بورنيو، تضاعف تقريبا عدد الأشجار المقطوعة خلال ستة عشر عاما. ويتمثل الأصل الرئيسي لهذه التدميرات في النمو السريع للسكان الذين يستخدمون الخشب كوقود للمطبخ والأراضي للزراعة. والاستغلال الغابي الموجه إلى البلدان الغنية مسئول عن 20٪ من حالات قطع الأشجار التي تتم في العالم الثالث. وتدمر إزالة الغابات ثروة بيولوچية فريدة: الغابات المدارية الرطبة تؤوي بالفعل 70٪ من الأنواع التي شملها الحصر على كوكبنا. ولا شك في أن التجارة العالمية تؤدي إلى تسارع تدهور التربات وإزالة الغابات.
ويواصل مفهوم "التنمية المستدامة" التطور. والفكرة العامة بسيطة: التنمية مستدامة إذا ورثت الأجيال المقبلة بيئة ذات نوعية مساوية على الأقل للبيئة التي تلقتها الأجيال السابقة. ويمكن أن نتساءل مع هذا عما إذا كان المنطق الراهن للتنمية، التي يقوم أساسها على السوق، يتوافق بالفعل مع الاستدامة.
ونموذج الزراعة في أوروپا الغربية مليء بالعبر بهذا الخصوص. فباسم النزعة الإنتاجوية، صار كثير من الفلاحين ضروبا من رجال الصناعة الذين لم يعودوا يحتفظون بأيّ علاقة مباشرة مع الطبيعة حيث يمكن أن تستغني تربية الحيوانات والزراعة من الآن عن التربة. وهذا القطع لصلة موروثة فتح الطريق أمام كل التعديات، وبصورة خاصة أمام "تشييئ" chosification الحيوان، وأمام تحويل آكلات العشب إلى آكلات لحوم، مستهلكة رغم أنفها لأجسام حيوانات من نفس نوعها، سواء أكانت سليمة أو ملوّثة بالعدوى. وهذا الإفساد للسلسلة الغذائية الطبيعية، باسم تحرير الاقتصاد والعقائد الليبرالية، والذي تفاقم نتيجة تراخي الرقابات الصحية للسلطات، سمح بظهور المرض المسمى ﺒ "البقرة المجنونة" la vache folle ["جنون البقر"] الذي ينشر في القارة العجوز le Vieux Continent ["أوروپا"] وفي أماكن أخرى "خوفا كبيرا" جديدا.
وخلال العشرة أعوام الآتية، من المحتمل أن تلعب على الكوكب ديناميكيتان متعاكستان دورا حاسما. من جهة، مصالح الشركات الكبرى المعولمة mondialisées، مدفوعة بشواغل مالية، سوف تستفيد من العلم التقني بروح ربحية خالصة. ومن جهة أخرى، طموح إلى الأخلاق، إلى المسئولية، إلى تنمية أكثر إنصافا تأخذ في اعتبارها مقتضيات البيئة، هذه المقتضيات الحيوية بلا شك بالنسبة لمستقبل البشرية.
 
التكنولوچيا الفائقة
 
وتضاف، إلى هذا، الثورة المعلوماتية التي قامت بتفكيك المجتمع المعاصر؛ فقد قلبت أوضاع حركة السلع وعززت توسع الاقتصاد المعلوماتي والعولمة. وإذا كانت العولمة لم تقم بعد بجعل كل بلدان العالم تنقلب إلى مجتمع واحد، إلا أنها تدفع إلى تحويل الجميع إلى نموذج اقتصادي واحد وحيد عن طريق ربط أجزاء الكوكب في شبكة واحدة. لقد خلقت نوعا من العلاقة الاجتماعية الليبرالية التي تشكلها بالكامل شبكات، ومزقت البشرية إلى أفراد معزولين بعضهم عن بعضهم الآخر في عالم تكنولوچي فائق.
والنتيجة المنطقية: جرى رفع منطق القدرة التنافسية إلى مستوى واجب طبيعي إلزامي للمجتمع. ويقود هذا المنطق إلى فقدان معنى "العيش معا" و"المنفعة المشتركة". ذلك أن إعادة توزيع مكاسب الإنتاجية تعمل لصالح رأس المال وعلى حساب العمل، وبالتالي فإن أشكال اللامساواة تتعمق. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يملك 1٪ من السكان 39٪ من ثروة البلاد... ويُنظر إلى تكلفة التضامن على أنها لا تطاق، ويجري هدم صرح دولة الرفاهية[7].
وأمام الطابع العنيف والمباغت لكل هذه التغيرات، تضيع المعالم، وتتراكم الشكوك، ويبدو العالم معتما، ويظهر أن التاريخ يفلت من كل سيطرة. ويجد المواطنون أنفسهم في قلب الأزمة، بالمعنى الذي أعطاه أنطونيو جرامشي Antonio Gramsci لهذا التعبير: "عندما يموت القديم، ويتردد الجديد في الظهور". أو، كما قال توكڤيل Tocqueville، "عندما، لا يعود الماضي ينير المستقبل، يخوض العقل في الظلمات".
 
يمين بدون بوصلة
 
في فرنسا، اشتدت حدة الأزمة السياسية في هذه الأعوام الأخيرة، خاصة بسبب المواقف المشينة التي اتخذتها تكوينات سياسية بعينها. وعلى هذا النحو، على سبيل المثال، عندما قبل قادة الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية l’Union pour la démocratie Française (UDF)، في 20 مارس 1998، أصوات المنتخَبين الفاشيين الجدد من الجبهة القومية Front national (FN) من أجل انتخابهم لرئاسة الأقاليم الخمسة لفرنسا. لقد كشف هذا، بطريقة مروّعة، حالة التفسخ العميق لمجموع اليمين، بما في ذلك، التجمع من أجل الجمهورية Rassemblement pour la République (RPR).
ومنذ تغيُّر اتجاه چاك شيراك Jacque Chirac في أكتوبر 1995، عندما تنكر، بعد انتخابه لرئاسة الجمهورية بخمسة أشهر، للبرنامج الذي جرى انتخابه على أساسه (والقائم على الحقيقة الواقعة المتمثلة في "الفصل الاجتماعي") وتبنَّى سياسة ليبرالية متطرفة (راديكالية) ultralibérale، شهدنا اليمين الفرنسي في حالة فوضى، بدون بوصلة، بدون مذهب، بدون هوية. كما أن الإخفاق في الانتخابات التشريعية في مايو 1997، بعد قرار رئيس الدولة بحلّ البرلمان، أضاف إلى هذا ضياع الثقة في القادة وانهيار الأجهزة. وبدون زعماء، بدون تنظيم ولا برنامج، اندفع اليمين الهلاميّ من ثم في مشروع مثير للشفقة ﻠ "إعادة التأسيس".
فهل كان مثل هذا الاضطراب الضخم غير قابل للتوقع سلفا؟ لا، لأننا لو ألححنا كثيرا على الصدمة التي أحدثتها في اليسار التطورات الثلاثة في نهاية الثمانينات (سقوط سور برلين، وحرب الخليج، وانفجار الاتحاد السوڤييتي من الداخل) هذه التطورات التي تمثل علامات على نهاية الحرب الباردة (1948-1989) ونهاية فترة ما بعد الحرب (1945-1992)، فإننا لا نكون قد شددنا بما فيه الكفاية على المدى الذي قامت به هذه النهاية للدورة التاريخية، في كل مكان، بترك اليمين، بصورة مفارقة، مضطربا وفاقدا للاتجاه. وهل من المصادفة أنه، في إيطاليا وفي ألمانيا، تطايرت الديمقراطية المسيحية إلى شظايا؟ أو أن المحافظين البريطانيين أصيبوا بالهزيمة الأكثر مرارة في تاريخهم في 1997؟
وإذا أضفنا إلى هذه الصدمات النتائج التراكمية لثلاثة تحولات كبرى معاصرة: التكنولوچي (المعلوماتية والرقمية)، والاقتصادي (العولمة وإضفاء الطابع المالي financiarisation)، والسوسيولوچي (الإقصاءات الجماعية، أزمات الهوية، تحول السلطة)، فإن انقلابات الأوضاع هذه كانت بحيث أن اليمين التقليدي، في نفس الوقت الذي يتباهى فيه بالعولمة، وجد نفسه (بنفس الطريقة كاليسار) مذهولا، عاجزا عن طرح آفاق جديدة.
وفضلا عن هذا فإن هذه التحولات، وكذلك الأزمة الاقتصادية والسياسات المتعلقة ببناء أوروپا الليبرالية، أفضت إلى انفجار مختلف أشكال اللامساواة وظهور آفات اجتماعية مثل البطالة والفقر الجماعي. وبصورة طبيعية تماما، تتضاعف صور العنف الاجتماعي، وتتفاقم مختلف صور الإجرام، ويشعر المواطنون بأن السلطة السياسية المتهمة بالإثراء السريع والفساد قد تخلت عنهم، وتشتد حدة الإحساس العام بعدم الأمن.
 
الفاشيات الجديدة
 
في هذا السياق الاقتصادي وعلى هذه التربة الاجتماعية الملائمة، التي خلقتها المخاوف والاضطرابات، تشهد الأحزاب التي تنبثق عن التيار الفاشي ازدهارا كبيرا. "من أصل 380 مليون شخص يضمهم على وجه التقريب الاتحاد الأوروپي - عندما نضيف إلى الخمسة عشر بلدا عضوا، وعلى أساس مجموعة كاملة من الأسباب الوجيهة، النرويج وسويسرا - فإن 8.5٪ صوتوا لصالح نوع من أنواع اليمين المتطرف. على أنه حتى إذا لم يكن هذا الرقم مرتفعا جدا فإنه يخفى تباينات هائلة على المستوى الوطني. [...] وعلى هذا النحو، سجلت سويسرا، وإيطاليا، والنمسا، نفس النسبة المئوية للأصوات التي في صالح اليمين المتطرف: حوالي 25٪. ثم تأتي النرويج، وفرنسا، وإقليم الفلاندر، بحوالي 15٪ من الأصوات"[8].
وفي الدانمارك، حصل حزب الشعب الداني Parti du peuple danois (DPF) (حزب يميني متطرف شديد الكراهية للأجانب) في الانتخابات التشريعية في 20 نوڤمبر 2001، على 12٪ من الأصوات و22 نائبا.
وفي فرنسا، تطرح الجبهة القومية بقيادة چان-ماري لو پان Jean-Marie Le Pen، وكذلك الحركة القومية الجمهورية Le Mouvment national républicain (MNR) بقيادة برونو ميجريه Bruno Mégret، عبادة الدم والأرض، واستعادة الأمة (بالمعنى الإثني للكلمة)، وإقامة نظام سلطوي تحت ذريعة النضال ضد انعدام الأمن، والخفض الشديد للضريبة على الدخل، والعودة إلى الحمائية الاقتصادية، وإعادة النساء إلى البيت، وطرد 3 ملايين من الأجانب لتحرير وظائف العمل المخصصة للفرنسيين. ووفقا لأحد الأبحاث فإن: "أكثر من فرنسي من كل أربعة قد يتفق مع أفكار الجبهة القومية"[9].
وباعتبارهما وريثين للپيتانية pétainisme وللتعاون [مع الألمان]، كما تغذيا على إحساس بمشاعر الحنين إلى الجزائر الفرنسية، لم يكفّ هذان الحزبان (غير الناشئين عن المقاومة Résistance)، رغم بعض الاحتياطات المظهرية، عن إعلان عنصريتهما، وكراهيتهما العميقة للأجانب، ومعاداتهما للسامية. وهما يجسدان النفي ذاته لقيم الجمهورية. غير أنهما، على العكس من أغلب التكوينات السياسية الأخرى، حزبان بين-طبقيَّين interclassistes، ففي صفوفهما يتلاقى برچوازيون وپروليتاريون، أصحاب عمل صغار وعاطلون عن العمل[10]. وهما يظلان موجودين في العديد من الأحياء الصعبة، حيث يقدمان الدفء والتضامن لأشخاص في ضائقة؛ ويبدي مناضلوهما في كثير من الأحيان التفاني وإنكار الذات اللذين كانا يميزان منذ عهد قريب المناضلين الشيوعيين[11]. وهذا هو السبب في أن مرشحيهما يفوزون بنسبة مئوية كبيرة من الأصوات الشعبية في مختلف الانتخابات، وفي بعض الأقاليم (پروڤانس-ألپ-كوت دازور، الألزاس) لا يكف نفوذهم عن التعاظم.
وفي ديسمبر 2001، رغم فترة حذرة قبل الحملة الانتخابية، منحت استطلاعات الرأي نسبة 11٪ من نوايا التصويت لصالح چان-ماري لو پان في الانتخابات الرئاسية في مايو 2002، وجعلت منه، مع چان-پيير شيڤينمان Jean-Pierre Chevènement، أفضل مرشح ثالث في هذه الانتخابات. وفيما يتعلق ﺒ برونو ميجريه، فقد منحته أبحاث الرأي ما بين 1٪ و3٪ من نوايا التصويت. وعلى وجه الإجمال، حصل المرشحون الفاشيون الجدد، في نوايا التصويت، على نتيجة 15٪ المذهلة للغاية (أيْ تقريبا ناخب من كل ستة!)، وهو ما يعادل ما حصل عليه اليمين المتطرف، قبل ذلك بعدة أشهر، بمناسبة انتخابات المقاطعات[12].
بل إن ناخبين معتادين لليسار يصوتون لهذه الأحزاب الفاشية الجديدة، كما أن مناضلين قادمين من اليمين التقليدي لم يعودوا يترددون عن الانضمام إليها. وقد أظهرت بعض الدراسات أن 1٪ فقط من كوادر الجبهة القومية يأتون من اليمين المتطرف، على حين يأتي 40٪ من "حركات ديجولية"[13]. ومن الآن فإن هناك شخصيات سياسية تسعى بصورة مكشوفة إلى دعم الفاشيين الجدد، مؤكدين (وهذه نتيجة مشئومة لأطروحات فرانسوا فوريه François Furet و الكتاب الأسود للشيوعية Liver noir du communisme ﻠ ستيفان كورتوا Stéphane Courtois وآخرين) أن الحزب الاشتراكي قد قبل بالفعل التحالف مع الحزب الشيوعي. وكان بوسع ميشيل پونياتوڤسكي Michel Poniatovski، على سبيل المثال، أن يؤكد: "أن نقبل أصوات الشيوعيين الذين اغتالوا ملايين الناس في أوروپا أكثر لا أخلاقية من أن نقبل أصوات الجبهة القومية"[14].
وقد قاد هذا النوع من التفكير، في ألمانيا في بداية الثلاثينات، أحزاب اليمين التقليدي إلى أن يرحبوا كحليف بالحزب القومي الاشتراكي (النازي) الذي قدم نفسه تحت مظاهره الأكثر إغراء[15]. ونعرف ما حدث نتيجة لهذا لأحزاب اليمين، وللديمقراطية.
وفي إيطاليا، لم يتردد سيلڤيو بيرلوسكوني Silvio Berlusconi الذي كان يحظى في السابق برعاية الحزب الاشتراكي وكان صديقا لرئيسه السابق، بيتينو كراكسي Bettino Craxi، مرتين، في 1994 وفي 2001، عن التحالف مع الحزب ما بعد الفاشي postfaciste، التحالف القومي Alliance national، والحزب العميق الكراهية للأجانب، عصبة الشمال la Ligue du Nord، لكي يفوز في الانتخابات التشريعية.
وفضلا عن هذا، ومهما كانت الاستفتاءات الانتخابية، يتزايد الامتناع عن التصويت، وكذلك التصويت الفارغ، وعدم التسجيل على القوائم الانتخابية. وفي فرنسا، لم يسجل نفسه شاب من كل ثلاثة من الشبان الأقل من 25 عاما في عشية الانتخابات الرئاسية في مايو 2002؛ ولم يتجاوز عدد المناضلين السياسيين 2٪ من الناخبين، وينتمي 8٪ فقط من العاملين بأجر إلى نقابة (وهذان الرقمان الأخيران هما الأقل في كل العالم الغربي).
 
شلل اليسار
 
في اليسار، لم يعد للحزب الشيوعي هوية سياسية، بل فقد إلى حد كبير هويته الاجتماعية. وفيما يتعلق بالحزب الاشتراكي، فإنه لم يعد يضم من الناحية العملية كوادر آتين من الشرائح الشعبية.
والاشتراكية، التي كانت أسطورة من الأساطير الكبرى الموحدة للبشرية، خانها أيضا القادة الاشتراكيون-الديمقراطيون الأوروپيون. وبالفعل فإن استقالة أوسكار لافونتين Oskar Lafontaine، وزير المالية الألماني من منصبه، في 12 مارس 1999، أوضحت بطريقة درامية الشلل الاشتراكي-الديمقراطي وعجز هذا التيار السياسي عن طرح حل لتبديل الهيمنة الليبرالية الجديدة. فمن الآن، تبدو، في نظرها، حتى الكينزية Keynésianisme، التي سمحت في الثلاثينات للرئيس الأمريكي فرانكلين روزڤلت Franklin Roosevelt بالنهوض بأمريكا التي ضربتها الأزمة آنذاك، يسارية أكثر مما ينبغي...
وقد أخذ على أوسكار لافونتين رفاقه الاشتراكيون أنفسهم أنه ارتكب خمسة انتهاكات للمقدسات: الرغبة في سياسة إنعاش أوروپي، وتزكية نظام مالي (ضريبي) أكثر إنصافا، ونقد البنك المركزي الأوروپي، والمطالبة بإصلاحٍ للنظام النقدي العالمي، وطلبه، في الماضي، من اﻠ بوندس بنك Bundesbank خفض أسعار فائدته لجعل الائتمان أرخص بهدف حفز الاستهلاك ومكافحة البطالة...
وهناك مثل آخر على التخلي الفكري للاشتراكية-الديمقراطية قدمته لنا حرب كوسوڤو، التي بدأت في 23 مارس 1999. ونتذكر أن خابيير سولانا Javier Solana، الذي كان في ذلك الحين أمينا عاما لحلف الأطلنطي، هو الذي أعلن قرار وضع نهاية للمفاوضات مع نظام بلجراد وبدء قصف صربيا.
وخابيير سولانا، هو نفسه قائد تاريخي للحزب الاشتراكي العمالي الإسپاني Parti socialiste ouvrier espagnol (PSOE)، وقد استطاع أن يعتمد، من أجل حرب كوسوڤو هذه، على الدعم الرئيسي من جانب جرهارد شرويدر Gerhard Schröder، وليونيل چوسپان Lionel Jospin، وماسيمو داليما Massimo D’Alema، وأنتوني بلير Anthony Blair، الذين كانوا في ذلك الحين بالترتيب رؤساء حكومات ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة. وهؤلاء الأربعة كلهم، أعضاء بارزون في الاشتراكية-الديمقراطية الأوروپية. وقد قبلوا جميعا، للخروج من مأزق مفاوضات السلام في رامبوييه، الطريق العسكري الذي طرحته واشنطن باعتباره "الحل الوحيد"، مع أن الجميع كانوا يعرفون أن اللجوء إلى حلف الأطلنطي وقصف صربيا كان لا مناص من أن يؤدي إلى موت الكثير من المدنيين الأبرياء وتدمير بلد بكامله دون أن يتم بذلك تفادي اتساع نطاق الصراعات في البلقان، كما أثبتت حرب مقدونيا في عام 2001.
كيف استطاع القادة الاشتراكيون-الديمقراطيون، ورثة چان چوريس Jean Jaurès، وتراث طويل من احترام الشرعية الدولية، في هذه المرحلة، أن يخضعوا لضغوط واشنطن وأن يتورطوا في المغامرة الحربية في كوسوڤو في 1999 دون أدنى شرعية دولية؟ ذلك أنه ما من قرار للأمم المتحدة بشأن هذه المنطقة فوَّض صراحةً باللجوء إلى القوة. ومجلس الأمن، الهيئة العليا للكوكب فيما يتعلق بالصراع، لم يُعرض عليه الأمر قبل بدء القصف الأول، ولم يمنح بالتالي موافقته على استخدام السلاح ضد صربيا.
وأخيرا، في ساعة الذهاب إلى الحرب، لم يفكر أيّ من هؤلاء القادة الاشتراكيين-الديمقراطيين في عرض موقفه أمام برلمانه ولا، من باب أولى، أن يطلب منه التفويض بإشراك القوات المسلحة الوطنية في هذا الصراع.
فكيف لا نرى، في هذه الأمثلة، علامات إضافية على الانهيار الأيديولوچي للاشتراكية-الديمقراطية وتحوُّلها إلى اشتراكية-ليبرالية؟ ومبحرة بلا أدوات، ومحاصرة بالإلحاح والجوار، تظل الاشتراكية-الديمقراطية بدون بوصلة ومحرومة تماما من أساس نظري (على الأقل إذا سمينا بالنظرية هذه القوائم من التنازلات والتبرؤات التي يمثلها الطريق الثالث La Troisième Voie، ﻠ أنتونى چيدنز Anthony Giddens، مستشار السيد بلير، والخيار الأفضل Le Bon Choix، ﻠ بودو هومباخ Bodo Hombach، ملهم السيد شرويدر...).
 
اليمين الحديث
 
في نظر الاشتراكية-الديمقراطية، التي تحكم بلا شريك في بلدان كبرى عديدة، يمكن القول إن السياسة، هي الاقتصاد؛ والاقتصاد، هو المال؛ والمال، هو الأسواق. وهذا هو السبب في أنها تبذل قصارى جهدها من أجل تشجيع الخصخصات، وتفكيك القطاع العام، والتجمعات، واندماجات الشركات العملاقة. والحقيقة أن الاشتراكية-الديمقراطية، حتى إذا كانت تسن هنا أو هناك قوانين اجتماعية مهمة[16]، قد قبلت، من الناحية الجوهرية،  أن تتحول إلى اشتراكية-ليبرالية. فليس من الوارد أن تحدد لنفسها كأهداف ذات أولوية التوظيف الكامل أو القضاء على البؤس للرد على بؤس 18 مليونا بلا عمل و50 مليونا من الفقراء الذين يضمهم الاتحاد الأوروپي.
لقد كسبت الاشتراكية-الديمقراطية المعركة الفكرية بعد سقوط سور برلين، في 1989، وخسرتها الأحزاب المحافظة، وهي تستعد لمغادرة التاريخ كما كانت الأرستقراطية مضطرة إلى أن تفعل بعد 1789، أو الراديكالية بعد 1945. وفي الجدول السياسي، صار من المطلوب الآن إعادة اختراع اليسار، في حين أن مكان الامتثالية، والمحافظة، يعود الآن إلى الاشتراكية-الديمقراطية. إنها هي اليمين الجديد[17]. لقد قبلت، بخواء نظري وانتهازية، المهمة التاريخية المتمثلة في التأقلم النهائي مع الليبرالية الجديدة. وباسم "الواقعية"، فإنها لم تعد تريد أن تقلب وضع أيّ شيء. وبصورة خاصة النظام الاجتماعي.
 
الحاجة إلى يوتوپيا
 
بالنسبة لمواطنين كثيرين، يمكن القول إن الفكرة الليبرالية المتطرفة التي يغدو الغرب وفقا لها ناضجا للحياة في شروط حرية مطلقة، هي فكرة يوتوپية - وحتى عقائدية - مثل الطموح الثوري للمساواتية المطلقة. وهم يتساءلون عن كيفية التفكير في المستقبل. ويعبرون عن الحاجة إلى يوتوپيا أخرى، إلى عقلنة جديدة للعالم. كما أنهم ينتظرون نوعا من النبوة السياسية، مشروعا للتأمل في المستقبل، وعدا بمجتمع متصالح، في انسجام كامل مع نفسه.
ولكن هل يوجد مجال، اليوم، بين أطلال الحلم الاشتراكي وأنقاض مجتمعاتنا التي أعادت البربرية الليبرالية الجديدة هيكلتها، ليوتوپيا جديدة؟ إن هذا يبدو بصورة قبلية قليل الاحتمال، لأن الارتياب إزاء المشروعات السياسية الكبرى قد عَمَّ ولأننا نشهد، في الوقت ذاته، أزمة خطيرة للتمثيل السياسي، وعدم مصداقية هائلا للنخب التكنوقراطية والفكرية؛ وقطيعة عميقة بين وسائل الإعلام الكبرى وجمهورها.
وبطبيعة الحال يأمل كثير من المواطنين في إدخال ذرة من الإنسانية في الآلية الليبرالية الجديدة. وهم يسعون إلى مشاركة مسئولة، ويشعرون برغبة في العمل الجماعي. كما أنهم يرغبون بالطبع في مواجهة مسئولين محدَّدين بوضوح، بلحمهم ودمهم يبثونهم شكاواهم، وهمومهم، ومخاوفهم، وقلقهم، على حين صارت السلطة إلى حد ما مجردة، وغير مرئية، ولا شخصية، وهم يودون أن يصدقوا أن السياسة تملك الإجابة على كل شيء، في حين أنها تجد بصورة متزايدة مشقة في تقديم إجابات بسيطة وواضحة على المشكلات المعقدة للمجتمع.
ومع ذلك يشعر الجميع، كمتراس ضد موجة المدّ الليبرالي الجديد، بضرورة مشروع مضاد عالمي، وأيديولوچية مضادة، وصرح مفاهيمي قادر على معارضة النموذج السائد الراهن. وقلما يكون وضع هذا المشروع المضاد موضع التطبيق سهلا، لأننا ننطلق من حالة صفحة بيضاء تقريبا، حيث إن اليوتوپيات السابقة التي قامت على فكرة التقدم غرقت في أغلب الأحيان في السلطوية، والاضطهاد، وقمع الحريات، والتلاعب بالعقول.
ومرة أخرى، تلحّ على الحالمين الذين يفكرون والمفكرين الذين يحلمون، الحاجة إلى التوصل، ليس إلى مشروع مجتمعي محكم الربط ومحكم الحزم، ولكن إلى طريقة في رؤية وتحليل المجتمع تسمح في النهاية، عن طريق بنيان مفاهيمي جديد، بتحطيم الأيديولوچية الليبرالية.
 
ردّ المواطنين
 
بتشجيع التفتت والتجزئة، تخلق هذه الأيديولوچية مجتمعا أنانيا. وبالتالي يصير مما لا غنى عنه، كنتيجة، القيام بإعادة إدخال جماعية واعدة بالمستقبل[18]. ويمرّ العمل الجماعي من الآن فصاعدا بالجمعيات أكثر مما بالأحزاب والنقابات. وقد شهدنا من جهة أخرى في فرنسا، على مدى الأعوام السابقة، تضاعُف الجمعيات من "أتاك" Attac إلى حق المسكن Droit au logement (DAL)، من العمل معا ضد البطالة Agir ensemble contre le chômage (AC!) إلى جمعية التعليم المهني و الفني (آكت أب) (Act Up) Association for Career and Technical Education، مرورا بالفروع المحلية للمنظمات غير الحكومية الدولية الكبرى مثل السلام الأخضر، أو منظمة العفو الدولية، أو أطباء العالم Médecins du monde، أو الشفافية [الدولية] Transparency.
وتملك الأحزاب، بين أشياء أخرى، سمتين مميزتين تجعلانهما أقل مصداقية: فهي تعميمية (تنادي بتسوية كل مشكلات المجتمع) ومحلية (يقف تدخلها الأول عند حدود البلد). أما الجمعيات، بالمقابل، فلها صفتان مناظرتان ومعاكستان بالنسبة إلى سمتىْ الأحزاب: إنها مرتبطة بمجموعات موضوعات (تتصدى لمشكلة واحدة للمجتمع: السلطة المالية، البطالة، السكن، البيئة، إلخ.) وعبر حدودية (يمتدّ نطاق تدخّلها إلى كل الكوكب)[19].
وعلى مدى العقد السابق أدار هذان الالتزامان (الالتزام العالمي والالتزام الطارئ بشأن قضية محددة) ظهرهما إلى بعضهما البعض أحيانا. غير أنه يبدو أن حركة تقارب قد بدأت. والتقاؤهما لا غنى عنه، فهو يشكل أحد المعادلات التي ينبغي حلها لاستعادة ما هو سياسي le politique. لأنه إذا كانت الجمعيات تنشأ في القاعدة، شاهدة على ثراء المجتمع المدني، وتخفف من نواقص النقابية والأحزاب، فإنها ليست في بعض الأحيان سوى مجرد مجموعات ضغط وتفتقر إلى الشرعية الديمقراطية للانتخابات لكي تحقق بنجاح مطالبها. ويأخذ ما هو سياسي في لحظة أو أخرى دوره. وبالتالي فإن من الجوهري أن تقوم الصلة بين الجمعيات والأحزاب.
وتواصل هذه الجمعيات الاعتقاد أن من الممكن، بالاستناد إلى تصور راديكالي عن الديمقراطية، تحويل العالم. ولا شك في أنها تشكل مواقع إحياءٍ للعمل السياسي في أوروپا. ومن المحتمل جدا أن مناضليها، مُثْبتين صحة كلمات ڤيكتور هيجو Victor Hugo ("اليوتوپيا، إنها حقيقة الغد") L’utopie c’est la vérité de demain، وكلمات لامارتين Lamartine ("اليوتوپيات ليست سوى حقائق سابقة لأوانها") les utopies ne sont que des vérités prématurées، سوف يعاودون الظهور غدا تحت سماوات أخرى، وتحت رايات أخرى، وفي نضالات مدنية أخرى.
في سبيل إعادة تأسيس منظمة الأمم المتحدة في قلب نظام القانون الدولي، لتكون منظمة للأمم المتحدة قادرة على اتخاذ القرار، والعمل، وفرض مشروع للسلام الدائم؛ وفي سبيل تعزيز المحاكم الدولية التي سوف تحاكم على الجرائم ضد الإنسانية، وضد الديمقراطية، وضد المنفعة العامة؛ وفي سبيل إدانة التلاعبات الإعلامية بعقول الجماهير؛ وفي سبيل وضع حدّ للتمييز ضد النساء؛ وفي سبيل سَنّ قوانين جديدة ذات طابع إيكولوچي؛ وفي سبيل استعادة مبدأ التنمية المستدامة؛ وفي سبيل حظر وجود الملاذات الضريبية paradis fiscaux؛ وفي سبيل تشجيع اقتصاد تضامني، إلخ.
"في الدروب التي لم يطأها أحد تُجازف خطاك، في الأفكار التي لم يفكر فيها أحد يجازف رأسك"، كان بوسعنا أن نقرأ هذا على جدران مسرح الأوديون Odéon، في پاريس، في مايو 1968. وإذا أردنا أن نؤسس أخلاقيات للمستقبل فإن الوضع الراهن يدعو إلى أعمال جسورة مماثلة.
 
 
 
 
 
 
 
11 سپتمبر 2001
 
الحرب العالمية ضد الإرهاب
 
كان ذلك في 11 سپتمبر. بعد أن قام طيارون عاقدو العزم على كل شيء بتحويلها عن مهمتها العادية، أسرعت الطائرات إلى قلب المدينة الكبيرة، عازمة على ضرب رموز نظام سياسي بغيض. وبسرعة بالغة: الانفجارات، الواجهات التي تتطاير شظايا، الانهيارات بفرقعة جهنمية، الناجون يجري إخلاؤهم، هاربين تغطيهم الأنقاض. ووسائل الإعلام التي تبث المأساة بثا مباشرا...
نيويورك 2001؟ لا سانتياجو عاصمة تشيلي، 11 سپتمبر 1973. بتواطؤ مع الولايات المتحدة، انقلاب الچنرال پينوتشيت ضد الاشتراكي سلبادور أليندي، وقيام القوات الجوية بدكّ القصر الرئاسي. مئات القتلى وبداية نظام للإرهاب دام طوال خمسة عشر عاما...
وفيما وراء التعاطف المشروع مع ضحايا الهجمات الشنيعة على نيويورك، كيف لا نعترف بأن الولايات المتحدة، ذاتها، ليست - ليس أكثر من كل بلد آخر - بلدا بريئا؟ ألم تشارك في أعمال سياسية عنيفة، وغير قانونية، وفي أكثر الأحيان سرية في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا...؟ وكانت المحصلة كثرة هائلة مأساوية من القتلى، و"المختفين"، وضحايا التعذيب، والسجناء، والمنفيين...
والحقيقة أن موقف القادة الغربيين ووسائل الإعلام الغربية، والمزايدات الموالية لأمريكا التي أقيمت بمناسبة الهجمات الإجرامية في 11 سپتمبر 2001 لا ينبغي أن تخفي عنا الواقع الوحشي. عَبْرَ العالم، وبصورة خاصة في بلدان الجنوب، كان الإحساس الذي عبر عنه الرأي العام في أغلب الأحيان بمناسبة هذه المأساة هو: "هذا الذي حدث لهم محزن جدا، ولكنهم يستحقونه!"
ومن المفارقات، في الواقع، أن هذه الهجمات المريعة لم تثر، في مناطق عديدة من العالم، فيضا من التعاطف مع الولايات المتحدة. على العكس. إلى درجة أن الرئيس چورچ دبليو بوش  Joerge W. Bush وصل إلى حد أن يعلن: "إنني متأثر بوجود مثل هذا القدر من عدم الإدراك لحقيقة بلدنا وبأن الناس يمكن أن يكرهونا. إنني مثل غالبية الأمريكيين، لا أستطيع أن أتصور هذا، لأنني أعرف أننا طيبون".
 
 
الكتاب الأسود للحرب الباردة
 
لكي نفهم ردود الأفعال المعادية هذه تجاه الولايات المتحدة والتي صدمت العديد من الأمريكيين وفي مقدمتهم الرئيس چورچ دبليو بوش، قد لا يكون من العبث أن نتذكر أنه، طوال "الحرب الباردة" (1948-1989)، اندفعت الولايات المتحدة في "حرب صليبية" طويلة، كانت آنذاك ضد الشيوعية. وقد اتخذت في بعض الأحيان مظهر حرب الإبادة: آلاف الشيوعيين الذين تمت تصفيتهم جسديا في إيران، 200 ألف معارض يساري الذين قُتلوا في جواتيمالا، أكثر من نصف مليون من الشيوعيين الذين جرت إبادتهم في إندونيسيا... وقد كُتبت أبغض صفحات الكتاب الأسود للإمبريالية الأمريكية خلال هذه السنين، المطبوعة أيضا بطابع أهوال حرب ڤييتنام (1962-1975).
كانت المسألة في ذلك الحين مسألة "الخير ضد الشر". غير أنه، في تلك الفترة، وفقا لواشنطن، لم يكن دعم الإرهابيين لا أخلاقيا بالضرورة.
وعن طريق وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه CIA، أوصت الولايات المتحدة بهجمات في الأماكن العامة، وأعمال خطف للمعارضين، وأعمال خطف للطائرات، وأعمال تخريب، واغتيالات. في كوبا ضد نظام فيدل كاسترو، أو في نيكاراجوا ضد الساندنيستا، أو في أفغانستان ضد السوڤييت. وإنما هناك، في أفغانستان، بدعم من دولتين تنعدم فيهما الديمقراطية، المملكة العربية السعودية وپاكستان، شجعت واشنطن، خلال سبعينات القرن العشرين، إنشاء ألوية إسلامية يتم تجنيدها من العالم العربي الإسلامي، وتتألف ممن أطلقت عليهم وسائل الإعلام في ذلك الحين “freedom fighters”، أيْ المقاتلون من أجل الحرية! وإنما في هذه الأوضاع، كما نعلم، جندت وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه ودَرَّبَتْ أسامة بن لادن المشهور منذ ذلك الحين فصاعدا.
 
القوة الفائقة والإرهاب
 
منذ 1999، استقرت الولايات المتحدة في وضع القوة الفائقة الوحيدة، وقامت من الناحية الفعلية بتهميش الأمم المتحدة. ووعدت، بالمقابل، بإقامة "نظام عالمي" أكثر عدالة. وباسم هذا المشروع، قادت وكسبت حرب الخليج ضد العراق. غير أنه، حالما انتهى هذا القتال، ظلت على انحياز فاضح لصالح إسرائيل، على حساب حقوق الفلسطينيين[20]. وعلاوة على هذا، ورغم الاحتجاجات الدولية، أبقت الولايات المتحدة على حصار شرس ضد العراق، يترك هامشا لبقاء النظام غير أنه يقتل آلاف الأبرياء. ولم يعد هذا "النظام العالمي الجديد" يبدو أكثر عدالة في نظر المليارات من سكان بلدان الجنوب الفقيرة. وقام كل هذا بإحداث جرح غائر، بصورة خاصة، في الرأي العام للعالم العربي الإسلامي، مسهِّلا على هذا النحو خلق تربة ملائمة ازدهر عليها إسلام راديكالي ومُعادٍ لأمريكا.
ومثل الدكتور فرانكنشتاين Dr Frankenstein، رأت الولايات المتحدة، في 11 سپتمبر 2001، ربيبها القديم - أسامة بن لادن - ينقض عليها، بعنف جنوني. وقررت أن تحاربه بالاعتماد على الدولتين - المملكة العربية السعودية وپاكستان - اللتين كانتا، منذ ثلاثين عاما، أكثر من شارك في أن تنتشر عَبْرَ العالم شبكات إسلامية راديكالية، وإذا لزم الأمر بمساعدة الأساليب الإرهابية!
 
التهديد الپاكستاني
 
إذا كان هناك بلد ذو ميراث سياسي مأساوي، فإنه حقا پاكستان. ولم يحدث مطلقا لأيّ رئيس للسلطة التنفيذية في هذه الدولة التي تضم 140 مليون نسمة أن يترك السلطة طواعية. والحقيقة أن پاكستان، "بلاد الأطهار"، التي نشأت في 1947 عن تقسيم إمبراطورية الهند، التي شهدت هروب ملايين المسلمين والهندوس في أوضاع كارثية من المناطق التي شكل فيها هؤلاء أو أولئك أقليات، تمثل أول دولة أنشئت بصورة مفتعلة، على أساس ديني بحت، على أساس الإسلام.
ومع الوقت، اتضح أن هذا الرباط الديني عاجز عن تشكيل أمة. ومنذ 1971، أثبت انفصال پاكستان الشرقية، التي صارت بنجلاديش، أن المعايير الإثنية استطاعت أن تكون أقوى من المعايير الدينية. كما أوضح العنصر الآخر للتماسك، عنصر الكراهية إزاء الهند، حدوده خلال ثلاث حروب تقاتل فيها البلدان، في 1948، وفي 1965، وفي 1971، خسرتها پاكستان جميعا.
وحدثت المواجهة الأخيرة في يوليو 1999، من أجل السيطرة على مرتفعات كارجيل، في كشمير. وهذا الإقليم ذو الأغلبية المسلمة مقسم منذ 1948 بخط هدنة. ويظل جنوب كشمير تحت إدارة الهند، التي تواجه هناك مقاومة نشطة تقودها منظمات انفصالية إسلامية (بدعم استمر إلى وقت قريب من شبكة القاعدة التي يتزعمها أسامة بن لادن). ولا تتردد هذه المنظمات (لاشكار–إي-طيّبة [جيش الأطهار/ الدعاة إلخ.] وجيش-إي- محمد [جيش محمد])، بتشجيع أيضا من الأجهزة السرية لپاكستان، عن اللجوء إلى أقصى العنف وإلى هجمات دامية مثل تلك الهجمة على البرلمان الهندي التي خلفت وراءها، في 31 ديسمبر 2001، أربعة عشر قتيلا ودفعت البلدين إلى حافة الحرب.
والحقيقة أن إسلام أباد ونيودلهي، على السواء، تجعلان من كشمير مسألة مركزية، حيوية، تراهن عليها هوية كل أمة منهما.
ولا شك في أن الهزيمة العسكرية الپاكستانية في صيف 1999، التي أعقبها الانسحاب المهين للقوات الغازية، الذي فرضته واشنطن، الحليف القديم لإسلام أباد، كانت علامة على خسارة رئيس الوزراء نواز شريف، الذي أطاح به في 12 أكتوبر 1999 الچنرال برڤيز مشرف.
وكانت هذه هي المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة في 1991 التي وقع فيها انقلاب عسكري في بلد كبير وبصورة خاصة في بلد يمتلك أسلحة نووية. على أن پاكستان، وهي البلد الإسلامي الوحيد الذي يمتلك القنبلة، هذه الدولة الآخذة في الانهيار، والتي يقودها عسكريون، سرعان ما امتلكت صواريخ قادرة على نقل شحنات نووية إلى مسافة 1500 كيلومتر...
إن الأمر يتعلق علاوة على هذا بقوة توجد في منطقة في غاية الخطورة، قوة عليها أن تواجه عِداء جارتين من جاراتها هما الهند وإيران، والحذر الجديد لحليفة قديمة لها هي الصين. وقبل هجمات 11 سپتمبر 2001 والرد الانتقامي الأمريكي، كانت پاكستان تتساهل مع النشاط المتطرف لدولة صديقة، شبه محمية لها، هي أفغانستان، التي تستضيف وتحمي شبكات إسلامية مثل شبكة السيد بن لادن، القاعدة، وهي شبكات تلقى بصورة مباشرة أو غير مباشرة تشجيع المملكة العربية السعودية (وهي حليفة أخرى لإسلام أباد). وقد امتد نفوذ هذه الشبكات الإرهابية ليصل إلى آسيا الوسطى السوڤييتية سابقا (أوزبكستان، طاچيكستان، تركمانستان)، وإلى شمال القوقاز (داغستان والشيشان).
وعلى حافة الإفلاس، تبقى پاكستان إحدى القواعد الرئيسية للأصولية الإسلامية. أما على الصعيد الداخلي فإنها مخزن بارود. فهي منقسمة بانشقاقات دينية تواجه السنة بالشيعة (20٪ من السكان)، وبمجابهات إثنية بين الپاشتون، والبالوتش، والسنديين، والپنجاب، وبأشكال من اللامساواة الاجتماعية: يعيش 40٪ من السكان تحت خط الفقر، ويعتبر حوالي 20 مليون في عداد الأطفال المستعبدين... وأخيرا فإن پاكستان تمثل أحد البلدان الأكثر فسادا في العالم و، وفقا لمنظمة الأمم المتحدة، فإن الاقتصاد الإجرامي فيها يفوق من حيث القيمة المطلقة الاقتصاد القانوني.
 
 
 
عَدُوٌّ، أخيرا!
 
لا شك في أن الجنود المحنكين للحرب الباردة، الرجال والنساء الذين يحيطون بالرئيس چورچ دبليو بوش، ليسوا مستائين من المجرى الذي اتخذته الأمور منذ 11 سپتمبر. بل إن ما حدث كان بمثابة هبة غير متوقعة. لأن هذه الهجمات أعادت إليهم، بصورة مدهشة، مُعْطًى إستراتيچيا رئيسيا كان قد حرمهم منه انهيار الاتحاد السوڤييتي في 1991 طوال عشر سنوات: عَدُوٌّ. أخيرا!
وتحت اسم "الإرهاب"، صار هذا العدو المعلن من الآن فصاعدا هو التطرف الإسلامي. وهذا يسمح بكل التدابير السلطوية وكل التجاوزات. بما في ذلك صيغة حديثة من المكارثية التي ستتخذ هدفا لضرباتها، فيما وراء المنظمات "الإرهابية" ذاتها، كل أولئك الذين يعارضون الهيمنة الأمريكية، وحتى أعداء العولمة الليبرالية.
وفيما تخوض في أفغانستان في أول قتال في القرن الحادي والعشرين، لم تحدد الولايات المتحدة لنفسها دفعة واحدة أهدافا حربية كثيرة. وكان قد تم إعلان هدف أول غداة 11 سپتمبر: تفكيك شبكة القاعدة وإلقاء القبض على أسامة بن لادن، حيا أو ميتا، باعتباره المسئول عن جرائم - 3 آلاف قتيل - لا يمكن أن يبررها أيّ سبب بحال من الأحوال.
 
إمبراطورية ضد رجل واحد
 
لم تكن هذه المخططات، السهلة في الصياغة، سهلة التحقيق. ومع هذا، بدا، وبصورة قبلية، أن عدم تناسب القوى بين العدوين كان بمثابة هوة لا قرار لها. إنها حتى مسألة موقف عسكري لم يسبق له مثيل لأن هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها إمبراطورية بشن الحرب، ليس على دولة، بل على رجل واحد...
وباستخدام وسائلها العسكرية الساحقة، قذفت واشنطن في هذه المعركة بكل قواها، وكان لا مناص بالضرورة من أن تنتصر. ومع هذا ففي البداية شكّ كثيرون في النجاح الأمريكي لأن الأمثلة وفيرة عن قوى كبرى عجزت عن إلحاق الهزيمة بأعداء أضعف. وبالفعل، يعلمنا التاريخ العسكري أنه، في قتال غير متناظر asymétryque فإن ذلك الذي يستطيع الكثير لا يستطيع بالضرورة القليل. وكما يذكرنا المؤرخ إريك هوبسباون Eric Hobsbawn، فإنه: "خلال قرابة ثلاثين عاما، بدت السلطة عاجزة عن إلحاق الهزيمة بجيش مثل الجيش الجمهوري الآيرلندي؛ حقا إن الجيش الجمهوري الآيرلندي لم ينتصر، غير أنه مع هذا لم يُهْزَم"[21].
ومثل أغلب القوات المسلحة، كانت القوات المسلحة للولايات المتحدة مدربة على محاربة دول أخرى وليس لمجابهة "عَدُوّ غير مرئيّ". غير أننا في القرن الذي يبدأ الآن، نجد الحروب بين الدول في طريقها إلى أن تصير مفارقة تاريخية. ولا يمثل النصر الساحق في معركة الخليج، في 1991، مرجعا جيدا. بل يمكن حتى أن يتضح أن هذا المثال مضلل. ويشرح الچنرال السابق لقوات المارينز marines، أنتوني زيني Anthony Zinni، قائلا: "كان هجومنا في الخليج في 1991 مظفرا، لأننا كانت لدينا الفرصة لنكتشف أن الخبيث الوحيد في العالم غبي بما يكفي لقبول مجابهة الولايات المتحدة في قتال متناظر symétrique"[22]. وبوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن سلوبودان ميلوسيڤيتش Slobodan Milošević عند الحديث عن حرب كوسوڤو في 1999.
على أن الصراعات ذات النمط الجديد، عندما يجابه القويُّ الضعيف أو المجنون، يكون بدؤها أسهل من إنهائها. كما أن الاستعمال حتى الكثيف لوسائل عسكرية ثقيلة لا يسمح بالضرورة بتحقيق الأهداف المنشودة. ويكفي أن نتذكر الإخفاقات الأمريكية في ڤييتنام في 1975، أو في الصومال في 1994.
وعند هجومها على أفغانستان، تحت الذريعة التي يمكن قبولها والمتمثلة في أن نظام طالبان الحاكم في هذا البلد ظل يحمي السيد بن لادن، كانت الحكومة الأمريكية تعلم بالتالي أنها إنما كانت تشرع في المرحلة الأسهل في الصراع. وأنها سوف تنتصر فيها بالفعل، بقليل من العناء، في أسابيع معدودة. غير أن هذا الانتصار ضد أحد أبغض النظم على ظهر الكوكب ما كان ليضمن تحقيق الهدف الأول لهذه الحرب: إلقاء القبض على أسامة بن لادن.
 
ما هو الإرهاب؟
 
وبدا الهدف الثاني طموحا للغاية: القضاء على "الإرهاب الدولي". أولا لأن تعبير "الإرهاب" ملتبس. ومنذ قرنين كان قد تم استعمال هذا التعبير دون تمييز لتسمية كل أولئك الذين يلجأون، خطأ أو صوابا، إلى العنف سعيا إلى تغيير النظام السياسي. وتثبت التجربة أنه، في حالات بعينها، كان هذا العنف ضروريا. “Sic simper tirannis” [= هكذا يكون الأمر دائما مع الطغاة]، هكذا صرخ بالفعل بروتوس طاعنا بالخنجر يوليوس قيصر الذي كان قد أطاح من قبل بالجمهورية. "كل الوسائل مشروعة للنضال ضد الطغاة"، هكذا قال أيضا، منذ 1792، الثوري الفرنسي، جراكوس بابيف Gracchus Babeuf.
وقد صار العديد من "الإرهابيين" السابقين رجال دولة محترمين. وعلى سبيل المثال وحتى لا نستشهد بكل أولئك المنحدرين من المقاومة الفرنسية والذين كانت سلطات الاحتلال الألمانية تنعتهم "بالإرهابيين": مناحم بيجن، الزعيم السابق لمنظمة إرجون، الذي صار رئيس وزراء لإسرائيل؛ أو عبد العزيز بو تفليقة، المسئول السابق في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، الذي صار رئيس جمهورية للجزائر؛ أو نلسون مانديلا، الزعيم السابق للمؤتمر الوطني الأفريقي، الذي صار رئيس جمهورية لجنوب أفريقيا وحاز جائزة نوبل للسلام.
على أن "الحرب العالمية ضد الإرهاب" الدائرة حاليا والدعاية التي تصاحبها يمكن أن تحملا على الاعتقاد أنه لا يوجد إرهاب إلا الإرهاب الإسلامي. ومن الجلي أن هذا زور. ففي نفس اللحظة التي تدور فيها هذه "الحرب العالمية" الجديدة، تعمل "إرهابات" أخرى، في كل مكان تقريبا في العالم غير الإسلامي. إرهاب منظمة إيتا ETA في إسپانيا، إرهاب القوات الثورية المسلحة FARC والمنظمات شبه العسكرية في كولومبيا، إرهاب نمور التاميل في سري لانكا، إلخ. هناك القليل أيضا، إنه إرهاب الجيش الجمهوري الآيرلندي ومُوالين له في آيرلندا الشمالية.
وكمبدأ للعمل فإن الإرهاب كان قد نودي به، وفقا للظروف، من جانب كل المدارس السياسية تقريبا. وكان المُنَظِّر الأول الذي اقترح، منذ 1848، نظرية للإرهاب هو الألماني كارل هاينتسين Karl Heinzen، في مقاله Der Mord ("الاغتيال") الذي يعتبر فيه كل الوسائل سليمة، حتى الهجمات الانتحارية، للتعجيل بمجيء... الديمقراطية! وكديمقراطي راديكالي، يكتب هاينتسين: "إذا كان عليكم أن تفجروا نصف قارة وأن تنشروا حَمّام دم من أجل تدمير حزب البرابرة، لا يكونَنَّ لديكم أيّ تأنيب ضمير. إن مَنْ لا يضحي مسرورا بحياته للفوز بشرف إبادة مليون من البرابرة ليس جمهوريا حقيقيا"[23].
وإذا حكمنا بهذه النتيجة، فإن هذا المثال يبين أنه حتى أفضل الغايات لا تبرر كل الوسائل. فالمواطنون لديهم كل ما يدعو إلى الخوف من جمهورية - علمانية أو دينية - مبنية على حَمّام دم. وفي الوقت الحاضر، من المسلم به بصورة عامة أن استعمال العنف الإرهابي في إطار ديمقراطية سياسية فعلية (كما في آيرلندا الشمالية، أو في بلد الباسك الإسپاني، أو في كورسيكا) غير مقبول.
 
وداعا للحريات
 
ومن حقنا أن نشك أيضا في أن مطاردة "الإرهابيين" في كل الاتجاهات، والتي تعلنها واشنطن كهدف نهائي لهذه "الحرب بلا نهاية"، لن تحدث انزلاقات خطرة واعتداءات على الحريات الرئيسية.
ذلك أن بوسعنا أن نتساءل، ما دام من المسلم به أن الأحداث المأساوية في 11 سپتمبر 2001 قد فتحت فترة جديدة في التاريخ المعاصر، عن طبيعة الدورة الأخرى التي أغلقتها هذه الأحداث وعن النتائج المترتبة عليها.
والحقيقة أن الحقبة التي تنتهى الآن كانت قد بدأت في 9 نوڤمبر 1989 مع سقوط سور برلين ومع اختفاء الاتحاد السوڤييتي، في 25 ديسمبر 1991. وسوف تتمثل السمات المميزة الرئيسية، المُحْتَفًى بها بلا انقطاع،  لهذه المرحلة - التي عرفت، فضلا عن هذا، انطلاق العولمة الليبرالية - فيما يلي: الإشادة بالنظام الديمقراطي، والاحتفاء بدولة القانون، وتمجيد حقوق الإنسان. وفي السياسة الداخلية والخارجية، صار هذا الثالوث الحديث يُعَدّ نوعا من الواجب الإلزامي الحاسم الذي يتم استدعاؤه بصورة متواصلة. وهذا الثالوث، الذي لا يخلو من الالتباسات (هل يمكن حقا المصالحة بين العولمة الليبرالية والديمقراطية الكوكبية؟)، يعتمد على ولاء المواطنين الذين رأوا فيه نجاحا للقانون ضد البربرية.
وكان 11 سپتمبر 2001، بهذا الصدد، علامة على قطيعة نهائية. وباسم "الحرب العادلة" ضد الإرهاب، يبدو أن كل هذه الأفكار السخية قد تم نسيانها فجأة. وفي الحال، ومن أجل الشروع في الحرب في أفغانستان، لم تتردد واشنطن عن إقامة تحالفات مع قادة كانوا لا يزالون بالأمس لا يصلحون للصداقة: الچنرال الانقلابي putschiste، برڤيز مشرَّف في پاكستان، أو دكتاتور أوزبكستان، إسلام كريموڤ. ولم تنجح صرخات الرئيس الپاكستاني الشرعي، نواز شريف، وصرخات المدافعين الأوزبك عن الحريات، في عبور جدارن سجونهم... وخلسة، تترك قِيَم كانت توصف منذ عهد قريب بأنها  من "الأساسيات" المشهد السياسي على حين تتقهقر دول ديمقراطية، من وجهة نظر القانون.
 
تدابير قاتلة للحريات
 
وتشهد على هذا عاصفة هوجاء من التدابير القاتلة للحريات التي اعتمدتها الولايات المتحدة. فمنذ غداة الهجمات، أقيمت هناك محاكم استثنائية، ونجح وزير العدل، چون أشكروفت John Ashcroft، في تحقيق إقرار قانون لمكافحة الإرهاب، يسمى "القانون الوطني" يسمح للسلطات باعتقال المشتبهين الأجانب لفترة غير محددة تقريبا، وترحيلهم، واعتقالهم في زنازين انفرادية، وفرض الرقابة على بريدهم، ومحادثاتهم التليفونية، واتصالاتهم عن طريق الإنترنت، وتفتيش مساكنهم دون إذن قضائي...
وعلى هذا النحو فإن ما لا يقل عن 1200 أجنبي تم اعتقالهم سرا، بقي أكثر من 600 منهم معتقلين دون محاكمة في نهاية ديسمبر 2001، دون أن يتم، بالنسبة لعدد من بينهم، حتى المثول أمام القضاة، ودون أن تكون لديهم فرصة تلقِّي مساعدة محام[24]. وعلاوة على هذا، عبرت حكومة الولايات المتحدة عن اعتزامها التحقيق مع حوالي 5 آلاف شخص تتراوح أعمارهم بين 16 و45 عاما، يقيمون بڤيزا سياحية، صاروا مشتبهين لمجرد أنهم من أصول من الشرق الأوسط...[25].
وعلى حين أن المحاكم الأمريكية العادية مختصة تماما[26]، قرر الرئيس چورچ دبليو بوش، في 13 نوڤمبر 2001، إنشاء محاكم عسكرية ذات إجراءات خاصة لمحاكمة الأجانب المتهمين بالإرهاب. ويمكن أن تحدث هذه المحاكمات السرية داخل سفن حربية أو قواعد عسكرية[27]؛ وسوف تقوم بالنطق بالحكم لجنة تتألف من ضباط عسكريين؛ ولن يكون الإجماع ضروريا للحكم على المتهم بالإعدام؛ وسيكون الحكم بلا استئناف؛ وسوف يُسمح بالتنصت سرا على محادثات المتهم مع محاميه، وسيتم الاحتفاظ بالإجراء القضائي سرا ولن تعلن تفاصيل المحاكمة إلا بعد عقود...
 
اللجوء إلى التعذيب
 
وقد ذهب مسئولون في وكالة التحقيقات الفيدرالية إف پي آي FBI إلى حد اقتراح ترحيل بعض المتهمين إلى بلدان صديقة، ذات نظام دكتاتوري، حتى تستطيع الشرطة المحلية استجوابهم مستخدمة طرقا "فظة وفعالة". وقد جرت المطالبة باللجوء إلى التعذيب بصورة علنية على أعمدة المجلات الكبرى[28]. وعلى قناة سى إن إن CNN، كان المعلق الجمهوري توكر كارلسون Tucker Carlson صريحا جدا: "التعذيب ليس حسنا. غير أن الإرهاب أسوأ. كما أن التعذيب يكون، في بعض الأحوال، أهون الضررين". وقام ستيڤ تشاپمان Steve Chapman، في تشيكاجو تريبيون Chicago Tribune، بالتذكير بأن دولة ديمقراطية مثل إسرائيل لا تتردد عن ممارسة التعذيب على 85٪ من المعتقلين الفلسطينيين[29]...
وفي برنامج محطة سي بي إس CBS، 60 دقيقة Sixty Minutes، الذي تم تخصيصه يوم الأحد 20 يناير 2002، لموضوع: "تعذيب معتقلي طالبان: مبرر أم لا؟"، تم تقديم شهادة الچنرال الفرنسي پول أوساريس Paul Aussaresse، المحكوم عليه قضائيا على "التواطؤ في تبرير جرائم الحرب". وبررت المحطة نفسها قائلة: "الچنرال أوساريس يدافع عن طريقة [أيْ: التعذيب] لمنع موت الأبرياء في مواجهة الإرهابيين"...
وألغى السيد بوش قرارا يعود إلى عام 1974 كان يحظر على وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه CIA اغتيال قادة أجانب، وأطلق يد هذه الوكالة في القيام بكل العمليات السرية الضرورية للتصفية الجسدية لزعماء القاعدة. ومتناسين توصيات اتفاقيات جنيڤ، قاموا بقيادة الحرب في أفغانستان بهذه الروح ذاتها: تصفية أعضاء القاعدة حتى عندما يستسلمون. وأبدى وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld عدم مرونة فرفض كل فكرة عن تسوية تفاوضية واستسلام. ودعا بكل وضوح إلى قتل الأسرى العرب وغير الأفغان المقاتلين مع طالبان[30]. وجرى قتل أكثر من أربعمائة من بينهم أثناء عصيان قلعة قاليه-چانجي Qalae-Jhangi وعدد أكبر دون شك منذ الاستيلاء على تورا بورا.
ولكي لا يكون من الممكن محاولة القيام بأيّ ملاحقة ضد العسكريين الأمريكيين نتيجة العمليات الجارية في الخارج، تبدو واشنطن معارضة بشدة لأيّ تصديق على الاتفاقية المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية. وهذا هو السبب في أن مجلس الشيوخ أقر منذ فترة صغيرة، في القراءة الأولى، قانون حماية جنود الجيش الأمريكي American Servicemembers Protection Act (ASPA)، الذي يسمح للولايات المتحدة باتخاذ التدابير القصوى - التي يمكن أن تذهب إلى حد الغزو العسكري لبلد! - لاستعادة كل مواطن أمريكي مهدد بالتقديم للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في المستقبل.
ولصالح "الحرب العالمية ضد الإرهاب"، عززت بلدان أخرى أيضا - المملكة المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، إسپانيا، فرنسا... - تشريعاتها القمعية.
وهذا ما يثير بالتالي قلق المدافعين عن الحقوق العامة، فالحركة العامة لمجتمعاتنا التي كانت تتجه إلى احترام متزايد دائما للفرد ولحرياته، جرى وقفها بصورة وحشية. كما أن كل شيء يشير إلى أننا ننحرف من الآن نحو دولة تغدو بوليسية أكثر فأكثر...
 
تغير جغرافي-سياسي رئيسي
 
وبهذا الخصوص حدث تغير جغرافي-سياسي رئيسي سرعان ما سوف يؤثر بلا جدال في حيواتنا. لقد بدأ كل شيء إذن هذا الثلاثاء المشئوم 11 سپتمبر باكتشاف سلاح جديد: طائرة خطوط جوية، مملوءة تماما بالكيروسين، يتم تحويلها إلى صاروخ للتدمير. وهذه القنبلة المفزعة المحرقة التي ظلت مجهولة إلى ذلك الحين، ضربت أمريكا فجأة عدة مرات في اللحظة نفسها. وكانت الصدمة من العنف إلى حد أن العالم اهتز نتيجة لها بالفعل.
إن ما تغير دفعة واحدة هو مفهوم الإرهاب ذاته. ويجري الحديث مباشرة عن "الإرهاب الفائق" hyperterrorisme[31] للدلالة على أنه لم يعد كما كان من قبل. لقد جرى عبور عتبة لا يمكن تصورها ولا يمكن فهمها. فالعدوان مفرط إلى حد أنه لا يشبه أي شيء قبله. إلى حد أننا لا نعرف كيف نسميه. اعتداء؟ هجوم؟ عمل حربي؟ إن حدود العنف الأقصى تبدو متزايدة الاتساع. كما لم يعد بمستطاعنا أن نعود إلى الوراء. ويعرف الجميع أن جرائم 11 سپتمبر، الافتتاحية، سوف تعيد إنتاج نفسها[32]. في أماكن أخرى ربما، وفي ظروف مختلفة دون شك، غير أنها سوف تتكرر. والحقيقة أن تاريخ الصراعات يعلمنا أنه، عندما يظهر سلاح جديد، فظيع مثل نتائجه، فإنه يُعاد استعماله دائما. وكان هذا صحيحا بالنسبة لاستعمال غازات القتال بعد 1918، أو بالنسبة لتدمير المدن بالقصف الجوي بعد جيرنيكا Guernica في 1937. ومن جهة أخرى فإن هذا الخوف هو الذي يغذي، بعد هيروشيما بستة وخمسين عاما، الرعب النووي...
 
ضرب الأرواح
 
ويبين عدوان 11 سپتمبر في آن معا، لدى مرتكبيه، قسوة خيالية ودرجة عالية جدا من التعقيد التقني sophistication. لقد أرادوا أن يضربوا بقوة، أن يضربوا في القلب، أن يضربوا الأرواح. وحاولوا أن يحدثوا على الأقل ثلاثة أنواع من النتائج: خسائر مادية، وتأثيرا رمزيا، وصدمة إعلامية ضخمة.
والنتائج معروفة جيدا: إبادة حوالي ثلاثة آلاف حياة بشرية، وتدمير بُرْجَيْ مركز التجارة العالمية، وجانب من الپنتاجون و، لو أن الطائرة الرابعة لم يتم تحطيمها في پنسلفانيا، لكان من المحتمل أن يلحق بها البيت الأبيض. غير أن هذه التدميرات لم تكن تشكل، كما تؤكد كل الشواهد، الهدف الرئيسي، لأنه في تلك الحالة كانت الطائرات ستتجه، مثلا، إلى محطات نووية أو سدود، وكانت ستؤدي إلى تدميرات كارثية، وإلى عشرات الآلاف من القتلى[33]...
واتجه الهدف الثاني إلى ضرب الأخيلة عن طريق إذلال، وإهانة، وتحقير، العلامات الرئيسية لعظمة الولايات المتحدة، رموز هيمنتها الإمبراطورية في الشأن الاقتصادي (مركز التجارة العالمية)، والعسكري (الپنتاجون)، والسياسي (البيت الأبيض).
وكان الهدف الثالث، الملحوظ أقل من الهدفين السابقين، هو النظام الإعلامي. فعن طريق نوع متلڤز من الانقلاب العسكري، سعى أسامة بن لادن، العقل المدبر المفترض وراء العدوان، إلى أن يحتل الشاشات، وأن يفرض عليها - وياله من مخرج شيطاني - صوره، ومشاهد عمله التدميري. وعلى هذا النحو سيطر، وسط استياء وذهول الإدارة الأمريكية[34]، على كل شاشات التليڤزيون في الولايات المتحدة (و، من ورائها، في العالم أجمع). واستطاع بهذه الطريقة أن يكشف، وأن يثبت، وأن يبرهن الانكشاف الغريب للقوة الفائقة الأولى للهجوم، وأن يعرض في قلب المنازل الأمريكية قوته الشيطانية الخاصة، وأن يقوم بنفسه بإخراج تصميم رقصات جريمته.
 
الخلاصية ("الميسيانية") الإعلامية
 
وهذا النوع من النرجسية تكمله الصورة الأخرى المسيطرة لبداية هذه الأزمة: صورة السيد بن لادن نفسه. ففي أعماق كهف أفغاني، اللوحة المصورة بريشة صاحبها لرجل ذي نظرة لطيفة بشكل غريب... وبين عشية وضحاها، صنعت هذه الصورة من رجل كان غير معروف على نطاق واسع عشية 11 سپتمبر، أشهر شخصية في العالم[35].
ومنذ أن سمح جهاز تقني عالمي ببث الصور مباشرة على الكوكب بأسره، صار من المعروف أن الجميع كانوا مستعدين للظهور في "خلاصية (ميسيانية) إعلامية". وعلمتنا قضية ديانا، بوجه خاص، أن وسائل الإعلام، الأكثر عددا بكثير مما كانت من قبل، صارت بالفعل أكثر توحيدا وأكثر امتثالا من أي وقت مضى. كما أن كل هذا سوف يستغله ذات يوم نوع من نبي إلكتروني[36].
وأسامة بن لادن هو الأول. فعن طريق عدوانه، في 11 سپتمبر، وجد طريقه إلى الوصول إلى كل شاشات العالم، واستطاع أن يبلغ رسالته الكوكبية. وسواء أكان عبقرية شريرة أو دكتور مابوز [37]Dr Mabuse حديث بالنسبة للبعض، فقد استطاع أن يظهر، في أعين ملايين الأشخاص، وبصورة خاصة في العالم العربي-الإسلامي، كبطل. وأكثر حتى من بطل، لخلاص ("ميسيا")، "ذلك الذي، اختاره وبعثه الرب، يأتي لإنقاذ البشرية من الشر"...
 
شكل جديد للإرهاب
 
وهو الذي لا يتردد في سبيل هذا الهدف، ومهما بدا هذا متناقضا [مع تلك الغاية]، عن ابتكار إرهاب من نمط جديد. ويعلم الجميع أن لدينا من الآن قضية إرهاب عالمي. عالمي في تنظيمه، ولكن أيضا في نطاقه وأهدافه. لا يطالب بأي شيء محدد جدا. لا استقلال أرض، ولا تنازلات سياسية ملموسة، ولا إقامة نمط محدد من النظام. بل إن عدوان 11 سپتمبر ما يزال لم يتم تبنّيه رسميا. ويبدو هذا الشكل الجديد من الإرهاب وكأنه نوع من اللعنة أو العقاب ضد "سلوك عام"، دون مزيد من التحديد الدقيق، للولايات المتحدة وعلى نطاق أوسع للبلدان الغربية.
والحقيقة أن الرئيس چورچ دبليو بوش - عندما تحدث، قبل أن يسحب كلامه، عن "الحملة الصليبية" -، وكذلك أسامة بن لادن، وصفا هذه المواجهة على أنها صدام حضارات، بل حتى حربا دينية، فقد أكد أسامة بن لادن أن: "العالم انقسم إلى معسكرين، أحدهما تحت راية الصليب، كما قال زعيم الكفار بوش، والآخر تحت راية الإسلام"[38].
وقررت الولايات المتحدة، التي هوجمت في عقر دارها[39] ، وفي قدس أقداس عاصمتها ذاتها، وبطريقة إجرامية بصورة خاصة، أن تردّ بقلب أوضاع المعطيات السياسية الدولية. وخائفين من جهتهم، لوهلة أولى، من إجراء انتقامي سريع ومندفع، حبس الناس أنفاسهم. غير أنه، وتحت تأثير وزير الخارجية، كولن پاول Colin Powell، الذي اتضح أنه الشخصية الأكثر تعقلا في الإدارة الأمريكية[40]، نجحت الولايات المتحدة في الاحتفاظ برباطة جأشها. واستطاعت أن تستغل التعاطف الدولي والتضامن الذي عبرت عنه كل السفارات تقريبا (بالاستثناء البارز للعراق) لتعزيز هيمنتها الكوكبية.
 
تفوق لا جدال فيه
 
وقد عرفنا بالفعل، منذ ديسمبر 1991، واختفاء الاتحاد السوڤييتي، أن الولايات المتحدة تظل القوة الفائقة الوحيدة. غير أنه، هنا وهناك، تردد بعض المتمردين - روسيا، الصين، فرنسا بطريقتها، إلخ. - عن التسليم بهذا. وقد كنست أحداث 11 سپتمبر الشكوك: موسكو، وپكين، وپاريس، وأيضا عواصم أخرى اعترفت بصراحة بالتفوق الأمريكي. وسارع قادة عديدون - منهم، وكان أول الجميع، الرئيس الفرنسي، چاك شيراك - إلى واشنطن. من الناحية الرسمية للتعبير عن تعازيهم، وفي الواقع لتقديم ولائهم غير المشروط... وفهم الجميع أن اللحظة لم تكن لحظة الحيل الماكرة. "من ليس معنا فهو مع الإرهابيين"، وحذرهم السيد بوش، مضيفا أنه سوف يتذكر كل أولئك الذين في هذه اللحظة الخاصة، يظلون سلبيين...
وبمجرد إثبات هذا الولاء العالمي - بما في ذلك ولاء الأمم المتحدة، وحلف الأطلنطي، والاتحاد الأوروپي -، تصرفت واشنطن بطريقة سيادية، أيْ دون أن تحسب أدنى حساب لتوصيات أو رغبات البلدان المتحالفة. فالائتلاف الذي تم تكوينه يخضع لهندسة متغيرة. حيث اختارت واشنطن دائما الشريك، محددة له بصورة منفردة المهمة التي يقوم بها، ولم تترك له هامشا للمناورة. ويؤكد محلل أمريكي أن: "مشاركة أوروپا في هذه الحرب تقوم على أسس منفردة تفترض القبول الواضح لسلطة وحيدة: القيادة العسكرية الأمريكية"[41].
وليس فقط في المجال العسكري. ففي مجال الاستخبارات، "الحرب غير المرئية"، وضع أيضا أكثر من خمسين بلدا أجهزة مخابراتها تحت أوامر وكالة المخابرات المركزية سي آي إيه ووكالة التحقيقات الفيدرالية إف بى آي. وعَبْرَ العالم، جرى على هذا النحو، اعتقال أكثر من ثلاثمائة وستين من المشتبه فيهم، متهمين بأن لهم صلات مع شبكة القاعدة والسيد بن لادن[42].
وكان تفوق الولايات المتحدة من قبل كبيرا، وهو من الآن فصاعدا ساحق. ويؤكد المحلل الأمريكي ويليام پفاف William Pfaff: "يجد العالم نفسه، في بداية عام 2002، في وضع لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. إذ تتمتع أمة واحدة، الولايات المتحدة، بقوة عسكرية واقتصادية بلا منافس، وتستطيع أن تفرض نفسها في كل مكان تقريبا. وحتى بدون اللجوء إلى الأسلحة النووية، تستطيع الولايات المتحدة تدمير القوات العسكرية لأي بلد مهما كان على الأرض. ولو أرادت الولايات المتحدة فإنها تستطيع أن تفرض قطيعة اجتماعية واقتصادية كاملة على أي بلد آخر مهما كان هذا البلد. ولم يحدث مطلقا أن امتلكت أمة قوة مماثلة، ولا مناعة مشابهة"[43].
وإلى جانبها، تقوم القوى الغربية الأخرى (فرنسا، وألمانيا، والياپان، وإيطاليا، وحتى المملكة المتحدة) بدور الأقزام (الليليپوتيين Lilliputiens). وقد جرى تقديم أسطع برهان على القوة المذهلة للتخويف الذي تمارسه الولايات المتحدة غداة 11 سپتمبر.
 
إستراتيچية بن لادن
 
باغتياله، في 9 سپتمبر، للقائد مسعود، الزعيم العسكري لتحالف شمال أفغانستان، اعتقد أسامة بن لادن أنه أزال من طريقه أداة حاسمة كان يمكن أن تستخدمها واشنطن بعد الهجمات. ولن يعود بمستطاع الولايات المتحدة، فيما اعتقد بن لادن، إلا أن تعتمد على تحالف الشمال. ولو أصرت على أن تفعل هذا في سبيل الإطاحة بنظام طالبان، الذي يوفر له الحماية، فإنهم سيلتقون في طريقهم بپاكستان، وهي قوة عسكرية ضخمة، ومأهولة ﺒ 150 مليون نسمة، وتحوز السلاح النووي. وفيما اعتقد بن لادن، فإن إسلام أباد ما كانت لتقبل القضاء على نظام طالبان، الذين حققت پاكستان عن طريقهم طموحا موروثا: السيطرة أخيرا على أفغانستان، والهبوط بها، من الناحية الفعلية، إلى مرتبة المحمية.
وإلى الشمال أكثر، فإن روسيا، التي تشهد علاقاتها مع واشنطن فتورا بسبب الخلاف الخطير حول المشروع، العزيز على قلب الرئيس بوش، المعروف باسم الدرع المضاد للصواريخ، لن تتعاون مع الأمريكيين، ولن تقدم لهم أية تسهيلات لدى حليفتيها المجاورتين في آسيا الوسطى، أوزبكستان وطاچيكستان. ووفقا لهذا التفكير، الجنوني تقريبا، سيكون على الولايات المتحدة، بعد 11 سپتمبر، أن تقنع بالقصف من بعيد، باستخدام صواريخ كروز، كما فعل من قبل وليام كلينتون William Clinton في 1998 بعد الهجمات ضد السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام. انتقام مذهل دون شك، ولكن دون نتائج حقيقية...
وكما أظهر تسلسل الأحداث، كان أسامة بن لادن مجنونا تماما. ففي أقل من أربع وعشرين ساعة، موضوعين بحزم أمام خيار مساعدة الولايات المتحدة أو تحمُّل المخاطر الكبيرة في المجالات الإستراتيچية ذات الأولوية التي تتمثل في كشمير، والتنافس مع الهند، وامتلاك السلاح النووي، لم تتردد القيادة العسكرية الپاكستانية العليا والرئيس برڤيز مشرف. لقد قاموا، كما نعلم، بالتضحية بأفغانستان...
وفيما يتعلق بروسيا، فلم يُساورها الشك مطلقا للحظة واحدة. وكان ڤلاديمير پوتين Vladimir Poutine أوّل من اتصل ببوش في 11 سپتمبر ليعبر له عن تضامنه. وقد ذهب هذا التضامن في آسيا الوسطى بعيدا إلى حدّ أن الهيكل الهرمي للجيش قد تأثر. بل صارت المسألة المطروحة من الآن هي انضمام روسيا إلى حلف الأطلنطي[44]...
 
إنذار مفزع
 
هذا الموقف الجديد لموسكو يعني، بكل وضوح، أنه لم يعد هناك، على المستوى الكوكبي، أيّ ائتلاف عسكري قابل للتشكل ليكون على مستوى موازنة الولايات المتحدة. ومن الآن صارت السيطرة العسكرية للولايات المتحدة مطلقة. وبهذا الخصوص، فإن "العقاب" الذي تنزله منذ 7 أكتوبر بأفغانستان، بقصفها ليلا ونهارا، يمثل إنذارا مفزعا لكل بلدان العالم. إن مَنْ يقف ضد الولايات المتحدة سوف يجد نفسه وحيدا أمامها، دون أدنى حليف، وسوف يعرّض نفسه للقصف إلى أن تتم إعادته إلى العصر الحجري... وقائمة "الأهداف" القريبة المحتملة والمعلنة على الملأ على أعمدة الصحف الأمريكية: الصومال، اليمن، السودان، العراق، إيران، سوريا، كوريا الشمالية...
درس آخر من دروس ما بعد 11 سپتمبر، هو أن العولمة تتواصل وتؤكد نفسها باعتبارها السمة المميزة الرئيسية للعالم المعاصر. غير أن الأزمة الراهنة كشفت عن قابليتها للهجوم. وهذا هو السبب في أن الولايات المتحدة تُصرّ على أنه من الملح إنشاء ما يمكن أن نسميه جهاز أمن العولمة. وبانضمام روسيا، ودخول الصين في منظمة التجارة العالمية وذريعة النضال العالمي ضد الإرهاب، مما يسمح في كل مكان بتقليص الحريات والمساحات الديمقراطية[45]، يبدو أن الأوضاع تتوافق من الآن فصاعدا بسرعة لإقامة هذا الجهاز العالمي للأمن، الذي سيُعهد به دون شك إلى حلف الأطلنطي الجديد[46].
وتتبلور فكرة أننا دخلنا في مرحلة جديدة من التاريخ المعاصر سوف يغدو من الممكن فيها من جديد تقديم حلول عسكرية لمشكلات سياسية.
 
بسبب العولمة
 
كذلك تُسْمَع أصوات أخرى تجعل العولمة الليبرالية مسئولة جزئيا عن أحداث 11 سپتمبر، لأنها فاقمت المظالم، ومختلف صور اللامساواة، والفقر، على المستوى الكوكبي[47]، ولأنها، على هذا النحو، عززت اليأس والضغينة لدى ملايين من الأشخاص المستعدين للتمرد، لدى أشخاص، في العالم العربي الإسلامي، عقدوا العزم على الانضمام إلى الجماعات الإسلامية الأكثر راديكالية - ومنها القاعدة -، التي تدعو إلى العنف الأقصى.
وبإضعاف الدول، والحط من شأن السياسة، وإلغاء النظم واللوائح الرئيسية للدول، شجعت العولمة نمو منظمات ذات هياكل رخوة، غير هرمية، غير رأسية، شبكية. كذلك فإن المؤسسات العالمية مثل المنظمات غير الحكومية، على سبيل المثال، استفادت من هذا المعطى الجديد وتضاعفت.
غير أن منظمات طفيلية انتشرت كذلك في نفس الأوضاع، مستغلة بطريقة فوضوية المجالات التي تحررت على هذا النحو: مافيات، شبكات جانحين، عصابات إجرامية من كل الأنواع، وطوائف وجماعات إرهابية[48].
والقاعدة، بهذا الخصوص، منظمة متأقلمة تماما مع عصر العولمة بتفريعاتها عبر القومية، وشبكاتها المالية، وروابطها الإعلامية والاتصالاتية، ومواردها الاقتصادية، وبخطوط إمدادها ومراكز تدريبها، وركائزها الخيرية، ومحطات تقوية دعايتها، وفروعها، وفروع فروعها.
 
نحو الفرد-الدولة؟
 
عرف العالم، في مجرى التاريخ، المدن-الدول villes-État (أثينا، البندقية، هونج كونج، سنغافورة)، والمناطق الدول régions-État (في العهد الإقطاعي، أو في عهدنا المعاصر مع اللامركزيات ومع الفيدرالية الجديدة le néofédéralisme)، والأحزاب-الدول partis-État (مع الحزب الفاشئ في إيطاليا الموسولينية، أو الحزب القومي الاشتراكي [النازي] في ألمانيا الهتلرية، أو أيضا الحزب الشيوعي في الاتحاد السوڤييتي في عهد چوزيف ستالين)، والأمم-الدول nations-État (طوال القرنين التاسع عشر والعشرين).
غير أننا، مع العولمة، نرى الآن ظهور شبكة-دولة réseau-État، بل حتى فرد-دولة individu-État يمثل أسامة بن لادن أول نموذج واضح لها. حتى إذا كان هذا الأخير، في الوقت الحالي، ما يزال بحاجة - احتياج محارة "عسكري البحر" إلى صَدَفة فارغة - إلى "دولة فارغة" État vide (الصومال، أفغانستان) لاستثمارها ولوضعها بأسرها في خدمة طموحاته.
إن العولمة تحبذ هذا، كما أن من المحتمل أن تشجع غدا ظهور مشروعات-دول entreprise-État (أو: شركات-دول"). وعلى طريقة السيد بن لادن، فإن المشروعات العالمية سوف تستثمر دولة هزيلة، فارغة، مهدَّمة البنية، واقعة فريسة للفوضى الوبائية، لاستخدامها على هواها.
وبهذا الخصوص أيضا فإن السيد بن لادن سيكون قد صار، بطريقة ما، رائدا مرعبا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الشرق الأوسط:
 
حرب المائة عام الجديدة
 
في يناير 2002، فيما كان يكتمل في أفغانستان الهجوم الساحق للولايات المتحدة ضد المعاقل الأخيرة لنظام طالبان وضد آخر عناصر شبكة القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، تواصلت، بثبات، "حرب المائة عام" التي يتجابه فيها الإسرائيليون والفلسطينيون في الشرق الأوسط.
وفي فبراير 2002، كانت "الانتفاضة الثانية" وقمعها قد تجاوزا بالفعل الحاجز المأساوي لألف قتيل (أكثر من 260 إسرائيلي وحوالى 915 فلسطيني). دون أن نحصي قرابة عشرة آلاف من الجرحى، في المعسكرين، عاجزين عن العيش في كثير من الأحيان.
وفي أوضاع درامية، وفيما تتواصل إراقة أنهار من الدم، كيف لا يمكن أن نتذكر كلمات يتسحاق رابين، قبل أن يسقط هو نفسه برصاص متعصب يهودي: "نحن، الجنود العائدين من المعارك ملطخين بالدم، نحن الذين قاتلنا ضدكم، أيها الفلسطينيون، نحن نقول لكم اليوم بصوت قوي وواضح: ‘كفى دما ودموعا. كفى!‘"
ومع هذا فمنذ ستة أعوام، على هذه الأراضي الدامية لإسرائيل وفلسطين، كم أريق من الدم والدموع! وقد أطلق الاستفزاز الذي قام به الچنرال أرئيل شارون عندما زار في 28 سپتمبر 2000، في حماية عشرات من رجال الشرطة، ساحة مساجد القدس (جبل الهيكل بالنسبة لليهود المتدينين) دوامة مأساوية جديدة: احتجاجات المدنيين الفلسطينيين، الوحشية غير المتناسبة للقمع[49]، أطفال ومراهقون فلسطينيون يُقتلون بالرصاص، الإعدام المرعب بلا محاكمة لاثنيْن من العسكريين الإسرائيليين، حملات التأديب ضد عرب إسرائيل، الهجمات الانتحارية في شوارع المدن الإسرائيلية، إعادة الاحتلال العسكري للمدن الفلسطينية المستقلة ذاتيا، استفزازات المستوطنين المتطرفين، الهجمات الجديدة الفظيعة ضد المدنيين الإسرائيليين، إلخ. وبدا أن حلزون العنف لم تعد له نهاية. ولم توقف الصدمة الكوكبية في 11 سپتمبر 2001 دائرة الانتقام والقمع. بل يبدو، وعلى العكس، أنها أنعشتها.
اللاإنسانية تفعل فعلها. النكوص السياسي نحو صراع إثني-ديني كما في البوسنة، أو كوسوڤو، أو الشيشان. مع النداءات، لدى المتعصبين في كلا  المعسكرين، إلى "التطهير الإثني" أو إلى "تقسيم السكان"[50]. عودة اليأس إلى المدنيين الفلسطينيين، الذين صارت شروط معيشتهم، بسبب الإغلاقات المتعاقبة لمدنهم، جهنمية[51]. وعودة الخوف والرعب إلى داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يبقى، رغم الصدمة والقتلى، مؤيدا بأغلبيته لاتفاق سلام[52]. فياله من خداع مأساوي بالنسبة لأولئك الذين رأوا في اتفاقات أوسلو، في 1993، نهاية قرن من المجابهات!
 
توقفات عنيفة
 
كان اغتيال يتسحاق رابين أول توقف عنيف كبير لمشروع السلام. ثم جاء انتخاب بنيامين نتانياهو، بفارق ضئيل، في مايو 1996، من جانب سكان في حالة صدمة في أعقاب هجمات الإسلاميين الشنيعة، ليدمره بصورة نهائية. ذلك أن رئيس الوزراء هذا قام بوقف المفاوضات، وتخريب اتفاقات أوسلو، وانتهاك قرارات منظمة الأمم المتحدة، كما قام عن طريق سياسة الإغلاقات ومواصلة إنشاء المستوطنات، بمفاقمة الوضع المادي للفلسطينيين، دافعا إياهم إلى فقدان كل صبر و، في كثير من الأحيان، إلى أحضان منظمات مسلحة، هي ذاتها معادية لاتفاقات أوسلو، وتمارس الإرهاب...
وفي غزة، على سبيل المثال، على حين يتكدس مليون فلسطيني في أوضاع بؤس مذهلة، يحتل قرابة 6 آلاف مستوطن يهودي متطرف، يحميهم أيضا جنود مدججون بالسلاح، ثلث أراضي القطاع، أفضل الأراضي المروية... وفي القدس العربية، ورغم القانون الدولي، شجع السيد نتانياهو أيضا توطين سكان يهود قادمين في كثير من الأحيان من وراء البحار... وقد مارس، تجاه الفلسطينيين، سياسة إذلال وقمع، ذاهبا إلى حد استعمال التعذيب. وهذا ما أدانته الأمم المتحدة وشجبته المنظمة الإسرائيلية للدفاع عن حقوق الإنسان، بيت سيليم Betselem. ولم تتردد جريدة ها أريتس في ذلك الحين عن تقديم إسرائيل على أنها "بصورة رسمية تماما، الدولة الوحيدة في العالم التي تضفي الشرعية القانونية على التعذيب"[53].
 
إسرائيل، مشروع أخلاقي
 
ولا حاجة إلى القول إن هذا السلوك، الكولونيالي والقمعي، للسلطات، يصدم ضمير العديد من مواطني إسرائيل. ذلك أن هذه الدولة الفريدة تظل لا مثيل لها. ولا شك في أنها ثمرة الأطروحات الصهيونية التي صاغها منذ 1896 تيودور هيرتسل Theodor Herzl. غير أنه، وفقا للمؤرخ الإسرائيلي زيف شتيرنهل Zeev Sternhell: ليست الصهيونية، في جوهرها، سوى "نوع كلاسيكي من هذه النزعة القومية المنغلقة التي ظهرت في أوروپا في منعطف القرن. [....] وهي لا تجد أية صعوبة في أن تنكر على الغير نفس الحقوق الأولية التي تطالب بها لنفسها بطمأنينة نفس مطلقة".
كما أن الدولة الإسرائيلية ناشئة أيضا، بلا جدال، عن المعاداة الأوروپية للسامية، والمذابح الروسية، والإبادة الجماعية النازية. وهي تشكل المرفأ والملاذ اللذين يسعى إليهما الملايين الذين تجري ملاحقتهم والتمييز ضدهم بحثا عن مكان للسلام والحرية[54]. وبالنسبة لكل هؤلاء، وعلى وجه الخصوص بالنسبة للناجين من معسكرات الإبادة، لا تمثل إسرائيل إذن مشروعا قوميا فقط، بل تمثل كذلك أيضا مشروعا أخلاقيا.
على أنه لا مناص من أن يعترف حتى أولئك الذين يصرون بعناد على إغماض أعينهم عن التجاوزات المفزعة للسلطات الإسرائيلية بأن هذا المشروع الأخلاقي قد جرت خيانته. وقد استطاع أولئك الذين يُسمون ﺒ "المؤرخين الجدد" الإسرائيليين، ببراهين لا تدحض في صفهم، أن يطرحوا للنقاش من جديد أسطورة براءة دولتهم[55]. وحتى التليڤزيون الرسمي في إسرائيل انتهى، بدوره، إلى التسليم، بالحقيقة التاريخية إذ يبث، منذ 1998، سلسلة وثائقية، Tékouma (Renaissance) ("النهضة")، كشفت للجمهور العريض الزيف الجوهري للشعار الاستيطاني: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
 
تمييزات وحملات تأديب
 
كشفت وثائق صادمة حقيقة المذابح التي ارتكبها، في 1948، جنود إسرائيليون بهدف ترويع الفلسطينيين ودفعهم إلى الهرب. أما أولئك الذين بقوا في إسرائيل فيصل عددهم اليوم إلى أكثر من مليون (15٪ منهم مسيحيون)، أيْ سدس سكان البلاد. ومع أنهم أقل عرضة للتمييز عما كان حالهم منذ عهد قريب (كانوا، حتى في 1966، خاضعين للسلطة العسكرية)، فإنهم يظلون مواطنين من الدرجة الثانية، على حين أن إعلان الاستقلال، الذي قرأه ديڤيد بن جوريون David Ben Gourion، في 14 مايو 1948، وعد بما يلي: "ستكفل دولة إسرائيل أكمل المساواة الاجتماعية والسياسية لجميع السكان دون تمييز بسبب الدين، أو العرق، أو الجنس".
ولم يُطبَّق هذا مطلقا. ولم يتم مطلقا احترام حقوق المواطنين العرب الإسرائيليين، كما أثبتت بصورة مأساوية حملات التأديب العنصرية في الجليل في أوائل شهر أكتوبر 2000. فلأنهم احتجوا ضد القمع في الضفة الغربية وغزة، كان عرب إسرائيل، في الناصرة وأماكن أخرى، ضحايا في آن معا لإطلاق الرصاص الحي من جانب الجنود، مما أوقع ثلاثة عشر قتيلا، ولمذابح حقيقية قادها قطاع طرق من الليكود وأحزاب يمينية متطرفة.
وفي عشية انتخابه الكاسح، في مايو 1999، كان رئيس الوزراء العمالي پاراك يَعِد مع هذا باستئناف مسيرة السلام. ألم يجرؤ على أن يعلن، في أبريل 1998، وهو ما أثار استنكار اليمين: "لو كنتُ شابا فلسطينيا، كنت أنا أيضا سأختار العنف"؟
 
الانسحاب من جنوب لبنان
 
وبالفعل اتخذ السيد پاراك قرار وضع حدّ للاحتلال العسكري لجنوب لبنان. على أن الانسحاب المهرول للجيش الإسرائيلي من هذا الشريط من الأرض، والتخلي غير المجيد عن القوات المساعدة من جيش جنوب لبنان ALS، فسرهما حزب الله (الميليشيا الشيعية التي تدعمها إيران)، كما فسرهما قسم من الرأي العام العربي على أنه نصر عربي كبير ضد إسرائيل، النصر الأول في نصف قرن من المجابهات الإسرائيلية العربية.
بل حتى بدا، للحظة، أن الأمل في رؤية نجاح مفاوضات السلام قد ابتعد. وأن المنطقة تتهيأ للدخول في حلقة جديدة من عدم الاستقرار والتوترات. وكما هو الحال هنا دائما، فإن الأسوأ لم يكن مستحيلا.
غير أن المظاهر كانت خادعة. فالشرق الأوسط كان يطالب بالسلام. وفي إسرائيل، طالب به الرأي العام بصوت عال وبقوة. وفي أغلب البلدان العربية، فرضت الواقعية نفسها في الوقت الذي دقت فيه ساعة تغيير الزعماء. وفي الأردن وسوريا، صار جيل جديد من الآن فصاعدا في قيادة الدولة. وفي المملكة العربية السعودية، أو مصر، أو في داخل السلطة الفلسطينية، تبقى مسألة الخلافة أساسية. وما من زعيم متقدم في العمر يرغب في أن يترك لولي عهده حرب الوراثة.
 
إصلاحات في إيران
 
وأخيرا، في إيران، البلد الراعي لحزب الله اللبناني، لم يكف معسكر الإصلاحات عن أن يكسب أرضا. وإذا كان التضامن مع الفلسطينيين يبقى "قضية قومية"، فإن الشكل الذي يمكن أن يرتديه هذا التضامن، وفقا للإصلاحيين، لا يمر بالضرورة بالدعم المطلق للنضال المسلح والإرهاب ضد إسرائيل.
وبالفعل تهب رياح من الحرية على إيران منذ النصر الساحق لجبهة المشاركة، في 18 فبراير 2000، في الانتخابات التشريعية. وقد ذهبت غالبية مقاعد البرلمان إلى الأصدقاء الإصلاحيين للرئيس محمد خاتمي. كما أثبت هذا الفوز الانتخابي الكاسح - الذي جاء بعد الانتصارين في الانتخابات الرئاسية (مايو 1997) والبلدية (مارس 1999) - اتساع نطاق مطلب التغيير الذي يعبر عنه المجتمع، بعد الثورة الإسلامية بثلاثة وعشرين عاما.
وللأحداث التي تتعاقب في هذا البلد الذي تصل مساحته إلى ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا والمأهولة ﺒ 66 مليون نسمة، أهمية كوكبية وتخص بصورة مباشرة مجموع العالم الإسلامي، هذا الهلال الشاسع الذي يمتد من المغرب إلى إندونيسيا، ومن كوسوڤو إلى نيچيريا، والذي يضم أكثر من مليار نسمة.
 
النزعة الإسلامية السياسية
 
أخذت أفكار النزعة الإسلامية الإيرانية، التي تغذت على المساواتية، والعالم-الثالثية، ومعاداة الصهيونية، ومعاداة أمريكا، تنتشر، بعد 1979، عبر كل العالم الإسلامي. وفي كل بلد، وبصورة خاصة في الأوساط الأكثر حرمانا، سعت إيران إلى إقامة شبكات لتأييد استيلاء الإسلاميين على السلطة. وهكذا طمحت إيران إلى أن تصير القيادة الموجِّهة لإسلام سياسي مقاتل، مناوئ للنزعة التقليدية للمملكة العربية السعودية.
وقد أخفق هذا المشروع. والحقيقة أن هذا النظام الثوري يجد نفسه في المشهد الداخلي، في حالة تخبط كامل. محتقرا بسبب فساد معمم، ومزدرى لاتساع نطاق الكارثة الاقتصادية، وممزقا بمجابهات داخلية، وفاقدا المصداقية بتجاوزاته في مجال القمع، ومستنكرا لامتثاله الرجعي في مسألة العادات والتقاليد. ونجاحاته الثلاثة الكبرى ذات طابع اجتماعي (فقد استفاد المحرومون من الثورة)، وتعليمي (حملات محو الأمية، وتعميم التعليم المجاني، وأكثر من مليونين من الطلبة - تشكل النساء غالبيتهم - في التعليم العالي)، وديمقراطي (جرت انتخابات مايو 1997، ومارس 1999، وفبراير 2000، في جو من الشفافية).
ومن المفارقات أن هذه النجاحات الثلاثة تؤدي إلى تفاقم عدم مصداقية النظام. فالأجيال الشابة التي جرى تحويلها بصورة عميقة، وتعليمها، وتسييسها، هم أول المعبرين عن إحباطاتهم. ومرة أخرى، يتأكد الاستنتاج الشهير لأليكسيس دو توكڤيل Alexis de Tocqueville: "الثورات الكبرى الناجحة تمحو الأسباب التي أحدثتها، وتصير بالتالي غير مفهومة بسبب نجاحها ذاته"[56].
النساء، الشباب، المثقفون، مجموع معسكر الإصلاحيين، يطالبون بثورة في الثورة. وبطريقته الخاصة يذكّر الرئيس محمد خاتمي بميخائيل جورباتشوڤ عندما طالب، وهو على رأس الاتحاد السوڤييتي، من أجل النظام الناشئ عن ثورة 1917، بالشفافية (جلاسنوست glasnost) وإعادة البناء (پريسترويكا pereströka).
والحقيقة أن أنصار السيد خاتمي لا يتنكرون مطلقا لأحداث 1979 ولا يفكرون مطلقا في استعادة نظام الشاه. وإذا كانوا يقولون "لا" لنظام المُلات [أو: الملالي]  mollahs، فهذا لأنهم يعارضون مصادرة الثورة من جانب رجال دين شيعة عاجزين عن منح حماس جديد للبلاد.
 
نهاية حكم ثيوقراطي
 
وإعادة طرح الطابع الثيوقراطي للجمهورية الإسلامية للنقاش ماثلة في قلب الجدال بين المحافظين والإصلاحيين[57]. وهذا يهم العالم الإسلامي قاطبة. ويؤكد الإصلاحيون أن مؤسسة "ولاية الفقيه" التي تنشئ سلطة "مرشد أعلى" غير منتخب (حاليا آية الله على خامنئي) فوق سلطة رئيس الجمهورية، الممنوحة له من خلال صناديق الاقتراع - ليست لها شرعية مقدسة. وهذا الموقف لا يؤيده فقط العلمانيون، إذ يؤيده أيضا العديد من الشخصيات الدينية من الطراز الأول، الذين يخشون أن يروا الإسلام ذاته يعاني من عدم شعبية النظام. وبالفعل فإن المساجد تخلو ورجال الدين يتعرضون للتشنيع.
وبهذه الروح، قام الإصلاحيون بشن حملة من أجل وضع حد للسلطة الكلية للعقيدة الدينية، وإرساء أسس سيادة القانون، والتعددية، وحرية الرأي، وحق المثقفين والمبدعين في النقد، وتوسيع وصول النساء إلى المناصب المسئولة. وقد استطاعوا التعبير عن أفكارهم، وليس دون مخاطر، في مئات الصحف والمجلات الجديدة التي تشهد غليانا ثقافيا وفيضا إبداعيا هائلا. ومن الناحية الاقتصادية، فإن البرامج أكثر غموضا، غير أن الموقف منذر: 20٪ من السكان العاملين في حالة بطالة، و50٪ من السكان تحت خط الفقر، ودَيْن خارجي يبلغ أكثر من 22 مليار دولار. وإذا كان البعض يناصرون المحافظة على قطاع دولة قوي، على وجه التحديد في مجال الهيدروكربورات (= النفط)، فهناك آخرون يميلون إلى خصخصة كل المشروعات الوطنية وحتى تصفية احتكارات الدولة في وسائل النقل، والاتصالات، والطاقة... ويبقى المعسكر الإصلاحي، المتحد ضد المحافظين، منقسما بشأن مسائل جوهرية.
وعلى هذا فإن الرهانات أبعد من أن تكون متحققة. ويحتفظ المحافظون، وعلى رأسهم المرشد الأعلى على خامنئي، باليد العليا على السلطة القضائية، ووسائل الإعلام الجماهيرية الكبرى (الراديو والتليڤزيون)، والسلطة الاقتصادية، وأجهزة الشرطة، والقوات المسلحة، والميليشيات شبه العسكرية.
ولا يمكن استبعاد حدوث مواجهة بين المعسكرين. وينبغي أن يتذكر السيد خاتمي وأصدقاؤه من أنصار التحديث ما يلي: تعلمنا التجربة أن اللحظة الأكثر خطورة، بالنسبة لحكومة تخرج من فترة طويلة من النزعة المحافظة، تكون عادة هي اللحظة التي تبدأ فيها في إصلاح نفسها.
ومن جهة أخرى، سمحت هجمات 11 سپتمبر وحرب أفغانستان لدبلوماسية طهران بالانضواء من جديد في المحفل الدولي. وباعتبارها خصما، منذ البداية، لنظام طالبان وحامية لأقلية الهازارا Hazara (الشيعية) في أفغانستان، فإن إيران مستفيدة، في الواقع، من الموقف الجديد الذي نشأ بعد الإطاحة بطالبان. وهذا ما شجع، موضوعيا، على بعض التقارب بين طهران وواشنطن. هذا التقارب الذي تم وقفه بفظاظة في 29 يناير 2002 عندما وصف الرئيس بوش، في خطابه عن حالة الاتحاد، إيران بأنها تشكل، مع العراق وكوريا الشمالية، بلدان "محور الشر".
هذا السياق المتحول، وإن كان لا ينتقص من الالتزام الإيراني لصالح إقامة دولة فلسطينية، من شأنه أن يقود طهران إلى أن تفضل، سعيا وراء هذه الغاية، العمل الدبلوماسي على حساب مجرد الدعم العسكري لحزب الله ومنظمات أخرى تمارس العنف والإرهاب ضد إسرائيل.
 
التفاوض مع سوريا
 
لماذا، بعد اثنين وعشرين عاما من التفكير، قررت حكومة إسرائيل فجأة تطبيق القرار 425 للأمم المتحدة الذي يلزمها بسحب قواتها من جنوب لبنان؟ أولا لأن رئيس الوزراء، إيهود پاراك، كان قد وعد بالفعل في مايو 1999، عشية انتخابه المظفر، بوضع حدّ لهذا الاحتلال غير الشعبي مطلقا في إسرائيل. ثم لأن مثل هذه الحرب لا تضمن مطلقا، من وجهة نظر عسكرية على وجه الدقة، أمن إسرائيل وسكانها. وأخيرا، وبصورة خاصة، لأن هذا كان من شأنه أن يسمح بإحياء المفاوضات مع سوريا.
وكانت هذه المفاوضات، منذ انتخابه، أولوية إيهود پاراك. وكان مستعدا لأن يعيد إلى دمشق الجزء الأكبر من هضبة الجولان. وهو عرض قام بالفعل سابقوه بإعداده وظل يؤكد رغبته في التقدم نحو اتفاق مع سوريا. غير أنه، كما نعلم، تحطمت التسوية على رغبة الرئيس السابق حافظ الأسد في الحصول، بما يتفق من جهة أخرى مع القرار 242 لمجلس الأمن، على العودة إلى خطوط وقف إطلاق النار في 4 يونيو 1967، وبالتالي وصول سوريا إلى الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية.
وبانسحابه، دون الاتفاق مع دمشق، من جنوب لبنان، كان إيهود پاراك يرمي إلى ثلاثة أهداف. لقد أعطى دليلا جديدا للمجتمع الدولي على رغبته في السلام. وانتزع من دمشق دورا سياسيا متميزا، هو دور حامي حزب الله، المتحالف مع إيران، والذي كانت ضرباته الموجهة إلى قوات إسرائيل موضع احتفاء في العالم العربي والإسلامي. وأخيرا كشف پاراك في وضح النهار "الاحتلال الآخر" لبلد الأرْز، أيْ احتلال سوريا، التي احتفظت في لبنان ﺒ 35 ألف جندي... وبضربة واحدة، أرغم پاراك السوريين على التفكير: إذا تركوا حزب الله يضرب داخل إسرائيل، فإنهم سيعرضون أنفسهم لتحمُّل العواقب.
غير أنه كان من الصعب أن تسمح دمشق بهذا. وكانت حالة التدهور في البلاد كبيرة. وكان من الممكن لأية أزمة رئيسية أن تربك بشدة المشروع الأساسي للرئيس السابق الأسد: نقل السلطة إلى ابنه.
وبالمقابل فإن اتفاقا مع إسرائيل كان من شأنه أن يقدم امتيازات عديدة لسوريا، التي كانت ستستعيد هضبة الجولان، وتحافظ على مصالحها الإستراتيچية في لبنان، وتصل إلى القروض الغربية. ومن الجهتين، بالتالي، كان كل شيء يدفع إلى تسوية.
 
 
الفرصة الضائعة
 
فيما يتصل بالعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، أوضحت إشارات عديدة أننا، رغم المجابهات الدامية في مايو 2000، بعد اتفاقات أوسلو بسبع سنوات، كنا قد صرنا على أعتاب تسوية تاريخية. وهذا على مستوى الملفات الخلافية الرئيسية الثلاثة: الأراضي، القدس، اللاجئون.
وكان لا مناص من أن تدخر المفاوضات السرية التي أجريت، منذ بداية مايو، في إستوكهولم بين شلومو بن عامي، الوزير الإسرائيلي للأمن الداخلي آنذاك، وأحمد قريع (أبو علاء)، رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، مفاجآت مهمة للمعسكرين. كان على إسرائيل أن تتخلى عن ما بين 90٪ و92٪ من الضفة الغربية (وليس من 60٪ إلى 75٪، كما يقول البعض)، مع استبعاد منطقة القدس. وبالتالي كان على الفلسطينيين أن يتنازلوا عن الأراضي التي يقيم عليها حوالي 80٪ من المستوطنين اليهود.
وفيما يتعلق بالقدس، كان بوسع الفلسطينيين أن يقيموا عاصمتهم في أبو ديس Abou Dis، وهي ضاحية من ضواحي المدينة المقدسة، أعادتها إسرائيل حديثا، وكانت ستتخذ رسميا اسم القدس، الاسم العربي لأورشليم، ويتم ربطها بالأماكن الإسلامية المقدسة بمَمَرّ تحت السيطرة الفلسطينية. أما القدس الشرقية، التي يعيش فيها 200 ألف فلسطيني فكان عليها أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية، ولكنها كانت ستوضع تحت الإدارة البلدية الفلسطينية.
وأخيرا، وفيما يتعلق بالمشكلة الشائكة للاجئين (حوالي 4 ملايين فلسطيني)، كان على إسرائيل أن تسمح بعودة، رمزية، لبضع عشرات من الأشخاص، مع تعويض الآخرين. وهذه النقطة، وعلى وجه الخصوص تقيُّد الفلسطينيين بمبدأ "حق العودة" الذي أوصى به القرار 194 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 1948، هي التي ظلت حجر العثرة الرئيسي. وقد توقع البعض أن هذا الموضوع سيتم "ترحيله" إلى مفاوضات في المستقبل بين الدولة الفلسطينية ودولة إسرائيل.
 
السلام في متناول اليد
 
بعد قراره الشجاع بوضع حد لاحتلال جنوب لبنان وعزمه، الذي لا يقل شجاعة، على إعادة الجولان إلى سوريا مقابل السلام، بدا أن السيد پاراك قرر وضع حد للظلم الذي حاق بالفلسطينيين. وبالتالي بدا السلام في متناول اليد. وفيما يتعلق بالملفات الخلافية الرئيسية - إعادة الأراضى، والقدس الشرقية، ومسألة اللاجئين -، بدا أن الطرفين على وشك التوصل إلى تسوية[58].
وكانت هذه التسوية تفترض بالضرورة، بالنسبة للمعسكرين - ولكن أكثر بالنسبة للفلسطينيين -، تنازلات، سرعان ما وصفها المتطرفون من المعسكرين بأنها "غير مقبولة"، بل حتى "انتهاكا للمقدسات". على أنه بدا أن من شأن مشروع الاتفاق، رغم نواقصه، أن يقوم أخيرا، بعد أوسلو بسبعة أعوام، بإحياء ديناميكا حقيقية للسلام. وباستئصال العنف من المنطقة، سوف تضمن هذه الديناميكا الطموح المشروع لإسرائيل في الأمن، وسوف تعترف بالحق الذي لا يقل مشروعية للفلسطينيين في العيش في دولة ذات سيادة، وسوف تسمح بالتالي لمجموع الشرق الأوسط بأن تكرس نفسها للأمر الجوهري: التنمية الديمقراطية، والاقتصادية، والاجتماعية.
فلماذا، بعد أن كانوا قريبين إلى هذا الحد من السلام، يجد الإسرائيليون والفلسطينيون أنفسهم غارقين، في هذه البداية للقرن الحادي والعشرين، في هذه الحرب الجهنمية؟ وقد سمحت تسرُّبات جديدة بشأن المفاوضات السرية في كامپ ديڤيد (الولايات المتحدة)، في يوليو 2000، بالتأكد من أن الفلسطينيين، الذين يحترقون بالانتهاكات المتواصلة التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية، لم يكونوا ميالين إلى أن يقبلوا تنازلات جوهرية إضافية. ومن الحقيقي أن مجلسهم الوطني، باعترافه بإسرائيل، في 15 نوڤمبر 1988، قد قبل باحتلال الدولة اليهودية لنسبة 78٪ من فلسطين تحت الانتداب، مكتفين للدولة الفلسطينية بنسبة 22٪ الباقية. فكيف يمكن، في هذه الأوضاع، أن يجري التنازل أيضا عن نسبة 10٪ من الضفة الغربية - وهي نسبة لن تشمل، فيما يبدو، لا منطقة القدس، ولا منطقة وادي الأردن، اللتين كان السيد پاراك يعتزم الاحتفاظ بالسيادة الإسرائيلية عليهما؟
ووفقا للخريطة التي أوجزها الوفد الإسرائيلي، فإن "المستوطنات" التي ستضمها إسرائيل ستمزق الضفة الغربية لنهر الأردن إلى ثلاث قطع غير متصلة. ألا يقضي القرار 242، الذي أقره مجلس الأمن للأمم المتحدة في 1967، بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة (le retrait d’Israël des territoires occupés)؟ واتفاق أوسلو... ألا يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام؟
غير أن الفلسطينيين لم يكونوا مستعدين بعد للتنازل فيما يتعلق بمسألة القدس الشرقية، حيث كان هدفهم اتخاذها عاصمة لهم. وكانوا يقدرون أن يكون القانون الدولي إلى جانبهم، لأن القرار 242 للأمم المتحدة ألزم إسرائيل بالانسحاب إلى حدودها قبل حرب 1967. وقد قبلوا على كل حال، كدليل على حسن النوايا، أن يتخلوا عن السيادة الكاملة لإسرائيل على حائط المبكى وكذلك، وهذا تنازل رئيسي، عن الأحياء اليهودية بالمدينة القديمة.
وشاعرا بأنه مؤتمن على وعده لقسم من شعبه بأن تبقى القدس الموحدة "العاصمة الأبدية" لإسرائيل، لم يكن بوسع إيهود پاراك الموافقة على الاعتراف بالسيادة الفلسطينية على القسم الشرقي من المدينة. ومقدِّرا من جانبه بأنه مكلَّف، من المؤمنين كافة ومن الدول الإسلامية، بوجوب الاحتفاظ بالأماكن المقدسة لدى المسلمين تحت حماية عربية، لم يكن بوسع ياسر عرفات أن يتنازل.
وقد أدى هذا المأزق المزدوج، بشأن مسألة لا شك في أنها سياسية، ولكن ذات مكوِّن ديني قويّ، إلى إخفاق المفاوضات. ذلك أن الاقتراحات الأخيرة للسيد پاراك، والتي قبلت، في نهاية سپتمبر 2000، أن تقام العاصمة الفلسطينية، تحت اسم القدس، على بعد كيلومترين على الأقل من ساحة المساجد، هذه العاصمة التي ستبقى تحت وصاية (ولكن ليس تحت سيادة) فلسطينية، لم تنجح في وقف دوامة العنف، الذي استفحل أكثر منذ أن صار الچنرال أرئيل شارون رئيسا للوزراء.
 
حق العودة؟
 
ملف آخر ساخن: مصير لاجئي 1948 - نفس أولئك الذين قام "المؤرخون الجدد" الإسرائيليون بإعادة إثبات ترحيلهم الإجباري - ولاجئي 1967. وهنا أيضا، كان القانون الدولي إلى جانب الفلسطينيين: أكد القرار 194 للجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ 11 ديسمبر 1948، حقهم في العودة. وهذا ما اعترفت به... إسرائيل: في إطار مؤتمر لوزان، وقعت إسرائيل بالفعل مع جيرانها العرب، في 12 مايو 1949، پروتوكولا يعتمد في آن معا خطة تقسيم 1947 والقرار 194! غير أنه، في نفس يوم 12 مايو 1949، دخلت الدولة اليهودية في منظمة الأمم المتحدة، وجرى إجهاض مؤتمر لوزان. وفيما بعد اعترف المنسق العام للوزارة الإسرائيلية للشئون الخارجية، والتر إيتان Walter Eytan: "كان هدفي الرئيسي أن أبدأ في تقويض پروتوكول 12 مايو، الذي كنا مجبرين على توقيعه في إطار معركتنا من أجل القبول في الأمم المتحدة"[59].
وبعد ذلك باثنين وخمسين عاما، "نسيت" دولة إسرائيل هذه القصة: عودة اللاجئين تبدو، في نظرهم، تهديدا لطابعها اليهودي، بل حتى لوجودها. فلا مجال، إذن، بالنسبة لرئيس الوزراء إيهود پاراك، لأن يقطع، في كامپ ديڤيد، أصغر خطوة في اتجاه ياسر عرفات.
غير أن شرف المثقف يوجب الإقرار بأنه بشأن هذا الملف، كما بشأن الملفات الأخرى، تتحمل السلطة الفلسطينية جانبا من المسئولية. لا قبل، ولا أثناء، ولا بعد قمة كامپ ديڤيد، استطاعت أن تعرض بوضوح مقترحاتها، ولا اعتراضاتها على مقترحات الجانب الإسرائيلي. ولا شك في أن الزعماء الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية قد استغلوا حق العودة كمجرد أداة للمناورة.
بل إن كاتبا إسرائيليا كبيرا، عضوا منذ وقت طويل في "معسكر السلام"، مثل عاموس أوز Amos Oz، انتهى إلى أن يكتب قائلا إن الإقرار بهذا الحق "سينتهي إلى إلغاء حق تقرير المصير للشعب اليهودي. إنه سيجعل من الشعب اليهودي أقلية إثنية تحت رحمة العرب، ’أقلية محمية‘، كما يتمنى الأصوليون المسلمون. إن الإقرار ﺒ ’حق العودة‘ يساوي إبادة إسرائيل. [...] وبدلا من ’دولتين لأمتين‘، ستوجد في نهاية المطاف دولتان عربيتان على هذه الأرض"[60]... ولكن هل كانت هذه الفزّاعة ستكون فعالة في تلك المرحلة، لو أن الزعيم الفلسطيني، قال على الملأ، ما قالته السيدة ليلى شهيد، المندوبة العامة لفلسطين في فرنسا - وما قاله مفاوضوه في الغرفة السرية الدبلوماسية: "من الجلي أنه لا أحد يسعى إلى تغيير الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية. [...] من الجلي أن حق العودة لن يمكن تطبيقه على كل اللاجئين، وسوف ينبغي بالتالي نقاش تطبيقه، غير أنه من الجلي تماما كذلك أن المبدأ ينبغي إقراره"[61].
 
تسوية طابا
 
وعلى كل حال فإن هذه الأخطاء لا يمكن أن تبرر حكم عدد من المراقبين الذين وفقا لهم، قدم إيهود پاراك، في كامپ ديڤيد، "عرضا سخيا" رفضه ياسر عرفات. ولا جدال في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ذهب إلى أبعد من أيٍّ من سابقيه، ولكن ليس بعيدا بما يكفي لتلبية مقتضيات القانون الدولي وخلق الشروط التي لا غنى عنها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة. "كان هذا مستحيلا"، يجيب هؤلاء المراقبون أنفسهم. وقد تباين التاريخ، بشأن هذه النقطة. فبعد أن تم، في ديسمبر 2000، نشر مقترحات الرئيس الأمريكي ويليام كلينتون، انتهت الحكومة الإسرائيلية، وكذلك السلطة الفلسطينية، إلى قبول الاستئناف في طابا، في مصر، على هذا الأساس الجديد، للتفاوض الذي بدأ في الولايات المتحدة. ونحن نعلم الآن أن هذا التفاوض قد رسم الخطوط الكبرى لاتفاق ممكن بشأن مجموع الملفات التي نوقشت، بما في ذلك حق العودة، الذي تم إقرار مبدئه للمرة الأولى من جانب إسرائيل، مقابل "تطبيق مرن"[62].
وفي غضون هذا، استقال السيد پاراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي، داعيا إلى انتخابات مبكرة تحددت بتاريخ 6 فبراير 2001. ونظرا للانتصار المعلن لأرئيل شارون، فإن الوفاق الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي كان أداة لإعادة انتخاب ممكنة، صار في نظره رصاصة: واستدعى بالتالي مفاوضيه. فماذا لو أن إيهود پاراك، بدلا من أن يلقي بالقفاز، أعطى لنفسه عدة شهور إضافية لكي يقوم، حالما يجري إعداد الاتفاق وتوقيعه بالأحرف الأولى، بالدفاع عنه لدى الرأي العام؟ وتدفع المعطيات المتوفرة إلى الاعتقاد بأن أغلبية واضحة من الإسرائيليين كانت ستقوم بالتصديق عليه، بشرط أن يقدم أفقا للسلام في حالة من الأمن واحترام حق الشعبين في تقرير مصيرهما بحرية. ولم يأخذ هذا السيناريو، واأسفاه، فرصته، فقد أدخل انتخاب السيد شارون، رئيس الليكود، المواجهة، التي كانت دامية أصلا، في المأزق الدرامي الذي عرفته المنطقة في نهاية 2001.
 
مسئولية الولايات المتحدة
 
تتحمل الولايات المتحدة مسئولية كبرى في هذا التطور: بدلا من أن تلعب دور الوسيط، أبدت تحيزا متواصلا لصالح إسرائيل. ولم تكف عن التهديد بالتدخل عسكريا ضد بلدان عربية عديدة (اليمن، السودان، وخاصة العراق) وهي بلدان مشتبه في أنها، بعد هجمات 11 سپتمبر 2001، تستضيف وتحمي وتساعد منظمات إسلامية إرهابية.
وخلال عدة أسابيع، في نهاية 2000، وفي عنفوان الهجوم العسكري في أفغانستان، أشيع أن الپنتاجون كان على وشك توجيه ضربات ضد العراق، المتهم (ظلما) بأنه ضالع في موجة الإرهاب المرتبطة بالأنثراكس ("الجمرة الخبيثة") التي ضربت أمريكا في الأيام التالية ﻠ 11 سپتمبر. وكان هناك في وقت من الأوقات الانطباع بأن واشنطن سوف تستغل وضع الأزمة الدولية لتسوية مشكلة متروكة بلا حلّ في نهاية حرب الخليج.
وقد ضغط كثير من أصدقاء إسرائيل بصورة مطلقة على الإدارة الأمريكية لتمضي في هذا الاتجاه. إذ كانوا يعرفون أن الولايات المتحدة تمثل، في عالم وحيد القطب، البلد الأقوى بين البلدان التي يتألف منها النظام الدولي، وأنها تستطيع أن تمارس هيمنتها بطريقة سلطوية.
وبالفعل فإن أمريكا تخضع العالم كما لم تفعل أية إمبراطورية في تاريخ البشرية. وبعد انتصارها في حرب الخليج، في 1991، ألم تقترح واشنطن بناء "نظام عالمي جديد" مصنوع على صورتها؟ لقد أعلن الرئيس چورچ بوش (الأب) في ذلك الحين بنبرات نبوئية أن: "الولايات المتحدة مدعوة إلى قيادة العالم للخروج به من ظلمات وفوضى الدكتاتورية نحو وعد أيام أفضل".
وهذه الرغبة في الممارسة من الناحية الفعلية للقيادة العالمية، والتدخل في الأزمات، وجعل الميزان يميل إلى الجانب الأكثر ملاءمة لمصالحها، لم تكف عن تأكيد نفسها، من 1994 إلى 2001، مع الرئيس ويليام كلينتون. وقد أكد بالفعل إيبير ڤيدرين Hubert Védrine الوزير الفرنسي للشئون الخارجية: "تعتبر الولايات المتحدة أنها قادرة على أن تتولى مهمة منحتها لنفسها بنفسها، بحكم وزنها على رقعة الشطرنج العالمية. إننا أمام ظاهرة قوة فائقة hyperpuissance"[63].
وقد ذكرت بالفعل وزيرة الخارجية السابقة، مادلين ألبرايت Madeleine Albright، بمناسبة المواجهة مع العراق في فبراير 1998، أنها تمثل "أمريكا مقتنعة بأن عليها في الحقيقة مسئوليات عالمية، وهذا ما يعني أننا عندما نستطيع تغيير الأمور، فإن علينا أن نفعل هذا"[64]. دون المرور بالأمم المتحدة، التي قامت واشنطن، رافضة إعادة انتخاب أمينها العام بطرس بطرس غالي في 1996، بفرض أن لا يكون الأمين العام الجديد سياسيا، فقد طالبت السيدة ألبرايت بأن "يكون الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إداريا فقط. ومن الممكن، في مرحلة تاريخية قريبة، أن يكون له دور أكثر سياسية، ولكن ليس فيما يتعلق بالأعوام الخمسة المقبلة"[65]. وتشاء سخرية التاريخ أن يكون هذا "الإداري" هو كوفي أنان Kofi Annan، الذي أثبت، بمناسبة أزمات مختلفة، ضرورة السياسي... والأمم المتحدة.
 
ما من إستراتيچية للشرق-الأوسط
 
غير أنه بصرف النظر عن الدعم الدائم الممنوح لإسرائيل، لا تملك الولايات المتحدة أية استراتيجية شاملة للشرق الأوسط. وحتى بعد هجمات 11 سپتمبر 2001، لم تقم واشنطن بشيء حاسم (يمثل إرسال چنرال "المارينز" marines، أنتوني زيني، كوسيط إجراءً دبلوماسيا ثانويا) لتجديد دينامية مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومع هذا يختلف الوضع الحالي في العالم العربي عما كان عليه في 1991 أثناء حرب الخليج. والحقيقة أن وحشية الحصار المفروض على بغداد (طفل عراقي يموت بسببه كل ست دقائق، منذ أحد عشر عاما...) والقصف الأمريكي المتعاقب في 1992، 1993، 1996، و1998، يعطي الانطباع بعنف ضار معادٍ للعراق، ضحاياه الرئيسيون مدنيون.
وفي تناقض صارخ، يبدو موقف الولايات المتحدة على قدر استثنائي من الوداعة تجاه سلطات إسرائيل، البلد الذي يواصل الاحتلال، بالرغم من القوانين الدولية، لجزء من سوريا (الجولان) وكذلك لأراضى غزة والضفة الغربية، فضلا عن القدس الشرقية. بلد قامت فيه حكومة أرئيل شارون، غير مكترثة بالاحتجاجات، بوضع حد لمفاوضات السلام مع الفلسطينيين وتواصل الاستيطان والقمع. بلد، أخيرا، يملك كل أنواع أسلحة الدمار الشامل (الكيميائية، والبيولوچية، والذرية)، وينتهك منذ ثلاثين عاما كل ما يخصه من قرارات الأمم المتحدة، دون أن تجري معاقبته مطلقا. بل على العكس، واصلت واشنطن منحه، كل عام، مساعدة قيمتها 3 مليارات دولار.
وبالمقابل، يشعر الرأي العام العربي، الذي يعبر بقوة متزايدة عن تعاطفه مع الشعب العراقي، بأن هذا ظلم فادح. كما أن المثقفين الأكثر تأثيرا تصدروا، دون أن يتجاهلوا أن نظام بغداد إنما هو دكتاتورية تقوم على الإرهاب والقمع، حملة جهاد ديني من التضامن مع المجتمع العراقي: وخوفا من قوة هذه الحركة (وللاحتجاج ضد تصلب الحكومة الإسرائيلية)، رفض أغلبية زعماء المنطقة أن يربطوا أنفسهم بمشروع قصف العراق في أعقاب الانتصار في أفغانستان في يناير 2002.
وسيفجّر هذا دون شك، في كل مكان تقريبا، مظاهرات واسعة النطاق معادية لأمريكا. وفي عالم عربي لا توجد فيه أية ديمقراطية حقيقية، وحيث يوجد عدد من القادة في السلطة هم من بين أقدم الحكام على ظهر الكوكب، يمكن أن يُفضي هذا إلى عدم استقرار عدة أنظمة، وعلى وجه الخصوص تلك الأكثر قربا من واشنطن...
 
رفض الإنصاف
 
لم تستطع الولايات المتحدة أبدا أن تثبت أنها حازمة تجاه تصلب السلطات الإسرائيلية. والواقع أن المباراة ليست متكافئة. وكل أولئك الذين يطالبون بعصبية ﺒ "توازن"[66] في التناول الإعلامي لهذا الملف الدبلوماسي، يرغبون على هذا النحو في تمويه الحقيقة المجردة.
وهذه الحقيقة جلية: المقصود، في الضفة الغربية وغزة، رفض سافر للإنصاف تجاه الحقوق الأولية للفلسطينيين. وهذا الرفض للإنصاف لا يبرر بأي حال، في نظرنا، اللجوء إلى الإرهاب، ولا إلى الهجمات العمياء ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء. وفي كل منطقة أخرى من العالم، فإن من شأن وضع كهذا من الاضطهاد أن يثير السخط العادل لدى المثقفين الذين يثورون، في هذا النوع من الحالات، ضد انتهاكات حقوق الإنسان، ويطالبون بإنشاء محاكم دولية، ويوقظون الرأي العام في كل مكان، بل حتى يطالبون (في كوسوڤو، في الشيشان، في تيمور الشرقية) بتدخلات عسكرية. وكما يؤكد، على سبيل المثال، دانييل بن سعيد Daniel Bensaïd، وروني براومان Rony Brauman، ومارسيل-فرانسيس كاهن Marcel-Francis Kahn، فإن "عددا من المثقفين، من المنخرطين في الدفاع عن الحقوق القومية للبوسنيين، أو الشيشانيين، أو الكوسوڤيين، يظلون صامتين بصورة غريبة (إن لم يكن الموقف أسوأ) عندما يتعلق الأمر باللاجئين الفلسطينيين والمخيمات الفلسطينية"[67].
وعلى إسرائيل، هذه القوة العسكرية الكبرى superpuissance المستندة إلى القوة الفائقة hyperpuissance للولايات المتحدة، أن تكون منصفة. ويبدو جزء من طبقتها السياسية عاجزا عن التفكير في تحديات ما بعد الصهيونية، مفتقرين في آن معا إلى الخيال، والجسارة، والقلب. فهل سيكون لديها الشجاعة لتقديم تنازلات لا غنى عنها؟ لتفكيك المستوطنات، كما في الخليل أو غزة، والتي أنشأها بصورة غير مشروعة متعصبون من أقصى اليمين، مدججون بالسلاح وعنصريون؟ وأن تتخلى عن وَهْم أن الفلسطينيين مستعدون دائما لقبول أيّ شيء مهما كان لأن علاقة القوى في غير صالحهم؟ وأن تسلم بأن الفلسطينيين يناضلون في سبيل حريتهم واستقلالهم، وأن الاحتلال الظالم من جانبهم، انتحاري حتى بالنسبة لمستقبل الدولة اليهودية[68]؟
 
 
 
الحقيقة والتوفيق
 
لأسباب متعددة، لا يستطيع الشرق الأوسط أن يسمح لنفسه بأن يؤجل لفترة طويلة أخرى ساعة نهاية الصراع. وفي إسرائيل كما في فلسطين، يطالب الرأي العام بهذا. ويمرّ الحل، السياسي، بالتعايش، السلمي وحتى البنّاء، بين دولتين، إحداهما يهودية والأخرى عربية. غير أن هذا الحل يقتضي أيضا التوفيق بين شعبين يجب عليهما كليهما، بين أشياء أخرى، أن يضطلعا بمسئولية تاريخهما.
هذه هي الأهمية البالغة، على سبيل المثال، للنداء الذي أطلقه منذ أربعة أعوام إدوارد سعيد Edward W. Saïd. فقد ردّ هذا المثقف الأمريكي الفلسطيني على الأصدقاء العرب لروچيه جارودي Roger Garaudy، قائلا: "الأطروحة التي وفقا لها لم يكن الهولوكوست سوى حكاية مختلقة من تلفيق الصهاينة يجري تداولها هنا وهناك بطريقة غير مقبولة. لماذا ننتظر من العالم بأسره أن يدرك آلامنا كعرب إذا لم نكن على مستوى إدراك آلام الآخرين، حتى عندما يتعلق الأمر بمضطهدينا، وإذا أثبتنا أننا عاجزون عن أن نتعامل مع الوقائع مادامت توقع الاضطراب في الرؤية التبسيطية للمثقفين ’الامتثاليين‘ bien-pensants الذين يرفضون أن يروا الصلة الموجودة بين الهولوكوست وإسرائيل." ويواصل سعيد قائلا: "إن القول بأن علينا أن ندرس واقع الهولوكوست لا يعني بحال من الأحوال أن نقبل الفكرة التي وفقا لها يبرر الهولوكوست للصهيونية الشرّ الذي تنزله بالفلسطينيين. وعلى العكس، فإن الإقرار بتاريخ الهولوكوست وجنون الإبادة الجماعية ضد الشعب اليهودي يمنحنا المصداقية فيما يتعلق بتاريخنا الخاص؛ إن هذا يسمح لنا بأن نطلب من الإسرائيليين ومن اليهود أن يعقدوا صلة بين الهولوكوست والمظالم الصهيونية المفروضة على الفلسطينيين، أن يعقدوا صلة وفي الوقت نفسه أن يطرحوا هذه الصلة للنقاش لتبديد ما يخفي النفاق والانحراف الأخلاقي".
ويضيف المثقف الفلسطيني: "إن تناول الأمور بطريقة روچيه جارودي وأصدقائه الإنكاريين négationnistes باسم ‘حرية التعبير‘ خدعة حمقاء لا تؤدي إلا إلى إفقادنا المصداقية في أعين العالم. وهذا دليل على سوء فهم جوهري لتاريخ العالم الذي نعيش فيه، وعلامة على عدم الكفاءة والإخفاق في قيادة معركة مشرفة!"[69]. وقد استجاب لهذا النداء، في العالم العربي، مثقفون آخرون قاموا، متصدين لإحياء معاداة للسامية يغذيها انحطاط الصراع، بمعارضة مُنكري اﻠ شوواه [70]Shoah.
ويمكن أن نرى هنا كيف أنه توجد يد ممدودة، فوق نهر الدم الذي يفصل في الوقت الحالي بين الشعبين، في سبيل تشجيع وصول هذه اللحظة التي تبدد فيها الحقيقة أخيرا الأحقاد وتقيم السلام بصورة دائمة. وفي سبيل إنقاذ الشعبين، على هذا النحو، من دمار محقق...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
العولمة/ مناهضة العولمة
 
الحرب الاجتماعية الكوكبية
 
نعرف قولة ماركس: "أعطني طاحونة الهواء، أعطك العصر الوسيط". ويمكن أن نضيف، معبرين عنها بكلمات أخرى: "أعطني الآلة البخارية، أعطك العصر الصناعي". أو، بتطبيقها على زماننا المعاصر: "أعطني الكمپيوتر، أعطك العولمة".
مثل هذه الحتميات، حتى وإنْ كانت مسرفة بالضرورة، تلخص بصورة جيدة جدا هذه الفكرة الرئيسية: في لحظات مفصلية للتاريخ، يظهر اختراع رئيسي - لا يكون مطلقا وليد المصادفة - فيقلب نظام الأشياء و ويحوّل مسار مجتمع، ويطلق حركة جديدة طويلة الأمد. والحقيقة أننا، وبصورة غير ملحوظة، ومنذ عقد كامل، دخلنا حركة من هذا النوع.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، غيرت الآلة البخارية، من خلال إحداث الثورة الصناعية، وجه العالم: انطلاق الرأسمالية، ظهور الطبقة العاملة، نشأة الاشتراكية، توسع الاستعمار الكولونيالي، إلخ. غير أن هذه الآلة لم تحلّ، في نهاية المطاف، إلا محلّ العضلة.
ولأن الكمپيوتر ينطوي على النزوع إلى أن يتناوب مع الدماغ، فقد صار بسبيله إلى أن يُحْدث، أمام أعيننا، تحولات هائلة ولم يسبق لها مثيل أيضا. والواقع أن الجميع يشاهدون الآن أن كل شيء من حولنا يتغير: البيئة الجغرافية-السياسية، والسياق الاقتصادي، والمعطيات السياسية، والثوابت الإيكولوچية، والقيم الاجتماعية، والمعايير الثقافية، والسلوكيات الفردية.
وقد أدخلتنا تكنولوچيات المعلومات والاتصال، وكذلك الثورة الرقمية numérique، طوعا أو كرها nolens volens ، في عصر جديد، تتمثل سماته المميزة الرئيسية في النقل الفوري للمعطيات اللامادية وانتشار صلات وشبكات الإلكترونية. ويشكل الإنترنت قلب التحول الكبير الجاري وتقاطع طرقه و محصلته التركيبية. وتمثل الطرق السريعة للاتصال، في العصر الراهن، ما كانت تمثله السكك الحديدية في العصر الصناعي: عوامل جبارة لدفع وتكثيف المبادلات.
 
اقتصاد جديد
 
تذكَّر العديد من المضاربين، واضعين هذه المقارنة في أذهانهم، أن "المزايا الاقتصادية لنظام للنقل تزيد بخط منكسر، بقفزات مفاجئة، عندما تتحقق صلات بعينها"، وأنه "في أربعينات القرن التاسع عشر، كانت إقامة السكك الحديدية تشكل، في حد ذاتها، الدافع الأكثر أهمية للنمو الاقتصادي، في أوروپا الغربية"[71]. ومنذ منتصف التسعينات، راهن الرأسماليون الجدد بالتالي على النمو بالمتواليات الهندسية، في هذه المرحلة من الانطلاق، لكل الأنشطة المرتبطة بالطرق السريعة للاتصالات، وبتكنولوچيات الواقع الافتراضي، وبالإنترنت. وقد أطلق على حُمَّى المضاربة هذه، في 1999 و 2000، اسم "الاقتصاد الجديد".
وظل كثير من المستثمرين مقتنعين بأنه، في ساعة تحول من أسرع التحولات التي شهدها العالم طوال تاريخه، صارت المشروعات مجبرة في كل مكان، لكي تتكيف، على الإنفاق كثيرا على الأجهزة المعلوماتية، على الاتصال التليفوني الرقمي، على الاتصالات البعيدة المدى بالأقمار الصناعية، على الشبكات، إلخ. وبدت آفاق النمو بلا حدود. وفي فرنسا، من 1997 إلى 2000، على سبيل المثال، تضاعف معدل تجهيز المكاتب والمنازل بأجهزة الكمپيوتر. ومن جهة أخرى، وفي غضون هذه السنوات الثلاث، اشترى أكثر من 10 ملايين شخص تليفونات محمولة. وفي 31 ديسمبر 2001، وصل معدل انتشار الاتصال التليفوني المحمول 61.6٪ وصار 37 مليون من الفرنسيين مزودين بتليفون محمول. وهناك تقديرات، علاوة على هذا، بأن عدد مستعملي الإنترنت، المقدر ﺒ 142 مليون شخص في 1988، لا مناص من أن يتجاوز، في 2003، 500 مليون شخص ...
كذلك فإنه لا مناص من أن تشهد المعركة الاقتصادية الكبرى للمستقبل المجابهة بين المشروعات الأمريكية، والأوروپية، والياپانية، من أجل السيطرة  على الشبكات ومن أجل السيطرة على سوق الصور، والمعلومات، وأوقات الفراغ، والصوت، ومناضد اللعب الإلكترونية، وباختصار، المحتويات. ولكن أيضا، بل حتى بوجه خاص، وفي سبيل فرض نفسها في قطاع التنمية بالمتواليات الهندسية للتجارة الإلكترونية. ولا مناص من أن يتحول الإنترنت إلى قلعة عرض تجارية واسعة[72]. وبعد أن كانت التجارة الإلكترونية جنينية في 1998، بما يعادل قرابة 8 مليارات يورو من المبادلات، وصلت إلى 40 مليار في عام 2000 ولا مناص من أن تتجاوز 80 مليارا في 2005...
ومُصابين بحمى التلهف على الثراء، وحالمين بمورد إثراء سهل، وبتشجيع من غالبية وسائل الإعلام، اندفعت جماعات المستثمرين (القدامى والجدد) في كل مكان تقريبا، خلال العامين الأخيرين من "الرواج التكنولوچي" 1999-2000، نحو البورصات كما كان يندفع الباحثون عن الذهب منذ عهد قريب نحو إلدورادو Eldorado أو كلوندايك Klondike. وانفجرت أسعار قيم بعينها مرتبطة ﺒ جالاكسي إنترنت la galaxie Internet. وفي 1999، شهدت قرابة عشر شركات قيم أعمالها تتضاعف مائة مرة. وحققت شركات أخرى مثل أمريكان أون لاين American On Line (AOL) نتائج أفضل: فقد تضاعفت قيمتها في البورصة، منذ 1992، ثمانمائة مرة.
 
انهيار ناسداك Nasdaq
 
بعد أن استثمر أحد المدخرين ألف يورو فقط في أسهم كل من خمس [شبكات] إنترنت كبرى (AOL, Yahoo!, Amazon, AtHome, eBay)، يوم إدخالها في البورصة، كسب، منذ 9 أبريل 1999، مليون يورو.... وقد سجل مؤشر ناسداك Nasdaq (البورصة التي تتم فيها مبادلة أغلب قيم التكنولوچيا المتقدمة في نيويورك)، بالنسبة لعام 1999، ربحا بلغ 85.6٪!
على أن الإثراء بسرعة، دون جهد ودون عمل، كثيرا ما يتمخض عن سراب. وابتداءً من مارس 2000، انهار ناسداك ماليًّا، جارًّا معه في سياق انهياره، عبر العالم، أغلب القيم التكنولوچية والاتصالات البعيدة المدى...
وحتى خلال عاميْ الرواج التكنولوچي، في الولايات المتحدة، كان من المفارقات أن مختلف أشكال اللامساواة ظلت تزداد عمقا. ووصلت في بداية الانهيار المالي لناسداك، في مارس 2000 بالتالي، إلى مستويات لم نشهدها قط منذ الكساد الكبير. واتضح أن ازدهار "الاقتصاد الجديد" هش إلى حد جعلنا نفكر في الرواج الاقتصادي لعشرينات القرن العشرين، عندما كان التضخم، في أعقاب ما حدث في 1999 و2000، هزيلا والإنتاجية مرتفعة. إلى حد أن بعض المحللين لم يترددوا، وهم يرون مؤشر ناسداك يرتفع بشدة، عن توقع "انهيار تكنولوچي"، عن إعلان "خطر إفلاس"، جعل شبح 1929 يحلق في الأفق[73]...
وتوجد اليوم تقديرات ببقاء 25٪ بالكاد من مشروعات اقتصاد الإنترنت Net-économie، في الأجل المتوسط. وسرعان ما حذرت سلطات مالية كبرى المدخرين: "كونوا حذرين إزاء سندات وأسهم شركات الإنترنت"، كما أكد على سبيل المثال، منذ مارس 2000، أرناوت ويلينك Arnaut Wellink، رئيس البنك المركزي الهولندي، الذي شبّه المضاربين ﺒ "خيول مجنونة تجري جميعا بعضها وراء الأخرى بحثا عن منجم ذهب"[74].
ويُقال أحيانا إن هناك ثورات سياسية تلتهم أبناءها. والحقيقة أن الثورات الاقتصادية تفعل الشيء نفسه...
 
الأرجنتين حالة نموذجية
 
وعلى هذا النحو، على سبيل المثال، فإن الإعصار الاقتصادي الذي ضرب الأرجنتين، في نهاية ديسمبر 2001، لم يقم فقط بتفجير أعمال شغب دامية (ثلاثون قتيلا)، وبإدخال البلاد في حالة من الفوضى، بل اكتسح حكومتها وخمسة رؤساء جمهورية في أقل من أسبوعين... ويبدو أن هذه الأزمة نموذجية من نواح كثيرة. وقد اتبعت الأرجنتين، منذ 1989، بصورة حرفية، كل توصيات صندوق النقد الدولي وكل الهيئات المالية الدولية. وقد جرت خصخصة مجموع ثروة الدولة هناك (النفط، والمناجم، والكهرباء، والمياه، والتليفون، وطرق السيارات، والسكك الحديدية، والمترو، وشركات الطيران، وحتى البريد!)، كما تم تحرير التجارة الخارجية بالكامل، وألغيت الرقابة على أسعار الصرف، كما تم تسريح عشرات الآلاف من الموظفين أو تقليص رواتبهم ومعاشات تقاعدهم من أجل خفض عجز الدولة. حتى النقود ذاتها جرت معادلتها (المسجلة في الدستور!) مع الدولار حتى لا يعود من المسموح به لحكومة في المستقبل بأن تقوم بخفض قيمتها.
غير أن مبلغ بيع كل ثروة الدولة، الذي وصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، قد تبخر كله ببساطة، نتيجة فساد مذهل... ولم يتم حتى استخدامه في دفع الدين الخارجي للبلاد! والأغرب أن هذا الدين الذي بلغ 8 مليارات دولار قبل الخصخصة، وصل، بعد مبيعات أملاك الدولة، إلى مبلغ أعلى ست عشرة مرة، أيْ 132 مليار دولار!
ومع هذا تظل الأرجنتين تُعتبر "أفضل تلميذة" لصندوق النقد الدولي. وقد قامت  نيويورك تايمز New York Times، في مارس 2001، بمنح وزير اقتصادها دومنجو كابايُّو Domingo Cavallo، مهندس الخصخصات والدولرة، لقب "البطل الليبرالي للعام". وبالتالي فإن الأرجنتين كانت مثلا يستشهد به كل حاملي مباخر الليبرالية المتطرفة الذين لم يكفوا عن تمجيد "النموذج الأرجنتيني". وكان هذا النموذج هو الذي انهار، بعد أربع سنوات من الركود الاقتصادي، بصورة مأساوية في ديسمبر 2001.
وعند انتخابه ليلة أول يناير 2002، هاجم البيروني إدواردو دوآلديEduardo Duhalde، في الحال، في خطاب ولايته، هذا "النموذج الليبرالي"، وأضاف: "التزامي، منذ اليوم هو التخلص من هذا النموذج المتهالك الذي أغرق الغالبية العظمى من شعبنا في حالة من اليأس". وأوضح قائلا إن هذا النموذج "أدّى إلى فقر 2 مليون من المواطنين، ودمر الطبقة الوسطى، وخرّب صناعاتنا، وأفنى جهد الأرجنتين"[75]. ونادرا ما جرى شجب شرور الليبرالية المتطرفة بمثل هذه الشدة وبمثل هذا الوضوح.
وتهدد هذه الكارثة التي حلت بالأرجنتين، مثل تلك التي أصابت، في 1997، بلدانا عديدة في جنوب شرق آسيا، بلدانا أخرى عبر العالم، وبصورة خاصة تركيا، وروسيا، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، والفليپين. وحتى إذا كان الإفلاس الأرجنتيني قد توقعته الأسواق مسبقا، فإن تباطؤ الاقتصاد في العالم يعزز تفادي المستثمرين للمخاطرات ويفتح فترة من عدم اليقين الاقتصادي المتزايد.
 
شركات عملاقة، دول قزمة
 
توضح حالة الأرجنتين، مرة أخرى، كيف أن عولمة رأس المال في طريقها إلى وضع الشعوب في حالة من اختلال الأمن المعمَّم. وهذه العولمة تطوق الأمم ودولها وتقلل من شأنها كأماكن ملائمة لممارسة الديمقراطية وضامنة للمصلحة العامة.
ومن جهة أخرى خلقت العولمة المالية دولتها الخاصة. دولة فوق قومية، تستخدم أجهزتها، وشبكات نفوذها، ووسائل عملها الخاصة. والمقصود كوكبة صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية. وتتكلم هذه المؤسسات الأربع بصوت واحد - تقوم بترجيع صداه كل وسائل الإعلام الكبرى تقريبا - لتمجيد "مزايا السوق".
وهذه الدولة العالمية سلطة بدون مجتمع، حيث تضطلع بهذا الدور الأسواق المالية والشركات العملاقة التي تمثل هذه الدولة وكيلتها التي تغدو معها المجتمعات الفعلية القائمة، بالتالي، مجتمعات بدون سلطة[76]. ولا يكف هذا الوضع عن التفاقم.
وبعد أن حلت محل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) GATT، صارت منظمة التجارة العالمية على هذا النحو، منذ 1995، مؤسسة تتمتع بسلطات فوق قومية وموضوعة خارج كل رقابة من جانب الديمقراطية البرلمانية. وبمجرد اللجوء إليها، يمكنها أن تعلن التشريعات القومية، بصدد حق العمل، أو البيئة، أو الصحة العامة، "متناقضة مع حرية التجارة" وأن تطالب بإلغائها[77].
ولا يمر أسبوع دون أن تعلن وسائل الإعلام اندماجات وشراءات جديدة، اتحادا جديدا بين مشروعات كبرى، تقاربا ضخما، تكتلا كبيرا ينشئ شركة عملاقة. ولنتذكر، على سبيل المثال، شراء شركة صناعة السيارات كريزلر Chrysler من جانب ديملر-بنز Daimler-Benz (مقابل مبلغ 43 مليار يورو)، وبنك سيتيكورپ Citicorp من جانب تراڤيلرز Travelers (82.9 مليار)، وشركة تليفون أميريتيك Ameritech من جانب إس بي سي كوميونيكيشنز SBC Communications (60 مليار)، وشركة الأدوية سيبا Ciba من جانب ساندوز Sandoz (36.3 مليار) التي أنشأت نوڤارتيس Novartis، و لوپيراتير دو إم سي آي كوميونيكيشن MCI Communication l’opérateur de من جانب ويرلدكوم Worldcom (30 مليار)، وبنك طوكيو Bank of Tokyo من جانب بنك ميتسوبيشي Mitsubishi Bank (33.8 مليار)، ولا سوسييتيه دو بنك سويس la Société de Banque Suisse من جانب اتحاد البنوك السويسرية l’Union des banques suisses (24.3 مليار). وكذلك قرار دمج العملاقين التاريخيين لا سيديريرچي أليماند la sidérurgie allemande، وتيسين Thyssen، وكروپ Krupp، التي سيصل رقم أعمالها، وفقا لمديريها، إلى 63 مليار يورو... غير أن أضخم عملية تمت في العالم كانت في 2001 وهي إعادة شراء مجموعة تيليكوميونيكيشنز أميريكان كومكاست le groupe de télécommunications américain comcast لكابلو أوپيراتير إيه تي آند تي برودباند Câblo-opérateur AT&T Broadband، مقابل مبلغ 73 مليار يورو...
وخلال سنة 1997 وحدها، على سبيل المثال، ارتفعت عمليات إعادة شراء وتجميع الشركات في العالم إلى مبلغ يزيد على 1600 مليار [= تريليون و600 مليار] يورو! وفي 2001، رغم التباطؤ الاقتصادي العام، ارتفع مبلغ عمليات الاندماج والشراءات على المستوى العالمي مع ذلك إلى 1958 مليار [= تريليون و958 مليار] يورو! وكانت القطاعات الأكثر حساسية لهذا الطريق إلى العملقة هى البنوك، والصيدلة، والكيمياء، ووسائل الإعلام، والاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى، والأغذية الزراعية، والسيارات.
فلماذا مثل هذا الفوران؟ في إطار العولمة، تريد المجموعات الكبرى للثالوث (أمريكا الشمالية-الاتحاد الأوروپي-الياپان)، مستغلة تحرير الاقتصاد وإلغاء النظم واللوائح، أن يكون لها وجود كوكبي. وهي تسعى إلى أن تصير قوى فاعلة مهمة في كل بلد كبير وإلى أن تمتلك هناك أجزاءً مهمة من السوق. ومن جهة أخرى، فإن انخفاض سعر الفائدة (الذي يؤدي إلى نقل للالتزامات نحو الأسهم)، وكتل رؤوس الأموال التي تبتعد عن بورصات آسيا أو أمريكا اللاتينية (بعد الأزمة الآسيوية في عام 1997 والأزمة الأرجنتينية في نهاية 2001)، والقدرة المالية الهائلة لصناديق المعاشات الرئيسية الأمريكية والبريطانية، والربحية الأفضل للمشروعات (في أوروپا والولايات المتحدة) قامت، في 1999 و2000، بتنشيط البورصات الغربية وفجرت هوس الاندماجات.
وتتراجع بالتدريج المحرمات ("التابوهات") التي تواجه هذه الأخيرة. وعلى سبيل المثال، فإن السيارات، التي في نفس مستوى سيديريرچي أو الاتصالات السلكية واللاسلكية، كانت تعتبرها أغلبية الحكومات منذ عهد قريب قطاعا إستراتيچيا. ولم يعد هذا هو الحال منذ حوالي عشرين سنة في المملكة المتحدة، و، منذ إعادة شراء كريزلر الأمريكية من جانب ديملر-بنز الألمانية، لم يعد هذا هو الحال في الولايات المتحدة.
ويشهد على هذا أيضا، في ألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في منطقة اليورو، قرار حكومة جيرهارد شرودر، بإلغاء الضرائب على فوائض القيمة التي تحققها المشروعات في حالة نقل الملكية. وبعد بدء سريانه في أول يناير 2002، تمثل تأثير هذا التدبير في تسريع تحويل الرأسمالية الرينانية نحو الرأسمالية الأنجلو ساكسونية وتفضيل اندماجات المشروعات التي ترتبط بالقطاعات الإستراتيچية نفسها. كما أثبتت، علاوة على هذا، منذ صيف 2001، سيطرة لاسوسييتيه داسيرانس أليانس la société d’assurances Allianz على بنك دريسدنر Dresdner Bank، إعادة الشراء هذه التي ارتفعت تكلفتها إلى 19.7 مليار يورو...
ويعلن خبير من البوسطون كونسالتنج جروپ Boston Consulting Group: "من الآن، صار أصحاب العمل غير مقيدين مطلقا. إن مزاليج الرأسمالية التقليدية يتم نزعها، والاتفاقيات المشتركة لعدم الاعتداء لم تعد رائجة. ولم يعد من المحظور أن يتم بعنف خلع باب مجموعة، حتى عندما ترفض الإدارة فكرة التقارب"[78]. ولدينا مثال بليغ على ذلك، ففي مارس 1998 في فرنسا، عند دمج-اندماج  fusion-absorption آڤاس Havas  في الشركة العامة للمياه Compagnie Générale des eaux، لچان-ماري مسييه Jean-Marie Messier، والذي نشأت عنه مجموعة ڤيڤاندي groupe Vivendi، التي صارت بعد شراء شركة يونيڤيرسال Universal الأمريكية، ڤيڤاندي-يونيڤيرسال Vivendi-Universal .
 
أحجام هائلة
وفي أعين ضواري المناقصات العدوانية، تمثل الاندماجات مزايا لا تعد ولا تحصى. فهي تسمح بالتقليل من آثار المنافسة بالتوفيق بين مشروعات راغبة في السيطرة بصورة شبه احتكارية على قطاعها[79]. وهي تقدم الفرصة لتعويض التأخر في مجال الأبحاث والتطور عن طريق دمج شركات تملك تقدما تكنولوچيا حقيقيا؛ وهي تسمح أخيرا بالبدء في تسريحات ضخمة بحجة خفض التكلفة (اندماج شركتي الأدوية البريطانيتين جلاكسو Glaxo وويلكام Wellcome، على سبيل المثال، تجسد، منذ أول سنة، في إلغاء 7500 وظيفة، أيْ 10٪ من العاملين).
وقد وصلت شركات بعينها إلى أحجام هائلة. ويفوق رقم أعمالها في بعض الأحيان الناتج القومي الإجمالي لبلدان متقدمة عديدة: وعلى هذا النحو فإن رقم أعمال چنرال موتورز General Motors أكبر من الناتج القومي الإجمالي للدانمارك، ورقم أعمال إكسون Exxon يفوق الناتج القومي الإجمالي للنرويج، ورقم أعمال تويوتا Toyota يفوق الناتج القومي الإجمالي للبرتغال[80]. وفي كثير من الأحيان يفوق مبلغ الموارد المالية الموجودة تحت تصرف هذه الشركات إيرادات ميزانيات الدول، بما في ذلك الأكثر تقدما. وهى تفوق بوجه خاص احتياطيات النقد التي تحتفظ بها البنوك المركزية لأغلب الدول الكبرى[81].
وكما في الأواني المستطرقة، فإنه بقدر ما تصبح شركات، عن طريق الاندماجات، عملاقة، تصير الدول، عن طريق التخلي عن الثروة الاقتصادية التي تمثلها الخصخصات، قزمة أكثر فأكثر.
ومنذ بدأت مارجاريت ثاتشر، في بداية الثمانينات، الخصخصات الأولى، يجري طرح كل (أو تقريبا كل) شيء للبيع. في كل مكان. والحقيقة أن غالبية الحكومات، من اليمين كما من اليسار، من الشمال كما من الجنوب، تمزق أوصال ثروة الدول والخدمات العامة.
وخلال عقد التسعينات، تخلصت الدول، على المستوى العالمي، لمصلحة الشركات الخاصة، من جزء من ثروتها يُقَدَّر بأكثر من 513 مليار يورو (215 مليار بالنسبة للاتحاد الأوروپي وحده)! وتحظى المشروعات المخصخصة بالتفضيل بصورة خاصة من جانب المستثمرين لأنها استفادت، قبل كل شيء، من قيام الدولة بإعادة هيكلة مالية و، علاوة على هذا، فقد تم التنازل عن ديونها. وهي تمثل توظيفات جذابة بشدة. وبصورة خاصة فإن الدولة هي التي نفذت مشروعات القطاعات ذات الضرورة الأولى (الكهرباء، الغاز، المياه، النقل، الاتصالات السلكية واللاسلكية، الصحة) التي تُؤَمِّن دخلا منتظما مجزيا جدا، وخاليا من المخاطرة، كما يمكن أن تبقى فيها استثمارات أولية لعدة عقود.
وعلى هذا النحو نجد أنفسنا أمام هذا المشهد الغريب: نمو قوة شركات كوكبية، يبدو أن السلطات المضادة contre-pouvoirs التقليدية (الدول، الأحزاب، النقابات) تغدو في مواجهتها عاجزة. والظاهرة الرئيسية لعصرنا، العولمة الليبرالية، لم تقدها الدول. وفي مواجهة الشركات العملاقة، تفقد الدول بصورة متزايدة امتيازاتها وحقوقها. ويشهد المواطنون، عاجزين، نوعا من هذا الانقلاب الكوكبي من طراز جديد. كما أنهم يكتشفون في الوقت نفسه، في الشمال كما في الجنوب، أن شرورا اجتماعية كان من المعتقد أنها اختفت، مثل استغلال الأطفال، ما تزال في ازدياد متواصل.
 
طفولات محطمة
 
وهناك، بالفعل، علامات بعينها لا تخطئ. وإلى عودة ظهور التسول، البطالة، والوجبات الشعبية، و"الفئات الاجتماعية الخطرة"، في "أحياء" و"مدن" الصفيح صارت تضاف كدليل إضافي على التجريد من الطابع الإنساني الذي تفجره العولمة الاقتصادية في هذه النهاية للقرن - الصورة الاجتماعية للطفل-الشغيل.
ومن قبل، في القرن التاسع عشر، كان تفاقم مختلف أشكال اللامساواة ينعكس على وجه التحديد في استغلال الأطفال، الذين كان قد جرى تعميم تشغيلهم. وواصفا، في 1840، في تقرير شهير[82]، حالة الأطفال العاملين في فرنسا، حيث كانت مدة العمل أربع عشرة ساعة في اليوم، تحدث لوي ڤييرمي Louis Villermé عن "هذه الكثرة من الأطفال، الذين يبلغ عمر بعضهم سبعة أعوام بالكاد. إنهم نحاف، هزيلون، تغطيهم الخرق البالية، وهم يذهبون إلى المانيفاكتورات حفاة الأقدام، عبر المطر والوحل، شاحبين، متوترين، فيجسدون مظهرا للبؤس، والمعاناة، والوهن".
وبعيدا عن الارتعاب من مثل هذا الوضع - الذي شجبه كذلك روائيون مثل تشارلز ديكنز، وڤيكتور هيجو، وهكتور مالوت Hector Malot، وچول ڤايّيس Jules Vallés، وإميل زولا، وإدموندو ده أميسيس Edmondo de Amicis -، اعتبر بعض الليبراليين أنه "شرّ لابد منه"، وكتب أحدهم: "هذا البؤس يقدم مشهدا مفيدا لكل قسم ظل عاقلا من الطبقات الأقل حظا؛ إنه هناك لملئهم بالرعب؛ وهو يحثهم على الفضائل الصعبة التي يحتاجون إليها للوصول إلى وضع أفضل"[83].
وأمام مثل هذه الصلافة الوقحة، كيف لا نفهم، على سبيل المثال، تمرد كارل ماركس، الذي شجب في بيان الحزب الشيوعي، في 1848، "الصناعة الكبيرة التي تدمر كل صلة أسرية لدى الپروليتاريا، وتقوم بتحويل الأطفال إلى مجرد سلع تجارية، إلى مجرد أدوات عمل"، وطالب ﺒ "إلغاء عمل الأطفال في المصانع كما تجري ممارسته اليوم"[84]؟
وقد أثبت التاريخ أن الإلغاء التدريجي لعمل الأطفال وإدخال التعليم الإلزامي، كانا، في أوروپا الغربية وفي أمريكا الشمالية، الشرطين اللذين لا غنى عنهما للتنمية. ومع ذلك كان لابد من الانتظار حتى 1990 لكي تدخل في السريان اتفاقية حقوق الطفل، التي تم التصديق عليها في إطار منظمة الأمم المتحدة - باستثناء الولايات المتحدة -، وللقيام، كما كانت تأمل منظمة العمل الدولية Organisation internationale du travail (OIT) منذ 1973، بإقرار حدّ أدنى لعمر الدخول في عالم العمل.
ورغم هذا فإن هناك تقديرات بأن حوالي 250 مليون طفل يعملون، تقل أعمارهم عن خمسة أعوام... وإذا كان العدد الأكبر من بينهم يوجدون في بلدان الجنوب الفقيرة، فإن كثيرين يجري استغلالهم في أمريكا الشمالية. وفي مجموع الاتحاد الأوروپي، يتجاوز عددهم المليونين... وعلى وجه الخصوص في المناطق المتأثرة بإعادات الهيكلة الليبرالية المتطرفة، مثل المملكة المتحدة. غير أنه، حتى في بلدان تُعتبر "متقدمة اجتماعيا" - الدانمارك، هولندا ... -، عادت ظاهرة الطفل العامل إلى الظهور. ويؤكد أحد خبراء صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف): "في فرنسا أيضا، يمارس عدة عشرات الآلاف من الأطفال العمل المأجور تحت غطاء التدريب، ويعمل 59٪ من المتدربين أكثر من أربعين ساعة في الأسبوع، وتمتد ساعات عملهم أحيانا إلى ستين ساعة"[85].
 
عبيد وأقنان
 
وعلى مستوى الكوكب، لا يكف عدد الأطفال العاملين عن الزيادة. وفي بعض البلدان، مثل پاكستان، يمثل هذا الوضع آفة جماعية؛ فبعشرات الملايين، يجري استغلال أطفال تقل أعمارهم عن ستة أعوام[86]. وفي أمريكا اللاتينية، يعمل طفل من أصل أربعة؛ وفي أفريقيا، واحد من ثلاثة؛ وفي آسيا، واحد من اثنين! والقطاع الأول الذي يستخدم الأطفال هو قطاع الزراعة. وهم يمارسون هناك في كثير من الأحيان القنانة مقابل ديون: يجب أن يدفع الأطفال بعملهم الدين الذي يقع فيه آباؤهم أو أمهاتهم أو أحد أجدادهم أو جداتهم. وباعتبارهم عبيدا من الناحية الفعلية، لن يتخلص هؤلاء الأطفال أبدا من هذا الوضع، وسوف يظلون في المزارع الكبرى مدى الحياة، وهناك سوف يتزوجون وينجبون عبيدا جددا...
والعديد من الأطفال مستخدمون في الاقتصاد غير الرسمي informelle، الحرف، التجارة الصغيرة، التسوّل. ويُعَدّ العمل المنزلي (في المغرب، والشرق الأوسط، وغرب أفريقيا، وأمريكا اللاتينية) من الأعمال الأكثر إيذاءً، حيث يتعرض الطفل لكل الإذلالات ولكل أنواع العنف، وبصورة خاصة العنف الجنسي. والسبب الأول وراء هذه المعاناة هو الفقر، فقر تعممه وتفاقمه العولمة الاقتصادية.
ومن أصل اﻠ 6 مليارات شخص الذين يعيشون على الكوكب، يُعَدّ 5 مليارات من الفقراء. وانطلاقا من هذا التأكيد، تقوم جمعيات متزايدة بتعبئة نفسها، حول منظمة العمل الدولية واليونيسيف، لوضع حد لواحدة من الفضائح الأكثر إثارة للغضب في عصرنا وللمطالبة بالحق المقدس لكل طفل في حياة لائقة. وهي تخاطب في المحل الأول رؤساء دول وحكومات كل بلدان العالم. وهي تسجل أنه يوجد، حتى في أعلى المستويات، عدد من هؤلاء القادة السياسيين، في زمن العولمة، تستبدّ بهم حمى المال السهل، والمضاربة، ويستسلمون للفساد.
 
رؤساء مطارَدون
 
وهناك، بالفعل، بصورة أو بأخرى، وفي كل مكان تقريبا، رؤساء، وأحيانا أثناء توليهم لمناصبهم، ويكونون منتخبين ديمقراطيا، تجري ملاحقتهم، واتهامهم، ومطاردتهم، دون أيّ اعتبار لمنصبهم، الذي كان يُعتبر منذ عهد غير بعيد مقدسا تقريبا، والذي كان يجعل منهم أشخاصا فوق كل نقد. لقد انتهى كل هذا. وأولئك الذين يتحدثون عن "النهاية الحاسمة للنظام القديم" ليسوا مخطئين تماما، لأن "جلال" majesté المنصب الرئاسي، إن جاز القول، هو الذي يجري أمام أعيننا قطع رأسه بالمعنى الحرفي للكلمة.
وچاك شيراك، الذي يلاحقه قضاة وتزعجه وسائل الإعلام في فرنسا، ليس الرئيس الوحيد المطارد. وما كان له أن يكون كذلك. وحتى "سادة العالم" لم يعودوا يفلتون من الإزعاج. والواقع أن الرؤساء الذين اجتمعوا في چنوا، من 20 إلى 22 يوليو 2001، بمناسبة قمة السبعة بلدان الغنية على ظهر الكوكب (السبعة الكبار G7، والثمانية الكبار G8 بإضافة روسيا)، واجهتهم هم أيضا مظاهرات غضب واسعة النطاق جدا. ولم تكن تلك المظاهرات موجهة إليهم شخصيا، بل إلى العولمة التي يجسدونها والتي ليس لها، هي نفسها، وجه. وقدم رؤساء الدول والحكومات هؤلاء للرأي العام في بلدانهم، بهذه المناسبة، الصورة الكريهة لنادٍ لأثرياء متغطرسين، متمترسين على متن سفينة فاخرة، في حماية أسوار عسكرية، معزولين عن الناس الغاضبين، محميين بشرطة في حالة حرب ولم تتردد عن قتل شاب محتج، كارلو جيولياني Carlo Giuliani، وكان في الثالثة والعشرين من عمره...
ومحاصرين بحوالي 200 ألف من المتظاهرين، كان رؤساء السبعة الكبارعاجزين بوضوح، وكانوا يكتفون، للدفاع عن أنفسهم، بتكرار حجة واحدة: "لقد تم انتخابنا ديمقراطيا!" وكأن لهذا فضيلة سحرية من نوع ما. وكأن هذا ليس، اليوم، أقلّ شيء!
ذلك أن كون الرؤساء منتخبين ديمقراطيا لا يُبيح لهم مطلقا أن يخونوا وعودهم الانتخابية والمصلحة العامة أو أن يخصخصوا ويحرروا الاقتصاد على هواهم. أو أن يلبوا كذلك، مهما كان الثمن، رغبات الشركات التي موّلت حملاتهم الانتخابية. وكان اثنان على الأقل من سبعة، - چورچ دبليو بوش، وسيلڤيو بيرلوسكوني -، يمثلان أوساط أعمال في بلديْهما أكثر من تمثيلهما لمواطنيهما.
والحقيقة أن رفع قضايا على الحكام في الوقت الراهن موجَّه على وجه الخصوص إلى رؤساء الدول والحكومات المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. مثل الچنرال آوجوستو پينوتشيت Augusto Pinochet، الدكتاتور السابق لتشيلي، الذي اعتقل في لندن في 1998 بناء على شكوى من القاضي الإسپاني بالتاسار جارثون Baltasar Garzón، وأعيد إلى بلاده في مارس 2000 حيث صار من جديد متهما من جانب القاضي خوان جوثمان Juan Guzmán لكي يواجه في نهاية المطاف الملاحقات المعلقة ضده في 9 يوليو 2000 بحجة "تدهور في حالة الصحة العقلية للدكتاتور السابق".
 
ضرورة أخلاقية
 
والحقيقة أن قضية پينوتشيت غيرت بعمق من توزيع أوراق اللعبة في النضال ضد حصانة القادة السياسيين على المستوى العالمي. وقد رأينا منذ ذلك الحين، في كل مكان تقريبا، استدعاء القضاء لمسئولين سابقين. مثل الچنرال الجزائري نزار Nezzar، المتهم من جانب قاض پاريسي ﺒ "جرائم حرب" ارتكبها في بلاده في إطار الحرب القذرة ضد الإسلاميين الراديكاليين. أو وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنچر Henry Kissinger، الذي استدعاه قاضي تحقيق في پاريس لمشاركته المفترضة في الانقلاب ضد الرئيس الاشتراكي سالبادور أليندي Salvador Allende في تشيلي، في 1973. أو رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون، المرغم على تفادي وضع قدمه في بلچيكا، حيث تم توجيه شكاوى ضده على التواطؤ في جرائم في مذابح صبرا وشاتيلا في بيروت في 1982.
كما رأينا، في 3 فبراير 2000، في السنغال حيث كان لاجئا، الرئيس السابق لتشاد، حسين حبري Hissène Habré، متهما ب- "التواطؤ في أعمال تعذيب" وتم وضعه قيد الإقامة تحت المراقبة. ومؤخرا، في 10 يوليو 2001، تم اتهام الچنرال خورخي بيديلا Jorge Videla، مدبر الانقلاب العسكري في عام 1976، وتم وضعه قيد الحبس الاحتياطي لمشاركته المفترضة في خطة كوندور Condor، هذا الحلف للقتل الذي جرى عقده في السبعينات بين الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية لتدبير "الاختفاء" المنهجي لمعارضيهم. وكانت هناك أيضا، في 29 يونيو 2001، الإحالة المثيرة للجدل للرئيس اليوغسلاڤي السابق سلوبودان ميلوسيڤتش، إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلاڤيا السابقة في لاهاي، متهما بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية".
غير أن مدبري جرائم الدم ليسوا فقط من تجري ملاحقتهم اليوم، فهناك رؤساء منتخبون ديمقراطيا مطاردون أيضا من جانب العدالة خاصة بسبب فسادهم. وتبرز بهذا الخصوص ضرورة أخلاقية على المستوى الدولي. وعلى هذا النحو، في يونيو 2001، قبل تبرئته في نهاية المطاف، تم اعتقال الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم Carlos Menem وفرض الإقامة الجبرية عليه بتهمة البيع غير المشروع لأسلحة ولأنه تقاضى عمولات سرية تصل قيمتها إلى عدة عشرات من ملايين الدولارات.
كما أن ألبيرتو فوجيموري، رئيس پيرو السابق، لجأ إلى الياپان في نوڤمبر 2000، هاربا من العدالة التي تتهمه بالفساد والقتل. واعتقل أيضا ذراعه الأيمن السابق والرجل القوي للنظام بلاديميرو مونتيسينوس Vladimiro Montesinos، في يونيو 2001، وتم إيداعه السجن. وفي الفيليپين، تم طرد الرئيس چوزيف إسترادا Joseph Estrada، من السلطة تحت ضغط الشارع، في 20 يناير 2001، في أعقاب فضيحة ترتبط بالفساد. وقد تم اعتقاله في 25 أبريل 2001، متهما بنهب 80 مليون يورو من الموارد الاقتصادية للبلاد... وفي إندونيسيا، تمت إقالة الرئيس واحد Wahid في 23 يوليو 2001، متهما بالفساد. وفي 28 ديسمبر 2001، حوكم الرئيس السابق للكونجو برازاڤيل، پاسكال ليسوبا Pascal Lissouba، غيابيًّا وحكم عليه، متهما ﺒ "الخيانة العظمى الپترو-مالية واختلاس الأموال العامة"، بالأشغال الشاقة لمدة ثلاثين عاما. ويمكننا أن نواصل الاستشهاد بأمثلة...
ولا تقتصر إحالة القادة السياسيين إلى القضاء على البلدان الديمقراطية المتقدمة في الشمال. بل تمتد الآن، كما نشهد، إلى بلدان عديدة في الجنوب، وكأن العولمة المالية ترد عليها عولمة للضرورة الأخلاقية. وهذا بسرعة تساوي تقريبا السرعة التي انتقلت بها الحركة المعادية للعولمة، في أقل من عامين، من سياتل إلى چنيڤ، من الاحتجاج الفولكلوري إلى تمرد جيل، من النزاع المتفرق إلى الحرب الاجتماعية الكوكبية.
 
تجريد الأسواق من السلاح
 
بالنسبة لهؤلاء المحتجين، ينبغي أن يصير تجريد السلطة المالية من السلاح ساحة مدنية رئيسية إنْ شاءوا أن يتفادوا أن يتحول عالم القرن الحادي والعشرين إلى غابة يسن فيها ضواري المناقصات العدوانية القانون.
وبصورة يومية، يشكل حوالي ألف وستمائة مليار [= تريليون وستمائة مليار] يورو المبالغ الذاهبة والآتية العديدة، التي تضارب على فروق أسعار العملات. ويمثل عدم الاستقرار هذا في أسعار الصرف سببا من أسباب ارتفاع الفوائد الحقيقية، يقيد استهلاك الأسر واستثمارات المشروعات. وهو يفاقم العجز العام، و، علاوة على هذا، يحفز صناديق المعاش، التي تدير مليارات عديدة من اليورو، إلى مطالبة الشركات بحصص توزيع تزداد ارتفاعا. والضحايا الأُوَل لهذه "المطاردة" للربح هم العاملون بأجر، الذين تجعل تسريحاتهم الضخمة - "التسريحات المتلائمة مع البورصة" - قيمة أسهم أصحاب عملهم السابقين تقفز في البورصة.
فهل تستطيع المجتمعات الديمقراطية أن تتسامح لفترة طويلة مع ما لا يمكن التسامح معه؟ هناك حاجة ملحة إلى عرقلة هذه الحركات لرؤوس الأموال المدمرة، بثلاث طرق: إلغاء "الملاذات الضريبية"؛ زيادة ضريبة الدخل على رأس المال؛ فرض رسوم على المعاملات المالية.
كذلك فإن الملاذات الضريبية مناطق يسودها السرّ المصرفي، الذي لا يقوم إلا بتمويه اختلاسات وأنشطة مافيَّة Mafieuses أخرى. وعلى هذا النحو تجري سرقة مليارات الدولارات من كل الحقوق الضريبية، لصالح الأقوياء والمؤسسات المالية. ذلك أن كل البنوك الكبرى في الكوكب لها فروع في الملاذات الضريبية وتجني منها أرباحا طائلة. فلماذا لا يتم فرض مقاطعة مالية، على سبيل المثال، على جبل طارق، أو جزر كايمان، أو موناكو، أو ليتشتينشتين، عن طريق حظر قيام البنوك التي تعمل مع السلطات العامة بفتح فروع لها هناك؟
وفرض الضرائب على الدخل المالي ضرورة ديمقراطية تمثل حدًّا أدنى. فهذا الدخل يجب أن تفرض عليه ضرائب بنفس سعر الضريبة المقرر على دخل العمل. وليس هذا هو الوضع في أي مكان، وخاصة في قلب الاتحاد الأوروپي.
والحقيقة أن الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال تقضي على استقرار الديمقراطية. وهذا هو السبب في أن من المهم إدخال آليات رادعة. وتتمثل إحدى هذه الآليات في ضريبة توبين، على اسم الأمريكي چيمس توبين James Tobin، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد والذي اقترحها منذ 1972. والمطلوب فرض الضريبة، بطريقة معتدلة، على كل المعاملات في أسواق أسعار الصرف من أجل تثبيتها و، في نفس الوقت، لجلب إيرادات للمجتمع الدولي. وبمعدل 0.1٪، ستجلب ضريبة توبين، في السنة، حوالي 166 مليار يورو، أيْ ضعف المبلغ السنوي اللازم للقضاء على الفقر الشديد في خمسة أعوام[87].
وقد أوضح خبراء عديدون أن وضع هذه الضريبة موضع التطبيق لا ينطوي على أية صعوبة تقنية[88]. ومن شأن تطبيقها أن يقوِّض المبدأ الليبرالي لكل أولئك الذين لا يكفون عن الحديث عن غياب حلّ لتبديل النظام الراهن.
وهذا هو السبب في أنه أنشئت في پاريس، في أبريل 1998، بأفق الامتداد إلى الكوكب بأسره، المنظمة غير الحكومية "العمل من أجل فرض ضريبة على المعاملات المالية لمساعدة المواطنين" (أتاك) Action pour une taxation des transactions financières pour l’aide aux citoyens (Attac)، التي تضم الآن، في فرنسا، أكثر من 30 ألف من الأنصار. وفي ارتباط مع النقابات والجمعيات ذات الغايات الثقافية، والاجتماعية، والإيكولوچية، تعمل "أتاك" كمجموعة هائلة للضغط المدني لدى نواب البرلمانات ولدى الحكومات من أجل دفعهم إلى المطالبة بهذه الضريبة العالمية للتضامن و - أخيرا - التنفيذ الفعلي لها.
غير أن "أتاك" لها أيضا رسالة تعليمية شعبية. ومع جمعيات أخرى، تبذل قصارى جهدها لكي تقيم، في كل مكان تقريبا، حلقات تدريب للتحليل النقدي للاقتصاد المالي. وبهذه الروح، قامت "أتاك" بدورها في إنشاء برنامج من البرامج الأكثر جسارة للردّ الفكري والاجتماعي على العولمة: منتدى پورتو أليجري الاجتماعي العالمي.
 
پورتو أليجري Porto Alegre
 
بدأ القرن الحادي والعشرون في پورتو أليجري. ذلك أن كل أولئك الذين يعارضون أو ينقدون العولمة الليبرالية الجديدة، بطريقة أو أخرى، قد اجتمعوا بالفعل في الفترة من 25 إلى 30 يناير 2001، ثم في الفترة من 31 يناير إلى 5 فبراير 2002، في هذه المدينة بجنوب البرازيل حيث انعقد المنتديان الاجتماعيان العالميان الأولان[89].
ليس للاحتجاج، كما حدث في سياتل، وفي كيبيك، وفي چنوا، وفي أماكن أخرى، ضد المظالم، وأشكال اللامساواة، والكوارث التي فجرتها، في كل مكان تقريبا في العالم، تجاوزات الليبرالية الجديدة. ولكن للسعي، بروح إيجابية وبناءة هذه المرة، إلى طرح إطار نظري وعملي يسمح بالتطلع إلى عولمةٍ من نوع مختلف، ولتأكيد أن عالما مختلفا، أقل لاإنسانية وأكثر تضامنا، شيء ممكن.
وقد اجتمع هذا النوع من الأممية Internationale المتمردة في پورتو أليجري في نفس اللحظة التي انعقد فيها في داڤوس (سويسرا) في 2001 وفي نيويورك في 2002، المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يضم منذ عقود، السادة الجدد للعالم، وعلى وجه الخصوص كل أولئك الذين يقودون العولمة بصورة فعلية. الذين لم يعودوا يخفون قلقهم. وهم يأخذون مأخذ الجد للغاية احتجاجات المواطنين التي، من سياتل إلى چنوا، صار لها مكان من الآن، بصورة منتظمة، في كل قمة للمؤسسات الكبرى التي تحكم، من الناحية الفعلية، العالم: منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والسبعة الكبار، وحتى الاتحاد الأوروپي.
وبالفعل ففي 1999، أثرت تطورات سياتل[90] تأثيرا عميقا في أصحاب القرار المجتمعين في داڤوس. وقد علق على سبيل المثال، أحد الصحفيين: "كل عام، يكون موضوع أو شخصية نَجْم المنتدى الاقتصادي العالمي. وفي عام 2000، كان نَجْم داڤوس، بلا منازع، سياتل. فهناك تحدثوا بصورة خاصة عن سياتل"[91]. ومدركين للافتقار إلى الديمقراطية الذي يصاحب العولمة، لم يعد يتردد مدافعون آخرون عن النموذج السائد عن المطالبة ﺒ "التفكير بجدية في التعديل، وبروح أكثر ديمقراطية، لمعايير وإجراءات عمل العولمة"[92]. ومن الآن، يؤكد رئيس الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة، ألان جرينزپان Alan Greenspan نفسه: "لا يمكن أن تنجح المجتمعات عندما تدرك قطاعات ذات شأن منها أن عملها ظالم"[93].
وآتية من أربعة أركان الكوكب فإن هذه "القطاعات ذات الشأن" التي تعارض البربرية الاقتصادية الراهنة وترفض الليبرالية الجديدة باعتبارها "أفقا لا يمكن تجاوزه"، حاولت، بحماس ينبغي أن نصفه عن حق بأنه مجدِّد، إرساء أسس سلطة-مضادة حقيقية[94] في پورتو أليجري.
 
 
 
الحالمون بالمطلق
 
لماذا حدث هذا هنا على وجه التحديد؟ لأن پورتو أليجري صارت، منذ عدة أعوام، مدينة رمزية. وپورتو أليجري، وهي عاصمة ولاية ريو جراندي دو سول، الولاية الأكثر جنوبية في البرازيل، عند حدود الأرجنتين وأوروجواي، نوع من معمل اجتماعي ينظر إليه المراقبون الدوليون بنوع من الافتتان[95].
ذلك أن هذه المدينة، التي يحكمها بطريقة مبتكرة، منذ ثلاثة عشر عاما، ائتلاف يساري يقوده حزب العمال، شهدت في مجالات عديدة (المسكن، المواصلات المشتركة، شبكة الطرق، جمع القمامة، المستوصفات، المستشفيات، المجاري، البيئة، الإسكان الاجتماعي، محو الأمية، المدارس، الثقافة، الأمن، إلخ.) تنمية هائلة. ما سرّ مثل هذا النجاح؟ إنه يكمن في "ميزانية المشاركة" Le budget participatif (“orçamento participativo”)، أيْ إمكانية قيام سكان مختلف الأحياء بالتحديد بصورة ملموسة جدا وديمقراطية جدا لتخصيص الصناديق البلدية. أيْ أن يقرروا أيّ نوع من الأبنية التحتية يريدون أن يُنشئوا أو يطوروا، وإمكانية أن يواصلوا السير في طريق تطور الأعمال ومسار الالتزامات المالية. وعلى هذا النحو لا يكون من الممكن القيام بأي اختلاس للأموال، ولا بأي سوء استخدام، وتتوافق الاستثمارات بدقة مع أماني الغالبية من سكان الأحياء.
ويتم تنفيذ هذه التجربة السياسية، كما ينبغي أن نشدد، في جو من الحرية الديمقراطية الكاملة، في المواجهة مع معارضة سياسية يمينية قوية. وحزب العمال لا يراقب الصحف اليومية المحلية الكبيرة، ولا الراديو، ولا حتى التليڤزيون، الذي في أيدي مجموعات إعلامية كبرى متحالفة مع أصحاب العمل المحليين المعادين لحزب العمال. وعلاوة على هذا فإن لحزب العمال، المتمسك باحترام الدستور البرازيلي الفيدرالي، هوامش استقلال سياسي مقيدة جدا ولا يستطيع، بصورة خاصة فيما يتعلق بالمالية، أن يسن قوانين على هواه. وعلى كل حال، فإن رضا المواطنين وصل إلى حد أنه، في أكتوبر 2000، أعيد انتخاب مرشح حزب العمال عمدة للمدينة بأكثر من 63٪ من الأصوات...
وفي هذه المدينة الفريدة، حيث تزدهر ديمقراطية ليست كالديمقراطيات الأخرى، حاول المنتدى الاقتصادي العالمي، في 2001 و2002، إقامة عولمة أخرى لا تواصل إقصاء الشعوب. ويردد رأس المال والسوق، منذ عشرة أعوام، أنهما، هما وليس الناس، على النقيض مما أكدت اليوتوپيات الاشتراكية، يصنعان تاريخ البشر وسعادتهم.
وفي پورتو أليجري، في هذا القرن الحادي والعشرين الذي يبدأ الآن، تذكَّر بعض الحالمين الجدد بالمطلق أن هناك غير الاقتصاد ما يمكن أن يكون عالميا، فحماية البيئة، وأزمة مختلف أشكال اللامساواة الاجتماعية، والاهتمام بحقوق الإنسان تمثل أيضا قضايا عالمية. وإنما على مواطني الكوكب أن يجعلوها أخيرا في متناول اليد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
حرب كوسوفو
 
والنظام العالمي الجديد
 
 
 
للمرة الأولى منذ إنشائه في 1949، اشتبك حلف (شمال) الأطلنطي OTAN، في 24 مارس 1999، في حرب ضد بلد، جمهورية يوغسلاڤيا الاتحادية، دون أن يرتكب هذا البلد أيّ عدوان خارج حدوده. وكانت هذه أيضا المرة الأولى، منذ 1945، التي قصفت فيها قوى أوروپية دولة أوروپية أخرى ذات سيادة. وقد وصف خابيير سولانا، الذي كان في تلك الفترة أمينا عاما لحلف الأطلنطي، هذا القرار بأنه "واجب أخلاقي".
ومنذ بداية القصف، جرى الإنزال بارتجال لا يصدق أبدته قوات حلف الأطلنطي. وكان شَنّ حرب كوسوڤو بصورة متسرعة للغاية وبعدم إعداد كامل إن جاز القول.
ماذا كانت، في بداية الأزمة، الأهداف المنشودة من الحرب؟ هدفان بصورة جوهرية: استعادة استقلال ذاتي أساسي لكوسوڤو (تم تجريد هذا الإقليم من الاستقلال في 1989)، واحترام بلجراد للحريات (السياسية، والثقافية، والدينية، واللغوية، إلخ.) للكوسوڤيين.
وكان تحقيق هذين الهدفين بالطريق السلمي يمثل الخطة الكبيرة لمؤتمر رامبوييه Rambouillet، من يناير إلى مارس 1999. ومن جهة أخرى توصلت الأطراف الرئيسية الحاضرة، الصرب والكوسوڤيون (الذين كان يمثلهم مندوبون عن جيش تحرير كوسوڤو UÇK)، إلى اتفاق بشأن هذين الهدفين الرئيسيين.
وقد قبل نظام سلوبودان ميلوسيڤيتش فيه صراحة، الإقرار باستقلال ذاتي واسع لكوسوڤو: يمنح الإقليم، بعد انتخابات حرة، حكما ذاتيا، ومجلسا نيابيا، ورئيس جمهورية، وقضاء، وقوات شرطة خاصة[96].
ومادام طرفا الصراع قد توصلا إلى اتفاق بشأن ما هو أساسي، فلماذا إذن فشل مؤتمر رامبوييه؟ لسبب واحد: إصرار القوى الغربية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، على أن تفرض، على أرض كوسوڤو، وفي مجموع جمهورية يوغسلاڤيا، وجودا لقوات لحلف شمال الأطلنطي بهدف مراقبة التطبيق السليم للاتفاقيات. وهو وجود نعلم جيدا أن بلجراد كانت تعارضه. وهذا الرفض، الذي كان أكثر من متوقع سلفا، اعتُبر إعلان حرب casus belli. ولم تسع القوى الغربية إلى اقتراح قوات تدخّل أوروپية أخرى (من الغرب ومن الشرق) أو، على سبيل المثال، من "أصحاب الخوذات الزرقاء" للأمم المتحدة. لا، لقد كانت المسألة: حلف الأطلنطي أو الحرب. وكانت الحرب.
 
يوغوسلاڤيا تتفكك باندفاع
 
تواصل شعوب البلقان على هذا النحو دفع ثمن غالٍ لعمى الاتحاد الأوروپي والغرب اللذين تهاونا، في 1991، مع تفكك يوغوسلاڤيا السابقة باندفاع بقيادة القوميين. كيف أمكن ارتكاب هذا الخطأ الكبير، الذي يصفه البعض بأنه "أكبر خطأ جماعي للغرب، منذ ثلاثينات القرن العشرين، فيما يتعلق بالأمن"[97]؟ وهو خطأ كلف أكثر من مائة ألف من القتلى، وكان من الممكن تفاديه[98].
وكان زعيم المقاومة، تيتو، بعد 1945، قد حقق التلاحم بين شعوب يوغسلاڤيا رغم صور العنف المرتكبة أثناء الحرب، وبصورة خاصة من الأوستاك oustachis الكروات والتشتنيك tchetniks الصرب. واختفى القوميون. ومُثْبتا أن أطروحة "الأحقاد الموروثة" سخيفة، راهن تيتو على التماسك. وكان يقول: "تتألف يوغوسلاڤيا من ست جمهوريات، وخمس أمم، وأربع لغات، وثلاثة أديان، وهجاءيْن، وحزب واحد".
وبعد موت تيتو، في 1980، ضعفت سلطة الحزب الشيوعي، الذي كان قد استطاع أن يناوئ الاتحاد السوڤييتي، وأن يبني "وطن التسيير الذاتي العمالي". وتمثلت النتيجة المنطقية لمبدأ رئاسة سنوية بالتناوب بين الجمهوريات الست في إضعاف الفيدرالية. وأضيفت إلى هذا أزمة الدين الخارجي، الذي فجر، خلال عقد، آلاف الإضرابات وتوترات بالغة بين المناطق الغنية (سلوڤينيا، كرواتيا) والمناطق الأخرى.
 
وسائل إعلام الكراهية
 
شجعت هذه الشقاقات التي أججتها وسائل الإعلام، عودة الأنانيات القومية. وفي مذكراته، يتذكر سفير سابق في بلجراد: "نشر ڤيروس التليڤزيون، عبر كل يوغسلاڤيا، الكراهية بين الإثنيات مثل وباء. وقد شجعت صور التليڤزيون جيلا بأكمله من الصرب، والبوسنيين، والمسلمين، على كراهية جيرانهم"[99]. ويلاحظ شاهد آخر: "بعد أن شاهدتُ راديو-تليڤزيون بلجراد في 1991-1992، يمكنني أن أفهم لماذا انتهى صرب البوسنة إلى اعتقاد أنهم صاروا ضحايا لقوات أوستاكية oustachies أو لأصوليين إسلاميين. لقد بدا الأمر وكأن كل التليڤزيون الأمريكي تديره منظمة كو كلوكس كلان Ku Klux Klan"[100].
وحالما، في 1989، بمناسبة الذكرى المئوية السادسة لهزيمة الصرب في مواجهة الأتراك، ألقى سلوبودان ميلوسيڤتش، في نفس مواقع ساحات معارك ميرل Merles، في كوسوڤو، خطابا مليئا بالكراهية أمام مليون شخص، التهبت المزايدات القومية... وردّ زعيمان آخران - فرانيو توديمان Franjo Tudjman في كرواتيا، وعلى عزت بيجوڤتش Alija Izet Begović في البوسنة - بخطب متهوسة أيضا.
ولم تستطع البلدان الغربية، المنتشية بسقوط سور برلين، وباحتضار الاتحاد السوڤييتي، وبالانتصار العسكري في حرب الخليج، منع الكارثة. بل إن ألمانيا والڤاتيكان شجعتا عليها، وسارعتا إلى الاعتراف باستقلال سلوڤينيا وكرواتيا.
وفي 27 يونيو 1991 بدأت حرب سلوڤينيا، ثم تلت حرب كرواتيا، وحرب البوسنة، بكل ما صاحبها جميعا من جرائم. وأثبت الاتحاد الأوروپي عدم نضجه وعدم جدارته بانتهاز هذه الفرصة ليؤكد نفسه، على قارته نفسها، كقوة قادرة على أن تفرض، عند الحاجة بالقوة، حلا عادلا ومنصفا للجميع. وباتفاقات دايتون Dayton، في 1995، استعادت الولايات المتحدة سلاما هشا للغاية، كما أثبتت التطورات لاحقا.
 
إقليم فقير وكثيف السكان
 
وكوسوڤو، المأهول بنسبة 90٪ بألبان (ليسوا سلاڤيين، كما أنهم مسلمون)، إقليم فقير: يحتفظ بالمعدلات القياسية لنقص التوظيف، والأمية، على المستوى الأوروپي. وهو كثيف السكان: 2 مليون نسمة على 10 آلاف وتسعمائة كيلومتر مربع، ومعدل مواليد يصل إلى 40 في الألف، وأكثر من نصف السكان تقل أعمارهم عن 20 عاما. وبسبب شخصيته الثقافية المتميزة، طالب إقليم كوسوڤو دائما بالوضع القانوني لجمهورية ذات استقلال كامل ضمن الاتحاد الفيدرالي اليوغسلاڤي؛ ولم يمنحه دستور 1974 سوى الوضع القانوني لإقليم ضمن صربيا، مع منحه، من الناحية الفعلية، استقلالا ذاتيا واسعا بما فيه الكفاية جعل منه شبه جمهورية تتمتع بحق الڤيتو.
غير أن هذا الوضع القانوني تم إلغاؤه في 1989. وقد أدى هذا الإلغاء، بين أشياء أخرى، إلى حل البرلمان الكوسوڤي، وحظر التعليم باللغة الألبانية، وتسريح أكثر من 150 ألف من الناطقين بالألبانية من المصالح الحكومية ومشروعات الدولة، واستعادة قانون طوارئ حقيقي يمنح، عند الحاجة، كل السلطات لقوات القمع في بلجراد التي كانت قد ضاعفت، خلال العشرة أعوام السابقة، الأعمال الوحشية وأعمال العنف ضد ألبان كوسوڤو من أجل دفعهم إلى الهجرة. وبصورة لا يمكن تفاديها، كان لا مناص من أن يدفعهم هذا إلى العصيان.
والحقيقة أن المقاومة التي كانت سلبية لدى أنصار إبراهيم روجوڤا Ibrahim Rugova، صارت أكثر فأكثر عنفا لدى مقاتلي جيش تحرير كوسوڤو الذين ضاعفوا، خلال عامي 1997 و1998، الهجمات الدامية ضد قوات الأمن اليوغسلاڤية والأقلية الصربية. وبتضخيمها بصورة مذهلة من جانب وسائل الإعلام الجماهيرية لصربيا، قدمت هذه الهجمات الذريعة التي كانت تبحث عنها دعاية نظام سلوبودان ميلوسيڤتش في سبيل تهييج الجموع الصربية عن طريق لمس وتر النزعة القومية ("كوسوڤو، مهد الأمة الصربية"، "الأرض المقدسة"، "ساحة الذكرى"، "الصرب الضحايا"، إلخ.) من أجل تأجيج العنصرية المعادية للألبان.
وكانت مواجهات كوسوڤو قد أدت، قبل حرب 1999، إلى موت حوالي ألفين من الكوسوڤيين، وتدمير 300 قرية، وأكثر من 200 ألف لاجئ. وتحت التهديد بتدخل لحلف الأطلنطي، وقع سلوبودان ميلوسيڤتش اتفاقا، في أكتوبر 1998، قبل فيه سحب جيشه وتفويض منظمة الأمن والتعاون في أوروپا بأن يتمركز هناك حوالي ألف وستمائة مراقب غير مسلحين من بعثة تقصي الحقائق في كوسوڤو.
ولتفادي تشجيع تجزئة لأوروپا إلى دول بالغة الصغر، وإشعال المنطقة (حيث يوجد الموطن المجاور في مقدونيا، التي يقطنها ألبان بنسبة 30٪)، تجنب الاتحاد الأوروپي تشجيع استقلال كوسوڤو. وطالب بالتوقيع على اتفاق يعترف لهذا الإقليم بأوسع استقلال ذاتي.
 
النتائج المنطقية تتوالى
 
كان الوضع، كما نرى، شديد التعقيد، مثل كل المسائل الجغرافية-السياسية في البلقان. ولم يكن من الممكن للبحث عن تسوية إلا أن يكون شائكا وشاقا. وبالتالي فإنه كان لا مناص من أن يمتدّ مؤتمر رامبوييه (يناير-مارس 1999) عدة أسابيع أخرى، خاصة وأنه، في كوسوڤو، أدّى وجود عدة آلاف من مراقبي منظمة الأمن والتعاون في أوروپا إلى الحدّ، جزئيا، من أعمال العنف ضد الكوسوڤيين.
ويعلمنا التاريخ أنه، في هذا الإقليم المتفجر، يؤدي كل تعديل سياسي مفاجئ إلى سلسلة من النتائج المنطقية المتوالية، كما شهدنا بصورة مأساوية، منذ 1989، عندما ألغى سلوبودان ميلوسيڤيتش، من طرف واحد، الاستقلال الذاتي لكوسوڤو وڤوئيڤودين Voïvodine، أو عندما اعترفت ألمانيا والڤاتيكان، باندفاع بالغ، باستقلال سلوڤينيا وكرواتيا، في 1991. ومع الهجوم الجوي لحلف الأطلنطي، الذي بدأ شنّه في نهاية مارس 1999، كان بوسعنا أن نشهد هذا مرة أخرى.
وسرعان ما أدى القصف الذي كان موجها، من حيث المبدأ، إلى تدمير آلة قمع نظام سلوبودان ميلوسيڤيتش، إلى أعمال انتقامية متوقعة تماما سلفا من جانب سلطات بلجراد ضد ألبان كوسوڤو. ونظل مذهولين إزاء قِصَر النظر لدى قادة حلف الأطلنطي الذين قاموا، بمبادرة منهم، بإغراق الكوسوڤيين في وضع خطر أشبه بالوضع الذي عرفه الأرمن في تركيا إبان الهجوم الروسي في 1915. فباعتبارهم في نظر السلطة المركزية التركية "طابورا خامسا محتملا"، كان الأرمن، كما نعلم، ضحايا أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
ولم يكن من الممكن أن يجهل حلف الأطلنطي، الذي لم يكف عن تقديم سلوبودان ميلوسيڤتش باعتباره "دكتاتورا دمويا"، أنه توجد مخططات صربية، تأهبا لغليان إثني واسع النطاق في كوسوڤو، وأن الحلفاء فوق القوميين بقيادة سلوبودان ميلوسيڤيتش تستبد بهم رغبة محرقة في الانتقال إلى العمل.
غير أن هذا القصف الجوي كان له ضحايا آخرون غير متوقعين. فلأنه تم اتخاذ قراره دون تفويض صريح من مجلس الأمن للأمم المتحدة، أدى القصف إلى تفاقم عدم مصداقية الأمم المتحدة. ولأنه تقرر، في أغلب البلدان، من جانب السلطات التنفيذية، دون تشاور مع (ولا تصويت من) الهيئات النيابية القومية، فقد أفقد أيضا البرلمانات مصداقيتها. وعلى أرضية طوعا أو كرها nolens, volens، ضرب هذا القصف بقسوة، علاوة على هذا، السكان المدنيين الصرب (وأحيانا الكوسوڤيين)، ضحية الأخطاء العديدة في توجيه القنابل والصواريخ، على حين أن تدميرات المصانع والأبنية الأساسية الاقتصادية أوجدت مئات الآلاف من العاطلين عن العمل وجعلت الحياة اليومية للناس الأبرياء جحيما لا يطاق.
وعلى النقيض مما كان متوقعا، فيما يبدو، لم يؤدّ هذا القصف إلى تحول السكان ضد سلوبودان ميلوسيڤيتش. فعلى العكس، تعزز نوع من الاتحاد القومي نتيجة الإحساس بأنهم كسكان صرب صاروا ضحايا عقاب جماعي. وفي هذا الجو من الاستثارة والمناداة بأن "الوطن في خطر"، أجبرت "ضربات" حلف الأطلنطي الديمقراطيين الصرب المعادين للنظام على المقاومة كوطنيين، وعلى التخفيف من غلواء انتقاداتهم ضد سلوبودان ميلوسيڤيتش.
وأخيرا فإن هذه الهجمات، بتدميرها سفارة الصين في بلجراد، عززت معاداة پكين (العضو الدائم في مجلس الأمن للأمم المتحدة) لسياسة حلف الأطلنطي. كذلك فإنها أذلت، على المشهد الدبلوماسي، روسيا، التي ظلت، منذ قرنين، فاعلا لا يمكن الالتفاف حوله في الجغرافيا-السياسية للبلقان.
 
مبدأ "القتيل صفر" zéro mort
 
كما كان هذا الصراع المسلح في البلقان، من حيث إدارته، حربا من نوع جديد. ولم يحدث في وقت من الأوقات، في التاريخ العسكري، أن أديرت أية مواجهة كما أدارها الچنرال ويزلي كلارك Wesley Clark، القائد الأعلى لقوات حلف الأطلنطي، وقد صار مبدأ "القتيل صفر" (أو: "صفر من القتلى") واجبا إلزاميا مطلقا. فبعد شهرين من القصف المتواصل، لم يمت عسكري واحد من التحالف أثناء العمل الحربي. ولم يشهد أحد هذا من قبل.
وكانت الخسائر المادية أيضا لا وزن لها. وعلى حين تجاوز عدد المهام الجوية 25 ألف مهمة، كانت الخسارة طائرتين (غير أنه تمت استعادة طياريهما سالمين لم يصبهما أذى، من أرض العدوّ، بواسطة قوات كوماندوز تسللت إليها)، ويعزز هذا مشروع الچنرال كلارك بصنع "حرب بدون خسارة طائرات"[101]. ولم يحدث أن أصيبت أيّ سفينة، ولا أيّ دبابة، ولا أيّ هيليكوپتر للتحالف خلال العمليات.
وبالمقابل، كان الدمار المادي الذي لحق بيوغسلاڤيا كبيرا. فالأبنية الأساسية العسكرية والصناعية (ومنها المحطات الكهربائية) أصيبت بصورة خطيرة أو صارت غير صالحة للاستعمال، وكذلك طرق المواصلات الرئيسية (ومنها الجسور، والسكك الحديدية، وطرق السيارات). وجرى التشويش على كل الشبكات الإلكترونية، وكذلك التنصت بصورة دائمة على الاتصالات التليفونية. وحتى إذا كنا قد اكتشفنا لاحقا أن الجيش الصربي استطاع بصورة فعالة أن "يخفي نفسه" وأن يستخدم بدهاء "خِدَعَهُ"، فقد قُتل عدة آلاف من العسكريين الصرب. ووفقا لبعض الچنرالات الأمريكيين، أعيد البلد عقدين من الزمان إلى الوراء...
والحقيقة أن علاقة القوى العسكرية بين حلف الأطلنطي ويوغسلاڤيا كانت غير متكافئة إلى حد أنه من غير الملائم تقريبا الحديث عن حرب. وبالفعل كان ما شهدناه عقابا. عقابا لم يحدث لأي بلد (باستثناء العراق و، بعد 11 سپتمبر 2001، أفغانستان) أن تلقاه في يوم من الأيام. ذلك أن إستراتيچية حلف الأطلنطي أجبرت يوغسلاڤيا على أن تبقى سلبية، عاجزة إزاء قوات التحالف، التي ظلت على كل حال خارج متناولها.
 
حربان
 
غير أننا كنا، في الواقع، إزاء حربين. إحداهما حرب القويّ على الضعيف، حرب حلف الأطلنطي ضد يوغسلاڤيا، وكانت بالأحرى، كما سبق لنا القول، عقابا. وكانت الأخرى حرب الضعيف على الأضعف، حرب صربيا ضد الكوسوڤيين، قوات بلجراد ضد جيش تحرير كوسوڤو. من جهة، حرب معقدة، إلكترونية وتكنولوچية؛ ومن الجهة الأخرى، مذابح تقطيع الأوصال، وترحيلات جماعية، واغتصابات، وإعدامات بدون محاكمة.
وتتمثل سمة أصيلة أخرى لهذه الحرب في أن حلف الأطلنطي أعلن صراحة أنه لا يريد أن يقتل. حتى العسكريين الصرب، ومن باب أولى المدنيين. كانت حرب أجهزة ضد أجهزة، وآلات ضد آلات. لعبة ڤيديو تقريبا. وحالما وقع أبرياء قتلى بالفعل، بسبب خطأ توجيه القذائف، أخذ التحالف يمطر سيلا من الندم، والاعتذار، والأسف، وتأنيب الضمير، والتماسات أخرى للصفح.
سَحْق الخصم، بصورة مجردة، نعم؛ قتل عدوّ عينيّ، لا. وقد علق أمبرتو إيكو Umberto Eco: "في الحرب الجديدة، يخسر أمام الرأي العام مَنْ يُفرط في القتل"[102]. وكان هذا هو القانون الجديد الذي فرضته هذه الحرب. وهو الذي راقبته بانتباه وسائل الإعلام. وظل التلاعب بوسائل الإعلام هذه أحد الأهداف الرئيسية للأحزاب المتصارعة.
 
 
دعاية خفيفة
 
وبهذا الخصوص، لم تأت هذه الحرب بأيّ تجديد رئيسي فيما يتعلق بنموذج جزر الفوكلاندز ("المالبيناس") Malouines[103] الذي جرى تدقيقه منذ 1982، وتم تطبيقه بصورة محددة خلال حرب الخليج في 1991. ومن الناحية الأساسية، وضع حلف الأطلنطي في كوسوڤو موضع التطبيق جهازا إعلاميا جرى تصميمه منذ 1986، وصححته الدروس المستفادة من حرب الخليج.
ويتعلق الأمر، باختصار، بجعل الحرب مرئية وإبقائها المصدر الرئيسي لمعلومات الصحفيين. والحقيقة أن هؤلاء، متعقلين أكثر بلا جدال، لم ينجحوا في يوم من الأيام في تفادي هذا الشكل الجديد من الرقابة الديمقراطية والدعاية الخفيفة. ولا سيما وأنه، في بلجراد، لم تساعد الرقابة التقليدية والدعاية الفظة على إظهار الحقيقة.
وعلى هذا النحو، تم إجبار وسائل الإعلام، خلال شهرين، على الاقتصار على التعليق على صورة أساسية غائبة: صورة الفظائع التي ارتكبتها قوات بلجراد ضد السكان المدنيين في كوسوڤو، وقد وصفت شهادات كثيرة للمهجرين هذه الجرائم، التي لم يُثر واقعها شكوكا[104]، ولكن ما من صورة عرضتها علينا، وما من مراسل شاهدها بعينيه. الأمر الذي كان يمثل إخفاقا بالنسبة للآلة الإعلامية، وبصورة خاصة السمعية البصرية، التي حاولت منذ حوالي عشرة أعوام، أن تقنعنا بأن تقديم المعلومات يتمثل، من الناحية الأساسية، في جعلنا "نشهد الأحداث".
ومن هنا أيضا، المساجلات. بين المدافعين عن "الحقيقة الرسمية" لحلف الأطلنطي وبعض المراقبين على الأرض من منشقين ومحاربي أيقونات. وعلى هذا النحو، لم يتردد، في المملكة المتحدة، وزير الشئون الخارجية، روبن كون Robin Cook، عن أن يحمل مراسل بي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) في بلجراد، چون سيمپسون John Simpson، المسئولية علنا متهما إياه بأنه "شريك ميلوسيڤيتش"، ببساطة لأن الصحفي لفت الأنظار إلى وجود معارضين ديمقراطيين للنظام، في صربيا، وإلى المدارس التي دمرها القصف الجوي لحلف الأطلنطي، إلخ. وقد ذهبت الحكومة (العمالية) البريطانية إلى حد الضغط والمطالبة بإعادة الصحفي إلى البلاد، وهذا ما رفضته بي بي سي.
وفي إيطاليا، انتقد مراسل ﻠ ر.أ.إ. RAI، إنيو ريموندينو Ennio Remondino، بقسوة بالغة، القصف الجوي لبلجراد، وبصورة خاصة تدمير مبنى التليڤزيون الصربي (وهو ما تسبب في قتل العديد من المحررين)، وقد عاداه بشراسة صحفيون ومثقفون وعاملوه على أنه "عميل ميلوسيڤتش".
وأخيرا، في فرنسا، حُسبت الملاحظات التي ساقها ريچيس دوبراي Régis Debray، بعد إقامة قصيرة في كوسوڤو، على هذا المثقف، لأنها لم تتطابق مع الحقيقة الرسمية، باعتبارها إعداما لينتشيًّا lynchage[105] إعلاميا حقيقيا[106].
 
المبرر الأخلاقي والإنساني
 
وبالتالي فإن الحساب الختامي لهذه الحرب الأولى لحلف الأطلنطي كارثي[107]. إلى جانب واقع أن الاضطراب يوشك على الامتداد. ونرى بالفعل كيف ساد الاستقرار في 2001 في مقدونيا. وكان من الممكن أن تلحق غدا بالمجر، وبلغاريا، ورومانيا، بل حتى باليونان، ومولداڤيا، وتركيا. وكل هذه البلدان هي، إن جاز القول، في الخط الأول للجبهة، وقد تابعت سفاراتها وكذلك الرأي العام في كل بلد منها (حوالي 150 مليون شخص!) هذه الحروب الجديدة في البلقان بمزيج من مشاعر الفزع والإثارة.
وأمام كارثة كهذه، لا يستطيع المرء الامتناع عن أن يتساءل: لماذا كان هناك إلحاح شديد إلى هذا الحد على شن هذه الحرب؟ وكنوع من التبرير أعلن خابيير سولانا: "علينا أن نمنع نظاما مطلقا (أوتوقراطيا) من الاستمرار في قهر شعبه في أوروپا"[108]. وأضاف مسئولون آخرون في حلف الأطلنطي: ولمبررات "أخلاقية". وأصرّ معلقون آخرون: ولمبررات "إنسانية". وكلها حجج محترمة، وبالتأكيد مشروعة، غير أنها لا يمكن أن تقنع تماما.
ذلك أنه توجد أيضا مبررات "أخلاقية" و"إنسانية" للتدخل، على سبيل المثال، في كردستان، حيث تشن السلطات التركية في أنقرا، منذ 1984، حربا ضد السكان الأكراد الذين جرى رفض منحهم الوضع القانوني للاستقلال الذاتي وحتى الحق في تعليم اللغة الكردية. وهى حرب تتواصل، وأدت إلى سقوط حوالي 29 ألف شخص ونزوح أكثر من مليون من اللاجئين[109]!
ألم تكن هناك أيضا مبررات "أخلاقية" و"إنسانية" لإصلاح الظلم الذي حاق بالقبارصة اليونانيين الذين كان أكثر من 160 ألف شخص منهم ضحايا تطهير إثني لا يعرف الرحمة في 1974، مطاردين، في أوضاع شنيعة، من شمال قبرص بواسطة جيش الغزو التركي، الذي يحتل بصورة دائمة وغير مشروعة هذا الجزء من الجزيرة، والذي فضل أن يوطن فيه أكثر من 60 ألف مستوطن آتين من تركيا؟
وأخيرا، ألم تكن هناك مبررات "أخلاقية" و"إنسانية" للتدخل لصالح مئات الآلاف من الفلسطينيين المقهورين، المنزوعي الملكية، المرحَّلين من جانب السلطات الإسرائيلية، التي ما تزال تواصل، إلى يومنا هذا، تفريغ القدس الشرقية من سكانها الفلسطينيين على حين تشجع دائما، رغم الاتفاقات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، الاستيطان اليهودي للضفة الغربية وغزة؟
وهل وضع هذه الجماعات الثلاث - الأكراد، القبارصة اليونانيين، الفلسطينيين - أقل إثارة للغضب من وضع ألبان كوسوڤو؟ ولماذا يشجع الغرب، عن حق، التفاوض هناك وقام بالقصف هنا؟ لمبررات سياسية وليس لمبررات أخلاقية. لأن تركيا وإسرائيل دولتان ديمقراطيتان، ولديهما اقتصاد السوق، وهما حليفتان عسكريتان قديمتان للغرب، وبعيدتان جغرافيا عن مركز الاتحاد الأوروپي.
 
 
 
الأهمية الاستراتيجية
 
أما كوسوڤو فإنها قضية أخرى. وقد وجد الاتحاد الأوروپي والولايات المتحدة، كل منهما من جهته ولدوافع مختلفة، مبررات ملحة للتدخل.
وقد تدخل الاتحاد الأوروپي لاعتبارات إستراتيچية. غير أن الأهمية الإستراتيچية لمنطقة ما لم تعد كما كانت من قبل. ومنذ عهد قريب، كانت منطقة ما تُعَدّ "مهمة إستراتيچيا" عندما يأتي امتلاكها بميزة عسكرية كبيرة (الوصول إلى البحر، إلى نهر ملاحي، إلى تضاريس سائدة، إلخ.)، تسمح بالسيطرة على الثروات الحاسمة (النفط، الغاز، الفحم، الحديد، الماء، إلخ.) أو على طرق تجارية حيوية (مضايق، قنوات، ممرات، وديان، إلخ.).
أما الآن، في زمن الأقمار الصناعية، والعولمة، وإضفاء الطابع المالي financiarisation، و"الاقتصاد الجديد" القائم على تكنولوچيات المعلومات، فقد انهار إلى حد بعيد مثل هذا التصور عن "الأهمية الإستراتيچية". والحقيقة أن كوسوڤو، من وجهة النظر هذه، لا تمثل أدنى أهمية إستراتيچية. ولا تعود السيطرة عليها على القوة الفاتحة بميزة عسكرية، ولا ثروة حاسمة، ولا سيطرة على طريق تجاري حيوي.
فأين تكمن إذن، بالنسبة لكيان غني مثل الاتحاد الأوروپي، الأهمية الإستراتيچية لإقليم ما في الوقت الحاضر؟ بصورة جوهرية في قدرة هذا الإقليم على أن يُصَدّر إلى الاتحاد الأوروپي أضرارا: الفوضى السياسية، الفقر المزمن، الهجرة السرية، الشبكات الإجرامية، الإرهاب، جنوح الأحداث، المافيات المرتبطة بالمخدرات أو بالبغاء، إلخ. وبهذا الصدد، هناك منطقتان تمثلان، بالنسبة لأوروپا، منذ سقوط سور برلين، أهمية إستراتيچية من الطراز الأول: المغرب، والبلقان.
 
السياسة الواقعية Realpolitik
 
تفاقمت أزمة كوسوڤو على وجه الخصوص بعد انهيار ألبانيا من الداخل، في 1997، عندما غرق هذا البلد في الفوضى والاضطرابات، فقدمت على هذا النحو بصورة غير مباشرة لمقاتلي جيش تحرير كوسوڤو في آن معا الفرصة للحصول بثمن بخس على أسلحة بآلاف القطع، وإقامة قاعدة خلفية آمنة، كملاذ للإغارات الدامية على كوسوڤو.
وهددت "حرب التحرير" هذه لإقليم يطالب به بتعصب، بنفس الدوافع التاريخية، والدينية، والثقافية، خصمان عاقدا العزم على الذهاب إلى النهاية، بأن تكون طويلة ووحشية. فهل كان بمستطاع الاتحاد الأوروپي أن يسمح لنفسه بأن يعيش، خلال خمسة أو عشرة أعوام، بهذا النمط من الصراع على تخومه؟ وبكل الأصداء المتوقعة في مقدونيا وعلى باقي البلقان؟ بعشرات الآلاف من اللاجئين الساعين إلى الوصول، عن طريق إيطاليا، إلى باقي بلدان الاتحاد؟ وما من علاقة للإجابة على هذه الأسئلة بما هو أخلاقي أو إنساني، فهذه الإجابة ترتبط بالسياسة الواقعية Realpolitik، التي تقوم على ضرورة الدفاع عن المصالح العليا للدول، وتتخذ بالتالي شكل الحرب والقصف الجوي كما شهدنا في ربيع 1999.
 
مهمة جديدة لحلف الأطلنطي
 
وبالنسبة للولايات المتحدة، لا تمثل كوسوڤو أية مصلحة إستراتيچية، لا بالمعنى القديم، ولا بالمعنى الحديث لهذا التعبير. وبالنسبة لها، هي التي دخلت بإرادتها في أزمة البلقان منذ 1991، قدمت لها قضية كوسوڤو ذريعة مثالية لإغلاق ملف ترتبط به أكثر من كل شيء آخر: الشرعية الجديدة لحلف الأطلنطي. فهذه المنظمة الدفاعية، التي تم إنشاؤها في مرحلة الحرب الباردة، كانت مصمَّمة لمواجهة الهجوم من خصم محدد: الاتحاد السوڤييتي. ومع اختفاء الاتحاد السوڤييتي، في ديسمبر 1991، وانهيار البلدان الشيوعية، وحلّ حلف وارسو، كان على حلف الأطلنطي بدوره أن يحل نفسه ويختفي. وأن تحلّ محله، في أوروپا الغربية، منظمة دفاعية محددة (كان على اللواء الفرنسي-الألماني، كما قيل لنا، أن يقدم جنينها).
ولم يكن هذا على الإطلاق رأي واشنطن التي تأمل في استبقاء قوة أوروپية، والتي فعلت كل شيء في سبيل تعزيز حلف الأطلنطي وتوسيع نفوذه بقبول انضمام ثلاثة بلدان سابقة من الشرق (پولندا، التشيك، المجر) إليه. ويؤكد محلل أمريكي: "لا جدال في أنه كان لا مناص من استبقاء حلف الأطلنطي بسبب النفوذ السياسي الذي يجلبه للولايات المتحدة في أوروپا ولأنه يعرقل تطوير نظام إستراتيچي أوروپي منافس للنظام الإستراتيچي للولايات المتحدة"[110].
غير أن هناك ما هو أكثر. ففي زمن العولمة الليبرالية، تريد الولايات المتحدة، لكي تواكب منطق هذه العولمة وتمنع مخاطرها، أن تجعل من حلف الأطلنطي الذراع المسلح لهذه العولمة، جهازها الأمني. ومعها، كحلفاء رئيسيين، المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وكذلك البلدان الأخرى الأعضاء في حلف الأطلنطي (في انتظار أن تضم إليه، في فترة لاحقة، الياپان وكوريا الجنوبية). أما الأمم المتحدة، فيجري استبعادها والهبوط بها إلى مستوى نوع من السلطة الأخلاقية (كما كان، بطريقة ما، مجلس أوروپا بالنسبة للاتحاد الأوروپي)، دون قدرة فعلية على التدخل في حالة الأزمة.
إلى حد أن بعض الضباط الأمريكيين يتساءلون ما إذا لم يكن أكثر فاعلية، على كل حال، التدخل بتفويض من الأمم المتحدة، كما حدث في الخليج، بدلا من إطار حلف الأطلنطي بالتعقيدات التي تفرضها المشاورات الدائمة بين تسع عشرة حكومة[111]. ويكون من الأسهل أيضا، بالنسبة للولايات المتحدة، أن تعمل بصورة منفردة. ذلك أن تفوقها العسكري يسمح لها بهذا، لكي تفرض، في ظل إمبراطورية السوق، نظاما عالميا جديدا. أليس هذا مزعجا؟ لا، يؤكد الأدميرال ويليام چ. پيري William J. Perry، الوزير السابق للدفاع أثناء ولاية الرئيس كلينتون: "حيث إن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي له مصالح عالمية، فإنها القائدة الطبيعية للمجتمع الدولي"[112].
وقدمت كوسوڤو للولايات المتحدة الفرصة لتطبيق "المفهوم الإستراتيچي الجديد" لحلف الأطلنطي، قبل الاعتماد الرسمي له في واشنطن، في 26 إبريل 1999، بعدة أسابيع: توسيع وتعزيز مجتمع الأمم الديمقراطية. وكان من المفهوم أن توسيع الديمقراطية يفترض، كشرط لا غنى عنه، التبني الإلزامي للنموذج الغربي للعولمة الليبرالية. ومن ثم الخضوع لهيمنة الولايات المتحدة. وكانت تلك، في الأساس، الدوافع الحقيقية لحرب كوسوڤو.
 
الشيشان
 
لأن سمات مميزة بعينها مشتركة بينهما بصورة مأساوية - النزعة القومية، الأحقاد الإثنية، والمواجهة بين الراديكالية الإسلامية والمسيحية الأرثوذوكسية، والنزعة الانفصالية، وتصفية الاستعمار، والاستقلال -، شبّه البعض أحيانا حرب كوسوڤو بالحرب الجديدة التي يشنها الچنرالات الروس، منذ سپتمبر 1999، في الشيشان.
على أن الحالتين تبقيان رغم كل شيء مختلفتين تماما حتى إذا كانت الحربان، بالفعل، غير إنسانيتين بصورة خاصة. وكما في كوسوڤو، منذ القصف الجوي الأول لحلف الأطلنطي، فإن أكثر من ثلث السكان الشيشانيين - أيْ حوالي 200 ألف شخص - كان لا مناص من أن يفروا من المعارك بحثا عن ملاذ مؤقت في إنجوشيا. ووفقا لمنظمات إنسانية دولية (أبقتها السلطات الروسية بعيدة عن الجبهة)، فإن مئات المدنيين قتلوا تحت القصف الجوي الأعمى للجيش الفيدرالي. وهو جيش انهمك أيضا، في قرى عديدة، في أعمال نهب، واغتصابات، وجرائم حرب.
وبعد أن دمرها على نطاق واسع الصراع المسلح السابق خلال 1994-1996، الذي أودى بحياة أكثر من 80 ألف شخص، شهدت الشيشان بفزع، مرة أخرى، التدمير المنهجي لأبنيتها الأساسية الرئيسية. إلى حد أنه، بعد عامين، تتواصل الحرب ضد المقاومين الشيشان، وأوشكت على إرجاع هذه الجمهورية الصغيرة في القوقاز، فيما يتعلق بالتنمية، قرنا إلى الوراء.
كيف أمكن لكارثة بشرية، واقتصادية، وإيكولوچية، مرعبة إلى هذا الحد، أن تحدث؟ ولماذا حدث أن المجتمع الدولي، المتعجل إلى هذا الحد لتعبئة نفسه، باسم حق التدخل، في 1999، لصالح كوسوڤو، شهد بلا اكتراث مثل هذه المأساة؟
ولا شك في أن المسئولية الرئيسية عن هذا تقع على موسكو، التي كانت، في لحظة تفكك الاتحاد السوڤييتي (1991-1992)، عاجزة عن أن تقدم للكيانات التي بقيت داخل الاتحاد الروسي وضع استقلال ذاتي يقوم على معايير ديمقراطية بصورة حقيقية. وبتواطؤ الغرب، الذي دفع موسكو إلى أن تتبنى بأسرع ما يمكن نموذج الاقتصاد الرأسمالي، أعدّ الكرملين على عجل نظاما فيدراليا على الخريطة، يسمح بأن ينشأ في كل إقليم، مقابل دعم سياسي، "نوع من الاستئجار المعمم"[113] للقطاعات الأكثر ربحية (النفط، العملات، الكحوليات، التبغ، الكاڤيار، المخدرات، الأسلحة، إلخ)، الممنوحة لمافيات أو لعشائر محلية.
وقد زاد هذا المجموع من الممارسات من حدة التوترات الاجتماعية. خاصة في الشيشان، البلد الذي، بعد أن قدم قبل 1940، ما يصل إلى 45٪ من نفط الاتحاد السوڤييتي، شهد البؤس يتفشى وعرف تدهورا لا يُقاوَم، حيث لم يمثل إنتاجه من الهيدروكاربورات [= النفط] أكثر من 1٪ بالكاد من إنتاج روسيا.
 
الإسلام الوهابي
 
مع صعود المافيات انبعث أيضا الشعور القومي وإحياء للإسلام السني، اللذين بقيا راسخين في بلد قاوم، خلال أكثر من قرن، النزعة التوسعية الكولونيالية الموسكوڤية ليكون آخر حصن للقوقاز يستسلم للروس في 1859.
وبدا المحرومون حساسين بصورة خاصة لخطاب البعثات الوهابية، الآتية من المملكة العربية السعودية بوسائل مالية كبيرة للتبشير بإسلام أصولي، كان قد أغرى بالفعل جزءا من المقاومين الأفغان قاهري السوڤييت في الثمانينات. وإلى هذا التيار الإسلامي كان ينتمي المقاتلون الاستقلاليون الرئيسيون في بداية التسعينات، وبصورة خاصة الرجل الشهير شامل باساييڤ Chamil Bassaev. وقد أقامت وسائل الإعلام الصلات بين الشيشان وأفغانستان، بعد هجمات 11 سپتمبر 2001، وكانت وسائل الإعلام هذه قد أكدت مرارا أن العديد من الشيشانيين، المحميين بطالبان، يتدربون في معسكرات القاعدة بأوامر من بن لادن.
وبعد الانتصار العسكري غير العادي على موسكو في 1996، تفسخ الاتحاد المقدس للشيشانيين. وخاضعة لحصار إقليمي فرضته القوات الروسية، وجدت حكومة أصلان ماسخادوڤ Aslan Makhadov نفسها بلا وسائل لإعادة بناء البلاد. ومن جانبهم، قام الوهابيون بإنشاء مناطق نفوذ إسلامية فرضوا فيها تطبيق الشريعة الإسلامية ضد إرادة أسر عديدة. وانتشرت المافيات وعصابات قطع الطرق مستفيدة من هذه الاضطرابات. وشوهد بالتالي تنامي اقتصاد حقيقي للنهب وقطع الطرق: أعمال نهب للنساء المنفردات، وتهريب البضائع من كل الأنواع، وبصورة خاصة أعمال الخطف مقابل الفدية لمئات الأشخاص، العديد منهم من الأجانب.
وبالتدريج، صارت الشيشان، جزئيا رغم أنفها، كيانا فوضويا، يخشاه جيرانه، كما بدأ سكانه أنفسهم في الفرار منه. وفي سياق من الفساد والتدهور، حدثت أربعة تطورات أفضت إلى الصراع الراهن.
 
هجمات إرهابية
 
في البداية، في مايو 1999، أحست روسيا بأنه يجري تهميشها عندما أعيد فتح خط أنابيب يربط باكو (أذربيچان) ﺒ سوپسا (چورچيا)، على سواحل البحر الأسود، بصورة رسمية بالمباركة الغربية.
والأخطر أن تركيا وأذربيچان، وچورچيا، قامت بتوقيع اتفاق بعد ذلك بعدة أشهر لبناء خط أنابيب آخر يعيد ربط باكو بالميناء التركي چيهان Ceyhan، على البحر الأبيض المتوسط، مع تجنب الأراضي الروسية بصورة نهائية على هذا النحو. وأحست موسكو بهذا على أنه إهانة جغرافية-سياسية يمكن أن تنذر بفقدان خطير للنفوذ في القوقاز. خاصة وأن خطيْ الأنابيب الجديدين هذين تم وضعهما بصورة آلية تحت حماية النظام الأمني لحلف الأطلنطي...
ثم جاءت، في أغسطس 1999، الغارة على داغستان، التي شنها الزعيم الإسلامي الشيشاني باساييڤ، لتؤكد، في نظر الروس، أخطار العدوى التي يمكن أن تفضي إليها، بالنسبة لمجموع القوقاز، المثل الذي ينطوي عليه استقلال متوقع للشيشان. ومع أنها حوصرت وقمعت بسرعة، أثارت هذه الغارة الخوف في موسكو، التي يستبدّ بها وسواس ازدياد التهديدات ضد سيطرتها على منطقة إستراتيچية مثل القوقاز الشمالي.
وأخيرا، في بداية خريف 1999، أوقعت التفجيرات الشريرة ضد المباني المدنية حوالي ثلاثمائة قتيل في عدة مدن في روسيا. وبسرعة تم توجيه الاتهام (دون أدلة حاسمة) إلى "العصابات الشيشانية"، مما استثار رأيا عاما غارقا منذ عشرة أعوام في كارثة اجتماعية.
وواقع أن ڤلاديمير پوتين قد انتهز هذا الموقف ليعلن "حربا بلا رحمة على الإرهاب"، وليفرض نفسه باعتباره الرجل القوي الذي انتظره الروس، أمر بديهي. غير أن هذا البُعْد السياسي لا يمكن فصله عن الرهانات الإستراتيچية للحرب: فالمقصود، بالنسبة لموسكو، الاحتفاظ بيد حديدية بسيطرتها على الشيشان و، من وراء ذلك، استعادة روسيا باعتبارها القوة المسيطرة في القوقاز بأكمله. وهو ما يبقى، بالنسبة لقوة عظمى عالمية سابقة، مجرد طموح إقليمي...
 
النظام العالمي الجديد
 
بالمقابل، فتحت الحرب التي وضعت وجها لوجه، في ربيع 1999، حلف الأطلنطي وجمهورية يوغسلاڤيا الفيدرالية، مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية. لقد أعلنت فجر نظام عالمي جديد. وبدأ عصر جديد في ذلك اليوم، 24 مارس 1999، تاريخ القصف الجوي الأول ضد نظام بلجراد.
وكنا نعلم أن الحرب الباردة قد انتهت في نوڤمبر 1989 مع سقوط سور برلين، وأن فترة ما بعد الحرب قد انتهت في ديسمبر 1991 مع اختفاء الاتحاد السوڤييتي. ومن الآن فصاعدا نعلم أن أزمة كوسوڤو تختم عقدا (1991-1999) من الشكوك والاضطرابات، والترددات، فيما يتعلق بالسياسة الدولية، وترسم خطوط إطار جديد من أجل القرن الحادي والعشرين.
وكانت العولمة الاقتصادية - التي تشكل، من بعيد، الديناميكا السائدة لعصرنا - بحاجة إلى استكمال نفسها بمشروع إستراتيچي عالمي في شأن الأمن. وقدم صراع كوسوڤو الفرصة لتحديد سماته المميزة الكبرى. وبالفعل فإن هذه الحرب الأولى لحلف الأطلنطي تبدو، بهذا الخصوص، افتتاحية. وبالنسبة للمجتمع الدولي، يمثل هذا قفزة حقيقية إلى المجهول، وتوغلا في أرض لم يجر استكشافها ولا شك في أنها تدخر الكثير من المفاجآت الجيدة، ولكن أيضا عددا من الفخاخ والأخطار.
ومتخذا ذريعة من الفظائع التي ارتكبها في كوسوڤو نظام بلجراد، قدم حلف الأطلنطي، كأسباب للصراع، حججا ذات طابع إنساني، وأخلاقي، وحتى حضاري - إنها "معركة في سبيل الحضارة" كما أعلن ليونيل چوسپان، رئيس الوزراء الفرنسي[114]. وهكذا فإن التاريخ، والثقافة، والسياسة، وهي أسباب كل المعارك منذ الحروب الپونية les guerres puniques[115]، صارت فجأة إحالات عتيقة. وهذا ما يشكل ثورة، ليست فقط ذات طابع عسكري، بل بكل بساطة ذات طابع عقلي.
فباسم التدخل الإنساني، الذي يُعتبر من الآن أعلى أخلاقيا من كل شيء آخر، لم يتردد حلف الأطلنطي عن أن ينتهك، منذ حرب كوسوڤو، محظوريْن رئيسييْن للسياسة الدولية: سيادة الدول، والنظام الأساسي لمنظمة الأمم المتحدة.
 
مبدأ السيادة
 
كانت السيادة تكمن، في ظل النظام القديم، في شخص الملك، "بنعمة الرب". وتحت تأثير فلاسفة التنوير، جعلتها الثورة الأمريكية (1776) والفرنسية (1789)، وكل الديمقراطيات منذ ذلك الحين، تكمن في الشعب ("مبدأ كل سيادة يكمن بصورة أساسية في الأمة"، كما تقول المادة 3 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن في أغسطس 1789).
ومبدأ السيادة هذا يفوض أية حكومة تسوية الصراعات الداخلية بمقتضى قوانينها الخاصة، التي يُعدّها برلمانها الذي يجتمع فيه ممثلو الأمة، ودون أن يكون باستطاعة أيّة جهة مهما كانت أن تتدخل في الشئون الداخلية للدولة. وهذا المبدأ، القديم القائم منذ قرنين، هو الذي تطاير إلى شظايا في 24 مارس 1999، تاريخ القصف الجوي الأول لحلف الأطلنطي ضد صربيا.
ويقول البعض، وليس بدون مبرر: هذا أفضل كثيرا لأنه، في حماية هذا المبدأ الذي يحظر على البلدان الأخرى المجيء لنجدة الضحايا، جرى ارتكاب تجاوزات بالغة على أيدي دول استبدادية ضد مواطنيها أنفسهم. كما يعتبر كثيرون في حالة يوغسلاڤيا، أنه إذا كان سلوبودان ميلوسيڤيتش منتخبا شكليا بالطريق الديمقراطي، فإن هذا لا يقلل من كونه طاغية، وملهما لسياسة بغيضة للتطهير الإثني. والواقع أن الطاغية، أو المستبد، أو الدكتاتور، لا يستمدّ شرعيته من الشعب؛ وبالتالي فإن سيادة دولته ليست سوى حيلة قانونية تسمح له بممارسة التعسف. ومثل هذه السيادة لا تستحق الاحترام مطلقا؛ ويكون هذا من باب أولى إذا تمادى الطاغية في انتهاكاته لحقوق الإنسان أو في جرائم ضد الإنسانية.
وقد رأينا أيضا، مؤخرا، أن نفس القرارات السيادية (المتخذة من مجموع القوى السياسية الرئيسية اليمينية واليسارية) لبلد ديمقراطي مثل تشيلي، إزاء دكتاتور سابق، الچنرال آوجوستو پينوتشيت، لم يجر احترامها. فهي لم تستطع تجنب اعتقاله في لندن وطلب تسليمه إلى إسپانيا لمحاكمته هناك على جرائم ضد الإنسانية[116].
كما أن مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية (ما تزال الولايات المتحدة تعارض التصديق عليه) تتمثل غايته في محاكمة المرتكبين لجرائم ضد الإنسانية، وهي غير قابلة للتقادم، وهذا بصورة مستقلة عن كل قرار قانوني تتخذه دولة ذات سيادة.
 
نحو الدولة-الفرد
 
علاوة على هذا فإن العولمة التي تمحو الحدود، وتُجانس الثقافات، وتختزل الفروق، تلحق الأضرار بهوية الدول وسيادتها. وكما يؤكد آلان چوكس Alain Joxe فإن: "تأسيس إمبراطورية عالمية (أمريكية) عن طريق توسيع اقتصاد السوق يؤدي إلى بلقنات-لبننات Balkanisations-Libanisations عن طريق تدمير الامتيازات والحقوق التنظيمية للدول التقليدية"[117].
فأين تكمن من الآن فصاعدا سيادة بلد؟ وهل سيتم الذهاب إلى حد القيام، على المستوى الكوكبي وتحت رعاية الغرب، بتشكيل "سيادات مقيدة"، مماثلة لتلك التي أراد ليونيد بريچنيڤ Leonid Brejnev والاتحاد السوڤييتي تشكيلها، في السبعينات، فيما يتعلق بدول المعسكر الاشتراكي؟ وهل ينبغي أن نتوقع، بهذه الروح، إحياء المظهر الاستعماري الكولونيالي ﻠﻠ "محمية"، كما كان يُتوقع، في 1991 بالفعل، بالنسبة للصومال، كما تمارس من الناحية الفعلية في ألبانيا و، تحت رعاية الأمم المتحدة، في كوسوڤو، أو، منذ ديسمبر 2001، تحت غطاء قوة متعددة الجنسيات، بالفعل، في أفغانستان[118]؟
لقد انتقلت السيادة، في نهاية القرن الثامن عشر، من الرب إلى الأمة، فهل ستكمن من الآن فصاعدا في الفرد؟ وهل نتجه إلى ظهور "الدولة-الفرد" État-individu، بعد الدولة-الأمة؟ حيث يعترف كل فرد لنفسه بالرموز والامتيازات والحقوق التي كانت إلى الآن للدول؟ ولا جدال في أن العولمة وأيديولوچيتها تتلاءمان مع، بل حتى تشجعان، مثل هذا التحول الذي جعلته التكنولوچيات الجديدة للاتصال والمعلومات، متوقعا، من الناحية التقنية، كما أثبت، إلى حد ما، أسامة بن لادن ودولته-الشبكة État-réseau، القاعدة (انظر، الفصل المخصص لأحداث 11 سپتمبر 2001).
 
 
الأمم المتحدة خارج اللعبة
 
قرر حلف الأطلنطي حرب كوسوڤو دون أن يفوضه صراحة أيّ قرار من مجلس الأمن للأمم المتحدة. وهذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها، في قضية بمثل هذه الخطورة، أن توضع جانبا منظمة الأمم المتحدة، المحفل الدولي الوحيد لتسوية الصراعات وصون السلم.
وتبين مؤشرات عديدة، منذ بداية التسعينات، أن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في أن ترى الأمم المتحدة تلعب دورها: عدم تجديد ولاية بطرس بطرس غالي، الذي حل محله الأمين العام الجديد، كوفي عنان، المفترض أنه أكثر انقيادا إزاء أطروحات واشنطن؛ توقيع اتفاقات دايتون بشأن البوسنة، برعاية أمريكية، وليس برعاية الأمم المتحدة؛ والشىء نفسه idem بالنسبة لاتفاقات واي ريڤر Wye River الإسرائيلية الفلسطينية؛ والقرار المنفرد بقصف العراق بدون قرار من الأمم المتحدة، إلخ.
وبالفعل فإن كل شيء يشير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد ترتضي بالأمم المتحدة، وإلى أنها، في سياق وضعها المهيمن الراهن، لم تعد تقبل أن تكون مقيدة بالإجراءات القانونية للأمم المتحدة. وعلى هذا النحو يتراءى لنا أن وجود الأمم المتحدة، طوال القرن العشرين (في صورة مجتمع الأمم أولا)، لم يكن يرجع إلى تقدم حضاري، كما كان يُعتقد، بل ببساطة إلى الوجود المتزامن لقوى ذات أحجام متماثلة لم يكن بمستطاع أيّ قوة منها، عسكريا على الأقل، أن تتفوق على القوى الأخرى.
وقد اختلّ مثل هذا التوازن مع اختفاء الاتحاد السوڤييتي و، للمرة الأولى منذ قرنين، يسيطر بلد - "فائق القوة" كما وصفها الوزير الفرنسي للشئون الخارجية، إيبير ڤيدرين - على العالم بصورة ساحقة. ولا ترى الولايات المتحدة سببا يجعلها تتقاسم حريتها أو تقيدها على حين أنها تستطيع أن تمارسها بصورة كاملة دون أن يكون بمستطاع أحد (حتى الأمم المتحدة) أن ينازعها عليها.
غير أن هذين الانتهاكين - عدم احترام السيادة وعدم قبول سلطة الأمم المتحدة - اللذين تم ارتكابهما باسم ما هو إنساني،  لا يمكن أن يمرا دون إثارة بعض المشكلات. على سبيل المثال: كيف يمكن التوفيق بين شاغل إنساني واستخدام القوة؟ هل يمكن أن يوجد "قصف جوي أخلاقي"، خاصة عندما توقع أخطاء عديدة في توجيه القذائف مئات الضحايا الأبرياء؟ وهل يمكن الحديث عن "حرب عادلة" عندما يكون عدم التناسب العسكري والتكنولوچي بين الخصمين بمثابة هوة سحيقة؟ وباسم أية أخلاق يجب أن تفترض الحماية المشروعة للكوسوڤيين تدمير الصرب؟
 
الحرب والإيكولوچيا
 
تستبد هذه الأسئلة بضمير غالبية القادة الاشتراكيين-الديمقراطيين الحاليين (أبناء جيل 68 السابقين، التروتسكيين السابقين،  الماويين السابقين، الشيوعيين السابقين، أنصار السلام السابقين...) الذين كانوا في عداد جيل الحب Love Generation، ﻠ سلطة الزهرة Flower Power، الذين كانوا يصرخون: "مارسوا الحب، وليس الحرب" Make love, not war، مُدَنْدِنين بالأغاني المعادية للعسكرية (cf. Donovan, Universal Soldier) والذين عارضوا بعنف، قديما، حرب ڤييتنام (وهي "قضية عادلة" مع ذلك، وفقا لمعايير اليوم...).
وقد وجد بعض القادة الإيكولوچيين في أوروپا، وبوجه خاص الخُضْر الألمان، صعوبة في التوفيق بين موقف المناداة الغاضبة إلى  اﻠ "ذهاب-إلى-الحرب" va-t-en-guerre وخطابهم التقليدي بشأن حماية البيئة. وقد اكتشفوا أن حرب كوسوڤو، مثل كل حرب، كانت، في حد ذاتها، كارثة إيكولوچية: تدميرات معامل تكرير النفط مع انبعاثات السُّحُب السامة؛ أو القصف الجوي للمصانع الكيميائية الذي أدى إلى تلوث الأنهار وقتل الحياة الحيوانية في المنطقة؛ أو إسقاط قنابل الجرافيت التي انبعثت منها أتربة مسببة للسرطان؛ أو القنابل المشعة ذات اليورانيوم غير المخصب؛ أو استعمال القنابل الانشطارية التي تزرع آلاف الفخاخ الشبيهة بألغام مضادة للأفراد (حيث رفضت الولايات المتحدة توقيع معاهدة أوتاوا التي تحظر استخدامها)؛ أو إلقاء القنابل المنشَّطة في البحر الأدرياتيكي مما يهدد الصيادين، إلخ.
ويتساءل آخرون لماذا، باسم التدخل الإنساني، لم يتدخل حلف الأطلنطي في بلدان أخرى لصالح سكان في خطر. على سبيل المثال: في جنوب السودان، في سيراليون، في ليبيريا، في الكونغو، في أنغولا، في تيمور الشرقية، في التيبيت، إلخ. كما يسجل آخرون أن ما هو إنساني لا يتخلص، أحيانا، من مبدأ "الكيل بمكيالين" deux poids, deux mesures. وهكذا كان الحال فيما يتعلق بالعراق، الذي واصلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قصفه بصورة يومية، طوال عام 1999، دون أدنى تفويض دولي[119]. وأخيرا، يلاحظ بعضهم، بشأن حق التدخل الإنساني، أنه لا يجب أن يكون قانونا للأقوى فقط. ولكن كيف يكون بوسع الضعفاء أن يستفيدوا من مثل هذا القانون؟ وهل يمكن أن نتصور، على سبيل المثال، بلدا أفريقيا ما يتدخل، باسم حق التدخل هذا، في ولاية أمريكية ما في سبيل حماية السود ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان؟ أو بلدا من شمال أفريقيا يتدخل في شئون دولة أوروپية يكون الرعايا المغاربة فيها موضوعا للتمييزات المنهجية؟
ولماذا لا نتصور، كما فعل بعضهم، حق تدخل اجتماعي؟ أليس من المشين أن يكون هناك، في قلب الاتحاد الأوروپي، حوالي 50 مليون فقير؟ ألا يتعلق الأمر هنا بانتهاك رئيسي لحقوق الإنسان؟ وهل يمكن قبول أن يعيش، على مستوى الكوكب، كائن بشري من كل اثنين بأقل من 2 يورو في اليوم؟ وأن يعيش مليار شخص في الفقر المدقع بأقل من يورو في اليوم؟ وبهذا السعر، فإن ما أنفقه حلف الأطلنطي يوميا لقصف يوغسلاڤيا، أيْ 60 مليون يورو، من شأنه أن يسمح بأن يتم، كل يوم، إطعام 60 مليون شخص...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
النظام الإيكولوچي
 
مخاوف وأخطار جديدة
 
يؤكد المؤرخ چان ديليمو Jean Delumeau أنه "في تاريخ الجماعات تتغير المخاوف، ولكن يبقى الخوف"[120]. وحتى القرن العشرين، كانت المصائب الكبرى التي تصيب البشر تنشأ بصورة رئيسية عن الطبيعة، والبرد، والتقلبات الجوية، والفيضانات، والتدميرات، والحرائق، والمجاعات، والآفات كالطاعون، والكوليرا، والدرن، والزهري. وقديما عاش الإنسان في بيئة مهددة على الدوام. وكانت المصائب تتربص به بصورة يومية.
وتميز النصف الأول من القرن العشرين برعب الحربين العظمَيَيْن، حربيْ 1914- 1918 و1939- 1945. الموت على أوسع نطاق، الهجرات الجماعية، التدميرات الشاملة، الملاحقات، معسكرات الترحيل والإبادة. وبعد الحرب العالمية الثانية والتدمير الذري، في 1945، لهيروشيما ونجازاكي، عاش العالم تحت وسواس الكارثة النووية. هذا الخوف الذي هدأ قليلا قليلا عند نهاية الحرب الباردة وبعد توقيع معاهدات دولية لحظر الانتشار النووي.
 
الرعب النووي
 
غير أن وجود هذه المعاهدات لم يؤدِّ إلى اختفاء المخاطر بصورة كلية. فقد أعاد انفجار مفاعل تشيرنوبيل، في 26 أبريل 1986، الرعب النووي بكل قوته. وفي وقت أحدث، أول أكتوبر 1999، وقع حادث معمل توكايمورا Tokaïmura، الياپان. ومذهولا بما حدث، اكتشف الرأي العام الدولي عندئذ أنه حتى في بلد كالياپان، المعروفة بتقنيتها العالية، كان يجري خرق المبادئ الأولية للأمن بصورة منتظمة، مما يعرِّض صحة وحياة مئات الآلاف من الناس للخطر.
وحدث أيضا، في 13 أكتوبر 1999، أن اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قراره الذي لايُصدَّق برفض التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية Titen، ضد رأي الرئيس ويليام كلينتون. ويظل هذا الرفض، القائم على حجج سياسية بصورة بائسة، على درجة استثنائية من الخطورة. كارثة حقيقية على أمن الكوكب. لأنه يمكن تفسيره على أنه تفويض ممنوح بالاستئناف العام للتجارب الذرية. فهو ينتهك مبدأ عدم الانتشار النووي[121]، ويجرد من الشرعية من الآن فصاعدا كل ضغط من واشنطن لصالح وقف التجارب الذرية.
واشنطن، التي ألغت ، في نهاية 2001، رغم عدم موافقة موسكو، معاهدة 1972 للحد من نشر الصواريخ المضادة للصواريخ ABM، بغرض الحماية ضد الأخطار التي تنطوي عليها المنجزات في الشأن الباليستي لعدد من الدول (منها پاكستان، وإيران، وكوريا الشمالية). وبعد هذا الرفض من جانب مجلس الشيوخ الأمريكي، كان بوسع روسيا والصين، اللتين كانتا لم تقوما بعد بالتصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، أن تجدا ذريعة لإجراء تجارب جديدة بهدف تصغير حجم معدّاتهما، كما فعلت فرنسا من قبل في 1995.
ومن جهته، ادعى رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل چوسپان أنه آخذا "من الآن فصاعدا في الاعتبار الأسلحة الباليستية وأسلحة الدمار الشامل التي جهزت نفسها بها قوى بعينها" مستعد للتصدي ﻠ "تحديث" و "تطوير" الترسانة النووية لفرنسا بهدف "تحدِّي نشوء تهديد ضد مصالحها الحيوية، أيًّا كان مصدره - حتى إنْ كان بعيدا - أو طبيعته، أو شكله"[122]. ولا شك في أن السيد چوسپان كان يفكر، بين بلدان أخرى، في پاكستان، القوة النووية الجديدة، التي جرت الإطاحة، في 12 أكتوبر 1999، بسلطاتها المدنية، المنتخبة ديمقراطيا، من جانب الجيش والچنرال پرڤيز مشرف.
 
تهديدات للهوية
 
في أوروپا الغربية، تميز النصف الثاني من القرن العشرين بالتهدئة التدريجية للنزاعات المسلحة وبتحقيق رخاء شبه عام. فقد تحسنت شروط المعيشة بصورة ملحوظة. وارتفع العمر المتوقع عند الولادة إلى مستوى لم يتم بلوغه في الماضي.
وسوف يتساءل مؤرخو العقليات ذات يوم عن السر وراء مخاوف أعوام العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وسوف يكتشفون، باستثناء الإرهاب الذي يلاحق المجتمعات الغربية منذ 11 سپتمبر، أن هذه المخاوف الجديدة لم تعد كما كانت منذ عهد قريب ذات طابع سياسي أو عسكري (نزاعات مسلحة، ملاحقات، حروب). لقد صارت بالأحرى ذات طابع اقتصادي واجتماعي (كوارث في البورصات، تضخم فائق hyperinflation، إفلاسات شركات، تسريحات جماعية من العمل، صور جديدة من الفقر)، وحتى ذات طبيعة صناعية (حوادث مرعبة كما في ميناماتا Minamata، أو سيڤيزو Seveso، أو بوپال Bhopal، أو تولوز Toulouse)، وإيكولوچية (اختلال الطبيعة، ثورات البيئة، النوعية الصحية للغذاء، التلوثات من كل الأنواع). وهي تخص الجماعة  بقدر ما تخص الفرد (الصحة، الغذاء) والهوية (الإنجاب الصناعي، الهندسة الوراثية).
وهذا الجانب الأخير على وجه التحديد يشغل الأذهان بصورة متزايدة. ذلك أن قدرات التدخل في التراث الچيني لا تكف عن التعاظم. كما أن إنتاج الحيوانات المعدلة چينيا، والاستنساخ، وتحديد تسلسلات séquençage[123] الچينوم البشري، والعلاج الچيني، ومنح براءات الكائن الحي، والفحص الچيني للأمراض الوراثية، واستخدام التجارب الچينية، تثير جميعا مخاوف خفية[124].
ونتذكر أنه، منذ الستينات والسبعينات، أكد باحثون، في الولايات المتحدة، مثل الدكتور خوسيه ديلجادو José Delgado، وهو أحد الأنصار الأكثر حماسا للسيطرة على العقل بهدف الوصول إلى "مجتمع متحضر سيكولوچيا" société  psycho-civilisée، أن المسألة الفلسفية الأساسية لم تعد: "ما هو الإنسان؟"، بل : "ما نوع genre الإنسان الذي ينبغي أن نقوم بتصنيعه؟".
وقد توقع البروفيسور مارڤن مينسكي Marvin Minsky، أحد آباء الكمپيوتر، أنه: "في عام 2035، ربما سيكون المعادل الإلكتروني للمخ، بفضل تكنولو چيا النانو nanotechnologie، أصغر من طرف إصبعك. وهذا يعني أنه سيتوفر لك بداخل جمجمتك، كل الحيز الذي تريده لتزرع فيه أنظمة وذاكرات إضافية. وعندئذ، سيكون بإمكانك، شيئا فشيئا، أن تتعلم أكثر كل سنة، وأن تضيف أنواعا جديدة من الإدراكات، وطرقا جديدة للتفكير، وأنماطا جديدة للتصور والتخيّل"[125].
كما أكد الباحث الأمريكي فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama، من جانبه، أنه "من الآن وحتى الجيلين المقبلين، سوف تمنحنا البيوتكنولوچيات الأدوات التي سوف تسمح لنا بإنجاز ما لم ينجح المتخصصون في الهندسة الاجتماعية في عمله. ففي هذه المرحلة، سنكون قد تخلصنا نهائيا من التاريخ البشري، لأننا سنكون قد نسينا الكائنات البشرية بما هي كذلك. وعندئذ سيبدأ تاريخ جديد، فيما وراء ما هو بشري"[126].
 
العلم وقصص الخيال
 
منذ استنساخ النعجة دوللي، في فبراير 1997، نعلم أن استنساخ الإنسان صار في متناول المختبر. وقد تجاوز العلم قصص الخيال إلى حد أنه قام بما هو أكثر من "طريقة بوكانوسكي" procédé Bokanosky كما تخيله ألدوس هكسلي Aldous Huxley في روايته عالم جديد رائع Brave New World [أفضل العوالم Le Meilleur des Mondes؛ حسب الترجمة الفرنسية - المترجم]. فالنعجة دوللي لم تنتج عن أيّ تخصيب: لقد تم تخليق جنينها عن طريق دمج بسيط لنواة خلية بالغة adulte بالبويضة المستخرجة من نعجة حبلى. ومنذ ذلك الحين، تم استنساخ فئران في هاواي، وخراف في نيوزيلندا والياپان، وماعز في أمريكا الشمالية، إلخ. ومنذ 1998، قدرت المجلة العلمية البريطانية ذي لانسيت The Lancet أنه، رغم التحذيرات الأخلاقية والعالمية، صار تخليق الكائنات البشرية عن طريق الاستنساخ "أمرا لا مناص منه" وطالبت المجتمع الطبي ﺒ "إقراره من الآن".
وإنما بهذا الروح أعلنت وسائل الإعلام ميلاد عصر جديد في 26 يونيو 2000، تارخ فكّ شفرة قرابة 3 مليارات من الأزواج القاعدية المتسلسلة على طول اﻟ 23 من الكروموزومات التي يتألف منها تراثنا الوراثي. وسوف يسمح هذا بتحديد تسلسلات séquençage الچينات المرتبطة ببعض الأمراض. وكإمكانية كامنة فإن المكاسب التي سيجنيها البشر هائلة، حيث يفتح فرْز (تحديد، تمييز، فصل) چين مسئول عن مرض وراثي الطريق أمام اكتشاف علاج ممكن وأمام الشفاء منه.
غير أننا ما نزال بعيدين عن الإمساك بالمعيار الدقيق للنتائج المنطقية لهذا الاكتشاف، الذي يمكن أن ينتهي إلى انحرافات خطرة. والحقيقة أن علم الوراثة la génétique  يتيح للإنسان من الآن، كما كان الحال دائما، ﺒ  "استحواذ وحشي على العالم"، الطبعة الجديدة من العبودية esclavagisme أو استغلال الموارد الطبيعية، كما أوضحت المشاريع الاستعمارية الكولونيالية"[127]. ذلك أن منح براءات تخليق الچينات إنما ينتهي إلى خصخصة التراث المشترك للبشرية. كما أن بيع المعلومات لصناعة الدواء - التي ستحتفظ بهذه المعلومات لبعض أصحاب الامتيازات - يهدد بتحويل هذا الإنجاز العلمي الكبير إلى مصدر جديد للتمييز[128].
 
نحو إيوچينية جديدة؟
 
وفضلا عن هذا، تجسد الهندسة الوراثية إيوچينية Eugènisme[129] من طراز جديد فاتحة الباب على نوع من ما بعد البشرية transhumainité. ألا نرى في هذا انبعاث شبح "الطفل الكامل" l enfant parfait، الذي يتم اصطفاؤه على أساس تفوق شفرته الچينية؟
والحقيقة أن مجتمعاتنا لاتكاد تجرؤ على الاعتراف بهذا. إذ يستولي عليها رعب لا يوصف: هل سيغدو الجنس البشري موضوعا للصنع حسب الأصول؟ باللجوء الواسع النطاق إلى البيوتكنولوچيات الثقيلة؟ من أجل تصنيع أنواع بشرية أو ما بعد بشرية transhumains من البوكيمون Bokémon[130]؟ وهل نحن متجهون نحو غزو يقوم به بَشَر معدَّلون چينيا humains génétiquement modifies (HGM)...؟
 
الليبرالية والإيكولوچيا
 
والمواطنون ليسوا فقط قلقين إزاء التلاعبات الچينية الجارية. فالتحذيرات الإيكولوچية التي جرى إطلاقها أثناء مؤتمر ريو في 1992 قد نبهتهم أيضا إلى الأخطار المرتبطة بالنهب الراهن للكوكب.
وعلى أمل تهدئة هذه المخاوف، ومن أجل بحث التدابير التي يجب اتخاذها في مواجهة دفء (احترار) الأرض الذي يرجع إلى زيادة غازات الدفيئة (الاحتباس الحراري)، اجتمع ممثلو مائة وخمسين بلدا في كيوتو، الياپان في ديسمبر 1997.
وقد عقد هذا المؤتمر الرئيسي في اللحظة التي كانت آسيا تهتز فيها، كما نتذكر، نتيجة سلسلة من الكوارث المالية والإيكولوچية.
فبعد تقديمها منذ وقت طويل من جانب الهيئات الاقتصادية الكبرى - البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية -، وكذلك من جانب متملقي الليبرالية المتطرفة، باعتبارها المثل المعاكس ﻠ "إخفاق العالم الثالث" والنموذج الذي تنبغي محاكاته، شهدت "النمور" القديمة (هونج كونج، سنغافورة، تايوان، كوريا الجنوبية) والجديدة (ماليزيا، إندونيسيا، تايلندا، الفيليپين)، في خريف 1997، سلسلة من الاضطرابات البالغة الخطورة في بورصات الأوراق المالية.
وبعد انهيار بورصة هونج كونج، غرقت الأسواق المالية في القارات الخمس - بدءًا ﺒ وول ستريت - في اضطرابات، وأطلقت شبح انهيار مالي في النظام النقدي العالمي أخذ يحوم فوق العالم...
على أن نموذج النمو القائم على أيدٍ عاملة رخيصة، وعملة مخفضة القيمة، وصادرات مفرطة، وأسعار فائدة مرتفعة لجذب المستثمرين-المضاربين الدوليين، وكل هذا محاطا بنظام استبدادي، بدا بعد الكارثة الآسيوية في 1997، أقل نموذجية، بل حتى بالغ الخطورة.
كما أن بعض البلدان الأكثر تأثرا بهذه الأعاصير في البورصات - إندونيسيا وماليزيا - أصيبت فضلا عن هذا بكوارث إيكولوچية على نطاق بالغ الضخامة. فبعد أن أفلتت من كل سيطرة، دمرت آلاف الحرائق الضخمة غابات جزر سومطرة، وبورنيو، وچاوة، وسولاويزي، مساحة تزيد على 800 ألف هكتار.... كما أن سُحُبا في ضخامة نصف قارة، من الأدخنة السامة غطت بالسناج وأغرقت في شبه ظلام مدنا مثل كوالالومبور، متسببة في سلسلة من الحوادث (تحطم طائرة إيرباص: 234 قتيل؛ تصادم بحري: 29 قتيلا).
 
إزالات واسعة النطاق للغابات
 
ومن الجلي أن الكارثتين - كارثة البورصة والكارثة البيئية - مترابطتان. لأنه إذا كانت هذه الحرائق تعْزَى جزئيا إلى الجفاف الناتج عن ظاهرة مناخية دورية، تدْعَى النينيو El Niño، فإن السبب الرئيسي للكارثة يكمن في سياسة الإزالة الواسعة النطاق للغابات،هذه السياسة المتبعة، منذ عقود، على أساس نموذج مضاربة انتحاري، ومطبوع بطابع الإنتاجوية الفائقة hyperproductiviste، ومتمحور على الصادرات دون غيرها.
وباسم خلط مثير بين النمو والتنمية، تواصل دول الشمال والجنوب على هذا النحو تدمير نسق systématique البيئات الطبيعية. وتتوالى التخريبات من كل نوع، الواقعة على التربة، وعلى المياه، وعلى الغلاف الجوي. الحضرنة المتسارعة، وإزالة الغابات المدارية، وتلويث طبقات المياه الجوفية، والبحار، والأنهار، واحترار المناخ، وإفقار طبقة الأوزون، والسحب الحمضية: إن كل هذه التلوثات تهدد مستقبل البشرية بالأخطار.
وتختفي ستة ملايين هكتار من الأراضي القابلة للزراعة كل عام نتيجة التصحر. وفي كل مكان، يتسبب التحات، وفرط الاستغلال، في القضم بإيقاع متسارع لمساحة الأراضي المزروعة. كذلك فإن التوازنات الإيكولوچية هشة نتيجة للتلوث الصناعي في بلدان الشمال ونتيجة لفقر بلدان الجنوب ( إزالة الغابات، اختفاء إراحة الأراضي). والحقيقة أن أنواعا من المنطق logiques اقتصادية وسياسية عبثية تجعل ملايين الكائنات البشرية يموتون أيضا من الجوع.
 
حماية التنوع البيولوچي
 
في عام 2010، سيكون الكساء الغابي للكرة الأرضية قد تقلص بنسبة أكثر من 40٪ بالمقارنة مع 1990. وفي عام 2040، يمكن أن يؤدي تراكم غازات الدفيئة (الاحتباس الحراري) إلى ارتفاع قدره 1º إلى 2º سنتيجراد في متوسط درجة حرارة الكوكب وارتفاع قدره 0.2 إلى 1.5 متر في منسوب مياه المحيطات. وهذا ليس أكيدا، غير أننا إذا انتظرنا الحصول على حقائق علمية يقينية، سيكون الوقت قد فات على العمل. والحقيقة أن ارتفاع منسوب مياه المحيطات قد أحدث بالفعل أضرارا غير قابلة للإصلاح.
ويختفي مابين 10 و 17 مليون هكتار كل عام. وتدمر إزالة الغابات تراثا بيولوچيا فريدا: تؤوي الغابات المدارية الرطبة 70٪ من الأنواع الحيوانية. وكل عام، ينقرض حوالي 6 آلاف من بينها على الكوكب. ووفقا ﻠ UICN، فإن 20٪ من كل الأنواع الموجودة حاليا ستكون قد اختفت خلال عشرة أعوام.
وقد صدق مؤتمر برلين بشأن المناخات، في أبريل 1995، على فكرة أن السوق ليست على مستوى الاستجابة للأخطار العالمية التي تثقل البيئة. ولهذا تغدو حماية التنوع البيولوچي، أيْ تنوع الحياة عن طريق التنمية المستدامة واجبا إلزاميا: توصف التنمية بأنها "مستدامة" إذا ورثت الأجيال المقبلة بيئة ذات نوعية مساوية على الأقل للبيئة التي تلقتها الأجيال السابقة.
على أن البلدان الغربية - وبصورة خاصة الولايات المتحدة، المسئولة عن نصف انبعاثات الغازات الكربونية للبلدان الصناعية - يجب أن تلتزم بالتعهدات الموقعة في قمة الأرض في ريو دي جانيرو، في 1992. ولكن لا يحدث شيء من هذا القبيل. وإذا كان الاتحاد الأوروپي يؤيد خفضا للغازات بنسبة 15٪ على مشارف عام 2010، فقد اقترحت الإدارة الأمريكية عدم الرجوع إلى مستوى 1990 إلا في... 2012، كما اقترحت أن يتم، ابتداءً من عام 2008، إنشاء "تراخيص تلويث" تفاوضية.  وما يزال الرئيس  چورچ دبليو بوش أكثر سلبية، وقد تمثل أحد التدابير الأولى التي اتخذتها إدارته، وهو ما أثار استنكار القنصليات الدولية، في إلغاء معاهدة كيوتو.
ومن جهتها، ترفض حكومات عديدة في الجنوب الإقرار بأن تدهور النظم الإيكولوچية يؤدي إلى عواقب مأساوية بالنسبة لكل البشرية. ومن الجلي مع هذا أننا لن ننجح، بدون جهد جماعي، في إغاثة الكوكب. وقد آن الأوان، في الشمال كما في الجنوب، للتخلص من نموذج التنمية المتبع منذ قرون، هذا النموذج الذي تسبب في أعظم الشقاء للأرض وساكنيها.
 
كوارث على نطاق لم يُعرف من قبل
 
هذا الموقف مميز للمصالح الأنانية الراهنة، التي توقظها العولمة. ذلك أن العولمة، إنما هي التخريب الإيكولوچي للأرض. وهو تدمير يفضي إلى سلسلة متوالية من العواقب. ومن موزمبيق إلى ڤنزويلا، ومن الصين إلى تركيا، ومن المكسيك إلى الهند: تتوالى كوارث ونكبات، فيضانات أو هزات أرضية، في هذه الأعوام الأخيرة، على نطاق لم يُعرف من قبل مطلقا.
موتى بالآلاف، وخسائر بالمليارات، وتدميرات إيكولوچية لا يمكن تصورها: تدمير غابات ، إبادة حياة حيوانية ، إتلاف محاصيل ، تلويث مياه، تجريف أراض قابلة للزراعة... وفي البلدان المتقدمة - الأفضل حماية في العادة ضد الكوارث المسماة ﺒ "الطبيعية" - تفرض الاضطرابات المناخية أيضا نفسها بصورة درامية. وإذا فكرنا ببساطة في أوروپا الغربية فقد شهدت أيضا بالفعل، في ديسمبر 1999، إعصاريْن حقيقييْن، أديا بالفعل إلى مئات الوفيات، وإلى أضرار هائلة ولم يسبق لها مثيل تركت وراءها السكان، في بعض الأقاليم، في قبضة الصدمة.
وقد حدثت أيضا، في هذه البلدان المتقدمة التي تعتقد أحيانا أنها في مأمن من كوارث الجنوب،  سلسلة لا تنتهي من الاختلالات الإيكولوچية الجديدة التي بدأت تزرع الذعر. وهنا أيضا، دون أن نذهب بعيدا، نتذكر ما جرى في أوروپا طوال العامين السابقين.
 
عام مرعب Annus Horribilis
 
في المحل الأول، حدثت فجأة  بقعة زيتية إجرامية في البحر، في ديسمبر 1999، على الساحل الأطلنطي الفرنسي. وكانت بسبب غرق حاملة النفط إيريكا Erika التي استأجرتها شركة توتال Total، وأدت إلى موت آلاف الطيور، وتعرُّض بعض المشروعات للخطر، والتدهور الجمالي للعديد من أجمل مناطق البلاد، وتلوث مسبب للسرطان لكل المتطوعين الذين شاركوا في رفع المازوت من الپلاچات...
وكوارث أخرى: الفيضانات التي لا تنقطع لنهر سوم Somme وكل المشكلات المرتبطة بالتلوث الغذائي: ما يتكشف عن استخدام الفضلات البشرية لإعداد أنواع من الدقيق الحيواني لاستعمالها في تغذية الحيوانات التي تربى للذبح وأسماك التربية؛ حالات جديدة من مرض"جنون البقر" (أو: "البقرة المجنونة" vache folle)؛ الدجاج المسمم بالديوكسين؛ تلوث زجاجات الكوكاكولا؛ انتشار الكائنات الحية المعدلة چينيًّا OGM؛ زجاجات المياه المعدنية الملوثة؛ تضاعُف حالات الوفاة بسبب وجود الليستيريا listeria[131] في أنواع من الجبن أو لحوم الخنزير الجاهزة، إلخ.
وباسم تصور خاطئ عن التنمية، تواصل غالبية دول الشمال على هذا النحو سُعارا سياسيا إنتاجويا productiviste، مفرط الاستهلاك للمبيدات الحشرية والملوِّثات، على حساب زراعة فلاحية وبيولوچية. على حين تواصل دول عديدة، في الجنوب، غير مدركة أو غير قادرة، التسامح مع التدمير المنهجي للبيئات الطبيعية.
وفي كل مكان، تتتابع كل أنواع السلب والنهب، التي تلحق بالتربة، والمياه، والغلاف الجوي، وبصحة الكائنات البشرية. الحضرنة المندفعة، وإزالة الغابات المدارية، وتلوث البحار والأنهار، واحترار المناخ، وإفقار طبقة الأوزون، والأمطار الحمضية، إلخ. والحقيقة أن كل هذه التلوثات، التي تجاوزت كل حد، تهدد من الآن مستقبل البشرية بالخطر.
 
الطاعون الجديد
 
كتب أنطونان أرتو Antonin Artaud: "الطاعون هو انكشاف قاع للقسوة الكامنة تتمحور عن طريقه على فرد أو على شعب كل الإمكانات المنحرفة للروح"[132]. والحقيقة أن جائحة l épizootie [الوباء الحيواني] الحمى القلاعية، التي فتكت في ربيع 2001 بالأرياف البريطانية، كشفت حقا، مثل الطاعون، عن "قاع للقسوة الكامنة" وعن العديد من "انحرافات الروح". ذلك أن كل وباء، كما يؤكد كل المؤرخين، ليس فقط سببا، بل هو أيضا نتيجة منطقية للحظة تاريخية محددة.
ليس من المصادفة إذن أنه في إنجلترا التي استخدمت، منذ أكثر من عشرين عاما، معمل الليبرالية المتطرفة، تضاعفت الأضواء القروسطية للمحارق الجماعية التي تم فيها - مجانا[133]- إحراق مئات الآلاف من الحيوانات وارتفعت صرخة الأسى والرعب. ولتعاسة المواطنين البريطانيين، جرى تتويج هذا الواقع الكابوسي في شتاء 2000- 2001 بكل الآفات: "البقرة المجنونة"، فيضانات، مناطق محاصرة تحت الثلوج بلا كهرباء، كوارث السكك الحديدية، إلخ.. وما من لعنة إلهية، ما من "مؤامرة قدرية"[134]، تفسر مثل هذه الكارثة.
والحقيقة أن القرارات التي شجعت على وقوع هذه المآسي تم اتخاذها بوعي كامل استنادا إلى معتقدات محددة، مستمدة من النصوص المقدسة للليبرالية الجديدة. وعلى هذا النحو، يرجع الانتشار الخاطف السرعة لجائحة الحمى القلاعية إلى رغبة في الربحية دفعت المضاربين إلى خفض التكلفة، وبالتالي الأمن، لزيادة هامش أرباحهم. وباسم تحرير الاقتصاد، في الثمانينات، أدارت حكومات مارجاريت ثاتشر ظهرها لمبدأ الحيطة وذهبت إلى حد إلغاء الشبكة القومية للبيطريين. وفضلا عن هذا، ومنذ 1991، ومن أجل توفير مليار يورو وتشجيع الصادرات، جرى اتخاذ قرار آخر مشئوم: حظر تطعيم الحيوانات.
وقد خلق هذان التدبيران، المميزان لزراعة إنتاجوية، شروط جائحة الوباء الحيواني. كما قيد هذان التدبيران الكفاح ضد انتشاره - حيث ظل من المحظور اللجوء إلى منجزات الطب الپاستيري - بطرق عتيقة، مستوحاة من وصفة أبوقراط: "Cito, Longe, Tarde" ("في الحال، من بعيد، وقتا طويلا")، ومطبقة منذ العصور القديمة على كل الأوبئة. ومن المفارقات أن هذين التدبيرين، المتخذين باسم "زراعة بلا حدود"، قد أقاما، بالفعل، حمائية صارمة. ذلك أننا نسينا بديهية: الڤيروسات أيضا لا تعرف الحدود. وفي زمن العولمة، "تنتشر الڤيروسات بسيولة لا تقارن إلا بسيولة حركة رؤوس الأموال"[135].
 
القدرة التنافسية الأثيمة
 
كذلك فإن السعي المستميت إلى القدرة التنافسية، والركض المنفلت نحو الأضخم والأرخص ماثلان في منشأ مرض "البقرة المجنونة". وقد "كشفت كل الأبحاث عن وجود صلة بين بعض التعديلات في عملية تصنيع أنواع الدقيق الحيوانية الإنجليزية وعودة اﻟ پريون[136] إلى الظهور. وفي 1981، قفز الصناع البريطانيون على مرحلة في عملية التصنيع: خفضوا درجة الحرارة (لتوفير الطاقة) وألغوا المواد المذيبة (لتوفير المواد الأولية). وقد منع هذان التدبيران استئصال اﻟ پريون. وبالتالي فإن هذا الأخير يمكن أن يزدهر"[137].
وقاد منطق مماثل الحكومات البريطانية، منذ 1979، إلى مضاعفة الخصخصات. وعلى هذا النحو بيعت السكك الحديدية للقطاع الخاص منذ 1994. ومنذ ذلك الحين، تتابعت الحوادث، التي كانت حصيلتها 56 قتيلا وأكثر من 730 جريح... وتتهم وسائل الإعلام المضاربين الجدد بالتضحية بالأمن لتضخيم أرباحهم بهدف إرضاء حاملي أسهمهم.
فهل غيَّر من الأمور وصولُ السيد بلير والعماليين إلى السلطة، في 1997؟ ليس بصورة جوهرية. إذ يبقى "طريقه الثالث" الاشتراكي-الديمقراطي مفهوما على أنه مجرد بديل للليبرالية الجديدة للسيدة ثاتشر. وفي ظل ولايته، صار نصيب النفقات العامة من الناتج المحلي الإجمالي هو الأدنى منذ أربعين عاما. وتقدم إنجلترا أعنف التناقضات الاجتماعية الصارخة في أوروپا. وتتواصل الخصخصة الحذرة للتعليم العام. وقد فرض السيد بلير رسوم قيد مرتفعة في الجامعة، أدخلت تمييزا اصطفائيا وفقا للمال.
وعلى صعيد الرعاية الطبية، يضع بحث لمنظمة الصحة العالمية المملكة المتحدة في ذيل الاتحاد الأوروپي. وقد تزايدت مختلف أشكال اللامساواة بين الأكثر غنى والأكثر فقرا. ويعيش أكثر من 5 ملايين من البريطانيين في حالة من الفقر المطلق. كذلك فإن حوالي نصف النساء يعملن بأجر نصف الوقت. ويعيش رُبْع الأطفال تحت خط الفقر. وتضم بريطانيا العظمى العدد الأكبر من الأطفال الفقراء في كل البلدان الصناعية...[138].
 
وعود خانوها
 
كذلك فإن هذه المخاوف الجديدة - وعلى وجه التحديد تجاه مرض "البقرة المجنونة" أو الكائنات الحية المعدلة چينيًّا OGM - تنشأ أيضا من خدعة، من تحرر من الأوهام أحدثته التطورات التقنية. ذلك أن جدوى التقدم العلمي لم تعد تبدو بديهية. كما أن هذا التقدم يمتصه بصورة أساسية المجال الاقتصادي، وتستخدمه المشروعات الشرهة للربح.
وفي أغلب الأحيان انتهى الخلط بين المصلحة العامة والمصالح الصناعية لصالح الأخيرة. كذلك  فإن موجة الليبرالية الجديدة، وعبادة السوق، وعودة أوضاع من القلاقل الشديدة إلى الظهور، وعودة أشكال من اللامساواة الاجتماعية البالغة، عززت، على مدى العشرين سنة الأخيرة، الإحساس بأن التقدم التقني قد خان وعده بتحسين قسمة الجميع.
وكان بوسع الجميع أن يتأكدوا من أن المؤسسات (البرلمان، الحكومة، الخبراء) التي كان عليها أن تضمن الأمن كانت، مرارا وتكرارا وخاصة في قضية "البقرة المجنونة"، دليلا على فقدانه. وأقامت هذه المؤسسات الدليل على غفلتها وتقصيرها. وفضلا عن هذا فقد اعتاد "أصحاب القرار" تولِّي شئون المصير الجماعي دون الرجوع أولا إلى المعنيين، المواطنين. إن الميثاق الديمقراطي قد تغير[139].
والنتائج المنطقية: دخول ارتياب عنيد في الأذهان، رفض متنامٍ لتفويض هؤلاء "المسئولين" سلطة تولِّي شئون المصير الجماعي بالسماح لهم بممارسة تقوم على تجديدات علمية محفوفة بالمخاطر، وغير مختبرة بصورة كافية. ويلاحق سوء ظن جديد من أطلقوا عفاريت النزعة العلموية الجديدة néoscientisme.
 
آفات صامتة
 
فيما يتعلق بعدد من "الآفات الصامتة"، تكشفت حقائق مذهلة لتثبت ، بصورة بعدية a posteriori، عدم الأهلية المأساوي للسلطات والخبراء. ليس فقط قضية الدم الملوث، بل أيضا قضية الأميانت (الحرير الصخري) l amiante، التي صارت من الآن، في فرنسا، سبب حوالي 10 آلاف من الوفيات (العمالية) في السنة. أو قضية مختلف أنواع عدوى المستشفيات nosocomiales، أيْ التي تصيب أثناء الإقامة بالمستشفى، إذ يعود منشأ حوالي 10 آلاف أيضا من الوفيات في السنة إلى هذه الأنواع من العدوى[140]. أو قضية تلوث الهواء، التي ترجع بنسبة 60٪ إلى وسائل النقل في الطرق، التي نعلم أنها تتسبب في هذا الرقم المذهل بوجه خاص وهو 17 ألف من الوفيات قبل الأوان كل سنة في فرنسا[141]. أو أيضا قضية الديوكسين dioxine، الناتج المسبب للسرطان المنبعث من آلات تحويل القمامات البيتية إلى رماد، والذي يسبب ما بين 1800 و 5200 من الوفيات كل سنة[142].
ويكفي أن نقرأ تقرير البحث، المعلن في المملكة المتحدة في 26 أكتوبر 2000، بشأن الوباء الحيواني الذي يحمل اسم المرض الدماغي الإسفنجي البقريencéphalopathie spongiforme bovine (ESB) [= مرض جنون البقر المنتقل إلى البشر]، لنفهم الارتياب الحالي في المجتمعات الأوروپية تجاه اللحم البقري.
لقد تم اتخاذ تدابير شاذة، أخفاها "خبراء"، رغم قوانين الطبيعة[143] والمبادئ الأكثر أولية للحيطة. وتبعتها بعد ذلك أكاذيب وتسترات لأنه كان من الجلي أن المرض قد انتشر وأخذ يمتد إلى الكائنات البشرية. والحقيقة أن التأجيلات، والتضليلات، والإخفاقات، وكذلك الموقف اللامسئول للسلطات،  كان لا مناص من أن تقود الرأي العام البريطاني بصورة لا يمكن تفاديها إلى الإحساس بأنه جرى خداعه. ومادام سلوك الحكومات في باقي أوروپا لم يكن مختلفا، فلماذا لا يُبْدِي المواطنون، في أماكن أخرى، تحديا مماثلا؟ خاصة عندما تأكدوا، كما حدث في فرنسا، أنه، فيما يتعلق بالكائنات الحية المعدلة چينيًّا OGM، جرى السماح بتسويق أصناف من الذرة المعدلة چينيا.
وما من توهم بالأمن المطلق أو المخاطرة صفر لدى المواطنين، القلقين بصورة مشروعة  تجاه الأولوية التي تمنحها السلطات العامة في كثير من الأحيان لمجموعات اقتصادية ولمصالح أنانية كورپوراتية أكثر من المنفعة المشتركة والمصلحة العامة. ويغدو تعريف المخاطرة المقبولة قضية الجميع، وليس فقط قضية "الخبراء".
 
هوة أشكال اللامساواة
 
وكنا نعلم أن هوة أشكال اللامساواة ظلت عميقة أثناء عقدي  الليبرالية المتطرفة (1979- 2001)، ولكن كيف كان لنا أن نتصور أنها كانت كذلك إلى هذا الحد؟ ذلك أننا نعلم جيدا أن الأشخاص الثلاثة الأكثر غنى في العالم يملكون ثروة تفوق مجموع النواتج المحلية الإجمالية ﻠﻠ 48 بلدا الأكثر فقرا، أيْ رُبْع إجمالي دول العالم... وفي أكثر من 70 بلدا صار نصيب الفرد من الدخل أدنى مما كان منذ عشرين عاما... وعلى المستوى الكوكبي يعيش حوالي 3 مليار شخص - هم نصف البشرية - بأقل من 2 يورو في اليوم...
 
وتصل وفرة السلع إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، غير أن عدد أولئك الذين لا يملكون مأوى، ولا عملا، ولا ما يكفي من الطعام، يزداد بلا انقطاع. وعلى هذا النحو، فمن أصل 4.5 مليار من السكان الذين تضمهم البلدان النامية، لا يتمتع حوالي الثلث بالوصول إلى مياه صالحة للشرب. ولا يتناول خُمْس الأطفال سعرات حرارية أو پروتينات بصورة كافية، ويعاني حوالي 2 مليار من الأفراد - ثلث البشرية - الأنيميا [فقر الدم].
فهل هذا الوضع قضاء وقدر؟ أبدا على الإطلاق. ووفقا للأمم المتحدة، يكفي لكي نوفر لكل سكان الكرة الأرضية الوصول إلى حاجاتهم الأساسية (الغذاء، المياه الصالحة للشرب، التعليم، الصحة)، اقتطاع أقل من 4٪ من الثروة التراكمية من أضخم 225 ثروة في العالم. ولا يكلف الوصول إلى الإشباع الشامل للحاجات الصحية والغذائية سوى 13 مليار يورو، أيْ بالكاد ما ينفقه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروپي، في السنة، على استهلاك الروائح العطرية...
ويؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي احتفلنا، في ديسمبر 1998، بذكراه الخمسين أن: "لكل شخص الحق في التمتع بمستوى معيشة كاف لضمان صحته، ورفاهيته، ورفاهية أسرته، وبصورة خاصة بالنسبة للغذاء، والملبس، والمسكن، والرعاية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية الضرورية". غير أن الوصول إلى هذه الحقوق يتعذر بصورة متزايدة بالنسبة لقسم كبير من البشرية.
 
الجغرافيا-السياسية للجوع
 
لنأخذْ، على سبيل المثال، حق الغذاء. فالطعام لا ينقصنا. ولم تكن المواد الغذائية بمثل هذه الوفرة في يوم من الأيام، كما أن الكميات المتاحة يمكن أن تسمح لكل فرد من 6 مليار نسمة على ظهر الكوكب باستخدام 2700 سعر حراري على الأقل في اليوم. غير أنه لا يكفي إنتاج الأغذية. بل ينبغي أيضا أن يكون من الممكن شراؤها واستهلاكها من جانب الجماعات البشرية التي تحتاج إليها. وهذا أبعد من أن يكون الحال. وكل سنة، يموت من الجوع 30 مليون شخص. ويعاني 800 مليون شخص نقص الغذاء المزمن.
وهنا أيضا ما من شيئ حتمي. فأنواع العجز الناتجة عن المناخ تكون متوقعة سلفا في كثير من الأحيان. ولأن منظمات إنسانية مثل العمل ضد الجوع [144]Action contre la faim لديها إمكانات التدخل فإنها تستطيع أن توقف مجاعة ناشئة في غضون بضعة أسابيع. ومع هذا فإن الجوع يواصل إبادة جماعات سكانية بأسرها.
لماذا؟ لأن الجوع صار سلاحا سياسيا. ومن الآن فصاعدا، فإنه ما من مجاعة تقع بالمصادفة. لقد تم وضع إستراتيچية حقيقية للجوع، ويديرها بفظاظة لا توصف مديرون أو منظمات حرمتها نهاية الحرب الباردة من ريع مالي. وكما تكتب سيلڤي برونيل Silvie Brunel: "لم تعد الشعوب المعادية، الشعوب التي ينبغي غزوها، هي التي يجري تجويعها، بل سكان نفس بلدان أولئك الذين يريدون أن يستأثروا لحسابهم بهذه العطايا السماوية mannes الجديدة للصراع والتي تتمثل في پروچكتورات وسائل الإعلام ونتيجتها المنطقية، احتدام التعاطف الدولي، هذا المصدر الذي لا ينضب للمال، والغذاء، والمنابرالعامة لعرض مطالبه"[145].
وفي الصومال، أو السودان، أو ليبيريا، أو كوريا الشمالية، أو بورما، أو أفغانستان، مسئولون حكوميون أو قادة حربيون يأخذون أبرياء كرهائن، ويجوعونهم لتحقيق غايات سياسية. وأحيانا بأقصى قسوة، كما في سيراليون، حيث يشن رجال الجبهة المتحدة للمتمردين Rebel United Front (RUF)، بقيادة العريف (الأونباشي)، السابق فوداي سانكو Foday Sankoh، على مدى سنوات، حملة مرعبة من الإرهاب، حيث يبترون بصورة منهجية، بالبلطة، أيدي الفلاحين لمنعهم من الزراعة. وأخيرا، صار دور المناخ في الصراعات الكبرى هامشيا: من الآن فصاعدا صار الإنسان هو الذي يقوم بتجويع الإنسان.
ويؤكد الدكتور أمارتيا سين Amartya Sen الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في 1998، والمعروف بأعماله التي يُثبت فيها كيف أن السياسيين في بعض الحكومات يمكن أن يُحْدثوا مجاعات، حتى عندما تتوافر الأغذية، أنه: "تتمثل حقيقة من أبرز حقائق التاريخ المفزع للمجاعة في أنه لم تكن هناك مطلقا مجاعة خطيرة في أيّ بلد يتمتع بشكل ديموقراطي للحكم ويملك صحافة حرة نسبيا"[146].
ومناوئا للأطروحات الليبرالية الجديدة، يقدّر السيد سين أنه ينبغي منح الدولة، وليس السوق، مسئولية أكبر في تنمية رفاهية المجتمع. دولة تكون في وقت واحد حساسة تجاه حاجات كل مواطنيها ومنشغلة، على المستوى الكوكبي، بتنمية البشرية جمعاء.
 
الفزع من المرض
 
منذ مائة عام أبدى العلماء والأطباء تفاؤلا كبيرا تجاه المستقبل الصحي المشرق الذي تعد به منجزات علم الصحة العامة والثورة الپاستيرية. ولا جدال في أن العالم قد تقدم في البحث عن صحة أفضل للجميع، غير أن هذه المنجزات يضعفها وجود العار الأشد إثارة للغضب: مختلف أشكال اللامساواة الخطيرة للغاية في الوصول إلى الرعاية الصحية. وتؤكد السيدة جرو هارلم برونتلاند Gro Harlem Brundtland، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية OMS أن: "أكثر من مليار شخص سيصلون إلى القرن الحادي والعشرين دون أن يكونوا قد استفادوا من الثورة الصحية: ستظل حياتهم قصيرة جدا ومثقلة بالمرض"[147].
وعلاوة على هذا فإن الفجوة لا تكف عن الاتساع بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة فيما يتعلق بالوصول إلى الأدوية الموجودة حاليا وإلى البحث عن علاجات لأمراض غير موجودة أو قليلة الوجود في البلدان المتقدمة.
وبين التهديدات الرئيسية التي سوف تصيب صحة الكائنات البشرية خلال القرن الحادي والعشرين تبرز أمراض القلب والأوردة الدموية التي ترتبط، إلى حد كبير، بالأمراض الأيضية métaboliques - فرط تركيز الكوليسترول في الدم hypercholestérolémie، السمنة، السكر diabète - الآخذة في الانتشار بسبب انتشار نمط الحياة الغربية، أيْ طعام أكثر مما ينبغي وأدسم مما ينبغي، مع غياب للتمارين الرياضية.
غير أن الأمراض المعدية ستكون لها أهمية متزايدة وستقتل، كل عام، عشرات الملايين من الأشخاص. خاصة في الجنوب. وعلى كل حال، مادام العالم قد صار قرية واحدة، فلا مناص من أن يحدث تأثير مرتدّ (أو: ارتدادي) un effet boomerang مع عودة الأمراض الوبائية للبلدان الفقيرة إلى البلدان المتقدمة في الشمال.
وكان ثلث الوفيات التي حدثت بصورة مفاجئة في العام الماضي، على مستوى الكوكب، يرجع إلى الأمراض المعدية الخطيرة، مثل الدرن، والإيدز، والكوليرا، وأمراض إسهال الأطفال، والملاريا، إلخ.
وتساعد الزيادة السكانية الشديدة، وبصورة خاصة ظهور مدن عملاقة نشأ حولها عالم كامل من المهمشين، والمهاجرين، والمبعدين، على ظهور ومعاودة ظهور الأمراض. وفضلا عن هذا، تقوم العولمة بتسريع انتشار مختلف أنواع العدوى.
ومن الآن، تسافر الأمراض، وتسافر الباكتيريات القوية المقاومة أيضا. ومنذ عهد قريب، كان الخطر الصحي لايوجد إلا حيث ينشأ، أما الآن فإن انتشار الأمراض صار سريعا للغاية. وبسبب العولمة، تنتقل الجراثيم بسرعة الطائرات. ويمكن لجراثيم متكيفة مع شروط حياة سكان أقوى مقاومة أن تنتشر وسط سكان أسوأ استعدادا وأكثر حساسية للإصابة. كما أن الڤيروسات تنتشر، بدورها، بسرعة البواخر والطائرات والسائحين. وهي تنشر الكوليرا، والحمى الصفراء، والدنج، والإنفلونزا... وكذلك، للأسف، الإيدز.
 
جغرافية الإيدز
 
يحتلّ الإيدز (متلازمة نقص المناعة المكتسبة) في الوقت الحالي مكانه بين عشرة أسباب رئيسية للوفيات في العالم. ونظرا للمعدلات المتزايدة للعدوى بڤيروس نقص المناعة البشرية HIV، فإنه يمكن أن ينتهي في وقت قريب إلى أن يأخذ مكانه بين الخمسة أسباب الأولى للوفاة على مستوى الكوكب.
ويعيش حوالي 36 مليون شخص في العالم في الوقت الحالي حاملين ڤيروس الإيدز، ڤيروس نقص المناعة البشرية، منهم أكثر من 24 مليونا في أفريقيا. وسيموت أغلبهم خلال الأعوام العشرة المقبلة، ليُضافوا إلى 14 مليونا من الأفارقة ماتوا من قبل بسبب هذا المرض. وحتى نهاية عام 2001، كان قد مات حوالي 18 مليون شخص (من البالغين والأطفال) بسبب الإيدز منذ ظهور هذا المرض، أكثر من 2.5 مليون شخص منهم في عام 2001.
وتحدث نسبة حوالي 95٪ من حالات العدوى الجديدة لدى سكان العالم الثالث حيث لا يملكون أي وسيلة لوقف نمو المرض. وهذا ما يجعلنا نتوقع أن يرتفع عدد الوفيات خلال الأعوام القادمة. وبالنسبة لعام 2001 وحده، يُقدَّر عدد المصابين الجدد بالعدوى ﺒ 5.6 مليون شخص، منهم 570 ألف من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عاما - 90٪ منهم من الأفارقة؛ وهذا ما يعادل حوالي 15 ألف حالة تلوث بالعدوى كل يوم...
وفي شرق أفريقيا وفي أفريقيا الغربية، لا يعرف 90٪ من الأشخاص المصابين أنهم مصابون. وفي العالم، يوجد حوالي 11.5 مليون طفل من أيتام الإيدز، 80٪ من بينهم من الأفارقة. و55٪ من البالغين المصابين في أفريقيا جنوب الصحراء من النساء؛ ويصل عدد الشابات الأفريقيات من 15 إلى 19 عاما اللائي من المحتمل أن يكشف تحليل الدم عن وجود الإيدز لديهن séropositives إلى ما يتراوح بين 5 و 6 أضعاف عدد الأولاد الذين من نفس الفئة العمرية.
والمنحنى الأكثر حدة للعدوى بڤيروس نقص المناعة البشرية، المسجل في العالم، موجود في البلدان الجديدة المستقلة عن الاتحاد السوڤييتي السابق، حيث تضاعف عدد السكان الذين يعيشون مصابين بالڤيروس بين 1997 و 2000. وفي أوروپا الشرقية، ارتفع عدد الأشخاص المصابين بأكثر من الثلث ليصل إلى حوالي 360 ألف مصاب.
وفي آسيا، في نهاية عام 2001، كان يعيش حوالي 7 ملايين من الأشخاص المصابين بالڤيروس، أيْ خمسة أضعاف عدد الأشخاص الذين ماتوا بالفعل بسبب الإيدز في تلك المنطقة. وفي الصين، يُقدَّر عدد الأشخاص المصابين بنصف مليون، كما سُجِّلت زيادة في استخدام المخدرات عن طريق الحقن في الأوردة، وبالمشاركة في المحاقن (السرنچات)، الأمر الذي يثير الخشية من زيادة عدد المصابين. وقد سمحت برامج الوقاية في الهند، وتايلندا، والفيليپين، بنقص أو باستقرار هش في عدد الأشخاص الحاملين للڤيروس.
 
آفة كوكبية
 
ويوما بعد يوم، منذ عقدين من الزمان، لا تكف آفة الإيدز عن التفاقم، مدمرا شيئا فشيئا آمال كل الذين صلوا من أجل الوقف الدائم للمرض بعد اكتشاف الڤيروس القاتل، ڤيروس نقص المناعة البشرية.
وفي 1993، قدر خبراء البنك الدولي أنه لا مناص من أن يصل عدد المصابين إلى 26 مليون شخص في عام 2000، وأنه، في هذا التاريخ، سيقتل الڤيروس كل عام حوالي 1.8 مليون مريض. وهناك من اعتبروا هذه الأرقام متشائمة للغاية. غير أننا نشهد اليوم، عند قراءة تقارير منظمة الصحة العالمية، أن هذه التوقعات كانت للأسف أقل من الواقع، وأن وباء الإيدز قد انتشر أسرع وبطريقة أشدّ فتكا مما كان متوقعا.
ويؤكد كل الباحثين أن بلدان الجنوب هي التي تتركز فيها الغالبية الساحقة - حوالي 95٪ - من الأشخاص المصابين بڤيروس نقص المناعة البشرية. ولا شك في أن هذه النسبة سوف تزداد، كلما ازداد معدل العدوى في البلدان التي يغذي فيها الفقر ونقص أنظمة الصحة والموارد المخصصة للتوقع وللرعاية الصحية انتشار الڤيروس.
وتضم أفريقيا ما وراء الصحراء وبلدان آسيا النامية، التي تمثل معا أقل من 10٪ من الناتج القومي الإجمالي، 89٪ من الأشخاص الذين يكشف تحليل الدم عن إصابتهم بالإيدز séropositives. ومنهم فقط، تتركز في بلدان أفريقيا السوداء 70٪ من إجمالي الحالات، أيْ أكثر من 24 مليون إصابة بالعدوى.
وقد هبط متوسط العمر المتوقع عند الولادة في أفريقيا جنوب الصحراء سبعة أعوام بسبب الإيدز. وفي البلدان التسعة الأكثر تأثرا (تلك التي يُعتبر 10٪ من السكان البالغين فيها مصابين بالعدوى)، تراجع العمر المتوقع عند الولادة عشرة أعوام. وقد قتل الإيدز بالفعل أكثر من كل الصراعات المسلحة وكل الحروب مجتمعة طوال العشرة أعوام الماضية.
وأغلب الأشخاص المصابين في بلدان الجنوب سوف يموتون خلال العشرة أعوام القادمة. وسوف يتركون وراءهم عائلات مدمرة. وفيما وراء المآسي الفردية والعائلية، سوف تؤدي الأوبئة بلا أدنى شك، في نهاية المطاف، إلى اختلالات عميقة، اجتماعية-اقتصادية وبالتأكيد سياسية. والواقع أن احتمالات التنمية في بعض البلدان قد أصيبت والحالة هذه بالشلل.
وفي عدد من بلدان أفريقيا الجنوبية (أوغندا، زيمبابوي، زامبيا، بوتسوانا، مالاوي...)، يحمل شخص من كل عشرة أشخاص في مجموعة 15-45 عاما ڤيروس نقص المناعة البشرية. وفي مجموع القارة، يتجاوز العدد التراكمي للسكان المصابين بالوباء - بما في هذا الأطفال والآباء والأمهات الذين يعولهم الأشخاص المصابون بالمرض - 182 مليون شخص...
وكلما انتشر الإيدز فإنه يمتص الموارد العامة والخاصة، ويقضي على استقرار الإنتاج الاقتصادي، ويستنفد الادخار، ويفاقم الفقر، وينشر البؤس. وهناك تقديرات بأنه في كينيا، على سبيل المثال، في 2005، سيكون الإنتاج الاقتصادي قد هبط بنسبة 14.5٪ بسبب نتائج الوباء. وفي هذا التاريخ ذاته، سيكون على إثيوپيا أن تخصص 33٪ من موازنتها لعلاج ورعاية مواطنيها من مرضى الإيدز. وكينيا حوالي 50٪. أما زيمبابوي فأكثر من 66٪!
 
طاعون الفقراء
 
وفي مواجهة حقائق ثابتة كهذه، يبدو التضامن الدولي شحيحا، بل حتى معدوما. ففي الممارسة، لم يتم وضع أي شيء موضع التنفيذ من الناحية الفعلية في سبيل تنظيم مكافحة مشتركة. مكافحة يسرع فيها ما يتوفر لدى البلدان الصناعية من مال وخبرة فيما يتعلق بالتشخيص والعلاج إلى نجدة المرضى الأكثر حرمانا على ظهر الكوكب. إن حُلْم عولمة للنضال ضد الإيدز لا يبشر بأن يصير واقعا. فَمَنْ ذا الذي سيقوم، في البلدان المتقدمة، بتعبئة نفسه من أجل وقف انتشار طاعون يضرب، بنسبة 95٪، السكان الفقراء في بلدان الجنوب؟
والواقع أن المبالغ المرصودة في العالم للعمل ضد الإيدز بين 1990 و 1997 لم تزد إلا من 165إلى 273 مليون يورو على حين تضاعف عدد الأشخاص المصابين أكثر من 3 مرات في الفترة نفسها، مرتفعا من 9.8 ملايين إلى 30.3 مليونا. ووفقا للبرنامج المشترك للأمم المتحدة بشأن ڤيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز VIH-sida، فإن المبالغ التي أفرجت عنها هيئات مساعدة التنمية في بلدان الشمال، انخفضت، بالقيمة المطلقة، لكل شخص مصاب، بين 1988 و 1997، بنسبة أكثر من 50٪!
وتقع تكلفة الوقاية ضد انتشار الإيدز، في بلدان الجنوب، بين 1.3 و 3.5 يورو للشخص في السنة. في حين أن تكلفة العلاج الأساسي تصل إلى أكثر من 7 يورو للشخص في السنة. كما أن من المؤكد أن تكلفة العلاج الحقيقي لمريض مصاب بالإيدز أكثر ارتفاعا بصورة فلكية.
ويتراوح المبلغ الكلي الضروري للوقاية من الإيدز في أفريقيا، وفقا للبنك الدولي، بين مليار و 2.3 مليار يورو. ومع هذا فإن أفريقيا لا تتلقى، في الوقت الراهن، سوى 160 مليون يورو من المساعدة الرسمية لمكافحة الإيدز.
ويمثل العمل الدولي ضد هذا المرض أقل من 1٪ من الموازنات السنوية للمساعدة العامة للتنمية التي ترصدها البلدان الغنية. ويرمز الإيدز بصورة مذهلة إلى الهوة المحفورة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة في الوصول إلى مختلف أنواع العلاج. والمشكلة، بالنسبة لهذه البلدان، ثلاثية: تكلفة مانعة لبعض العلاجات؛ وتقلبات في الإمداد بالأدوية؛ ونقص الأبحاث حول علوم الأمراض التي لا تصيب إلا البلدان الأقل غنى.
وتكلفة العلاجات تجعلها غير قابلة للحصول عليها من جانب العدد الأكبر من الناس. وعلى هذا النحو تصل التكلفة الشهرية للعلاج الثلاثي trithérapie، على سبيل المثال في تايلندا، إلى 675 يورو على حين أن الموظف في قطاع الخدمات يتقاضى في أغلب الأحيان 120 يورو في الشهر. وفي كينيا، تصل تكلفة الأسبوعين الأولين من علاج إصابة بالالتهاب السحائي méningite أدت إلى تفاقم العدوى بڤيروس الإيدز إلى 800 يورو، على حين لا يتجاوز متوسط الأجور 130 يورو.
ذلك أنه، في مواجهة الإيدز، كما بالنسبة لغيره، في زمن العولمة الليبرالية، لا يكون كل الأفراد متساوين. فالأغنياء والفقراء لا يحصلون على نفس الأنواع من الرعاية الصحية. وفي أغلب الأحوال، يواصل الفقراء الموت في حين يستفيد الأغنياء بهدنة منقذة. وحتى إذا كانت آفاق استخلاص مصل واقٍ تتباعد أكثر فأكثر، فقد تغير السياق منذ عام 1996. ذلك أن وضع جزيئات مثبطة جديدة ﻠ "پروتياز" [148]protease الڤيروس، بالإضافة إلى مثبطات اﻠ "ترانسكريپتاز" المقلوب transcriptase inverse[149] ، تحت تصرف مرضى الشمال، أدى إلى انخفاض في معدل الوفيات في بعض بلدان الشمال بنسبة 60٪ في أربعة أعوام.
وبالفعل فقد سمح اكتشاف العلاج الثلاثي، وفعالية تركيبات جديدة من علاجات مضادات الريتروڤيروسات antirétroviraux، بالإضافة إلى تدابير وقائية، بوقف انتشار المرض في البلدان المتقدمة. وفي أوروپا الغربية، على سبيل المثال، كان عدد الحالات الجديدة السنوية للإيدز يرتفع بصورة منتظمة حتى عام 1994، حيث اقترب من 25 ألف حالة؛ ومنذ ذلك الحين، وبفضل فعالية الرعاية الجديدة، تراجع بصورة منتظمة، وعاد إلى ماتحت حاجز اﻠ 15 ألف منذ 1997. كما انخفض عدد الوفيات بسبب الإيدز بنسبة 80٪ خلال أربعة أعوام بفضل استخدام العلاج المتعدد la polythérapie.
وفي الولايات المتحدة، كان هذا التراجع مذهلا كذلك: تقدر الإحصاءات انخفاض عدد الوفيات بسبب الإيدز بنسبة 44٪ بين النصف الأول من 1996 والنصف الأول من 1997. وكما تشهد كل المؤشرات الوبائية épidémiologique[150] فإن الإيدز صار، في البلدان الصناعية، مرضا ڤيروسيا آخذا في التحول إلى شكل مزمن، ولكن قلما يكون قاتلا.
 
حروب الإيدز
 
على حين يبدأ انحسار الإيدز في البلدان الغنية، تستمر موجة المدّ الوبائي مع هذا في إغراق البلدان النامية. وتستمر معدلات العدوى والوفاة في الزيادة بسرعة في أغلب بلدان أوروپا الشرقية، وآسيا، وأفريقيا الوسطى والجنوبية، وكذلك في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية (پيرو، وڤينزويلا، وكولومبيا، والأرجنتين، وتشيلي).
وفي مواجهة مثل هذه الأشكال من اللامساواة، لا تفعل بلدان الشمال ولا مؤسسات الأدوية شيئا ذا بال. ويعلن مسئول في جمعية لمكافحة الإيدز أن: "صناعة الأدوية عليها دَيْن نحو مرضى الإيدز. وعليها أن تسدده. فخلال خمسة عشر عاما، جنت المعامل أرباحا هائلة على حساب حيواتنا؛ واليوم، على حين يتبدل الوباء في بلدان الشمال ويتفشى في بلدان الجنوب، ترفض المعامل تغيير إستراتيچياتها. وهي تعرقل توزيع الجزيئات الجديدة التي يحتاج إليها المرضى الذين أخفقت معهم كل العلاجات والذين يوشكون على الموت"[151].
ويحث كوفي أنان، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، مجلس الأمن، على وجه التحديد لأنه مسئول عن صون السلم، على أن يجعل من النضال الدولي ضد الإيدز "أولوية مباشرة". وفي نظر پيتر پايو Peter Piot، مدير البرنامج المشترك للأمم المتحدة للإيدز Onusida فإن: "الصراع المسلح وڤيروس نقص المناعة البشرية شيئان مترابطان مثل توأمين شيطانيين". ووفقا لچيمس وولفنسون James Wolfensohn، رئيس البنك الدولي، فإننا: "مع الإيدز، نجد أنفسنا في مواجهة حرب تضعف أكثر من الحرب ذاتها. والحقيقة أن كل حرب تحتاج بالضرورة إلى خزينة حرب، غير أن الخزينة التي يشارك بها المجتمع الدولي فارغة".
وتحذر كل التصريحات من النتائج المنطقية للمنافسة الحرة الراهنة. والإيدز، هناك حيث يتفشى، يهز استقرار الاقتصادات، ويفاقم الفقر، ويدفع إلى الحرب؛ وبدورها، تقوم الحرب، بكل ابتزازاتها، وسرقاتها، وقلاقلها، بتسهيل تفشي الوباء.
 
 
 
 
    
  
 
   
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
في سبيل تغيير العالم
 
 
بعد أن تم منذ وقت طويل تجريدهم من حقهم في التعبير ومن خياراتهم، يقول المزيد والمزيد من المواطنين عبر كوكبنا: "كفى!" كفى قبولا للعولمة الليبرالية وكأنها قدر محتوم. كفى رؤية السوق تقرر بدلا من الممثلين المنتخَبين. كفى رؤية العالم وقد تحول إلى سلعة. كفى معاناة، واستسلاما، وخضوعا.
والحقيقة أن جنين مجتمع مدني عالمي بسبيله إلى أن يتخذ مكانه وهو يضم عشرات من المنظمات غير الحكومية، ومجموعات من الجمعيات، والنقابات، وشبكات من بلدان متعددة.
وقد عززت ظاهرة العولمة وتهاون القادة السياسيين، خلال تسعينات القرن العشرين، حدوث تحوّل عميق للسلطة. والواقع أن السادة الحقيقيين للعالم لم يعودوا أولئك الذين يملكون مظاهر السلطة السياسية. بل هم أولئك الذين يسيطرون على الأسواق المالية، والجماعات الإعلامية الكوكبية، والطرق السريعة للاتصال، والصناعات المعلوماتية، والتكنولوچيات الچينية.
وتحت إشراف هذا المجلس للرقابة الكوكبية، احتلّ مكان الصدارة نوع من الإدارة العالمية، من الحكومة الحقيقية للعالم، ويتمثل فاعلوها الأربعة الرئيسيون في: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية.
ومكان ما كان يشكل منذ عهد قريب دولا صناعية فائقة hyperindustrialistes، كالاتحاد السوڤييتي، تقوم مجموعات كبرى خاصة بنهب البيئة الآن بوسائل مفرطة. فهي تجني الربح من ثروات الطبيعة التي تمثل المنفعة المشتركة للبشرية. وهي تفعل هذا بانعدام ضمير ومطلقة العنان. مؤدية إلى استفحال الأزمة الإيكولوچية هنا وهناك: مُضاعفة التلوثات ذات الكثافة العالية، منشِّطة تأثير الدفيئة (الاحتباس الحراري)، موسعة نطاق التصحر، مجددة "بقع الزيت في البحار"،  ناشرة أوبئة عامة جديدة (الإيدز، ڤيروس إيبولا، مرض "كرويتسفيلت-چاكوب" Creutzfeldt-Jakob ["مرض جنون البقر عند انتقاله إلى البشر"])، إلخ.
وغير مكترثة تجاه الجدال الديموقراطي وغير خاضعة للإنتخابات العامة، تقود هذه السلطات غير الرسمية الأرض بالفعل وتقرر بسيادة كاملة مصير سكانها. دون أن تأتي أية سلطة-مضادة contre-pouvoir لتصحح، أو تعدل، أو ترفض قراراتها. ذلك أن السلطات-المضادة التقليدية - البرلمانات، الأحزاب، وسائل الإعلام - إما أنها محلية أكثر مما ينبغي، أو متواطئة للغاية. كما أنه لموازنة contre-poids هذه السلطة التنفيذية الكوكبية، يشعر الجميع بصورة مبهمة بالحاجة إلى خلق سلطة-مضادة مدنية عالمية.
ومستعيدين مشعل الاحتجاج الدولي، يبدأ محتجو اليوم - الذين عبروا عن أنفسهم في سياتل، أو واشنطن، أو براغ، أو داڤوس، أو كيبيك، أو چنوا، أو الدوحة، أو پورتو أليجري، أو بروكسل - في بناء هذه السلطة-المضادة. وبطريقة ما فإنهم يحاولون وضع الحجر الأول في حيز جديد للتمثيل العالمي يجب أن يشغل المجتمع المدني العالمي في قلبه مكانا رئيسيا.
ذلك أن الإضفاء المعمم للطابع السلعي على الكلمات والأشياء، على الأجساد والأرواح، على الطبيعة والثقافة، يؤدي إلى تفاقم لمختلف أشكال اللامساواة.
وعلى حين يمثل الإنتاج العالمي للمنتجات الغذائية الأساسية أكثر من 110٪ من حاجات سكان الكوكب، يواصل 30 مليون شخص الموت جوعا كل عام، ويبقى 800 مليون يعانون نقص الغذاء. وفي 1960، كان دخل أغنى 20٪ من سكان العالم يعادل 30 ضعف دخل أفقر 20٪. واليوم، صار دخل هؤلاء الأغنياء 82 ضعف دخل هؤلاء الفقراء! ومن أصل 6 مليارات هم سكان الكوكب، يعيش 500 مليون بالكاد في حالة ميسورة، في حين يبقى 5.5 مليار في حالة من الحاجة والعوز. ولكي يلبسوا، ويسكنوا، ويتنقلوا، ويعالجوا، ويأكلوا، لايملك أكثر من 1.2 مليار شخص، أيْ ربع[152] البشرية تقريبا، سوى أقل من يورو واحد للفرد في اليوم...
فهل من المدهش أن نرى مطلب العدالة والمساواة - الذي يجتاز، مثل موجة القاع، التاريخ الطويل للبشرية - ينبعث من جديد وبقوة في هذه الآونة؟ وفضلا عن هذا تظهر أخطار جديدة. والحقيقة أنه على حين أن تركيز رأس المال والسلطة كان يتسارع بالفعل بصورة هائلة خلال العشرين سنة الأخيرة نتيجة ثورة تكنولوچيات المعلومات فإنه يمكن تحقيق قفزة جديدة إلى الأمام في هذه البداية للألفية مع التقنيات الچينية للتلاعب بالحياة.
وخاصة منذ إعلان واشنطن، في 26 يونيو 2000، عن الفك شبه الكلي لشفرة الچينوم البشري، أيْ اﻠ 3 مليارات من القواعد، الحلقات الأولية لسلاسل تراثنا الچيني. وينكبّ الباحثون من الآن فصاعدا على دراسة درينات من آلاف الچينات التي يحتويها "د.ن.أ." والتي تشكل في آن معا الذاكرة البيولوچية للجنس البشري وأساس الطب في المستقبل. "عندما تصير وظائفها معروفة، سوف تظهر بالفعل أدوية جديدة وأشكال جديدة من العلاجات الچينية والخلوية. ويقلب هذا المنظور أوضاع إستراتيچيات صناعة الأدوية ويثير مجادلات أخلاقية وتجارية. وباعتبارها إلدورادو جديدا Nouvel Eldorado من أجل البدايات ”ما بعد الچينومية“ postgénomiques، تمثل چيناتنا ذاتها من الآن فصاعدا مصدرا محتملا لأرباح كبيرة لأولئك الذين فكوا شفرتها"[153].
ويفتح الاستغلال لغايات تجارية للچينوم البشري والمنح المعمم لبراءات اختراع الكائن الحي آفاقا جديدة للتوسع أمام النظام الرأسمالي. أيضا، بعد أن تم الحصول على الحقوق السياسية، ثم الحقوق الاجتماعية، يطالب المواطنون، أمام هذه التهديدات الجديدة، بجيل جديد من الحقوق، وهي جماعية هذه المرة: الحق في طبيعة مصونة، الحق في بيئة غير ملوثة، الحق في المدينة، الحق في السلام، الحق في المعلومات، الحق في الطفولة، الحق في تنمية الشعوب...
ومن الآن فصاعدا يغدو من غير المفهوم أن لا يكون المجتمع المدني الناشئ مرتبطا بأفضل صورة بالمفاوضات الدولية الكبرى القريبة التي ستتم فيها مناقشة المشكلات المتعلقة بالبيئة، بالصحة، بالتفوق المالي، بما هو إنساني، بالتنوع الثقافي، بالتلاعبات الچينية، إلخ.
ذلك أنه ينبغي الآن، في سبيل تغيير العالم، أن نفكر في بناء مستقبل مختلف. بدلا من أن تكون المسألة هي الاكتفاء بكوكب يعيش فيه مليار نسمة في رخاء، على حين يرتضي مليار آخر بمجرد البقاء في بؤس شنيع.
وقد آن الآوان لإعادة تأسيس اقتصاد جديد، أكثر تضامنية، يقوم على مبدأ التنمية المستدامة، ويضع الكائن البشري في قلب شواغله. ويجب أن يبدأ هذا بنزع سلاح السلطة المالية.
وخلال العقدين السابقين، لم تكفّ هذه الأخيرة عن إنهاك ميدان ما هو سياسيdu politique، مقلصة بصورة مثيرة للقلق حدود الديمقراطية. ويقتضي تقويض عالم المال فرض ضرائب كبيرة على دخل رأس المال، وبصورة خاصة جدا على المعاملات المضاربة على أسواق  سعر الصرف (ضريبة توبين taxe Tobin)[154]. ومن الملائم أيضا مقاطعة، وخنق، وإلغاء الملاذات الضريبية، والمناطق التي يسودها السر البنكي، والتي يُستفاد منها في التستر على الاختلاسات وعلى انتهاكات أخرى لقوانين مكافحة الجرائم الضريبية.
وينبغي أن نتصور، أيضا، توزيعا جديدا للعمل والدخل في اقتصاد تعددي سوف تشغل فيه السوق جزءًا فقط من الحيز، بقطاع تكافلي وتحرير للوقت يغدو بالغ الأهمية بصورة متزايدة.
كما ينبغي تحديد دخل أساسي غير مشروط للجميع، يُمنح لكل شخص، منذ ولادته، دون أيْ شرط خاص بالحالة الأسرية أو المهنية. حيث يتمثل المبدأ، الثوري، في أن يكون لدى المرء الحق في هذا الدخل الضروري للمعيشة لأن المرء يعيش، وليس لكي يعيش. ويقوم تأسيس هذا الدخل على فكرة أن الطاقة الإنتاجية لمجتمع هي المحصلة لكل المعرفة العلمية والتقنية التي تراكمت على أيدي الأجيال السابقة. ذلك أن الدخل الأساسي غير المشروط، الذي هو بالضرورة ميراثها، يمكن أن يمتد إلى كل البشرية، لأن الناتج العالمي الموزع بصورة متكافئة، من الآن فصاعدا، سوف يكفي لتأمين حياة مريحة لمجموع سكان الكوكب.
وبهذا الأفق، ينبغي أن نعطي لبلدان الجنوب الفقيرة كل مكانتها، عن طريق وضع حد لسياسات التصحيح الهيكلي، وإلغاء جانب كبير من دينها العام؛ وزيادة مساعدة التنمية، وتقبُّل عدم تبنّي هذه البلدان لنموذج الشمال، الذي يصعب الدفاع عنه من الناحية الإيكولوچية؛ وتنمية الاقتصادات المتمركزة على الذات؛ والدفاع عن التبادلات المتكافئة؛ والاستثمار بصورة واسعة النطاق في المدارس، والمساكن، والصحة؛ والمساعدة على الوصول إلى المياه الصالحة للشرب ﻟ 1.5 مليار شخص محرومين منها؛ والإقرار خاصة في الشمال، لشروط الحماية الاجتماعية والبيئية على المنتجات المستوردة، والتي تكفل شروط عمل لائقة لأجراء الجنوب، وكذلك حماية البيئات الطبيعية.
وإلى هذا البرنامج لتغيير العالم، ينبغي أن تضاف ضرورات ملحة أخرى: المحكمة الجنائية الدولية، تحرير المرأة على الصعيد الكوكبي، مبدأ الحيطة بشأن البيئة وضد كل التلاعبات الچينية، إلخ. لقد صارت يوتوپيات الأمس القريب، أهدافا سياسية ملموسة للقرن الحادي والحشرين الذي يبدأ الآن.
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملحق
 
 خاص للطبعة العربية
 
الإمبراطورية ضد العراق
 
 
 
أوضح القرار 1441، الذي جرى تبنيه بإجماع الأعضاء الخمسة عشر في مجلس الأمن للأمم المتحدة، المنعقد في جلسة عامة في مقره بنيويورك يوم الجمعة 8 نوڤمبر 2002، بشأن نزع أسلحة العراق،  في الفقرة 13، أن "العراق سيتعرض لعواقب وخيمة في حالة استمراره في عدم الوفاء بالتزاماته".
وبعبارات دبلوماسية، كانت "عواقب وخيمة" نوعا من الإشارة إلى تدخل عسكري. وبعبارة أخرى فإن القرار أجاز، بصورة صريحة، الحرب ضد بغداد.
كذلك فإن واقع أن صدام حسين قد قبل عودة المفتشين دون أن يضع شروطا لم يُبعد، كما قال البعض، خطر الصراع المسلح. فالقرار 1441 لم يترك الخيار للرئيس العراقي، ذلك أنه أوجب في الفقرة 9 أن "يؤكد العراق عزمه على أن ينفذ بصورة كاملة شروط القرار الحاليّ" وأن "يتعاون العراق في الحال، وبلا شروط، وبصورة فعالة" مع المفتشين.
وبالتالي فإن الولايات المتحدة، مع حلفائها الرئيسيين (المملكة المتحدة، وإيطاليا، وإسپانيا)، من جهة، ومن الجهة الأخرى، فرنسا، وروسيا، وألمانيا، وغالبية البلدان العربية والمسلمة، تصادمت في جدل دبلوماسي حادّ خلال الأسابيع التي سبقت التصويت على القرار. ويمكن تلخيص هذا السجال على النحو التالي: أرادت واشنطن قرارا واحدا للأمم المتحدة يجيز استعمال القوة في حالة قيام الدليل على أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. وطالبت پاريس وموسكو بالعودة، في هذه الحالة ذاتها، إلى مجلس الأمن الذي سيُعِدّ ويصوّت على قرار جديد يجيز هذه المرة بصراحة استعمال القوة ضد بغداد.
ونجحت إدارة الرئيس بوش في تحقيق غاياتها، حيث سمح القرار 1441 لها وحدها، في واقع الأمر، بالقيام بتدخل عسكري، بالشرط الوحيد المتمثل في أن يعثر مفتشو الأمم المتحدة على أسلحة دمار شامل في العراق. واستسلمت فرنسا وروسيا أمام الضغط الأمريكي الرهيب وكان عليهما الاكتفاء بفقرة عزاء هي الفقرة 12، يكتفي مجلس الأمن وفقا لها بأن "يقرر أن يجتمع في الحال بعد أن يتلقى التقرير [تقرير المفتشين] للنظر في الموقف". غير أن هذا الاجتماع الجديد، الشكلي تماما، لم يكن المقصود به إرجاء آثار القرار 1441، ولا إطفاء نار الخيار المؤيد للحرب في 8 نوڤمبر 2002.
وبهذا استسلمت الأمم المتحدة هذه المرة أيضا لشروط واشنطن وأثبتت أنه لم يعد هناك مجال لانتظار شيء كبير منها، عندما يتعلق الأمر بنزاهة القانون الدولي. لقد صارت الأمم المتحدة في نظرنا أشبه بالحَكَم الذي يخضع لتأثير العضو الأقوى والأكثر تشددا في النادي. وفي كل مكان تقريبا على ظهر الكوكب، صارت جدارة الأمم المتحدة بالاحترام قريبة من درجة الصفر، وغدت متهمة بالكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بتقييم مشكلات العالم، وفقا لما إذا كان أحد الأطراف حليفا أم خصما للولايات المتحدة.
وضد نظام صدام حسين، أعدت إدارة بوش ثلاثة اتهامات كبيرة: 1) لا ينفذ قرارات الأمم المتحدة؛ 2) يمتلك أسلحة دمار شامل؛ 3) يشكل خطرا على جيرانه. ومن هنا كان التصويت على القرار 1441 وخطر حرب وشيكة. ولكنْ لا شيء فيما يتعلق بالحليفين الكبيرين لواشنطن: پاكستان وإسرائيل، اللتين لا تمتنعان فقط عن تنفيذ عدد متزايد من قرارات الأمم المتحدة، بل تمتلكان أسلحة نووية، وكيميائية، وبيولوچية للدمار الشامل، وتشكلان خطرا فعليا للغاية على جيرانهما (الهنود والفلسطينيين، على الترتيب).
 
الخوف من الإرهاب الدولي
 
 وتريد الإدارة الأمريكية أن تتفادى بكل الوسائل الممكنة التي يمكن تصورها تحالفا بين "دولة خارجة على القانون" والإرهاب الدولي.
وفي 1997 بالفعل، في عهد إدارة الرئيس كلينتون، عبر وزير الخارجية ويليام كوهن William Cohn عن هذه الخشية: "إننا نجد أنفسنا في مواجهة إمكانية أن يحاول فاعلون إقليميون، وجيوش من الدرجة الثالثة، وجماعات إرهابية، وحتى بعض الطوائف الدينية، تحقيق سلطة هائلة عن طريق الحصول على أسلحة دمار شامل واستخدامها".
وفي يناير 1999، أكد بيان عام لرئيس شبكة القاعدة أن هذا الخطر حقيقي تماما؛ قال أسامة بن لادن: "لا أعتقد مطلقا أنه سيكون جريمة أن نحاول الحصول بكل الوسائل على أسلحة نووية، أوكيميائية، أو بيولوچية".
كما أقر الرئيس بوش، في مداخلته أمام الأمم المتحدة في 12 سپتمبر 2002، بأن هذا الاحتمال يمنعه من النوم: "أخشى ما نخشاه هو قيام الإرهابيين بالتحالف مع دولة خارجة على القانون قادرة على تزويدهم بالتكنولوچيا اللازمة لارتكاب جرائم جماعية".
وفي ذهن الرئيس الأمريكي، كانت هذه "الدولة الخارجة على القانون" هي عراق صدام حسين. وإنما لهذا السبب، بغرض التخلص من "الإرهاب الدولي"، قرر الهجوم على العراق.
وحتى إذا كان قد كسب الحرب، فإن من غير المؤكد أن السيد بوش سيكون قد تخلص مما يسميه بالإرهاب. في المقام الأول لأن تعبير "إرهاب" غير دقيق. ويجري استخدامه منذ قرنين للوصف بلا تمييز لكل أولئك الذين يلجأون، خطأ أو صوابا، إلى العنف في سبيل محاولة تغيير النظام السياسي. وقد أثبت التاريخ، شئنا أم أبينا، أن هذا العنف كان ضروريا في حالات بعينها.
 
عالم أكثر سلاما
 
تتحدث وسائل الإعلام كثيرا عن الإرهاب منذ 11 سپتمبر 2001، غير أن من المفارقات في الواقع الفعلي أن العنف السياسي قد تضاءل بشدة بالمقارنة مع الوضع الذي كان سائدا منذ عدة أعوام.
وفي أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، ومؤخرا أيضا، شهدت السلڤادور، وجواتيمالا، ونيكاراجوا، وپيرو، و، منذ وقت أطول قليلا، أوروجواي، والأرجنتين، وبوليڤيا، وتشيلي، والبرازيل، العنف السياسي والنضال المسلح. وكذلك العنف السياسي في الولايات المتحدة (الفهود السود، والپورتريكيون) وفي كندا (جبهة تحرير كيبيك). وقد اختفت كل أشكال العنف هذه ولم تبق سوى حالة واحدة: الصراع في كولومبيا، الذي بدأ في 1948...
وفي أفريقيا، اختفى العنف السياسي إلى حد كبير من موزمبيق، وجنوب أفريقيا، وأنجولا، وسيراليون، وتشاد، وإثيوپيا، وإريتريا، مع أنه باقٍ في الجزائر، وجنوب السودان، والكونغو، وليبيريا، وكوت ديڤوار.
وفي آسيا أيضا، انتهت الحروب الرهيبة في ڤييتنام، وكمبوديا، ولاوس، وحرب العصابات في تيمور الشرقية، ولكنْ تبقى صراعات في كشمير، وسري لانكا، والفليپين، دون أن ننسى الظهور الحديث جدا لحرب العصابات الماوية في نيپال.
وفي الشرق الأوسط، انتهت حرب شرسة في لبنان، حيث قامت المنظمة الإسلامية الشيعية حزب الله بوقف أعمالها العسكرية عمليا بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. ويبقى فقط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بسجله الدموي من الفظائع والضحايا المدنيين من الجانبين.
وفي أوروپا (بما في ذلك القوقاز، حيث يتواصل الصراع الشيشاني)، جرى إنهاء حروب البوسنة، وكرواتيا، وكوسوڤو، ومقدونيا، وكذلك العنف السياسي في كردستان التركية؛ واختفت الألوية الحمراء في إيطاليا، وكذلك الحال بالنسبة للقسم المسلح الأحمر (جماعة بادر Baader) في ألمانيا، والشيء نفسه بالنسبة للجيش الجمهوري الآيرلندي، في آيرلندا الشمالية، الذي توقف عن القتال في الوقت الراهن. ولا تبقى سوى منظمة إيتا، لسوء الحظ، في إقليم الباسك الإسپاني.
وبالمقارنة مع عالم العقود السابقة، يبدو عالم اليوم إذن أكثر سلاما للغاية. وباستثناء خمس أو ست بؤر (منها تلك البؤرة ، المنتشرة، التي ترعاها جماعة- شبكة la secte-réseau القاعدة وأسامة بن لادن) فقد تضاءل العنف السياسي والإرهاب على الخارطة الجغرافية السياسية. وإذا كان لدينا انطباع مناقض فإن هذا أولا لأن العنف يواصل القتل، في كل مكان تقريبا، ثم لأنه على المستوى الدولي، أعلنت الولايات المتحدة "حربا بلا نهاية" على الإرهاب، ولأن طبول الصدى الإعلامي، التي تقود جوقتها وسائل الإعلام الأمريكية الجبارة، تزعج أسماعنا به إلى حد الضجر.
 
العنف الاجتماعي
 
ولنا في الواقع أن نبتهج بأن يكون هناك القليل إلى هذا الحد من العنف السياسي على الكوكب. للسبب البسيط المتمثل في أن العالم الذي أقامته لنا العولمة الليبرالية الجديدة في غضون الخمسة عشر عاما الأخيرة، بتواطؤ عدد كبير من القادة، حافل بعنف ولامساواة لم يسبق لهما مثيل. ويعيش أكثر من نصف سكان الكوكب بأقل من 2 يورو في اليوم... ويموت ثلاثون ألف شخص (عشرة أمثال عدد ضحايا هجمات 11 سپتمبر...) كل يوم لأنهم شربوا مياها ذات نوعية رديئة. ويموت ثلاثون مليون شخص جوعا كل عام في حين أن الإنتاج الزراعي العالمي من الوفرة بحيث يسمح بتغذية عدد يصل إلى ثمانية مليارات شخص... وبسبب نقص الأدوية، يموت طفل صغير أو فتاة أو صبي، من أمراض يسهل علاجها، كل ثلاث ثوانٍ...
وبالنظر إلى البؤس المفزع والظلم الذي لا ينتهي اللذين تعانيهما غالبية سكان الكوكب، أليس من المفارقات أن يكون هناك هذا القليل إلى هذا الحد من العنف السياسي؟
وما من دليل على تواطؤ من أي نوع بين الفاعلين الأصليين وراء الهجمات الشريرة في 11 سپتمبر 2001 ونظام صدام حسين. ما من دليل. ولم تستطع السلطات الأمريكية والسلطات البريطانية - حتى بعد الانتصار العسكري - إثبات أنه كانت هناك صلة بين شبكة القاعدة وصدام حسين، كما لم تستطع إثبات أن الهجوم ضد العراق تربطه صلة من أيّ نوع ﺒ "الحرب ضد الإرهاب الدولي".
 
نشر الديمقراطية؟
 
يؤكد بعض "الخبراء"، متأثرين بلاشك بالدعاية السائدة، أن واشنطن عازمة على التدخل ليس فقط في العراق، بل أيضا، بعده مباشرة، في كل المنطقة، وعازمة على تخليصها من كل الدكتاتوريات التي تتفشى فيها. ولن يكون التخلص من صدام حسين سوى العينة الأولى. وهذا هو السبب في أن هؤلاء الخبراء يدعوننا إلى التصفيق لهذا المشروع ﻠ "مقرطة العالم العربي"... وهم يقولون لنا بهذه الطريقة إن غاية "الديمقراطية القادمة" تبرر الوسائل (الحرب الاستباقية préventive).
على أن كل من يعرف وإنْ قليلا تاريخ التدخلات العسكرية الأمريكية في بلدان ما كان يسمى منذ عهد قريب بالعالم الثالث لا يمكن أن يصدق مثل هذه الحكاية الخرافية. فقد زرعت الولايات المتحدة دكتاتوريات في كل مكان تقريبا. وبصورة رئيسية في أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي، حيث سيكونون نادرين أولئك الذين نسوا الدكتاتوريات الدموية لباتيستا Batista في كوبا، وتروخيّيو Trujillo في سان دومينيك، ودوبالييه Duvalier في هاييتي، وريوس مونت Ríos Montt في جواتيمالا، وﭙيريث خيمينيث Perez Jimenez في ڤنزويلا، وسترويسنر Stroessner في پاراجواي، وبيديلا Vidella في الأرجنتين، وﭙينوتشيت في تشيلي، إذا اكتفينا بالاستشهاد بعدد من الدكتاتوريات من تلك الأكثر مأساوية...
ولكنْ أن يوجد في الشرق الأوسط على وجه التحديد مشروع إقامة ديمقراطية في العراق فإنه لا يمكن تصديقه كثيرا، نظرا لأن واشنطن تقدم العون هناك، منذ عقود أحيانا، لعدد من أشنع دكتاتوريات المنطقة: مصر (أحد البلدان التي يوجد فيها أكبر عدد من السجناء السياسيين في العالم، أكثر من عشرين ألفا...)، المملكة العربية السعودية (المركز الرئيسي للنزعة الإسلامية islamisme الراديكالية)، إمارات الخليج، پاكستان (حامية طالبان طيلة سنوات)، أوزبكستان...
وحجة الدعاية ممتازة: الموت في سبيل الديمقراطية. غير أن الواقع أقلّ سموًّا: غزو النفط العراقي.
وكان الهدف الحقيقي للهجوم الموجه ضد بغداد هو النفط. ولم يكن الباقي سوى ذرائع زائفة. وكانت الأمم المتحدة تعرف هذا. وكانت تعرف أيضا أنه بالقرار 1441 أو بدونه فإنه لامناص من أن تهاجم الولايات المتحدة.
وفي 10 نوڤمبر 2002، بعد التصويت التاريخي لمجلس الأمن بيومين، أعلن أندرو كارد Andrew Card، السكرتير العام للبيت الأبيض، أمام الصحافة: "للعمل ضد العراق، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى تفويض من الأمم المتحدة".
 
صقور بوش
 
كان الصقور الذين يحيطون بالرئيس بوش يريدون دائما هذه الحرب ضد العراق. فمن هم هؤلاء الصقور؟ والرئيسيون أربعة: نائب الرئيس ريتشارد تشيني Richard Cheney، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، والرجل الثاني في الپنتاجون پول وولفووتس Paul Wolfowitz، ورئيس مجلس السياسة الدفاعية، ريتشارد پيرل Richard Perle (الملقب ﺒ "إبليس"). وهم يشكلون مع كوندوليزا رايس Condoleezza Rice، مستشارة بوش لشئون الأمن و - إلى حد ما - وزير الخارجية كولن پاول، الحكومة الحقيقية للحرب.
وهؤلاء الأشخاص خطرون. ومن المفارقات أنه ما من أحد من بينهم اشترك قط في أية حرب. وقد تدبروا جميعا أمرهم لتفادي الذهاب إلى ڤييتنام. وفي أواخر الثمانينات أحاطوا بالفعل بالرئيس بوش، الأب. وبعد خمسة عشر عاما من نهاية هذه الحرب الڤييتنامية التي صدمت الأمريكيين للغاية، كانوا أول من قاموا بتنظير اللجوء إلى الحرب كأداة للسياسة الخارجية.
وكانت المغامرة السياسية الكبرى الأولى لهذا الرباعي الجهنمي غزو پنما في ديسمبر 1989، دون تفويض من الأمم المتحدة ولا حتى من الكونجرس الأمريكي. وقد قام تشيني، ورامسفيلد، ووولفوويتس، وپيرل (مع كولن پاول كرئيس أركان للجيش) بالتخطيط من الألف إلى الياء لعملية "القضية العادلة" التي تمثلت آنذاك بالفعل في غزو پنما عسكريا، والإطاحة ﺒ "الحاكم المطلق" نورييجا Noriega، و "استعادة الديمقراطية" بتنصيب رجلهم المفضل جييرمو إندارا Guiermo Endara في السلطة... وقد قاموا بتصميم السيناريو الذي تمثل في القيام أولا بشن حملة إعلامية لإضفاء طابع شيطاني على نورييجا (العميل السابق المأجور لوكالة المخابرات المركزية CIA)، واصفين إياه ﺒ "مهرب المخدرات"، و "الإباحي"، و "نصير سحر الڤودو"، و، بطبيعة الحال، "الدكتاتور الذي يمارس التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان".
وحالما جرت تهيئة الرأي العام جيدا، وقع الهجوم، مفاجئا، شاملا، وبلا شهود. فالصحافة لم تكن قد أبلغت بالهجوم وأسقط كوماندوز أمريكيون صورة فوتوغرافية إسپانية من الجريدة اليومية إﻠ پاييس El país، الأمرالذي كان مثيرا حقا. وتم استدعاء قوات الصدام من القاعدة العسكرية لمنطقة القناة التي ما تزال في أيدي الولايات المتحدة. وحدث لأول مرة استخدام طائرات الشبح ستيلث إف 117 إيه، التي قامت - بدلا من ضرب مركز قيادة نورييجا في مدينة پنما، وهو هدفهم - بقصف الحي الشعبي تشوريّو Chorrillo عن طريق الخطأ، مما أدى إلى موت قرابة ألفيْ شخص... وكانت هذه طريقة في تدشين ما سوف يسمى لاحقا "خسائر جانبية"... وقد أدانت الأمم المتحدة العدوان، واستخدم سفير الولايات المتحدة حقه في الرفض " الڤيتو"...
لقد أثبت الصقور، بفضل الانتصار الذي تحقق في پنما، أن الحرب ليست خيارا ينطوي على مجازفة كبيرة، بل طريقة ممكنة للإدارة الدبلوماسية. وحصل "الرجال القساة" (أو: "الفتوّات" أو "الأشرار") tough men الأربعة على ما كانوا يسعون إليه، وهو ما تمثل في أن يُعاد إلى القوات المسلحة الأمريكية دورها كأداة لا مناص منها للسياسة الخارجية. ومنذ ذلك الحين، صارت القوة العسكرية العظمى للولايات المتحدة في خدمة مشروع للسيطرة الإمبراطورية على الكوكب.
وكانوا هم الذين خططوا لحرب الخليج في 1991، وقد تعرضوا لخداع كبير عندما لم يسمح الرئيس بوش الأب للقوات بمواصلة هجومها على بغداد.
وخلال أعوام كلينتون ( 1992 - 2000)، اعتصم الصقور بالجامعات أو مراكز الدراسات واستمروا هناك في الدفاع عن أطروحاتهم. وعرض الأكثر تصلبا بين الأربعة، پول وولفوويتس، الملقب ﺒ "ڤيلوسيراپتور" Velociraptor [= الديناصور المفترس - المترجم]، في مذكرة نُشرت في 1992، الاستنتاجات السياسية الرئيسية التي استخلصها من حرب الخليج. ومنذ أحد عشر عاما، شدد بالفعل، وهذا قبل هجمات 11 سپتمبر 2001 بكثير، على ضرورة الانتقال إلى "الحرب الاستباقية"، والهجوم مباشرة على "الدول المارقة" مثل كوريا الشمالية، وإيران، والعراق، والقيام بهذا دون انتظار، بالقدر الذي سمح فيه اختفاء الاتحاد السوڤييتي للولايات المتحدة بالمسارعة إلى انتهاز الفرصة. وألحَّ على أنه ما كان ينبغي أن تكتفي واشنطن بإدارة الأزمات وبتدبير أمورها أولا بأول، في لحظة ظهورها، بل ينبغي أن تبادر، بالوسائل العسكرية، في سبيل إعادة رسم الحدود وإعادة تنظيم العالم...
هذه أفكار الصقور التي حاولت الحربُ ضد العراق والانتصارُ العسكري في 2003 تحقيقها...
 
 
الأهداف الحقيقية للحرب
 
فيم تتمثل شرعية تلك الحرب ضد العراق؟ وما هي أسبابها الحقيقية؟ وما هي على وجه الدقة الأهداف التي تسعى إليها إدارة بوش؟
والحقيقة أن الحجج الرسمية التي جرى استخدامها لشن الحرب بعيدة عن أن تكون مقنعة؛ وهي أربع حجج: 1) بغداد لم تنفذ القرارات الستة عشر لمجلس الأمن؛ 2) العراق يمتلك أسلحة دمار شامل؛ 3) العراق ينتهك حقوق الإنسان؛ 4) العراق يقيم صلات بالمنظمات الإرهابية.
ومحاطا بهذه البطانة من الصقور والأيديولوچيين المتأثرين للغاية بأفكار أصولية على أقصى اليمين المتطرف، قام الرئيس بوش وهذه المجموعة بتخطيط الحرب ضد العراق. بالأهداف التالية:
- القيام بردّ ملموس على هجوم 11 سپتمبر 2001. وهذا رغم أنهم لم يستطيعوا إثبات وجود أدنى صلة بين صدام حسين و أسامة بن لادن. لقد طالب الرأي العام بالانتقام، واعتقد 70٪ من الأمريكيين أن العراق شارك بطريقة أو أخرى في الهجمات، وقد قاموا بإرضائهم عندما قاموا بمهاجمة بغداد.
- استعادة السيطرة على مجموع الخليج الفارسي الذي يوجد فيه ثلثا الاحتياطيات العالمية المعروفة من النفط، هذا العنصر الرئيسي للنمو الاقتصادي للبلدان المتقدمة. كما أن الهجوم على العراق يمكن أن ينذر بهجوم آخر، في المستقبل، ربما ضد إيران، بنفس الهدف النفطي ولكنْ ممتدًّا هذه المرة حتى بحر قزوين...
- إقامة ديمقراطية في العراق بهدف التوسيع فيما بعد لهذا النمط من النظام السياسي ليمتدّ إلى كل الشرق الأوسط.
- حماية إسرائيل ضد هجوم عراقي غير محتمل ودفع الأوضاع نحو أفضل دمج للدولة اليهودية في المنطقة، انطلاقا من مبدأ أن المسألة الفلسطينية ستجد حلها بسهولة أكبر في شرق أوسط تسيطر عليه واشنطن عسكريا.
 
نهب بغداد
 
تلك هي الذرائع التي أطلقت من عقالها حربا انتهت إلى الانتصار العسكري المتوقع سلفا للقوات الأمريكية والقوات البريطانية المكملة لها. وكان بوسعنا أن نرى بأم أعيننا، على شاشات تليڤزيوناتنا، المشاهد التي لا تُصدَّق لنهب بغداد. وكنا نعرف من قبل، من مقرراتنا الدراسية في التاريخ، ما قيل عن نهب القسطنطينية في 1204، على أيدي المحاربين الصليبيين الكاثوليك؛ وعن دمار مكسيكو- تينوتشتيتلان في 1521، على أيدي الفاتحين القشتاليين؛ وعن نهب روما في 1527، على أيدي قوات شارل الخامس. وقد ترك لنا المعاصرون لهذه الجرائم، من كتاب الحوليات في الماضي، وصفا مروِّعا لأعمال القتل بلا مبرر، والانتهاكات المرتكبة بلا عقاب وحتى بالتحريض عليها، ونهب الكنوز، وهدم البيوت الخاصة الجميلة، وسرقة الروائع التاريخية، وإحراق القصور.
كما روى لنا المؤرخون العرب، بتفاصيل يقفُّ لها الشَّعْر، التخريبين الآخرين الكبيرين لبغداد: تخريب عام 1258، على أيدي المغول بقيادة هولاكو خان، الذين، بين أعمال بربرية أخرى، ألقوا في نهر دجلة بالأربعمائة ألف كتاب التي كانت تضمها المكتبة الكبرى للجامعة المستنصرية... وتخريب عام 1401، الذي كان من صُنْع مغول شرسين آخرين، هم مغول تيمور لنك، "تيمور الأعرج"، الذين انهمكوا في نهب المدينة ودمروا أعظم حصيلة من الثروات المادية والثقافية عرفها العالم على الإطلاق.
وكما نعرف فإن منطقة ما بين النهرين الغنية هذه [  Mesos Potamos= au milieu de fleuve = وسط النهر]، ومنطقة الهلال الخصيب، ومنطقة وديان دجلة والفرات، تُعَدّ "مهد الإنسانية"، لأنه ظهر هناك، قبل يسوع المسيح بخمسة آلاف عام، هذا التشابك لثقافات متعددة الجوانب والذي نسميه الحضارة. وهنا تتابعت الحضارات الأكادية، والسومرية، والبابلية، والأشورية... وهنا تم اختراع ما لا يقل عن الزراعة، والمدينة (بابل)، والدولة، والكتابة (المسمارية)، والقانون (قانون أو شريعة حمورابي)، والدين التوحيدي (إبراهيم مولود في أور)، والطب، وعلم الفلك، وزراعة قصب السكر، والصفر le zéro، والأرقام العربية...
إنها المنطقة التي أقامت فيها التوراة الجنة الأرضية، جنة عدن (التكوين 2-14)، والتي خلق الرب فيها المرأة... أرض المكتبة الأسطورية في نينوي، وبرج بابل، وحدائق بابل المعلقة، التي اعتبرها الإغريق إحدى عجائب الدنيا السبع.
ووسط ذهولنا بعنف وضراوة الحرب، بعد غزو العراق والاستيلاء على بغداد، شهدنا أعمال تخريب همجية بشعة للآثار - سمحت بها القوات الأمريكية - أدت إلى دمار جانب كبير من دلائل كل أمجاد الماضي هذه: نهب متاحف الآثار (في بغداد، والموصل، وتكريت)، وإحراق المكتبة القومية، ونهب متحف الفن الحديث، وتدمير الكونسيرڤاتوار القومي للموسيقى، وإحراق المكتبة القرآنية، ونهب خرائب بابل، وأكثر من خمسة آلاف موقع أثري...
آلاف من قطع متحف بغداد جرى تدميرها، وأكثر من 75 ألف قطعة أثرية جرت سرقتها، منها بعض القطع الاستثنائية مثل تمثال من البرونز ﻟ باسيتكي Basitki، أو قيثارة أور، أو رأس الملك الأكادي. وبين كتب المكتبة القومية التي تم إحراقها "القانون في الطب"، لابن سينا، وبحث في الأعداد، لأبي سعيد المغربي، اللذين ظلا طوال قرون كتابين دراسيين في الكليات الغربية...
وقد أدى هذا المحو لجانب من ذاكرتنا التاريخية إلى استقالة مارتن سوليڤان Martin Solivan، مستشار الرئيس چورچ دبليو بوش للثقافة، وإلى استقالة جاري ڤايكان Gary Vican، عضو اللجنة الأمريكية للملكية الثقافية، "بسبب سلبية القوات الأمريكية" أمام مثل هذه الأعمال البربرية.
ومن جهته، يرى المسئول الحقيقي عن نهب بغداد، وهو السيد دونالد رامسفيلد، أن العدوان المرتكب هنا ضد الحضارة الإنسانية أشبه تقريبا ﺒ "هرج ومرج في مدرجات إستاد كرة قدم"...
 
الصفقات الرابحة للتعمير
 
وبالفعل صار تعمير العراق والاستثمارات الكبيرة التي يفترضها الشاغل الرئيسي لأولئك الذين خططوا للغزو. والحقيقة أن الحرب نفسها، بإفراطها في استخدام "الأسلحة الذكية"، وإسرافها في استخدام "الذخيرة الفائقة الدقة"، مثلت سوقا خرافية لعدد من شركات الأسلحة الأمريكية.
وجاءت ست شركات في المرتبة الأولى عندما صار الأمر يتعلق باستغلال تدمير العراق: شركة يونايتيد تكنولوچيز United Technologies، التي باعت للپنتاجون ما قيمته 4 مليارات يورو من الأسلحة (هليكوپترات بلاك هوك وسي هوك)؛ و شركة چنرال دايناميكس General Dynamics ما قيمته تسعة مليارات يورو (غواصات، دبابات أبرامز، صواريخ هيدرا)؛ وشركة نورثروپ جرومان Northrop Grumman (حاملات طائرات، بوارج، طائرات إف 14 تومكات وإف 18 هورنت، طائرات جلوبال هوك بدون طيار)، مقابل اثني عشر مليار يورو؛ وشركة رايثيون Raytheon (صواريخ پاتريوت وتوماهوك، القنبلة العملاقة بي إل يو 109)، مقابل اثني عشر مليار يورو أيضا؛ وشركة بوينج Boeing (طائرات هليكوپتر أپاتشي Apache وتشينوك Chinook، طائرات إواكس Awaccs بي 52 وإف 22راپتور)، مقابل ثمانية عشر مليار يورو؛ وشركة لوكهيد مارتن Lockheed Martin (طائرات الشبح إف 117، وإسپيون يو2، وهيركيولز سي 13)، مقابل خمسة وعشرين مليار يورو.
وعلى وجه الإجمال فإنه خلال 2002، وفي توقع لاندلاع الصراع المسلح، اشترى الپنتاجون من هذه الشركات الست العملاقة ما قيمته ثمانون مليار يورو من الأسلحة، وهو ما يعادل الإنتاج المحلي لبلد مثل كولومبيا...
وقد كلفت هذه الحرب الولايات المتحدة هذا المبلغ الفلكي: 2 مليار دولار كلَّ يوم... وخلال العشرين يوما الأولى للقتال أنفقت واشنطن قرابة أربعين مليار دولار، أيْ ضعف القيمة السنوية لكل النفط الذي تنتجه بغداد، وهو مبلغ يفوق الناتج المحلي الإجمالي الكلي للعراق...
وابتهجت شركات السلاح، دون أن تطرح على نفسها أقلّ مسألة ضمير، إزاء هذا الفيض من النفقات العسكرية. وعلى سبيل المثال فإن شركة رايثيون، التي قامت بتصنيع صواريخ توما هوك التي ضربت السكان المدنيين في بغداد، هبطت قيمة أسهمها بنسبة 6٪ أثناء الشهور الأولى من 2003، ولكنْ بمجرد أن بدأت عملية "الصدمة والرعب" ارتفعت قيمة سنداتها بنسبة أكثر من 16٪، للسعادة الكبرى لحملة أسهمها!
ولن تتوقف الأمور عند هذا التقدم الجيد إلى هذا الحد: التكلفة الكلية للتعمير تُقدَّر بالفعل، وفقا للباحث الاقتصادي ويليام نوردهاوس William Nordhaus، من جامعة ييل، بحد أدنى يصل إلى تريليون دولار... وعلىهذا النحو أشعل اقتسام هذه الكعكة العملاقة حربا داخل الحرب، بين بلدان وشركات لا تريد أن يجري استبعادها من مشروع استثنائي إلى هذا الحد.
وتواصل واشنطن تأكيد أن التعمير سيتم تأمينه بصورة رئيسية على أيدي الشركات الأمريكية والبريطانية. وتبين القوائم الأولى بالمؤسسات المستفيدة - بيكتل جروب إنكورپوريشن Bechtel Group inc.، پارسونز كورپوريشن Parsons Corp.، هاليبيرتون كومپاني Halliburton Co.، فلووار كورپوريشن Fluor Corp. - أن الحكومة تريد أن تكافئ في المحل الأول الشركات التي أسهمت أكثر في تمويل حملة چورچ دبليو بوش والتي يُحتمل أن تمول حملته في 2004 لتجديد ولايته. دون أن ننسى الرفاق الأثيرين.
 وعلى سبيل المثال فإنه لا شك في أن الرجل الذي قام بوش بتعيينه لحكم العراق الجديد في فترة ما بعد صدام حسين، والذي كان لعدة أسابيع حاكمه العام في بغداد، الچنرال السابق چاي جارنر Jay Garner، صديق للصقور الذين اتخذوا قرار الحرب، غير أنه أيضا رئيس مؤسسة سلاح، إس واي كولمان SY Coleman، المرتبطة بشركة رايثيون من أجل تصنيع صواريخ پاتريوت الشهيرة التي تم استخدامها بكل تلك الوفرة أثناء القتال...
مثال آخر: عندما كان ينبغي إطفاء آبار النفط المشتعلة، في جنوب العراق، تم - دون أن تكون هناك دعوة إلى تقديم عطاءات مسبقة - اختيار شركة كيلوج براون آند رووت Kellog Brown & Root، الشركة التابعة لعملاق الأشغال العامة هاليبيرتون، التي كان مديرها، خلال أعوام عديدة، ديك تشيني النائب الحالي للرئيس...
كذلك كشفت الصحافة أن أحد الأشخاص الذين كانوا الأكثر مطالبة بهذا العدوان ضد العراق، ريتشارد پيرل، "الإبليس"، الموالي لإسرائيل بشراسة، رئيس مجلس الدفاع في الپنتاجون، كان يتفاوض آنذاك على امتياز عقود مهمة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية في العراق الجديد لصالح شركة جلوبال كروسنج Global Crossing، التي يعمل مستشارا من مستشاريها الرئيسيين...
 
صحفيون في الحرب
 
ما الذي تغير على المستوى الإعلامي بين حرب الخليج الأولى والغزو الثاني للعراق؟ من الناحية الأساسية شيء واحد: استطاع المراسلون "المنقولون" أن يرافقوا على خط النار الأول القوات الأنجلو أمريكية.
وقد بدأ تاريخ العلاقات بين الصُّوَر والمعارك الحربية في 1854، مع حرب القرم، التي كان يتم خلالها استخدام الصورة الفوتوغرافية للمرة الأولى. ويسمح لنا تحليل الصراعات المسلحة التالية - حرب الانفصال في 1861، والحرب الفرنسية الپروسية في 1870، وحرب البوير ضد الإنجليز في جنوب أفريقيا، في 1899، والحرب العالمية الأولى في 1914، والحرب الأهلية الإسپانية في 1936، والحرب العالمية الثانية في 1939، والحرب الكورية في 1950، وحرب الجزائر في 1954، وحرب ڤييتنام التي انتهت في 1975 - بالخروج ببعض الاستنتاجات.
وعلى وجه التحديد، الاستنتاج التالي: الديموقراطيات التي حاربت كان لها سلوك مختلف مع وسائل الإعلام، وفقا لما إذا كان الأمر يتعلق بالولايات المتحدة أو ببلدان مثل فرنسا أو إنجلترا. والحقيقة أن سلطات هذين البلدين الأخيرين لم تسمح للصحفيين، إلا على سبيل الاستثناء، بالاقتراب من الجبهة. وهي تشرف على التقارير الصحفية، وتفرض الرقابة على الصور. كما أنها تنطلق من المبدأ القائل بأن الحرب تمثل نوعا من الكلمة (أو الجملة) الاعتراضية parenthèse في حياةِ أي بلد ديموقراطي يتم فيه تعليق بعض الحريات - وعلى وجه التحديد حرية الإعلام.
وفي الولايات المتحدة، بالمقابل، تُعَدّ حرية الإعلام مبدأ مدونا في الدستور. وهذا هو السبب في أنه في الصراعات المسلحة المشار إليها أعلاه، يعبر الصحفيون الأمريكيون عن أنفسهم بحرية كلية، وبلا أية رقابة. وتذكَّروا إرنست همنجواي Ernest Hemingway وهو يصف ﻟ  تشيكاجو تريبيون Chicago Tribune أهوال خنادق الحرب العالمية الأولى، أو المصوِّرالفوتوغرافي روبرت كاپا Robert Capa وهو ينزل على سواحل نورماندي وسط عساكر الجيش الأمريكي GI s يوم 6 يونيو 1944.
كان هذا صحيحا حتى حرب ڤييتنام. ففي ڤييتنام - كما يوضح ستانلي كوبريك Stanley Kubrick في فيلم سترة حديدية كاملة Full Metal Jacket -، كان أيّ صحفي معتمد يُمنح رتبة ضابط وكان بوسعه أن يتجول أثناء الحرب كما يحلو له. وأن يرى جانبها المظلم.
إلى حد أنه حالما انتهت خسارة الحرب-الهزيمة الوحيدة في التاريخ العسكري للولايات المتحدة - اتهم الپنتاجون وسائل الإعلام بأنها كانت السبب الحقيقي وراء الهزيمة. وابتداءً من تلك اللحظة، تقرر عدم السماح للصحفيين بعد ذلك بتغطية المعارك. وفيما بعد عُهِدَ إلى ضباط متخصصين في الإعلام بوصف المعارك لهم بطريقتهم الخاصة.
والحرب التي جرى فيها تطبيق هذه المعايير الجديدة هي حرب جُزُر فوكلاند (مالبيناس)، في 1982. يحارب البريطانيون ضد الأرجنتينيين. ويبتكر الإنجليز مبدأ "مجموعة العمل" pool (مجموعة مختارة من الصحفيين الذين يتكفلون بنقل المعلومات التي يتلقونها إلى كل زملائهم)، وهم لا يسمحون للصحفيين بالاقتراب من الجبهة، غير أنهم يلقمونهم بمعلومات "مراقبة". وعلى هذا فإن الصيغة الإعلامية التي خدمت على أفضل وجه مصالح العسكريين في الحرب هي التي تم فرضها. وكانت حرب فوكلاند، كما سبق القول، أول حرب بلا صُوَر.
وأدار الأمريكيون غزو جرانادا في 1983 مستخدمين هذا النموذج ذاته. وكانت هذه الحرب أول حرب بلا شهود تشنها الولايات المتحدة خلال قرنين. ورفعت شبكات التليڤزيون الكبرى دعاوى قضائية أمام المحاكم ضد الپنتاجون الذي منعها من عرض هذه المعركة.
وتم استخدام نموذج جزر فوكلاند المتمثل في "الحرب بلا صُوَر" مرة أخرى عند غزو پنما في 1989، وحرب الخليج في 1991، وحرب كوسوڤو في 1999، وحرب أفغانستان في 2002.
فلماذا جرى وقف هذا التقليد الحصيف؟ كان هذا على أساس قرار من دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الصقرالمتزمت والمتصلب الذي أراد بأيّ ثمن أن يكون بوسع صحفيِّي العالم أن يشهدوا الاستقبال الحماسي الذي ينتظر قوات "التحرير" الأمريكية. وبدلا من هذا، شهد الصحفيون المنقولون، خلال عدة أيام، الغوص الغريب في الرمال ﻠ "الجيش الأكثرحداثة في العالم" واندحار قوات الصفوة.
 
الفوضى
 
بعد نهاية حرب العراق بخمسة أشهر، رأى الصحفيون الذين كانوا ما يزالون هناك الفوضى العامة تحلّ، وكانوا شهودا على عدم الكفاءة بصورة لا تصدق لقوات الاحتلال فيما يتعلق بالإدارة والخدمات العامة، كما أنه لم يكن قد تم بصورة كاملة إعادة المياه الصالحة للشرب، ولا الكهرباء، إلى حالها. وظل عدم الأمان كبيرا للغاية. وتضاعفت الهجمات ليس فقط ضد القوات الأمريكية والبريطانية - التي كانت قد تكبدت، في بداية سپتمبر 2003، قتلى منذ نهاية المعارك أكثر مما تكبدت منهم أثناء المعارك -، ولكن أيضا ضد السفارات الأجنبية، أو المقر المحلي للأمم المتحدة، أو كبار الموظفين الشيعة.
ودفعت هذه الفوضى والغياب المأساوي للإعداد للسلام عددا متزايدا من المحللين إلى التساؤل بشأن الأساليب التي يستخدمها الرئيس بوش وبطانته لإقناع الرأي العام بضرورة شن الحرب. والحقيقة أن ما اكتشفوه يصيبنا بالذهول.
 
أكاذيب الدولة
 
اكتشفوا نوعا من قصة اللص الذي يصرخ: "امسك حرامي!". أو الكاذب الذي يتهم الآخرين بالكذب. وما رأيك في العنوان الذي وضعه السيد چورچ دبليو بوش على قرار الاتهام الشهير ضد السيد صدام حسين الذي قدمه في سپتمبر 2002 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ عقد من الأكاذيب. وفيما أكده فيه مفصِّلا "الأدلة" عليه؟ سيل من الأكاذيب! العراق، كما قال إجمالا، يعقد صلات وثيقة مع شبكة القاعدة الإرهابية ويهدد أمن الولايات المتحدة لأنه يمتلك "أسلحة دمار شامل" - عبارة مرعبة لفقها مستشاروه الإعلاميون.
ونحن نعلم الآن أن هذه التأكيدات، التي كان بوسعنا أن نشك في صحتها[155]، كانت مختلقة. ومن الجلي بصورة متزايدة أن الإدارة الأمريكية تلاعبت بمعلومات بشأن أسلحة الدمار الشامل. ذلك أن الفريق الذي يتألف من 1400 مفتش في مجموعة مسح العراق التي يديرها الچنرال دايتون Dayton لم تعثر مطلقا على ظلّ لبداية دليل. ونبدأ في اكتشاف أنه، في نفس اللحظة التي كان السيد بوش يطلق فيها مثل هذه الاتهامات، كان قد تلقى بالفعل تقارير من أجهزة مخابراته تثبت أن كل هذا كان ملفقا[156]. ووفقا للسيدة جين هارمان Jane Harman، النائبة الديموقراطية لولاية كاليفورنيا، نكون إزاء "أكبر مناورة  لتسميم العقول في كل العصور"[157]. فللمرة الأولى في تاريخها، تواصل أمريكا التساؤل بشأن الأسباب الحقيقية لحرب، في حين أن المعارك قد انتهت...
وفي هذا التلاعب الهائل، لعبت بؤرة سرية في قلب الپنتاجون، مكتب الخطط الخاصة Office of Special Plans دورا رئيسيا. وقد كشف عن هذا سيمور إم هيرش Seymour M. Hersh، في مقال منشور في نيويوركر New Yorker[158]، في مايو الماضي، وكان قد تم إنشاء مكتب الخطط الخاصة بعد 11 سپتمبر 2001، على يد پول وولفوويتس، الرجل الثاني في وزارة الدفاع. وتتمثل مهمة هذا المكتب، الذي يديره "صقر" متصلب، هو السيد أبرام شولسكي Abram Shulsky، في تحليل البيانات التي تقوم بتجميعها وكالات الاستخبارات  (سي آي إيه، و دي آي إيه DIA وكالة مخابرات الدفاع، و إن إس إيه NSA وكالة الأمن القومي)، بهدف استخلاص المحصلة وإحالتها إلى الحكومة. ومعتمدا على شهادات المنفيين المقربين من المؤتمر الوطني العراقي (منظمة يمولها الپنتاجون) ورئيسه، المثير للجدل للغاية، أحمد جلبي، قام مكتب الخطط الخاصة بتضخيم شديد لتهديد أسلحة الدمار الشامل وكذلك الصلات بين السيد صدام حسين والقاعدة.
ومصدومين بهذه التلاعبات، ومعبرين عن أنفسهم تحت اسم قدماء محترفي المخابرات للاعتدال (أو: التعقل)  Veteran Intelligence Professionals for Sanity، أكدت مجموعة مجهولة من قدماء خبراء وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية، في 29 مايو، في مذكرة موجهة إلى الرئيس بوش أنه في الماضي كانت المعلومات "مزيفة بالفعل لأسباب سياسية ولكن ليس أبدا بطريقة منهجية إلى حد تضليل ممثلينا المنتخبين بغرض الحصول على التفويض بحرب"[159].
ومن الجلي أنه تم التلاعب بالسيد كولن پاول نفسه. وهو يقامر من الآن بمستقبله السياسي. وكان عليه أن يقاوم ضغوط البيت الأبيض والپنتاجون من أجل نشر المعلومات الأكثر إثارة للجدل. وقبل خطابه الشهير في 5 فبراير أمام مجلس الأمن، حرص السيد پاول على قراءة المسوَّدة التي أعدَّها السيد لويس ليبي Lewis Libby، مدير مكتب نائب الرئيس ريتشارد تشيني. وقد تضمن معلومات مشكوك في صحتها إلى حد أن السيد پاول أصيب بغضب مفاجئ، وقذف بالأوراق في الهواء وأعلن "لن أقرأ هذا. إنه من اﻟ m [المقصود فيما يبدو هو اﻟ maison أيْ البيت (الأبيض)- المترجم]..."[160]. وفي النهاية ألحَّ وزير الخارجية على أن يكون معه السيد چورچ تينيت George Tenet، مدير وكالة المخابرات المركزية،  الذي بدا جالسا وراءه مباشرة، يوم 5 فبراير، وأن يتقاسم مسئولية ما قيل.
وفي حديث لمجلة ڤانيتي فير Vanity Fair، أقرَّ السيد پول وولفوويتس بكذب الدولة. واعترف بأن قرار ادعاء تهديد أسلحة الدمار الشامل من أجل تبرير حرب استباقية  ضد العراق، تم اتخاذه "لأسباب بيروقراطية". وأضاف مدققا: "نحن متفاهمون حول نقطة، وهي أسلحة الدمار الشامل، لأنها كانت الحجة الوحيدة التي كان يمكن أن يقبل بها العالم"[161].
وعلى هذا النحو، جرى شن الحرب للإطاحة بنظام بغداد، والاستيلاء على النفط العراقي، وإعادة صياغة الأوضاع في الشرق الأوسط. ولم تكن الأسلحة والصلات مع القاعدة سوى ذرائع.
 
بلير وأثنار متواطئان
 
لقد كذب إذن رئيس الولايات المتحدة. إذ إنه، باحثا باستماتة عن ذريعة للحرب casus belli، لكي يلتف حول الأمم المتحدة، ولكي ينضم بعض المتواطئين (المملكة المتحدة، إسپانيا) إلى مشروعه في فتح العراق، لم يتردد الرئيس بوش عن تلفيق كذبة من كبرى أكاذيب الدولة.
ولم تكن الكذبة الوحيدة. فأمام مجلس العموم في لندن، في 24 سپتمبر 2002، أعلن حليفه أنتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، الذي لطخته بعد ذلك بقليل قضية كيلي Kelly: "يملك العراق أسلحة كيميائية وبيولوچية" (....) "ويمكن نشر صواريخه في غضون 45 دقيقة". وهذا ما أكده وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في يناير الماضي قائلا:"لا يعتريني أيّ شك في أن العراقيين يمتلكون أسلحة كيميائية وبيولوچية"[162]. وفي مداخلته أمام مجلس الأمن لمنظمة الأمم المتحدة، في 5 فبراير الماضي، أعلن السيد پاول: "أجرى صدام حسين أبحاثا على دزينات من المواد البيولوچية التي تسبب أمراضا مثل الغرغرينا الغازية، والطاعون، والتيفوس، والكوليرا، والجدري، والحمى النزفية". وواصل نائب الرئيس الأمريكي، السيد ريتشارد تشيني، في مارس 2003 في عشية الحرب، هذا الموقف قائلا: "إننا نعتقد أن صدام حسين قد قام، بالفعل، بإعادة بناء أسلحة نووية"[163].
وفي سياق تصريحات لا تحصى ولا تعدّ، كرر الرئيس بوش بحماس وصخب نفس الاتهامات. وفي حديث موجَّه بالبث الإذاعي إلى الأمة الأمركية، في 8 فبراير 2003، ذهب إلى حد إعلان التفاصيل التالية: "أرسل العراق خبراء في المتفجرات وفي تزييف الأوراق للعمل مع القاعدة. كما أنه أيضا قدم للقاعدة تدريبا على الأسلحة البيولوچية والكيميائية. وتم إرسال عميل للقاعدة إلى العراق مرارا في نهاية التسعينات ليساعد بغداد في الحصول على سموم وغازات".
كل هذه الإدانات، بعد أن قامت بتنقيحها وتضخيمها وسائل الإعلام الحربية الكبرى التي جرى تحويلها إلى أجهزة للدعاية، رددتها إلى حد يثير الاشمئزاز ad nauseam شبكات تليڤزيون فوكس نيوز Fox News، وسي إن إن CNN، و إم إس إن سي MSNC، والشبكة الإذاعية كلير تشانيل Clear Channel (1225 محطة في الولايات المتحدة)، وحتى صحف مثل واشنطن پوست Washington Post أو وول ستريت چيرنال Wall Street Journal. وعبر العالم، شكلت هذه الاتهامات الكاذبة الحجة الرئيسية لكل الذاهبين إلى الحرب.
وردد هذه الاتهامات أيضا كل كل حلفاء السيد بوش. ونبدأ بالأكثر حماسا بينهم، السيد خوسيه ماريا أثنار José Maria Aznar، رئيس الحكومة الإسپانية، الذي أكد في كورتيس مدريد [المجلس التشريعي الإسپاني- المترجم]، في 5 فبراير 2003: "نعرف جميعا أن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل. (...) ونعرف جميعا أيضا أنه يحتفظ بأسلحة كيميائية"[164]. وقبل ذلك بأيام، في 30 يناير، منفذا طلبا قدمه بوش، حرر أثنار إعلانا بدعم الولايات المتحدة: "رسالة الثمانية"، التي وقعها بين آخرين السادة أنتوني بلير، وسيلڤيو بيرلوسكوني، وڤاكلاڤ هاڤيل Vaclav Havel. وقد أكدوا فيها أن "النظام العراقي وأسلحة الدمار الشامل التي في حوزته تشكل تهديدا للأمن العالمي".
وأخيرا، قبل بداية الحرب بثلاثة أيام، في 16 مارس، في قمة جزر الأزور، أعلن السادة بوش، وبلير، وأثنار، ودوراون بارّوسو Duraõ Barroso (رئيس وزراء البرتغال)، أن "رفض السيد صدام حسين التخلص من قدرته النووية، والكيميائية، والبيلوچية، ومن صواريخه الطويلة المدى" فتح الطريق أمام هجوم عسكري.
 
آلات الدعاية
 
على هذا النحو، وعلى مدى أكثر من ستة أشهر، وبهدف تبرير حرب استباقية لم تكن تريدها الأمم المتحدة، ولا الرأي العام العالمي، قامت آلة حقيقية للدعاية وتسميم العقول بقيادة الجماعة المذهبية التي تحيط بالسيد بوش بنشر أكاذيب الدولة بصلف جدير بالنظم الأكثر بشاعة في القرن العشرين.
وتندرج هذه الأكاذيب في تراث طويل من أكاذيب الدولة التي كانت بمثابة علامات الطريق في تاريخ الولايات المتحدة. وتتعلق أكذوبة من أكثر أكاذيب الدولة هذه شؤما بتدمير البارجة الأمريكية "مين" Maine في خليج لا هاڤانا في 1898 وهي التي اُستخدمت كذريعة لدخول الولايات المتحدة في الحرب ضد إسپانيا وإلحاق كوبا، وپورتوريكو، والفيليپين، وجزيرة جوام.
ففي مساء 15 فبراير 1898، في حوالي الساعة التاسعة والأربعين دقيقة، كانت البارجة "مين" بالفعل ضحية انفجار عنيف. غرقت الباخرة في مرسى خليج لا هاڤانا وهلك 260 رجلا. وفي الحال، اتهمت الصحافة الشعبية الإسپان بأنهم وضعوا لغما تحت الباخرة وأدانت بربريتهم، و "معسكرات الموت" لديهم، وحتى ممارستهم لأكل لحوم البشر...
وذهب مديرا صحيفتين يتنافسان في البحث عن الخبر المثير: چوزيف پوليتزر Joseph Pulitzer، من "ويرلد" World، وبصورة خاصة ويليام راندولف هيرست William Randolph Hearst، من نيو يورك چيرنال New York Journal. وتلقت هذه الحملة الدعم المطلوب من رجال الأعمال الأمريكيين الذي استثمروا كثيرا في كوبا وحلموا بانتزاعها من إسپانيا. غير أن الجمهور لم يكد يُظهر اهتماما. ولا الصحفيون أيضا من جهتهم. وفي يناير 1898، كتب فريدريك ريمنجتون Frederick Remington، رسام نيو يورك چيرنال، من لا هاڤانا إلى مدريد: "لا توجد حرب هنا، أرجو استدعائي". وأبرق إليه هيرست بالرد: "اِبْقَ عندك. قَدِّمْ الرسومات، أقدِّمْ لك الحرب". وحينئذ حدث فجأة، في 15 فبراير، انفجار "مين". وشنّ هيرست حملة عنيفة كما نرى في المواطن كين Citizen Kane، فيلم أورسون ويلز Orson Welles (1941).
وخلال أسابيع عديدة، يوما بعد يوم، خصص صفحات عديدة من صُحفه لقضية "مين" وطالب بالانتقام مرددا بلا ملل: "Remember the Maine! In Hell with Spain!" (تذكروا "مين"! إلى الجحيم يا إسپانيا!). 
واقتفت الصحف الأخرى الأثر. وارتفع توزيع نيو يورك چيرنال في البداية من 30 ألف نسخة إلى 400 ألف نسخة، ثم تجاوز باطراد المليون نسخة! وجرت استثارة الرأي العام. وصار الجو يسوده الهذيان. ومدفوعا من كل مكان، أعلن الرئيس ويليام ماكنلي William McKinley الحرب على مدريد في 25 أبريل 1898. وبعد ذلك بثلاثة عشر عاما، في 1911، كان على لجنة تحقيق بشأن تدمير مين أن تنتهي إلى حدوث انفجار عرضي في غرفة الماكينات...[165].
وفي 1960، في خضم الحرب الباردة، وزعت وكالة المخابرات المركزية  على بعض الصحفيين "وثائق سرية" تقدم الدليل على أن السوڤييت كانوا في الطريق إلى تحقيق النصر في سباق التسلح. وفي الحال بدأت وسائل الإعلام الكبرى في الضغط على المرشحين للرئاسة والمطالبة بإلحاح بزيادة جوهرية في اعتمادات الدفاع. ومنزعجا، وعد چون إف كينيدي John F. Kennedy بتخصيص مليارات من الدولارات لإحياء برنامج بناء صواريخ كروز الباليستية (the missle gap= فجوة الصواريخ). وهذا ما كان يبغيه ليس فقط وكالة المخابرات المركزية سي آيْ إيه بل كل المجمع العسكري- الصناعي. وبمجرد انتخابه والتصويت على البرنامج، كان لا مناص من أن يكتشف كينيدي أن التفوق العسكري للولايات المتحدة على الاتحاد السوڤييتي كان ساحقا...
وفي 1964، أعلنت مدمرتان أنهما هوجمتا في خليج تونكين بطوربيديْن ڤييتنامييْن شمالييْن. وفي الحال، قام التليڤزيون، والصحافة، بتحويل ذلك إلى قضية قومية. احتجَّا على الإذلال. وطالبا بالانتقام. واتخذ الرئيس ليندون بي چونسون Lyndon B. Johnson من هذه الهجمات ذريعة لبدء القصف الانتقامي ضد ڤييتنام الشمالية. وطالب الرئيس چونسون الكونجرس بقرار يسمح له، عند الضرورة، باستخدام السلاح الأمريكي. وبدأت حرب ڤييتنام التي ما كان لها أن تنتهي - بهزيمة - إلا في 1975. وعُرف فيما بعد، من فم طاقميْ المدمرتين مباشرة، أن الهجوم في خليج تونكين كان تلفيقا خالصا...
ونفس السيناريو مع الرئيس رونالد ريجان. ففي 1985، أعلن فجأة "حالة طوارئ قومية" بسبب "التهديد النيكاراجوي" الذي يشكله الساندنيستا على السلطة في ماناجوا، والمنتخبة مع هذا انتخابا ديمقراطيا في نوڤمبر 1984، والتي تحترم في آن معا الحريات السياسية وحرية التعبير. ويؤكد ريجان مع هذا أن "نيكاراجوا على مسافة يومين بالسيارة من هارلنجن، في تكساس. إننا في خطر!". ويؤكد وزير الخارجية چورچ شولتز George Schultz، أمام الكونجرس: "نيكاراجوا سرطان تسلل إلى أرضنا، وهي تطبق مبادئ كفاحي    Mein Kampf  [الكتاب الشهير لهتلر - المترجم] ويهدد بالسيطرة على كل نصف الكرة الأرضية..."[166]. وسرعان ما بررت هذه الأكاذيب المساعدة الواسعة النطاق لحرب العصابات المضادة للساندنيستا، "الكونترا"، وقد انتهت فيما بعد إلى فضيحة إيران جيت.
ولن أسترسل في الحديث عن أكاذيب حرب الخليج في 1991، التي جرى تحليلها بكثرة[167] والمترسخة في ذاكرة الناس كنماذج للحشو الحديث للأدمغة. كما أن هناك معلومات يجري ترديدها بصورة متواصلة مثل: "العراق هو الرابع تسليحا في العالم"، "نهب الحضَّانات من قسم الولادة بمستشفى الكويت"، "الخط الدفاعي الحصين"، "الضربات الجراحية"، "كفاءة صواريخ پاتريوت"، إلخ.، تكشَّف أنها زائفة تماما.
 
التلاعب بالرأي العام
 
منذ الانتصار المثير للجدل للسيد بوش في الانتخابات الرئاسية في نوڤمبر 2000، صار التلاعب بالرأي العام شاغلا أساسيا من شواغل الإدارة الجديدة. وبعد الهجمات الشريرة في 11 سپتمبر 2001، تحوَّل هذا إلى وسواس حقيقي. ويوجز السيد مايكل كيه ديڤر Michael K. Deaver، صديق السيد رامسفيلد والمتخصص في "الحرب السيكولوچية" psy-war، الهدف الجديد على هذا النحو: "الاستراتيچية العسكرية يجب التفكير فيها من الآن وفقا للتغطية التليڤزيونية [لأنه] إذا كان الرأي العام معك، لاشيء يستطيع أن يقاومك؛ وبدونه فإن السلطة عاجزة".
وعند بداية الحرب ضد أفغانستان، بالتنسيق مع الحكومة البريطانية، تم بالتالي إنشاء "مراكز إعلامية لشئون التحالف"، في إسلام أباد، ولندن، وواشنطن. وباعتبارها بؤرا حقيقية للدعاية، قامت بتصميمها كارين هاجز Karen Hugues، المستشارة الإعلامية للرئيس بوش، وبصورة خاصة أليستير كامپبيل Alistair Campbell، المرشدة القوية النفوذ للسيد بلير في كل ما يتعلق بالصورة السياسية. وشرح ناطق باسم البيت الأبيض وظيفتها على هذا النحو: "الشبكات تواصل نشر المعلومات 24 ساعة في اﻠ 24 ساعة؛ أيْ نعم، هذه المراكز سوف تقدمها 24 ساعة في اليوم، في كل الأيام..."[168].
وفي 20 فبراير 2002، كشفت نيويورك تايمز المشروع المدهش للغاية للتلاعب بالعقول. فمن أجل قيادة "الحرب الإعلامية"، أنشأ الپنتاجون سرًّا، انصياعا لتعليمات السيد دونالد رامسفيلد ونائب وزارة الدفاع، السيد دوجلاس فيث Douglas Faith، مكتبا محاطا بالغموض للتأثير الإستراتيچي ووضعه تحت إدارة الفريق الجوي، سايمون ووردن Simon Worden، وتمثلت مهمته في نشر معلومات مزيفة تخدم قضية الولايات المتحدة. وجرى تفويض مكتب التأثير الإستراتيچي ممارسة التعتيم الإعلامي déinformation، على وجه التحديد تجاه وسائل الإعلام الأجنبية. وأوضحت الصحيفة اليومية النيويوركية أن مكتب التأثير الإستراتيچي وقع عقدا بمبلغ مائة ألف دولار في الشهرمع مجلس للاتصالات، مجموعة ريندون Rendon Group، التي جرى استخدامها من قبل في 1990 في الإعداد لحرب الخليج والتي قامت بترتيب التصريح الزائف "للممرضة" الكويتية التي أكدت فيه أنها رأت الجنود العراقيين يدكون قسم الولادة بمستشفى الكويت و "ينزعون الأطفال الرضَّع من الحضّانات ويقتلونهم بلا رحمة ويلقون بهم إلى الأرض"[169]. وكانت هذه الشهادة حاسمة لإقناع أعضاء الكونجرس بالتصويت لصالح الحرب...
ومع أنه تم حله من الناحية الرسمية، بعد ما كشفت عنه الصحافة، إلا أنه لا شك في أن مكتب التأثير الإستراتيچي ظل يعمل. وإلا فكيف يمكن أن نفسر عددا من التلاعبات الأكثر فظاعة في حرب العراق الأخيرة؟ وبصورة خاصة تلك الكذبة الضخمة المتعلقة بالتحرير الباهر للجندية چيسيكا لينتش Jessica Lynch.
 
قضية چيسيكا
 
نتذكر أنه، في بداية أبريل 2003، نشرت وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، بفيض مؤثر تفاصيل من تاريخها. كانت چيسيكا ضمن عشرة جنود أمريكيين أسرتهم القوات العراقية. وبعد أن وقعت في كمين في 23 مارس، قاومت إلى النهاية، وظلت تطلق النار على مهاجميها إلى أن نفدت ذخيرتها. وفي النهاية قاموا بطعنها، وتكتيفها، واقتيادها إلى مستشفى في منطقة معادية، في الناصرية. وهناك، ضربها وأساء معاملتها ضابط عراقي. وبعد هذا بأسبوع، نجحت قوات خاصة أمريكية محمولة على الهليكوپتر في تحريرها في سياق عملية مفاجئة، سبقتها نيران كثيفة وانفجارات. ورغم مقاومة الحراس العراقيين، نجح الكوماندوز في التسلل إلى داخل المستشفى، وأخذ چيسيكا، ونقلها بطائرة هليكوپتر إلى الكويت.
وفي المساء نفسه، أعلن الرئيس بوش إلى الأمة، من البيت الأبيض، تحرير چيسيكا لينتش. وبعد ثمانية أيام، قدَّم الپنتاجون لوسائل الإعلام شريط ڤيديو تم تصويره أثناء هذا العمل الباهر بمشاهد جديرة بأفضل أفلام الحرب.
غير أن القتال في العراق انتهى في 9 أبريل، وذهب عدد من الصحفيين - وبصورة خاصة صحفيون من لوس أنچيليس تايمز Los Angeles Times، وتورونتو ستار Toronto Star، و إﻟ پاييس El Páis، وشبكة بي بي سي ويرلد BBC World  - إلى الناصرية للتحقق من رواية الپنتاجون بشأن تحرير چيسيكا. وأصيبوا بالذهول. ووفقا لاستقصائهم لدى الأطباء العراقيين الذين قدموا الرعاية الطبية للفتاة - ولما أكده الدكاترة الأمريكيون الذين كشفوا على صدرها بعد تخليصها -، لم تكن إصابات چيسيكا (كسر ذراع وساق، وخلع عرقوب) بسبب إطلاق النار من الأسلحة بل كانت ناتجة ببساطة عن حادث العربة التي كانت تركبها... كما أنه لم تجر إساءة معاملتها. وعلى العكس، بذل الأطباء كل ما كان في وسعهم لتقديم أفضل رعاية طبية لها. وكما يروي الدكتور سعيد عبد الرازق : "كانت قد فقدت كثيرا من الدم وكان علينا أن نعمل لها نقل دم. ولحسن الحظ كان بعض أفراد أسرتي من نفس فصيلة دمها. فصيلة O الإيجابي O positif. فاستطعنا أن نحصل على الدم بكمية كافية. وكان نبضها قد ارتفع إلى 140 عندما وصلت إلى هنا. وأعتقد أننا أنقذنا حياتها"[170].
لقد حاول هؤلاء الأطباء - معرِّضين أنفسهم لمخاطر بالغة - الاتصال بالجيش الأمريكي لتسليم چيسيكا. وقبل يومين من تدخل قوات الكوماندوز الخاصة، وصلوا إلى حد الوصول بمريضتهم في سيارة إسعاف إلى مكان قريب من الخطوط الأمريكية. غير أن الجنود فتحوا النار عليهم وأردوْا بطلتهم ذاتها قتيلة.
وفاجأ وصول قوات الكوماندوز الخاصة المجهزة بمجموعة مذهلة من الأسلحة المعقدة، قبل مطلع النهار، في يوم 2 أبريل، العاملين بالمستشفى. فقبل ذلك بيومين، كان الأطباء قد أخبروا القوات الأمريكية بأن الجيش العراقي قد انسحب وأن چيسيكا في انتظارهم...
وروى الدكتور أنمار عُدَيّ المشهد على چون كامپفنر John Kampfner من بي بي سي: "كان أشبه بفيلم من هوليوود. ولم يكن هناك أيّ جندي عراقي غير أن القوات الأمريكية الخاصة استخدمت أسلحتها. كانوا يطلقون طلقات فارغة وكنا نسمع أصوات انفجارات. وكانوا يصرخون: وكان الهجوم على المستشفى نوعا من العمل الاستعراضي، أو فيلم إثارة ﻟ سيلڤستر ستالوني Sylvester Stallone"[171].
وقد سجَّل هذه المشاهد بكاميرا مشاهدة ليلية مساعد قديم ﻠ ريدلي سكوت Ridley Scott في فيلم "سقوط الصقر الأسود" (2001). ووفقا ﻠ روبرت شير Robert Scheer، من لوس أنچيليس تايمز، سرعان ما تم إرسال هذه الصُّوَر، من أجل المونتاچ، إلى القيادة المركزية للجيش الأمريكي، في قطر، وبمجرد أن قام الپنتاجون بمراقبتها، تم نشرها في العالم أجمع[172].
وستبقى قصة تحرير چيسيكا لينتش في حوليات دعاية الحرب. وفي الولايات المتحدة، قد يجري النظر إليها على أنها اللحظة الأكثر بطولية في هذا الصراع المسلح. حتى إذا كان قد اتضح أن الأمر يتعلق بتلفيق زائف مثل "أسلحة الدمار الشامل" التي يمتلكها السيد صدام حسين أو مثل العلاقات بين النظام السابق والقاعدة.
ولأنهم مهووسون بالسلطة، خدع السيد بوش وبطانته المواطنين الأمريكيين والرأي العام العالمي. وتشكل أكاذيبهم، وفقا للبروفيسور پول كروجمان Paul Krugman، "الفضيحة السياسية الأسوأ للولايات المتحدة، الأسوأ من ووتر جيت، الأسوأ من إيران جيت"[173].
 
مراجع Références
 
 
ACHKAR Gilbert, La Nouvelle guerre froide. Le monde après le Kosovo, Paris. PUF, 1999.
AGUIRRE Mariano et RAMONET Ignacio, Rebeldes, dioses y excluidos, Barcelone, Icaria, 1998.
BADIE Bertrand et SMOUTS Marie-Claude, Le Retournement du monde. Sociologie de la scène internationale, Paris, Presses de Sciences Po et Dalloz, 1999.
BALENCIE Jean-Marc et DE La GRANGE Arnaud, Mondes Rebelles. Acteurs, conflits et violences politiques (2 vol.), Paris, Michalon, 2001.
BAUDRILLARD Jean, L esprit du terrorisme, Paris, Galilée, 2002.
BISHARA Marwan, Palestine/Israël. La paix ou l apartheid?, Paris, La Découverte, 2001.
BONIFACE Pascal, Les Guerres de demain, Paris, Le Seuil, 2001.
BORÓN Atilio, Tras el buho de Minerva. Mercadocontra democracia en el capitalismo de fin de siglo, Nuenos Aires, Clasco, 1999.
CHALIAND Gérard, Les stratégies du terrorisme, Paris, Desclée de Brouwer, 1999.
CHOSSUDOVSKY Michel, La Mondialisation de la pauvreté, Montréal, Ecosociété, 1998.
DAVID Charles-Philippe, La Guerre et la Paix. Approches contemporaines de la sécurité et de la stratégie, Paris, Presses de Sciences Po, 2000.
ENGELHARD Philippe, La Troisième guerre mondiale est commencée, Paris, Arléa, 1997.
GEORGE Susan et WOLF Martin, LA Mondialisation libérale, Paris, Grasset, 2002.
GOLDSMITH Edward et MANDER Jerry (dir.), Le Procès de la mondialisation, Paris, Fayard, 2001.
GRET Marion et SINTOMER Yves, Porto-Alegre. L espoir d une autre démocracie, Paris, La Découverte, 2002.
HEISBOURG François, Hyperterrorisme: la nouvelle guerre, Paris, Odile Jacob, 2001.
KLARE Michael T. et LUMPE Lora, World Security. Challenges for a New Century, New York, St. Martin s Press, 1998.
LACOSTE Yves (dir.), Dictionnaire géopolitique des États, Paris, Flammarion, 1994.
LANXADE Jacques, Quand le monde bascule, Paris, Nil, 2001.
MOREAU DEFARGES Philippe, UN monde d ingérences, Paris, Presses de Sciences Po, 1997.
RAMONET Ignacio, Géopolitique du chaos, Paris, Galilée, 1997.
RAMONET Ignacio, Marcos, la dignité rebelle, Paris, Galilée, 2001.
SEOANE José et TADDEI Emilio, Resistencias mundiales. De Seatle a Porto Alegre, Buenos Aires, Clasco, 2000.
TAGUIEFF Pierre-André, L effacement de l avenir, Paris, Galilée, 2000.
TOFFLER Alvin et TOFFLER Heidi, Guerre et contre-guerre. Survivre à l aube du XXIe siècle, Paris, Fayard, 1994.
VIRILIO Paul, L Insécurité du territoire, Paris, Galilée, 1993.
VIRILIO Paul, Ce qui arrive, Paris, Galilée, 2002.
WALZER Michael, Guerres justes et injustes, Paris, Belin, 1999.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المحتويات
 
    الوجه الجديد للعالم   .......................................................
    11 سپتمبر 2001: الحرب العالمية ضد الإرهاب  .........................
    الشرق الأوسط: حرب المائة عام الجديدة   ...................................
    العولمة/ مناهضة العولمة: الحرب الاجتماعية الكوكبية  .....................
    حرب كوسوڤو والنظام العالمي الجديد  .....................................
    النظام الإيكولوچي في خطر: مخاوف وأخطار جديدة  ......................
    في سبيل تغيير العالم  ......................................................
 
ملحق خاص
للطبعة العربية
 
   الإمبراطورية ضد العراق  ..................................................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
للمؤلف
 
عن
 
Éditions Galilée
 
GÉOPOLITIQUE DU CHAOS, 1997.
LA TYRANNIE DE LA COMMUNICATION, 1999.
PROPAGANDES SILENCIEUSES. Masses, télévision, cinéma, 2000.
MARCOS. La dignité rebelle, 2001.
GUERRES DU XXIe SIÈCLE. Peurs et menaces nouvelles, 2002.
 
عن
 دور نشر أخرى
 
LA COMMUNICATION VICTIME DES MARCHANDS, La Découverte, 1989.
COMO NOS VENDEN LA MOTO (avec Noam Chomsky), Barcelone Icaria, 1995.
NOUVEAUX POUVOIRS, NOUVEAUX MAÎTRES DU MONDE, Montréal, Fides, 1996.
 
 
 
 
 
ببليوجرافيا خليل كلفت
 
تأليف
* نشر العديد من المقالات والكتب فى مجالات النقد الأدبى واللغة والسياسة والفكر وله الكتب التالية:
النقد الأدبى واللغة:
1: النموذج الثورى فى شعر عبد الوهاب البياتى، (بالاشتراك فى عمل جماعى) بغداد، الطبعة الأولى، 1972.
2: خطوات فى النقد الأدبى، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2005.
3: معجم تصريف الأفعال العربية، (بالاشتراك مع حسن بيومى وأحمد الشافعى) دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
4: من أجل نحو عربى جديد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009.
السياسة والفكر:
1: القرن الحادى والعشرون: حلم أم كابوس؟، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2007.
* نشر (باسم قلم: صالح محمد صالح) العديد من المقالات والكتب فى مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر، ومن كتبه باسم القلم المذكور:
1: الإقطاع والرأسمالية الزراعية فى مصر - من عهد محمد على إلى عهد عبد الناصر [الاسم الأصلى للكتاب: تطور الرأسمالية الزراعية فى مصر قبل 1952]، دار ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى، 1979.
2: حول أسلوب الإنتاج الآسيوى، سلسلة دليل المناضل فى النظرية، الطبعة الأولى، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.
ترجمة:
 *  نشر فى الصحف والمجلات المصرية والعربية عشرات المواد المترجمة فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والفكر والسياسة وقصص الأطفال، وله الكتب المترجمة التالية:
أدب:
1: ماشادو ده أسيس: السراية الخضراء (رواية قصيرة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991، [عن الإنجليزية].
2: ماشادو ده أسيس: دون كازمورّو (رواية)،
ا: الطبعة الأولى، 1991، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية، 2012، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
3: خ. ل. بورخيس: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية)، ا: الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
4: مجموعة من الكتاب البرازيليين: قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق)، إبداعات عالمية، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 2000، [عن الإنجليزية].
5: مجموعة من الكتاب: آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية، سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، [عن الإنجليزية].
6: ماشادو ده أسيس: حكاية سكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009، [عن الإنجليزية].
أدب الأطفال والناشئة:
1: ريتا جولدن چيلمان: شخابيطو تشخبط (قصة مصورة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإنجليزية].
2: آنا ماريا روميرو يبرا: دينو، الديناصور [Ufito, el dinosaurio]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإسپانية]. 
3: ميكيل بالبيردى: ملك الغابة [El rey de la selva]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإسپانية].
4: آنى جروڤى، تيمور والتعبيرات، (بالاشتراك مع هويدا نور الدين)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2006، [عن الفرنسية].
5: برنار كلاڤيل: أساطير البحر، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، [عن الفرنسية].
6: برنار كلاڤيل: أساطير الجبال والغابات، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، [عن الفرنسية].
7: برنار كلاڤيل: أساطير البحيرات والأنهار، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، [عن الفرنسية].
نقد أدبى:
1: يورى كارياكين: دوستويڤسكى - إعادة قراءة، كومبيونشر للدراسات والإعلام والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، [عن الإنجليزية].
2: پول ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة: حول رواية دون كازمورّو، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998، [عن الإنجليزية].
3: مجموعة من الكتاب: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، [عن الإنجليزية].
4: بياتريث سارلو: بورخيس: كاتب على الحافة، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004، [عن الإنجليزية].
5: ماريا تيموسكو: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى: ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].      
فكر سياسى واقتصادى وفلسفى:
1: وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب - جلسة بشأن أرتريا، ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا، الطبعة الأولى، پاريس، 1985، [عن الإنجليزية والفرنسية].
2: سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، ا: الطبعة الأولى، 1992، [عن الفرنسية].
ب: (طبعة ثانية، المغرب، ؟!).
3: توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995، [عن الفرنسية].
4: راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995، [عن الفرنسية]. 
5: كريس هارمان: العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتى)، دار النهر، القاهرة،
ا: الطبعة الأولى، 1995، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية بعنوان: انهيار النموذج السوڤييتي- الأسباب والنتائج، المشروع القومى للثقافة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010.  
6: فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها - وجهة نظر ماركسية، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،
ا: الطبعة الأولى، 2000، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية، المشروع القومى للترجمة، 2004،. 
7: فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد (بالتعاون مع منظمة اليونسكو؛ بالاشتراك مع على كلفت)، دار النهار للنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2002، [عن الفرنسية].
8: إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادى والعشرين : مخاوف وأخطار جديدة،
ا: الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005 ، [عن الفرنسية].
ب: الطبعة الثانية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006.
9: إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الحياة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
10: إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الثقافة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
11: نخبة من المؤلفين: تحولات عالمية عند منعطف القرن: دراسات ومقالات سياسية واجتماعية واقتصادية، دار هفن، القاهرة، 2008، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية والفرنسية].
12: چوزيف ستيجليتز و أندرو تشارلتون: تجارة عادلة للجميع، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، (بالتعاون مع مشروع "كلمة")، القاهرة، 2009، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].
13: ألكسى دو توكڤيل: النظام القديم والثورة الفرنسية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
14: بى. سى. سميث: كيف نفهم سياسات العالم الثالث، نظريات التغيير السياسىّ والتنمية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].
معاجم:
1: الياس–هاراب القاموس التجارى إنجليزى-عربى، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996، [عن الإنجليزية].
2: چيرار سوسان و چورچ لابيكا: معجم الماركسية النقدى (بالاشتراك فى ترجمة جماعية)، دار محمد على للنشر، صفاقس، تونس، و دار الفارابى ، بيروت (بالتعاون مع منظمة اليونسكو)، الطبعة الأولى، 2003، [عن الفرنسية].
مراجعة و/أو تقديم:
1: (مراجعة) تونى كليف: رأسمالية الدولة فى روسيا، ترجمة عمر الشافعى، مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998، [عن الإنجليزية]. 
2: (مراجعة وتقديم) هاوارد كايجل وآخرون: أقدم لك ... ڤالتر بنيامين، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005، [عن الإنجليزية].
3: (مراجعة) چن دى: الترجمة الأدبية - رحلة البحث عن الاتساق الفنى: ترجمة: محمد فتحى كلفت، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009، [عن الإنجليزية].
4: (تقديم) وولتر إمرى: مصر وبلاد النوبة، ترجمة: تحفة حندوسة، مراجعة: عبد المنعم أبوبكر، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، سلسلة ميراث الترجمة، القاهرة، 2008، [عن الإنجليزية].
5: كريس هارمان: إنجلس وأصل المجتمع البشرى، ترجمة: هند خليل كلفت، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، [عن الإنجليزية].
 
يصدر له قريبا:
تأليف:
 
السياسة والفكر:
2: ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها، دار ميريت
 
النقد الأدبى واللغة:
5: الازدواج اللغوى فى العالم العربى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
ترجمة:
فكر سياسى واقتصادى وفلسفى:
15: أندرو ڤنسنت: الأيديولوچيات السياسية الحديثة، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، [عن الإنجليزية].
أدب:
7: ساندرا سيسنيروس: بيتنا فى شارع المانجو، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، (رواية)، [عن الإنجليزية].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 


 
كلمة الغلاف
 
 
من الآن فصاعدا صار شبح الكوارث يلاحق العالم من جديد. وتنتمي هذه الكوارث بصورة أساسية إلى مجموعتين. من جهة، أزمات جغرافية-سياسية من نوع جديد يفجرها الإرهاب الفائق، والنزعة القومية المتطرفة، والأصوليات. ومن جهة أخرى، التعديات على النظام الإيكولوچي وهي ماثلة في صميم الكوارث الطبيعية أو الصناعية البالغة الضخامة. والسؤال: كيف نتفادى هذه الأخطار الجديدة التي تهدد، في نهاية المطاف، بقاء البشرية؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
إشارات
 


[1] International Herald Tribune, 7 janvier 2002.
[2]   يمكن على أيّ حال أن نتوقع أن تحتفظ الولايات المتحدة بقواتها في أفغانستان لفترة طويلة. وقد أكد چورچ دبليو بوش، في نهاية ديسمبر 2001، أن القوات الأمريكية التي تخوض العمليات ضد شبكة القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن سوف تبقى هناك "فترة طويلة بما يكفي" ولن يتم سحبها قبل أن يؤكد لها قائد العمليات، الجنرال توم فرانكس Tom Franks، أن مهمتها قد أنجزت. وقال السيد بوش: "لا أعرف متى سنرحل، غير أن هذا لن يكون قبل إنهاء المهمة" (Le Monde, 30 décembre 2001).
[3]   ذهبت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة للرئيس كلينتون، إلى حدّ التأكيد، على سبيل المثال، أن: "شبكة CNN هي العضو السادس في مجلس الأمن للأمم المتحدة".
 
[4]   قيمة الإنتاج الكلي (السلع والخدمات) لبلد.
[5] Cf. Ignacio Ramonet, La Tyrannie de la communication, Paris, Galilée, 1999, Gallimard, coll. "Folio Actuel", n° 92, 2001. 
 
  [6]  Cf. "Ravages des technosciences", Manière de voir, n° 38, mars-avril 1998.
  
[7] Cf. Riccardo Petrella, Économie sociale et mondialisation de l économie, Suco éditeur (3680, rue Jeanne-Mance, Montréal, Québec, H 2X 2K5), 1997.
 
[8] Kris Dechouwer, "Unité et diversité de l extrême droite européenne", Politique,
n° 21, sur l "Extrême droite en Europe", Bruxelles, novembre 2001; cf. aussi Gilles Ivaldi (dir.), "L extrême droite en Europe occidentale", Problèmes politiques et sociaux, n° 849, Paris, La Documentation française, 22 décembre 2000.
 [9] Le Monde, 13 avril 1996.
[10]   هذان الحزبان يضمان أشخاصا ذوي عقليات مختلفة: كاثوليك، تقليديين، ڤيشيين vichystes، أعضاء قدماء من منظمة الجيش السري OAS من أنصار الجزائر الفرنسية، ملكيين، عنصريين، وثنيين، إلخ.
[11]  Cf. Mark Hunter, Un Américain au Front. Enquête au sein du FN, Paris, Stock, 1998.
 
[12]  Le Monde, 30 décembre 2001.  
[13]  Sofres, L État de l opinion 1991, Paris, Le Seuil, 1991.
[14]  Libération, 20 mars 1998.
[15]  Cf. Klaus Mann, Le Tournant, tr. N. Roche, Paris, Solin, 1984, p. 329 sq., Paris, 10/18, 2001.
 
[16]   في فرنسا، نجحت حكومة "اليسار التعددي" بقيادة ليونيل چوسپان في تشريع بعض القوانين الاجتماعية الكبرى التي تمثل بلا جدال منجزات اجتماعية: توظيفات الشباب، أسبوع اﻟ 35 ساعة، التأمين الصحي الشامل CMU، والمخصص الشخصي للاستقلال APA.
[17]  Cf. Roland Hureaux, "Les trois âges de la gauche", Le Débat, janvier 1999.   
[18] Cf. Pierre Bourdieu, "L essence du néolibéralisme", Le Monde diplomatique, mars 1998; cf. aussi, du même auteur, "Le néolibéralisme , utopie (en voie de réalisation) d une exploitation sans limites" dans Contre-Feux, Paris, Liber-Raison d Agir, vol. 1998.
[19]   وحدها حركات التعليم الشعبي (رابطة التربية Ligue de l enseignement، نوادي ليو-لاجرانچ Foyers Léo-Lagrange، النوادي الريفية Foyers ruraux، إلخ.) تملك، مثل الأحزاب، رؤية شاملة: رؤية التعليم للمواطنة.
[20] Cf., Alain Greish, Israël, Palestine. La vérité sur un conflit, Paris, Fayard, 2001.
 
[21] La Repubblica, Rome, 18 septembre 2001.
[22] El mundo, Madrid, 29 septembre 2001.
 
[23] Cité par Jean-Claude Buisson dans Emmanuel de Waresquiel (dir.), Le Siècle rebelle. Dictionnaire de la contestation au XXe  siècle, Paris, Larousse, 1999.
 
[24] El Pais, Madrid, 10 novembre 2001.
[25]  Le Monde, 30 novembre 2001.
[26] International Herald Tribune, 1er décembre 2001.
[27]   في بداية يناير 2002، تم ترحيل مئات المشتبهين، المتهمين بالانتماء إلى منظمة القاعدة، وبأنهم قاتلوا إلى جانب طالبان، إلى القاعدة الأمريكية ، جوانتانامو، في جزيرة كوبا.
[28]  Cf. Newsweek, 5 novembre 2001.
[29] Cité par El Pais, 7 novembre 2001.
 
[30] Le Monde, 14 décembre 2001.
[31] Cf. François Heisbourg, Hyperterrorisme: la nouvelle guerre, Paris, Odile Jacob, 2001. Cf. aussi Pascal Boniface, Les Guerres de demain, Paris, Le Seuil, 2001.
[32]  كيف لا نسأل أنفسنا، بعد 11 سپتمبر، عما إذا كان من المعقول أن نواصل بناء الإيرباص العملاق في المستقبل، إنه انحراف إيكولوچي، نعرف أنه سيمثل بين يديْ طيار مجنون، سلاحا جنونيًّا؟
 
[33]  تعلمنا فضلا عن هذا، في هذه المناسبة، أنه لا المحطات النووية ولا السدود مبنية بعد اختبار مقاومتها للطائرات المفخخة...
[34]  فهمت واشنطن بسرعة ضخامة التحدي وسعت إلى القيام برد انتقامي  - في رأينا برعونة - فارضة الحظر على إظهار جثث الضحايا، لكي لا يُقدَّم إلى مخططي الاعتداء لذة تأمُّل الجانب الأكثر مأساوية لانكشاف أمريكا للهجوم.       
[35]  إلى حد أن مجلة تايم Time كانت قد فكرت في اختيار أسامة بن لادن، "رجل عام 2001" - وهذا ما أثار استنكار أمريكا المتمسكة بالامتثالية - قبل الانتهاء إلى اختيار عمدة نيويورك، رودولف جيولياني Rudolph Giuliani...
[36]  Cf. Ignacio Ramonet, La Tyrannie de la communication, op. cit. , et en particulier le chapitre "Messianisme médiatique".
[37]   إشارة إلى مصور فلمنكي اشتهر باسم مابوز 1478-6/ 1533 (؟) وكانت حياته المبكرة مجهولة قبل شهرته بعد 1507 ودوره في الفن الهولندي - المترجم.
 [38]  Le Monde, 3 novembre 2001. 
[39]  قاعدة پيرل هاربور، التي هوجمت في 7 ديسمبر 1941، تقع في هاواي، التي كانت ما تزال مستعمرة للولايات المتحدة.
[40] Cf. Paul-Marie de La Gorce, "Controverses à Washington", Le Monde diplomatique, novembre 2001.   
 
[41] International Herald Tribune, 21 novembre 2001.
[42]  Ibid., 24 novembre 2001.
[43] Ibid., 7 janvier 2002.
 
[44] Ibid.,  24 novembre 2001.
[45]  أعلن فريموت دوڤ Freimut Duve، ممثل حرية الصحافة لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروپا: "توقفت سيادة القانون للحظة بعد 11 سپتمبر في الولايات المتحدة وفي أوروپا". Le Monde, 7 novembre 2001. Cf. aussi Patti Waldmeir et Brian Groom, "In liberty s name", Financial Times, Londres, 21 novembre 2001.
[46] International Herald Tribune, 21 novembre 2001.
[47] Cf. entre autres, l entretien avec Kofi Annan, Le Figaro, 5 novembre 2001; Financial Times, Londres, 21 novembre 2001; El Pais, Madrid, 19 novembre 2001; et l entretien avec Joseph E. Stiglitz, nouveau Prix Nobel d économie, Le Monde,  6 novembre 2001.   
[48] Cf. Ignacio Ramonet, Géopolitique du chaos, Paris, Galilée, 2000, Gallimard, coll. "Folio Actuel", n° 67, 2001. 
 
 
[49]    أدانت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إسرائيل، في 19 أكتوبر 2000، على "استخدام غير متناسب للقوة ضد المدنيين الأبرياء والعزل" ووصفت سلوك القوات الإسرائيلية ضد السكان المدنيين الفلسطينيين بأنه "جريمة حرب".
[50] Cf. Alain Joxe, "Israël entre en guerre civile", Le Monde, 19 octobre 2000.
[51]    تراجع نصيب الفرد في السنة من الناتج القومي الإجمالي بوضوح، منتقلا من 2245 دولار في عام 1992 إلى 1940 دولار في 1999. وكان عدد العاطلين عن العمل يمثل في 1999، 19.7٪ من السكان العاملين في الضفة الغربية و 27.3٪ في قطاع غزة، ولكن يضاف إليهم ما يصل إلى ثلث السكان العاملين في حالة إغلاق المدن من جانب الجيش الإسرائيلي....
[52] وفقا لاستطلاع معهد جالوب الذي نشرته جريدة معاريف بتاريخ 5 نوڤمبر 2001، أيد 53٪ من الإسرائيليين التفاوض على تسوية نهائية. Cf. Dominique Vidal, "La clé palestinienne", dans Manière de voir, n° 60, "11 septempre 2001: Ondes de choc", novembre-décembre 2001.
[53] Haaretz, Tel-Aviv, 25 janvier 1998.
[54]  من المأساوي ومن المفارقات أن تكون إسرائيل، اليوم، المكان الأخير في العالم الذي يُقتل فيه اليهود بسبب يهوديتهم.
 
[55] Cf. Dominique Vidal, Le Péché originel d Israël. L expulsion des Palestiniens revisitée par les "nouveaux historiens" israéliens, nouv. éd. Augmentée, Paris, L Atelier, 2002.
 
[56] Alexis de Tocqueville, L Ancien Régime et la Révolution, Paris, Gallimard, coll. "Bibliothèque de la Pléiade", 1991.  
[57] Cf. Éric Rouleau, "En Iran, islam contre islam", Le Monde diplomatique, juin 1999.
 
[58] Cf. Alain Gresh, Israël-Palestine. La vérité sur un conflit, op. cit.
 
[59] Ilan Pappé, The Making of the Arab-Israeli Conflict, 1947-1951, New York, I. B. Tauris, 1992.
[60] Le Monde, 9 janvier 2001.
[61] Ibid. , 29 décembre 2000.
[62] Cf. aussi Alain Gresh, "Proche-Orient, la paix manquée" et "La proposition israélienne sur les réfugiés palestiniens à Taba", Le Monde diplomatique, septembre 2001.
[63]  Jeane Afrique, 24 février 1998.
[64] Le Monde, 16 février 1997.
[65] Ibid., 27 septembre 1996.
 
[66]  حول هذا الملف يبدو أن وسواسا عن التوازن، المساواة في المعاملة، استحوذ على وسائل الإعلام الكبرى، في حين أن القاعدة الراسخة خلال حروب الخليج، ورواندا، والصومال، والبوسنة، وكوسوڤو، والشيشان، وأفغانستان، تمثلت في مبدأ المانوية manichéisme الأكثر أولية: "صدام حسين، هو هتلر"؛ أو "ميلوسيڤيتس، هو هتلر". وبقدر ما كانت هذه المانوية مذمومة منذ عهد قريب، فإن وجود التوازن، في وضع مختل التوازن بكل جلاء حيث التفوق العسكري لإسرائيل ساحق من جميع النواحي بالمقارنة مع الفلسطينيين، غير معقول. ويذكرنا هذا بتأمل لچان-لوك جودار Jean-Luc Godard: "النقاش الديمقراطي يلوث الشرف عندما يُفهم على هذا النحو: دقيقة لهتلر، ودقيقة لليهود".
[67] Le Monde, 8 novembre 2000.
[68] Cf. Gilles Paris, "La Palestine en miettes", Le Monde, 20 octobre 2000.
 
[69] Edward w. Saïd, "Israël-Palestine: pour une troisième voie", Le Monde diplomathque, août 1998.
[70]  شوواه Shoah: كلمة عبرية تعني الإبادة والمقصود بها الهولوكوست والإبادة الجماعية النازية لليهود في أوروپا أثناء الحرب العالمية الثانية - المترجم.
 
 
[71] David S. Landes, L Europe technicienne, Paris, Gallimard, 1975, p. 214.
 
[72]  Cf. Ignacio Ramonet, La Tyrannie de la communication, op. cit.
 
[73] Business Week, 14 février 2000.
[74] Le Monde, 12 mars 2000.
 
[75] Le Monde, 3 janvier 2002.
[76] Cf. André Gorz, Misères du présent, richesse de l avenir, Paris, Galilée, 1997.
[77] Cf. François Chesnais, La Mondialisation du capital, nouv. éd. augmentée, Paris, Syros, 1997.
 
[78] Libération, 15 octobre 1997.
[79]  هذا لتفادي الاتهام بتحبيذ إعادة إنشاء "احتكارات طبيعية" الذي وجهته بصراحة حكومة الولايات المتحدة، في 18 مايو 1998، ضد شركة مايكروسوفت، التي يديرها بيل جيتس Bill Gates، لانتهاكها لتشريع مكافحة الاحتكارات. 
[80] François Chesnais, La Mondialisation du capital, op. cit., p. 251.
[81] Ibid., p. 253.
[82] Louis Villermé, Tableau de l état physique et moral des ouvriers… [1840], Paris, Edhis, 1989.
[83] Cité par Jacques Droz dans Histoire générale du socialisme, Paris, PUF, coll. "Quadrige", 1997, t. I, p. 369.
[84] Karl Marx, Manifeste du parti communiste, Paris, UGE, coll. "10-18", 1962, p. 42 et 46.
 
[85] Cf. Claire Brisset, Un monde qui dévore ses enfants, Paris, Liana Lévi, 1997.
[86] Cf. Bernard Schlemmer, L Enfant exploité, Paris, Khartala, 1996; cf. aussi le dossier "L Enfant exploité ", Page 2, n° 2, Lausanne, juin 1996.
 
[87] Rapport mondial sur le développement humain 1997, Paris, Economica, 1997. 
[88] Cf. Mahbub Ul Haq, Inge Kaul, Isabelle Grunberg, The Tobin Tax: Coping with Financial Volatility, Oxford, Oxford University Press, 1996.
 
[89]  لكل الاستعلامات، استشرْ موقع هذا المنتدى. .org.brwww.forumsocialmundial
[90] Cf. le dossier "Coment l OMC fut vaincue, Le Monde diplomatique, janvier 2000.
[91] International Herald Tribune, 2 février 2000.
[92] Joseh S. Nye Jr, "Take Globalization Protests Seriously", ibid., 25 novembre 2000.
[93] Cité par Jean-Paul Maréchal dans Humaniser l économie, Paris, Desclée de Brouwer, 2000, p. 22.
[94] Cf. Miguel Benasayag et Diego Sztulwark, Du contre-Pouvoir, Paris, La Découverte,2000.
[95] Cf. Bernard Cassen, "Démocratie participative à Porto Alegre", Le Monde diplomatique, août, 1998.
[96]  انظر، الوثيقة الكاملة لاتفاقية رامبوييه(بالإنجليزية) على موقع الإنترنت الخاص ﺒ لوموند ديپلوماتيك Monde diplomatique: http://www.monde-diplomatique.fr  و،على وجه التحديد، p. 7-27. 
[97] Cf. Richard Holbrooke, "El mayor fracaso colectivo de Occidente", Politica exterior, Madrid, janvier-février 1999.
[98] Cf. Catherine Samary, "La résistible dislocation du puzzle yougoslave", Le Monde diplomatique, juillet 1998.
[99] Warren Zimmermann, Origins of the Catastrophe. Yugoslavia and its Destroyers, New York, Times Books, 1996.
[100] Noel Malcolm, Bosnia: A Short History, New York, New York University Press, 1994. 
 
[101] International Herald Tribune, 18 mai 1999.
[102] Le Figaro, 3 mai 1999.
 
[103] Cf. Ignacio Ramonet, La Tyrannie de la communication, op. cit.
[104]  Cf. William Branigin, "US Details Serb Terror in Kosovo", International Herald Tribune, 12 mai 1999.
[105] إعدام لينتشي lynchage: إعدام بلا محاكمة تشبيها بقانون الإعدام بلا محاكمة المنسوب إلى القاضي الأمريكي لينتش Lynch - المترجم.
[106] Cf. Régis Debray, "Une machine de guerre", Le Monde diplomatique, juin 1999.
 
[107] Cf. entre autres, Edgar Morin, "Le désastre", Le Monde, 23 avril 1999; François Maspero, "Kosovo: le crime annoncé", Le Monde, 24 avril 1999; Jean Daniel, "Le sens d un combat", Le Nouvel Observateur, 22 avril 1999.
[108] Le Monde, 25 mars 1999.
[109] Ibid., 19 février 1999.
[110] Cf. William Pfaff, "What good is NATO if America intends to go it alone?", International Herald Tribune, 20 mai 1999.
[111] Ibid.
[112] William J. Perry, "La construction d alliances par le leadership global et la dynamique d enlargement" (discours du 4 mars 1996), cahiers d études stratégiques, n° 20, Paris, printemps 1997.
[113] Cf. Jean Radvanyi, "Sale guerre en Tchétchènie", Manière de voir, n° 49, "L Atlas 2000 des conflits", janvier 2000.
[114] Le Monde, 22 mai 1999.
[115]  الصراعات الثلاثة التي تواجهت فيها، في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، روما وقرطاجة.
 
[116]  وأخيرا، كما نعلم، سمح القضاء البريطاني، لأسباب صحية، للچنرال پينوتشيت بالعودة إلى بلاده حيث حوكم في نهاية المطاف.
[117] Alain Joxe,"Le nouveau statut des alliances dans la stratégie américaine", cahiers d études stratégiques, n° 20, Paris, printemps 1997.
[118]  تقررت باتفاقيات بون، قوة دولية للمساعدة على استتباب الأمن (FIAS)، تتألف من عسكريين ينتمون إلى سبعة عشر بلدا، يصل إجماليها إلى 3500 رجل تمركزت في البداية في كابول والمناطق المحيطة بها، وبهدف نشرها في كل أفغانستان.
[119]  تحبذ فرنسا، وروسيا، والصين، لأسباب إنسانية، رفعٍ الحظر الذي قررته الأمم المتحدة، غير أن العضوين الدائمين الآخرين في مجلس الأمن - الولايات المتحدة والمملكة المتحدة - تعارضان هذا بصورة منتظمة، وهذا رغم واقع أن هذا الحصار تسبب إلى الآن، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، منذ 1991، في موت أكثر من مليون شخص من المدنيين الأبرياء... 
 
[120] Jean Delumeau, Yves Lequin (dir.), Les Malheurs des temps, Paris, Larousse, 1987.
[121]  هذا المبدأ مكفول، منذ 1995، بمعاهدة حظر الانتشارTNP، التي أقرتها الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن للأمم المتحدة - الصين، والولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وروسيا - باعتبارها القوى النووية الوحيدة المرخص لها بهذا على ظهر الكوكب. ولم توقع عليها كوبا، وإسرائيل، وپاكستان فقط.
 
[122]  كان هذا الإعلان في معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني (IHEDN), Paris, 22 octobre 1999.
[123]  séquençage: تقنية تحديد طابع تسلسل الأحماض الأمينية للپروتين أو القواعد البورية أو الهرمية لحمض نووي - المترجم.
[124] Cf. Transversales Science Culture, janvier-février 1999.
[125] Le Temps, Genève, 24 novembre 1999.
[126] Le Monde, 17 juin 1999.
[127] Jean-Yves Nau, "Brevets industriels pour matériau humain?", Le Monde, 22 juillet 2000.
[128] Cf. The Economist, 1er juillet 2000.
[129]  إيوچينية eugénisme  أو إيوچينيك eugénique: علم وتقنية وسائل تحسين نسل النوع البشري سعيا وراء استحداث صفات إيجابية (الإيوچينيك الإيجابي) أو إزالة الأمراض الوراثية (الإيوچينيك السلبي)، وكلمة eugenics وهي الاسم الإنجليزي لهذا العلم من نحت مؤسسه العالم الإنجليزي فرانسيس جالتون Francis Galton 1822-1911 - المترجم.
[130]  باعتباره في وقت واحد لعبة ڤيديو على Game Boy de  Nintendo، ولعبة تجميع كروت/خرائط حرب النجوم، استطاع اﻟ پوكيمون Pokémon وتنويعاته الكثيرة جدا من المنتجات الثانوية المأخوذة منه أن يغزو العالم قرب نهاية التسعينات بسرعة البرق. وتدل لفظة Pokémon، التي تتكون من إدغام الكلمتين "pocket" ("جيب") و "monster" ("عفريت")  ( ("monstre de poche" أيْ: "عفريت الجيب"، على أنواع من الجنيات المعدلة چينيًّا elfes transgéniques، عفاريت من عصر البيوتكنولوچيات، "كائنات تعيش في الحشائش، الأدغال، الغابات، الكهوف، البحيرات". ويوجد مائة وخمسون نوع مختلف منها. وهي جميعا فريدة، بطابعها الچيني الخاص. وبعضها نادر جدا، وبعضها الآخر من الصعب إيقاعه في الشرك. وتتمثل اللعبة في السيطرة على الپوكيمونات. وبعد أسرها، ينبغي استئناسها، وتدريبها، بحيث تقوم بتحويل لنوعها. ويمكنها أيضا أن تغير مظهرها، أن تتحول، باختصار، "أن تتطور" (هذا المفهوم الداروني هو ما يتم استخدامه في اللعبة)، وأن تكتسب قدرات جديدة، والمزيد من القوى... فهل من المدهش، في عصر ثورة البيوتكنولوچيات، والاستنساخ، وغزو الكائنات الحية المعدلة چينيًّا OGM، أن تسحر الأطفال ملحمة "الكائنات البشرية المتحولة اللطيفة mutants gentils" هذه؟
 
[131]  الليستيريا: بكتيريا مسببة للأمراض للإنسان والحيوان - المترجم.
[132] Antonin Artaud, Le Théâtre et son double, Paris, Gallimard, 1946.
[133]  الحمى القلاعية، الشديدة العدوى، والموصوفة منذ القرن السادس عشر، والتي تم تحديد ڤيروسها منذ 1898، ليست قاتلة للماشية (أقل من 5٪ من حالات النفوق). وعلى مر التاريخ، عرفت أوروپا عشرات من جوائح الحمى القلاعية، غير أنه بعد عدة أسابيع من المرض، كانت الحيوانات تسترد عافيتها ، وكانت نوعية تربية الماشية تعود إلى طبيعتها.
[134] Daily Mail, Londres, 1er mars 2001.
[135] International Herald Tribune, 16 mars 2001.
[136]  اﻟ پريون  prion: جزيء پروتيني مُعْدٍ وهو المسبب لمرض ارتجاف الضأن - المترجم.
[137] Le Monde, 13 mars 2001.
[138] Ibid., 28 septembre 2000; L"Expansion, 5 mars 2001.
[139] Cf. Olivier Godard, "De la nature du principe de précaution", dans Edwin Zaccaï et Jean-Noël Missa (dir.), Le Principe de précaution. Significations et consequences, Bruxelles, Éditions de l université de Bruxelles, 2000.
[140]  رقم أعلى من رقم القتلى في حوادث السيارات، 8487 في 1999.
[141]  هناك أيضا داءان اجتماعيان، مخدران مباحان، يسببان أيضا مزيدا من الضحايا في فرنسا: الكحول، 42963 من الوفيات، والتبغ، 41777 (أرقام 1997).
[142]   بين 1975 و 1995، كلما تضاعفت آلات إحراق القمامة كان عدد السرطانات يرتفع في فرنسا بنسبة 21٪ لدى الرجال وبنسبة 17٪ لدى النساء.
[143]   منذ 1923، حذر شخص مثير للجدل، رودولف شتاينر Rudolf Steiner، ملهم الزراعة البيوديناميكية، ضد أخطار تحويل الثور إلى آكل للحوم البشر Le Monde, 6 mai 1996.
[144] 4, rue Niepce, 75014 Paris (mail: ir.acf.imaginet.fr).
[145] Cf. Sylvie Brunel et Jean-Luc Bodin, Géopolitique de la faim. Quand la la faim est une arme… (rapport annuel d Action contre la faim), Paris, PUF, 1998.
[146] El Pais, Madrid, 16 0ctobre 1998.
[147] Le Monde, 26 novembre 1998.
[148]   اﻠ "پروتياز" إنزيم يحلل الپروتينات protéines والپوليپيپتيدات polypeptides - المترجم.
[149]  اﻠ "ترانسكريپتاز" المقلوب/المعكوس transcriptase inverse: إنزيم يساعد في تخليق ر.ن.ا.  انطلاقا من قالب من د.ن.ا. - المترجم.
[150]   المؤشرات الوبائية épidémiologiques indicateurs: أيْ: مؤشرات تلك العناصر المرتبطة بالعلاقات القائمة بين الأمراض أو كل ظاهرة بيولوچية أخرى وبين عوامل متباينة قابلة للتأثير في تواترها وتوزيعها وتطورها مثل نمط الحياة، والمحيط البيئي أوالاجتماعي، والخصوصيات الفردية - المترجم. 
[151] Le Monde, 2 décembre 1999.
[152]      الأدق هو أن 1.2 مليار يمثلون خُمس البشرية (6 مليارات) وليس ربعها - المترجم.
[153]  Le Monde, 27 juin 2000.
[154]   هذا هو هدف الجمعية الدولية "العمل من أجل فرض ضريبة على المعاملات المالية لمساعدة المواطنين" (أتاك) (Action pour une taxation des transactions financières d aide aux citoyens (Attac), http://www.attac.org). 
 
[155] Lire: Ignacio Ramonet, "De la guerre perpétuelle", Le Monde diplomatique, mars 2003.
[156] Cf. International Herald Tribune, 14 juin 2003 et EL Pais, Madrid, 1er et 10 juin 2003.
[157] Libération, Paris, 28 mai 2003.
[158] http://www.commondreams.org/views03/0506-06.htm
[159] http://www.counterpunch.org/vips02082003.html
[160] Cf. International Herald Tribune, 5 juin 2003.
[161] http://www.scoop.co.nz/mason/stories/WO0305/S00308.htm
 [162] Time, 9 juin 2003. 
[163] Time, op. cit.
[164]  El Pais, Madrid, 4 juin 2003.
[165] http://www.herodote.net/histoire02151.htm
[166] Lire entretien avec Noam Chomsky", Télérama, 7 mai 2003.
[167] On lira en particulier Ignacio Ramonet, La Tyrannie de la communication, Gallimard, col. Folio Actuel, no92, Paris, 2001.
[168] The Washington Post, 1 novembre 2001.
[169]  كانت هذه الممرضة المزيفة ابنة سفير الكويت في واشنطن وقد قام بفبركة وتحريرشهادتها المزيفة، من أجل مجلس مجموعة ريندون، مايكل كيه ديڤر، المستشار السابق للاتصالات للرئيس ريجان.
 
[170] El Pais, 7 mai 2003.
[171] BBC, Londres, 18 mai 2003. http://news.bbc.co.uk/2/hi/programmes/correspondent/3028585.stm
[172] Los Angeles Times, 20 mai 2003. Consulter aussi: http://www.robertscheer.com/
[173] The New York Times, 3 juin 2003.