الوطنيون والطائفيون


عبدالله خليفة
2012 / 9 / 3 - 08:57     


تسارعتْ الانهياراتُ في رأسمالياتِ الدول الشرقية بدءًا من الاتحاد السوفيتي ومروراً بأوروبا الشرقية وأخيراً وليست آخراً خُتمت ببعض الدول العربية.

العمليةُ التاريخية تكشفُ النمطَّ المرحلي لرأسمالية الدولة ووراثاتها الاجتماعية والدينية وعدم قدرتها على التحول الديمقراطي السلمي، بسبب تحول الرأسمالية إلى احتكار اقتصادي سياسي بيروقراطي ونشوء طبقات مستغلّة، توقفُ نموَّ القوى المنتجة، ويصبحُ الشكلُ السياسي الأيديولوجي عائقاً لهذا النمو.

لقد ربطتْ القوى الوطنيةُ العربية أمورَها بهذه الرأسمالياتِ العابرة بهذا الشكلِ المرحلي الضروري لفترةٍ ما مؤقتة، وتكلستْ أشكالُ وعيها بمصالح ضيقةٍ مع هذه الرأسماليات، فغابت عن أشكالِ الوعي الأدواتُ التحليلية الموضوعية والنقديةُ الماركسية فلم تواصلْ دورَها الوطني الريادي، فراحت أدواتُ هذا الوعي تتآكلُ بسبب الانحياز لقوى هذه الرأسماليات الحكومية الشمولية، وتختلف طبائع هذه الرأسماليات وظروفها في كلِ بناءٍ سياسي اجتماعي قومي، من حيث التاريخ وطبيعة الانجازات وطبيعة أجهزة الدول والفكرة المركزية التي تهيمن على العملية التحولية، ومن حيث بروز أو غياب أدواتِ التحليل وعمق الارتباط بالقوى العاملة والمنتجة، ومستوى مراقبتها ومشاركتها في هذه العملية التاريخيةوعلى تباين التجارب ومدى مساهماتها في عملية انتصارِ الرأسمالية الحرة في الشرق فإن القوى الوطنية فشلتْ في التخلصِ من شباكِ البيروقراطيات الاستغلالية، وعدم قدرتها على تمزيق شباكها الأيديولوجية التضليلية، فتآكلتْ تلك الأدواتُ النقديةُ التحليلية ولم تتمكن من معالجةِ مسائل الإرث الفكري للشعوب وهو الإرث الذي تحول لشبكاتٍ اجتماعية سياسية تعود لمئات السنين السابقة نظراً للفراغ الفكري السياسي الإصلاحي، مثلما فشلت هذه القوى في رؤية عمليات توزيع الفائض الاقتصادي ولدورها في تكريس الشموليات وإعاقة تطور البلدان الوطنية الحديثة في الشرق.

ولهذا فإن الوعي الوطني القومي التوحيدي في كل بلد لم يستطع مقاومة هجمات القوى الطائفية التفكيكيةِ للبُنى الوطنيةِ الهشة، المُقامة أثناء مقاومة الاستعمار، وقد أُصيبتْ بعض هذه القوى الوطنية بدوار الرأس وفقدان المرجعية الأولى التي صدأت في غياب الوعي النقدي الموضوعي، وبسبب التلحف بمختلف أردية الذاتية، فساهمت في تضليلِ الجمهور ودفعه في الفيضان المتخلف للقوى الطائفية، وهو ما أدى ويؤدي إلى انهياراتٍ وانفجارات العمليات السياسية الجديدة ونشوء صراعات طائفية اجتماعية حادة على مستويات البلدان والمنطقة بأسرها وارتباكات عمليات التحول وتحديد الأهداف الحقيقية، ودفع الأمم الإسلامية للحروب.

إن الخبرةَ الشرقية الاجتماعية الضحلة في الصراع مع الرأسمالية توجهتْ للقفز عليها وإيجاد أشكال مصطنعة بالتعاون مع الإرثِ الاستبدادي الطويل للدول في الشرق والقائم على تحكم الأجهزة الحكومية عبر التاريخ، ولهذا فإن عمليات الصراع والتحول الراهنة تكتسبُ تجريبيات حارقة وجهلاً فظاً بالتاريخ والخبرة السابقة، وتغدو رأسمالياتُ الدولِ المستولى عليها عقب الثورات في مهب الرياح الاجتماعية السياسية، فإما أن تغدو رأسماليات دول دينية شمولية تعيدُ أشكالَ توزيع الدخل الوطني بطرقٍ طبقية استئثارية، وإما أن تغدو رأسماليات دولٍ وطنية ديمقراطية، تتداولُ فيها السلطاتُ والثرواتُ حسب مواقع القوى الاجتماعية المنتجة ومن أجل تغيير الهياكل الاقتصادية الاجتماعية المتخلفة، وحسب مساهمات القوى السياسية الاجتماعية في العمليات السياسية المُقامة على التضحية ونقد الذات والمكاشفات الواسعة والدفاع عن مصالح الشعوب.

إن هذه العمليات السياسية الاجتماعية تُغذى ضرورةً بتحولاتٍ نوعية في أشكال الوعي الوطنية القومية، المواكبة لفهم وتغيير التاريخ الراهن، وتعالج التراثَ معالجات ديمقراطية إنسانية، لتواكب قراءاتُهُ مجريات الأحداث والتطورات العقلانية الهادفة للسيطرة على فوضى الرأسمالية الجديدة المنفتحة المرتبطة بالعولمة، وجعلها في خدمة الأغلبيات الشعبية، وليس أن تكون الأغلبيات طعامَ نيران لفوائضها وأرباحها.

الوطنيةُ والطائفيةُ هما شكلا التوزيع الاقتصادي الاجتماعي الراهن، فإما توزيعٌ وطني يغذي بفوائضهِ حاجات الشعوب وتطورها وإما أن يغذي قوى معينة توجه العمليات الاقتصادية لمصالحها وتستغل أدوات التراث وثقافته وأشكال السلطات المتوافرة في تكريس هذا الانتاج لرأسمالية دولة، ومعه شكله في التوزيع الفئوي، وإما أن تكون رأسماليةَ دولةِ وطنية الانتاج والتوزيع وليست هي كل الاقتصاد وأنما ركيزته الكبيرة المُدارة ديمقراطياً.

فإما دولٌ وطنيةٌ تساهم فيها كلُ القوى السياسية والاجتماعية وتجددُ البناءَ السياسي القديم وتكرسُ الخريطةَ الوطنية، وتنظرُ للتاريخ والتراثِ بعيونٍ عقلانية متفتحة، وإما دولٌ طائفية ممزقةٌ متحاربةُ العناصر والأقاليم وذات ثقافات طائفية عنفية متعصبة.

هذه هي خلاصةُ التاريخ.