الفردُ والشموليةُ الساحقة


عبدالله خليفة
2012 / 9 / 2 - 09:40     

يعبر جورج لوكاش الفيلسوف المجري ومارتن هايدجر الفيلسوف الألماني، عن رؤيتين مختلفتين تجاه الفرد، الفردُ يضعهُ لوكاش في المجموع، في القضية التاريخية للبروليتاريا بحسب المفهوم لما كان بين الأربعينيات من القرن العشرين. عند هايدجر الرؤية فردية تستندُ إلى ركائز أساسية:

(إن الحياةَ لا معنى لها، ولكن مع الاستمرار بها فالإنسان هو الذي يمنحُ الحياةَ معناها والوجودَ معقوليته، والقلقُ يحثُ ويدفعُ الإنسانَ إلى البحث عن ماهيتهِ التحقيقية المحتجبة، وهو في الفلسفةِ الوجوديةِ صانعٌ لنفسه عبر ذاته التي يستحثها القلقُ، وأن يكون الإنسان هو ذاته فهذه صفةٌ من صفاتِ الوجود الأصيل، إلا أن الذات لا يمكن أن تكون هي نفسها إلا إذا تمتعت بالحرية)، عن موسوعة ويكيبديا.

تعبير هايدجر بأن الإنسان يُقذف للوجود، ويبحثُ عن ماهيتهِ ومعنى وجوده، هي صيغٌ للإنسان المثقف ذي الرؤيةِ الوجوديةِ الذي يفلسفُ خروجَهُ من بين المجموعات الأيديولوجية الاجتماعية والتي تُعلبُ الإنسانَ حسب سيطرتها عليه منذ أن يعي، فالكائنُ مستلبٌ من حريتهِ منذ ولادته، وتقوم الجماعةُ بتعليبهِ ويستمدلا منها تكوينَه فهو ليس فرداً بل صورةً للجماعة، لكن هذا يعتمدُ على تاريخيةِ الجماعة، وعلى مدى مقاربتها للحرية أو الاستعباد، وفي أي عصر تعيش وغير ذلك من الشروط التاريخية الخارجة عن إرادته.

حين يقلق الفردُ على حريته، وعلى دورهِ في عالم البضاعة، وكونه برغياً في آلة، قد تدفعهُ للحرب وقد تشيئه في معملٍ أو إدارة أو نزاع خطير أو في وجود اجتماعي ممسوخ، حين يتوهجُ بكلمةٍ، حين يحاول فك طلاسم الأوراق الصفراء التي تهيمنُ عليه، حين ينفصل عن آلةِ الاستعباد حينئذٍ يبدأُ بخلق كينونته.

من جهته يقول لوكاش:

(إذا صفينا من الموضوعية كلَ ما يتصل بالواقع القابل للمعرفة وإذا كانت هذه الموضوعيةُ متكونةً فقط في الجوانية الخالصة، فمن المحتوم أن تكون النتائج المحرزة هكذا ذات طابع لاعقلاني)، تحطيم العقل، ج٢، ص .٨٩

إن تخليصَ الفرد الألماني من هلاميته الحياتية العادية وسيطرة الأشياء البضائعية عليه إلى أن يكون فرداً خلاقاً، لا يوضحُ جوهرَ المسألةِ في المسار التاريخي الألماني حيث إن دولة الاحتكارات الهتلرية سوف تلقيهِ في الحروب والكوارث، وكان يعيشُ في شارع الكائنات الذرية البشرية باحثاً عن فرديتهِ داخلَ التطور السلمي والذي لن يتغير سوى بوقوفه ضد تنامي النزعات العسكرية في بلده.

كان الصراعُ ضد تعملق الدول الكبرى الشمولية وأسلحتها وترساناتها الرهيبة المروعة هو الطريق لإنسانيةِ الإنسان.

وهذا ما يعانيه الفردُ الروسي تماماً والذي بُلع في رأسماليةِ دولةٍ عملاقة طاحنةً له، ورغم الكوارث التي مرت به والمذابح فإن لوكاش المجري المولد والثقافة الروسي الانتماء يسلمُ بعظمةِ هذه الرأسمالية الحكومية الشمولية:

(الأزمة الألمانية لما بعد الحرب واشتداد صراع الطبقات الناجم عنها ؟ مع وجود الاتحاد السوفيتي وتوطده في الصعيد الخلفي وانتشار الماركسية التي أنماها لينين وستالين.. يدفعان الرجال لاتخاذ موقف شخصي) (أي هو موقف نضالي يتنامى في الغرب، فلماذا ليس في الشرق كذلك؟)، السابق ص ٨٧-.٨٨

إن الدراما التاريخيةَ الرهيبة في نمو هاتين الرأسماليتين القوميتين المتصارعتين تؤدي لموت الملايين من الأفراد، بسبب الهتلرية بدرجة أولى، لكن نمو الدكتاتورية في ألمانيا لا ينفصل عن نموها في روسيا، والتحولُ الشمولي في روسيا بقضائهِ على الحريات وعلى نمو الأفراد الأحرار، أعطى نموذجاً تصعيدياً لألمانيا، وقد ساهمت آلتُهُ الحربيةُ المقامةُ بفضلِ جهود هذه الملايين العاملة المسحوقة وتضحيات الملايين منها في القضاء على الفاشية لكنها لم تجلب لها الحرية.

المستوى الفلسفي لرؤية المجتمعات بين كل من هايدجر ولوكاش، يلغي درسَ الطبيعة النوعية للرأسمالية القومية في كل من البلدين، أو أنه يشوه طابعيها الاجتماعيين، مرةً بإخفاءِ العلاقات الاجتماعية عبر التركيز على مسار الوجود الخام، أي على وجودِ البشرِ كمسلوبين من جوهرِهم الفردي الحر، فيما لوكاش يخفي العلاقات الاجتماعيةَ لرأسمالية شمولية أخرى بطابعٍ آيديولوجي غاب عنه التحليلُ الطبقي التاريخي وتركز في الشخوص المتعالية.

في الجانبين تغدو الرأسماليةُ أكثر فظاعةً من وجودها السلمي العادي، حين تغدو عسكريةً، وحين تغدو آلةً حكومية جبارةً مهيمنةً على شعوب ومشوهة الوجود القومي لها، أو حين تبدأ فتوحاتٌ واعتداءاتٌ وتدخلاتٌ في شئون الشعوب الأخرى مثلها مثل الرأسماليات الكبرى الأخرى؛ الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها من التاليات في القرنين العشرين والواحد والعشرين واستمرار تنامي الشبكات العليا المسلحة وانسحاق الإنسان تحتها.