لم يفهموا كارل ماركس في يومٍ من الأيام


يعقوب ابراهامي
2012 / 8 / 7 - 19:44     

"كل رأيٍ يستند إلى نقدٍ علمي سأقابله بالترحيب. أما الأفكار المسبقة لما يسمى بالرأي العام، الذي لم أتنازل له في يومٍ من الأيام، فأن شعار رجل فلورنسا العظيم كان وما زال شعاري أنا:
“Segui il tuo corso, e lascia dir le genti.”
" سر في طريقك أنت، وليقل الناس ما يشاؤون"
(كارل ماركس، في مقدمة الطبعة الألمانية الأولى لكتاب "رأس المال"، 25 يوليو 1867.
"رجل فلورنسا العظيم" الذي يشير إليه كارل ماركس هو دانتي أليغييري، 1265- 1321، شاعر القرون الوسطى الإيطالي وصاحب "الكوميديا الإلهية")

"إذا ما ظهرت لك نظرية على أنها الوحيدة الممكنة فاعتبر ذلك مؤشرا على أنك لم تفهم النظرية ولم تفهم المشكلة التي يفترض أن تحلها هذه النظرية" (كارل بوبر ، 1902-1994)

هل انقطع التيار الكهربائي فجأةً لدى الزميل عذري مازغ كما انقطع لدى "مفكرٍ" ماركسي آخر في مكانٍ آخر وفي ظروفٍ أخرى؟
هذا السؤال راودني وأنا أرغم نفسي (أين أنت أدم عربي؟) على قراءة المقال الذي نشره عذري مازغ في "الحوار المتمدن" بتاريخ 5/8/2012.
قلت "قراءة المقال" رغم أنني أشك كثيراً في أنني يمكنني أن أطلق لقب "القراءة" على الجهود الذهنية المضنية التي بذلتها من أجل أن أفهم ما يريد أن يقوله الكاتب.
كما أنني لست متأكداً أن في الإمكان إطلاق اسم "المقال" على كمية هائلة من كلمات غامضة، غير مترابطة وغير مفهومة، تنهال على القارئ المذهول من كل حدبٍ وصوب ولا تترك له سبيلاٌ للخلاص إلاّ باختيار أحد أمرين: إما أن يلوذ بالفرار بحثاً عن ملجأٍ آمن (وهذا في ظني هو ما اختاره أغلب القراء) أو أن يستسلم بلا قيدٍ ولا شرط (وهذا ما كدت أن أفعله أنا لولا ذرةً من الكبرياء والإعتداد بالنفس ولولا أنني تذكرت في اللحظة الأخيرة أن النزاهة الفكرية والشجاعة الأدبية هي كل ما تملكه "الشلة" في هذه الحياة الدنيا. وكيف يمكن أن نسمح بالنيل من "الشلة"؟)

الموضوع الذي يتناوله عذري مازغ في مقاله، والأساس الذي يبنى عليه هجومه (غير المفهوم) على "الشلة" هو "فائض القيمة" (وما أدراك ما فائض القيمة).
لكنني لا أريد أن أتحدث هنا عن "فائض القيمة". عاهدت نفسي (وعاهدت الزميل شامل) أن لا أكتب بعد اليوم عن "فائض القيمة" (صادق الكحلاوي قد يقول بحق: قلبي صار فايض قيمة).
من لم يفهم حتى هذا اليوم ما هي نظرية كارل ماركس في فائض القيمة فإن كل كتاب العالم لا يمكنهم أن يشرحوا له ذلك. هذه صفقة خاسرة منذ البداية.
من لم ينجح حتى اليوم في التمييز بين مفهوم "قوة العمل" ومفهوم "العمل" أو "ساعات العمل" فلسوف لا يميز بينهما إلى أبد الآبدين. لا تحاول أن تقنعه لأن خيبة الأمل هي الأمر الوحيد الذي ينتظرك.
ومن لا زال يعتقد أن النظرية القائلة "إن سلعة قوة العمل تنتج، عند استخدامها، قيمةً تفوق قيمتها هي نفسها" هي خرافة من ابتكار يعقوب ابراهامي وليست ركناً من أركان نظرية كارل ماركس في الاقتصاد السياسي – ماذا يمكنك أن تقول له وعنه؟ كيف تقنعه؟
ماذا تقول لشخصٍ يتحدث عن غزل القطن بواسطة النول في الوقت الذي تعلن فيه محطة "كيوريوزيتي" من بعد ملايين الكيلومترات : "هبطنا بسلامٍ على أرض المريخ"؟

لذلك لن أكتب عن "فائض القيمة". أريد أن أكتب اليوم عن واجب الكاتب والمثقف اليساري تجاه القراء وعن الأمانة في النقل. أريد أن أكتب عن النزاهة الفكرية وعن احترام الكلمة المكتوبة. والسيد عذري مازغ في مقاله ضرب لنا مثلاً لا أريد أن أضيعه في كيف يجب أن لا يكتب مفكر ماركسي.

الزميل جاسم الزيرجاوي (نعم. جاسم من "الشلة" وهناك من يقول أنه رئيس "الشلة") لفت الأنظار أكثر من مرة واحدة إلى الأضرار التي ألحقتها بالفكر العربي الماركسي الترجمات العربية الفاسدة للكلاسيكيات الماركسية (ولكتابات كارل ماركس على وجه الخصوص) ونصح القراء بالإبتعاد عنها. إنذاراته لم تجد إذناً صاغية لدى "مبتذلي الماركسية". وأحد هؤلاء هو عذري مازغ.
عندما يرتدي عذري مازغ قبعة المفكر الماركسي ويحاول أن يقارع أعضاء "الشلة" في عقر دارهم (وهناك بين أعضاء "الشلة" ، مع كل التواضع المصطنع، من يفهم شيئاً أو شيئين في الماركسية) فإنه مسؤول شخصياً أمام القراء عن صحة الإقتباسات التي يأتي بها من ماركس أو من مفكرين آخرين، ولا يستطيع أن يختفي وراء ترجمة خاطئة (أو انقطاع التيار الكهربائي). القراء يريدون منه أن يتأكد من صحة النصوص قبل أن يأتي بها لمواجهة خصومه الفكريين (وبالمناسبة هذا ما أفعله أنا).

الحجة الرئيسية في هجوم عذري مازغ (وآخرين) على فهمي لنظرية "فائض القيمة" (رجعنا مرة أخرى إلى "فائض القيمة". يبدو أن هذا هو مصيرنا المحتوم. شامل! ماذا تقول؟) هي كما يلي: عندما أقول (استناداً إلى كارل ماركس طبعاً) أن الرأسمالي يدفع للعامل (صاحب "قوة العمل")، في أحسن الأحوال، كامل قيمة قوة عمله فإنني أدافع عن النظام الرأسمالي وأخفي الظلم الذي يلحق بالعامل.
هذا طبعاً كلام لا أساس له من الصحة. لكن عذري مازغ "وجد" في كتاب "رأس المال" نصاًّ يؤيد هذا الهجوم على فهمي لنظرية "فائض القيمةً" ولم يتردد لحظة واحدة في استخدامه ضدي وضد كل أعضاء "الشلة".
ما هو هذا الكنز الدفين الذي عثر عليه عالم الحفريات عذري مازغ؟
اقرأوا:
يقول ماركس: “ يتكلف الإبقاء على قوة العمل كل يوم عمل نصف يوم، ولكن برغم هذا تستطيع قوة العمل أن تعمل طيلة يوم العمل ما ترتب عنه أن تنتج من القيمة في يوم العمل ضعف قوة العمل في اليوم وهذا أمر حسن بالنسبة للرأسمالي ولكنه ظلم لبائع قوة العمل".

الأمر المهم في هذه الترجمة الهزيلة هي الجملة الأخيرة: "وهذا أمر حسن بالنسبة للرأسمالي ولكنه ظلم لبائع قوة العمل"
"ظلم لبائع قوة العمل" - هناك فرقٌ شاسعٌ بين هذه الجملة وبين الإدعاء أن الرأسمالي "يدفع للعامل كامل قيمة قوة عمله". بل كدت أقول إنهما جملتان متناقضتان. وعذري مازغ (كأحد مبتذلي الماركسية) لم يدع الفرصة تفلت من بين يديه: هذا الظلم الذي يتحدث عنه كارل ماركس هو السرقة التي ينكرها ابراهامي.
إبتهاج عذري مازغ بهذا الإكتشاف لم يعرف حدوداً حتى أنه دعا أفراد "الشلة" إلى شرب الفودكا احتفالاً بالنصر:
"إن هذا الضعف من قوة العمل لا يؤدى للعامل ثمن عليه وهو ما يعتبره ماركس ظلم (الصحيح طبعاً: ظلماً)، وإذا كان هذا الظلم لا يتجسد كسرقة فلأبراهام (يقصد: أبراهامي) أن يندب ما شاء من ظلم الماركسيين للرأسمالي. وإذا أراد أن يهدأ فليعمل بنصيحة صديقه في الشلة جمال الدين: كأس فودكا، مع الإستمتاع بمشاهدة لعبة من الألعاب الأولمبية حسب نصيحة الزميل رعض (متى تحول رعد إلى رعض؟) الحافظ "

والآن مفاجأة: ماذا تقولون لو قلت لكم إن كارل ماركس لم يكتب هذه الجملة على الإطلاق؟ ماذا كنتم تقولون لو أخبرتكم أن ماركس قال على العكس من هذه المقولة تماماً؟
سؤال: ما هو النقيض المطلق للجملة التالية: "تسبب ظلماً لبائع قوة العمل"؟
جواب: "لا تسبب ظلماً لبائع قوة العمل بأي حالٍ من الأحوال".
ماذا تقولون لو قلت لكم إن هذا هو بالضبط ما كتبه كارل ماركس في كتاب "رأس المال"؟
عزيزي عذري مازغ! هل تأكدت من النص قبل أن تشرب الفودكا أم شربت الفودكا أولاً؟

إليكم النص الكامل للفقرة كما جاءت في كتاب "رأس المال":
(تعليمات خاصة لزينة محمد: افتحي كتاب "رأس المال"، الطبعة الإنجليزية الصادرة عن دار النشر للغات الأجنبية في موسكو، الجزء الثالث، الفصل السابع، القسم الأول، ص 194)

The circumstance, that on the one hand the daily sustenance of labour-power costs only half a day’s labour, while on the other hand the very same labour-power can work during a whole day, that consequently the value which its use during one day creates, is double what he pays for that use, this circumstance is, without doubt, a piece of good luck for the buyer, but by no means an injury to the seller.

أترجم فقط الجملة الأخيرة ذات العلاقة بموضوعنا:
"هذه الحقيقة هي دون شك أمرٌ حسن وقع في حظ الرأسمالي ولكنها لا تلحق بأي حالٍ من الأحوال ضرراً ببائع قوة العمل"

It is by no means an injury to the seller
وترجمتها غير الدقيقة (إذا أردنا أن نستخدم نفس التعابير التي استخدمها عذري مازغ):
"لا تلحق بأي حالٍ من الأحوال ظلماً ببائع قوة العمل"
مقابل: "تلحق ظلماً ببائع قوة العمل"؟

(كم يعجبني المصطلح الإنجليزي
by no means
إنه يذكرني بعبارة أخرى أثارت في حينه حفيظة مبتذلي الماركسية
Its full value)

أكرر ثانيةً (زينة محمد! هل تقرئين هذا؟):
قارنوا بين الجملتين: "تلحق ظلماً ببائع قوة العمل" و "لا تلحق بأي حالٍ من الأحوال ظلماً ببائع قوة العمل".
سيدي الفاضل عذري مازغ! ماذا قال كارل ماركس ووفقاً لأيٍّ من الجملتين سوف تفهم من الآن فصاعداً كارل ماركس: هل عملية شراء "قوة العمل" تلحق ظلماً ببائع قوة العمل أم لا تلحق ظلماً ببائع قوة العمل؟
وأهم من ذلك بكثير: من سيشرب الفودكا الآن؟