الاقتصاد الاستهلاكي و فائض القيمة 4


سعيد زارا
2012 / 8 / 7 - 12:26     

شركات التامين تبيع الأمان من إنتاج العمال.

يضمن الحيوان الشبيه بالإنسان أمان رحلته التغريبية كلما تجاوز الاخطار و الكوارث التي تعترض مسيرته أو خفف من أثارها الجسيمة أثناء وقوعها. و الاخطار التي تهدد مصائره قسمين منها تلك التي تنجم عن الطبيعة كالأعاصير و الحرائق و الجفاف و البراكين و الفيضانات و الزلازل....الخ و منها تلك التي تظهر خلال عملية إنتاج و إعادة إنتاج شروط الحياة المادية كالحوادث التي تصيبه أثناء الشغل و المرض أو تلك التي تصادفه أثتاء عملية نقل المنتجات برا أو بحرا كخطر النهب أو الإتلاف ...الخ. و حتى لا يحدث هذا أو ذاك تضرع أجدادنا إلى قوى الطبيعة فقدموا قسطا مما ينتجون قرابينا لها لعلها تقيهم غضبها, و صلوا للآلهة في السماء تقربا منها لعلها ترأف بهم فلا تنزل بهم مصائب تتلف محاصيلهم و إنتاجهم, و حملوا التمائم سرا لعلها تذهب عنهم مخاطر الطرق و تسلم تجارتهم و تحفظ أعمالهم من عين الحسود . ومع ذلك لم يسلم أسلافنا من شر تلك الكوارث فاحتموا بالأواصر و علاقات الدم التي تربطهم ليضحي كل واحد منهم بجزء من إنتاجه تعويضا لمن لحقه الضرر, و بمثل هدا التضامن عرف قدماؤنا كيف ينقلون المخاطر( transfert des risques), كما قدموا على اتخاذ تدابير وقائية و انتظموا في جماعات يستغني أعضاؤها مؤقتا عن جزء من إنتاجهم تحسبا و ترقبا لخطر قد يطال احد الأفراد في المستقبل المجهول,فكان جمالو(chameliers) بلاد الرافدين يتقاسمون الخسارة عندما تلحق بأحد أعضاء المجموعة, و كان ملاحو الفينيقيين و الرومان ,عند حلول النو, يلقون ببعض حمولتهم في عرض البحر أو المحيط من اجل انقاد السفينة 1 ويتم تعويضهم من طرف التجار عندما ترسو السفينة بسلام في المرفأ... . فكان التامين2.

لم يعرف قدماؤنا عقد التامين كما نعرفه الآن, لكنهم انشأوا مؤسسات شكلت البدايات الأساس التي طورت نشاط التامين إلى عقود تستجيب لروح الرأسمالية الصاعدة وتخدمها من اجل إعادة شروط الإنتاج الرأسمالي, فعوضت الرأسمالي المؤمن عن خسائر الحرائق التي التهمت مخازنه و أمنت له نقل بضائعه عبر المحيطات و اليابسة و كانت له خادما مطيعا , أما وقد تصاعد نشاطها بشكل مهول مع هيمنة الخدمات في قلاع الإنتاج الرأسمالي أصبحت تتفنن في إبداع فروع التامين التي أصبح معظمها إلزاميا و تدكير المؤمن( l assuré) ولفت انتباهه إلى الأخطار التي قد تصيبه و خنقه و حصره بالبنود القانونية تفاديا لوقوع تلك الكوارث.

يزعم الكثيرون أن لشركات التامين طابعا رأسماليا أي أن إنتاجها هو إنتاج رأسمالي و هو ما تنفيه حقيقة هدا النشاط الخدمي, فالرأسمالي يسعى دوما إلى الزيادة في الإنتاج عبر خلق قيم جديدة بعكس وكالات التامين فهي لا تخلق مثقال درة لان نشاطها يقتصر على تحويل المخاطر فتجعل المصيبة التي أصابت فردا معينا يشاركها كل المؤمنين(les assurés) دون أن يعرف احدهم الآخر , فالتامين بعبارة ألبير شوفتون الشهيرة هو : "تعويض الآثار المفاجئة التي تطال ممتلكات الإنسان بتضامن منظم تبعا لقواعد الإحصاء". وهذا يعني أن المؤمن( l assuré) يقوم بمبادلة خطر أو عدة أخطار لقاء مبلغ من المال يسمى قسطا. ومجموع هده الأقساط التي يدفعها المؤمنون هي التي تشكل موارد شركات التامين , حيث تخصص الشركة فريقا من المستشارين و الخبراء لإدارة هده الموارد وتوزيعها على شكل تعويضات عند حلول ضرر أو عدة أضرار مذكورة بتفصيل في بوليصة عقد التامين الذي يجمع الطرفين , و تسخر أيضا فريقا من الخبراء الاكتواريين 5لحصر الاحتمالات الواردة لحلول الإخطار و تقدير مدى استعداد الشركة لتسديد التعويض للمؤمن المتضرر أو ما يسمى بملاءة الوكالة(la solvabilté de la compagnie) .

من خلال هده اللمحة السريعة للكيفية و الطريقة التي تنتج بها هده الشركات خدمات التامين يتضح جليا أنها لا تنتج ثروة بقدر ما تعمل على إدارة و تدبير ثروة تم الاستغناء عنها من طرف مجموعات بشرية سعت إلى التخفيف من أثار الأضرار التي قد تلحق بها , أي أنها تدير إنتاجا وجد سلفا سجل على شكل أقساط في دفاتر حساباتها , فتخدم تلك المجموعات بنقل أو تحويل المخاطر بين أفرادها, فوكالات التامين لا تستطيع أن تقدم خدماتها دون حيازة الأقساط أولا و لا تزيد عن تلك الأقساط شيئا يذكر ثانيا, أما الرأسمالي فانه يوظف رأسماله و كل عناصر الإنتاج التي يملكها من اجل خلق قيم جديدة لم تكن موجودة سلفا أي انه ينتج ثروة تختزن عملا إنسانيا.

إن شركات التامين عكس الجمعيات أو التعاونيات التضامنية و التشاركية(les assocaitions et coopératives de mutuelle) , لا تقدم خدماتها دون السعي وراء تحقيق الربح. فمن أين لها ادن بالأرباح إن كانت لا تخلق ثروة؟؟؟ يقوم خبراء الوكالة بتقسيم الأقساط التي قبلوها مقابل أخطار يجهلون تاريخ حدوثها إلى أجزاء ثلاثة, يخصص الجزء الأول لتغطية الخطر المحتمل وقوعه وهو يشكل ما يسمى بالاحتياطات التقنية(les provisions techniques), الجزء الثاني فهو لدفع تكاليف التجهيز و التسيير من أثاث و نقل و ترميم و...و أجور و كراء...الخ, أما الجزء الثالث فتعتمده الوكالة ربحا. هكذا تقوم شركات التامين باقتطاع الربح بنفسها من الأقساط التعبير النقدي لإنتاج موجود سلفا, أما الرأسمالي فالربح يأتيه من الإنتاج الذي لم يعط أجره للعامل بعد مبادلته في السوق و هو إنتاج لم يوجد قبلا.

قد يعارضنا احدهم و يقول إن و كالات التامين تستثمر الاحتياطات التقنية في أنشطة أخرى لتعود عليها بموارد مالية هامة, صحيح أن تلك الودائع أي الأقساط التي حصلتها وكالاتنا تصل مبالغها إلى ملايير الدولارات فمجموعة ج.م.ف الفرنسية تدير مبالغ تتعدى 23 مليار اورو و هناك من الشركات في أمريكا و ألمانيا و اليابان ما يفوقها في حجم مبالغ الأقساط التي يتم تدبيرها و إدارتها , و صحيح أيضا أن المشرع(le législateur) يجيز لها أن تمد يدها على تلك الأقساط و تستثمرها رغم تباين تحديدات المشرع من بلد إلى أخر في مجال الاستثمار فهو أي المشرع في بعض البلدان يحدد طبيعة المجالات التي يجب أن تستثمر فيها شركات التامين كشراء أسهم في ميادين معينة أو العقار أو قروض الدولة, و في غالبية البلدان و خصوصا –المتخلفة- لا يقيد المشرع اختيارات المؤمنين فيستثمرون في كل المجالات. لكن هدا الاعتراض باطل لان وكالاتنا تستثمر تلك الأقساط فتعود بموارد مالية ليس من أجل الرفع من تعويضات الضحايا لان تلك التعويضات قد تم تقديرها سلفا طبقا لقواعد الاحصاء و الرياضيات من طرف الاكتواريين بالنسبة لما حصلوا من أقساط وليس لما تدره تلك الأقساط و هي مستثمرة في مجالات أخرى , إلا أن هدا لا يمنع من فضح تحالف كل أطياف البرجوازية الوضيعة في طرق استثماراتها التي تستنزف الطبقة العاملة حتى الرمق الأخير و هو ما سنفعله في مواضيع أخرى من هده السلسلة.

تقتضي النزعة الإنسانية أن نخشى على بني جنسنا من ضرر أو خطر قد يلحقهم فينهي حياتهم أو يدمر ثروتهم , أما وكالاتنا فهي تخشى وقوع الكوارث ليس لأنها تفيض بالنزعة الإنسانية بل على العكس تماما لان وقوع الكارثة يعني الالتزام بدفع التعويض للمؤمن(l assureur) , لدلك هي حريصة جدا على انتقاء الأخطار, التي يجب تأمينها, بدقة فائقة لان تامين كل الإخطار سيعرضها للإفلاس, بحيث يتم سردها بتفصيل في بوليصة (la police) عقد التامين مصحوبة دائما باستثناءات لا يتردد مستشاروها على إشهارها في وجه المؤمن(l assuré) تكون سندا قانونيا لوكالتهم فتحرم الضحية من الاستفادة من التعويض. و قد تتهرب من دفع التعويض فتلجأ إلى اتهام الضحية بالتظاهر بالإصابة و الخطر أو ما يسمى بالضرر الأخلاقي(l alea moral) و إن كان بعض المؤمنين(les assurés) يلجأون إلى هدا السلوك للحصول تلك التعويضات المغرية .

تدير شركات التامين مجموع الأقساط التي تحصلها من كل فروع التامين كالتامين على الحياة و تأمينات النقل و تأمينات المسؤولية المدنية و تامين الحرائق و تأمينات المحاصيل الزراعية و تأمينات السكن و التامين المتعدد الأخطار...الخ و قد تعدت 189 مليار اورو في فرنسا خلال سنة 2011 و كلها ثروة من إنتاج الطبقة العاملة فهي المعيلة لكل شرائح المجتمع المعاصر ,فمن جهدها ادن ينبجس الأمان الذي يبيعه المؤمنون للضحايا دون أن يلطخوا لياقاتهم في قذارة الإنتاج.

إن شركات التامين تضرب لنا مثالا حيا على احتيال البرجوازية الوضيعة التي تغتني بمكرها و قدرتها على خداع الناس و إيهامهم بالإحساس بالأمان الذي تسلبه من عرق العمال و هي و لا تفعل سوى تخويل و نقل المخاطر دون أن تنتج نقيرا.




----------------------------------------------------------------------------------------------------------

1- لازال هدا النوع من التعاطيLex Rhodia de jactu سائرا الى يومنا هدا في القانون البحريحيث لازال عقد التامين في معظم الدول يدبر وفق القانون البحري.
2-يذكر المؤرخون أن قوانين حمو رابي شملت التامين.