تراجعُ الخيالِ الاشتراكي(١-٢)


عبدالله خليفة
2012 / 7 / 26 - 08:31     

بعد سنواتٍ حارقة من تطبيق ما سُمي بمرحلة الاقتصاد الشيوعي (١٩١٧-١٩٢٠) الذي كان هيمنةً حكومية واسعة على الفائض الاقتصادي في الريف والمدينة، والذي أدى لعسكرةِ الدولة وبدءِ رأسماليتها الحكومية الشاملة، أخذ لينين يتراجعُ عن هذا الاقتصاد العسكري الضاري متوجهاً نحو جوانب اقتصادية رأسمالية، لا تنفي رأسماليةَ الدولة ولكن تجعلها عمليةً في جوانب اقتصادية واجتماعية ضرورية بدلاً من هلاكِها بسببِ انتفاضةِ الجمهور الطليعي العمالي ضدها والخسائر البشرية الرهيبة التي سببتها.

(قال لينين في خطابه الموجه للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي في آذار عام ١٩٢١، حول ضرورة التعاون مع العوامل الرأسمالية الداخلية والخارجية، «إننا الآن في مرحلة تحول، وثورتنا محاطة من قبل بلدان رأسمالية. وطالما نحن في هذه المرحلة، فإننا مجبرون على البحث عن أشكال عالية التعقيد من العلاقات». وتكون هذه «الأشكال عالية التعقيد من العلاقات، طبعاً، كان إنشاء أساليب السوق للتوزيع أولاً في القطاع الزراعي وفيما بعد القطاعات الأخرى من الاقتصاد». وفي ملاحظات أخرى للمؤتمر، أكد لينين للمندوبين أن المشكلة الأهم والأخطر في المرحلة الحالية لم تكن سياسة التنازلات للرأسمالية كما يحذر البعض وخاصة أولئك الذين على اليسار. وعلى الأصح كان المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة الذي يهدد بقاء ثورة أكتوبر: «يجب أن لا نخاف من نمو البورجوازية الصغيرة ورأس المال الصغير. وما يجب أن نخافه هو المجاعة، الحاجة ونقص الغذاء، لأمد طويل، وهو ما يخلق الخطر المحتمل في أن(الثورة) البروليتارية تنهار فاسحة الطريق لتردد ويأس البورجوازية الصغيرة».

وقد أظهرتْ كتاباتُ لينين الكثيرة منذ مطلع العشرينيات أنه توصل شيئاً فشيئاً إلى الاستنتاج بأنه في بلدٍ خاضعٍ للهيمنةِ الفلاحية ولمستوياتٍ متدنية من حيث القوى المنتجة والتعليم والثقافة، يمكن أن لا تكون هناك قفزة لخطوط الإنتاج أو التوزيع الاشتراكية أو الشيوعية)، الحوار المتمدن، مقالة: مسألة التحول، وسياسة لينين الاقتصادية الجديدة، بقلم سي. جي، أتكنز).

السياسة التجريبية التي يقومُ بها لينين التي تشكلت من تجزيئيتهِ النظريةِ والقفز على قوانين المادية التاريخية، والتي اندفعتْ نحو أقصى اليسار في سنواتٍ سابقة تقومُ الآن في سنوات العشرينيات من القرن العشرين في روسيا بالعودة لقوانين الاقتصاد الرأسمالي!

هنا الإحساسُ بالتقارب مع اليمين، فظهورُ دولةٍ عسكرية شمولية هو أمرٌ يتناقض مع الاشتراكية لأن الاشتراكيةَ هي مرحلةُ خفوت الدولة وزوالها التدريجي، حيث تبدأ الطبقاتُ المتضادةُ بالاختفاء، لكن هنا الدولة على العكس غدتْ هي الكائنُ الاقتصادي السياسي العسكري الهائل، وإن الدولةَ لم تكتفِ بالهيمنة الواسعة على المجتمع بل تدخلتْ في كل علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جاعلةً نفسَها المالك الأكبر، ينافسها الاقتصادُ الفلاحي الصغير، حيث لا يمكنها أن تزيله لأن تلك الأراضي الزراعية الصغيرة غير مجدٍ تأميمها، ومن هنا التصور الخيالي الآخر بالقيام بالمزارع الجماعية حيث تُصادر المُلكياتُ الفلاحية الصغيرة، وهذه سوف يستكملها ستالين، بتوسع الاستبداد الدموي، فدكتاتوريةُ البرجوازيةِ الصغيرة التي تبدأُ من لينين تتوسعُ لدى ستالين مقيمةً رأسمالية دولة كلية، فكلٌ منهما يكملُ الآخر.

إذن هي ليست سياسة عالية التعقيد بل عالية التضليل، فالرجوعُ لقوانين اقتصاد السوق الرأسمالية يستلزمُ النقدَ الموضوعي لتجربةِ التأميمات المستعجلة والمصادرات ومنع الأحزاب والقضاء على الحريات الاقتصادية والسياسية، ويلزمُ الاعترافَ بأن روسيا دولة متخلفة لابد أن تعيدَ النظر في بنائها الاقتصادي، عبر إعادة المؤسسات الاقتصادية الخاصة وتكوين القطاع العام القائد، وتشكيل تجربة ديمقراطية متنوعة، لكن مثل هذه السياسة تعني انهيار الأفكار الاشتراكية الحكومية الشمولية وزوال هيمنة رأسمالية الدولة التي غدتْ لها مصالح كبيرة وبيروقراطية هائلة صاعدة تتحكم في دولةٍ ضخمة والتي يقبضُ على خيوطها الدكتاتور الجماعي المتمثلُ في المكتب السياسي للحزب والذي يعبرُ عن التناقضاتِ غيرِ المرئيةِ في الوعي الاشتراكي الزائف هذا.

إن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية النهضوية في روسيا وقتذاك بحاجةٍ لرأسِ المال، وبسياسةِ التقشف والمصادرة يتوارى رأسُ المال، فيجب أن يعودَ للساحة بعد أن تم طرده شر طردة!

هنا غدت السياسةُ الاقتصاديةُ الجديدة بعثاً للرأسمالية فبدأ لينين في رؤية (أن التأميمات السريعة والآمال العالية للتخطيط الواسع في الاقتصاد التي ميزت السنوات الأولى قد ذهبت «بعيداً جداً» و«سريعاً جداً») السابق.

فهنا لابد من الحصول على الرساميل وإيجاد سياسة للأجور، ذات مراتبية، ولابد من العودة للسلعة وقانون قيمتها، وإنشاء السوق، وإجراء التبادل بين الهياكل الاقتصادية الاجتماعية، لكن لاتزال الدولةُ هي الرأسمالي الأكبر الذي يشتري ويبيع خلافاً للحلم الاشتراكي بزوال الدولة.