أين أخطأ كارل ماركس؟


يعقوب ابراهامي
2012 / 7 / 23 - 18:51     

(من وحي "هل أنا ماركسي؟" بقلم ماجد جمال الدين، "الحوار المتمدن"، 25/6/2012)

"في حقيقة الأمر المسألة هي مسألة القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي. إنها مسألة هذه القوانين وهذه الإتجاهات التي تقود بضرورة حديدية إلى نتائج حتمية" - (كارل ماركس)
"الماركسية لا تقل دقة عن الفيزياء" – (حسقيل قوجمان)
"الديالكتيك هو الحقيقة المطلقة" – (فؤاد النمري)

"لو كان أنف كليوباترا أقصر لتغير كل ما على سطح الأرض." ( بليز باسكال، 1623-1662، فيزيائي ورياضي وفيلسوف فرنسي)

على غرار الزميل ماجد جمال الدين أبدأ أنا أيضاً بقصة من روايات الخيال العلمي.
من منّا لم يسأل نفسه: ماذا كان كارل ماركس يفعل لو قام من قبره في يومٍ من الأيام ورأى المهزلة التي تحولت إليها أفكاره على أيدي ستالين، ماو تسي تونغ، بول بوت و كيم آل سونغ؟
بيرنارد وولف (1915-1985)، كاتب وصحفي أمريكي خريج جامعة ييل ولفترة وجيزة، عام 1938، سكرتير لترو تسكي عندما كان الأخير منفياً في المكسيك (قبل أن يدركه خنجر ستالين) يتناول هذا الموضوع في روايته الخيالية "ليمبو"، الصادرة عام 1952.
أنا كما قلت مرةً للزميل جاسم، وبخلاف الزميل ماجد، لا أحب قراءة روايات الخيال العلمي ولذلك لم أقرأ الرواية "ليمبو" في الأصل. أنا أنقل القصة هنا عن الكاتب والمفكر الفرنسي جاك أتالي كما يرويها هو في كتابه: "كارل ماركس أو روح العالم" (والعهدة طبعاً على الراوي)

هذه قصة عن الدكتور مارتين، جراح وأخصائي في علوم الدماغ. في الحرب العالمية الثالثة (الخيالية) التي اندلعت عام 1970 بين بلاده (هينترلاند) وبقية دول العالم يجد الدكتور مارتين نفسه مديراً لمستشفى حربي في الميدان ويذهله العدد الكبير من جرحى الحرب الذين كان مضطراً إلى قطع أياديهم وأرجلهم لإنقاذهم من آلامهم ومن الموت المحتم.
في دفتر مذكراته اليومية، الذي كان يسجل فيه ما يدور بخاطره من هواجس، يكتب أن الحرب ما كانت لتندلع، وهو نفسه لم يكن مضطراً إلى قطع أيدي وأرجل الجرحى، لو أن الإنسان ولد منذ البداية بلا أيدٍ وبلا أرجل مما كان يفقده الرغبة والقدرة على القيام بأعمال عنف وشن الحرب.
في نهاية الأمر ينتاب الدكتور مارتين اليأس ويرحل إلى جزيرة نائية لا تربطها بباقي أنحاء العالم صلة.
بعد مرور عشرات السنين تحط على شواطئ الجزيرة النائية بعثة من سكان وطنه الأصلي (الذي أصبح في هذه الأثناء دولة عظمى) وأول ما يجلب انتباه الدكتور مارتين هو أن كل أفراد البعثة ذوو أيدٍ وأرجلٍ اصطناعية، وعند استفساره عن سبب ذلك يفهم أن بلاده هي الآن في قبضة مجموعة من دعاة اللاعنف تؤمن أن قطع الأيدي والأرجل هي الوسيلة الناجعة والوحيدة لمنع الحروب ولدك غريزة العنف لدي الإنسان.
قلقاً مما رأى وسمع يقرر الدكتور مارتين الرجوع إلى وطنه السابق، وعند وصوله الى هناك يشاهد أن صورته هو (يوم كان شاباً) معلقة في المدارس والمؤسسات الحكومية وتماثيله منصوبة في الساحات والميادين العامة. يتضح له فيما بعد أن أحد زملائه القدامى في المستشفى الحربي عثر على دفتر مذكراته، قرأ ما كتبه عن أناسٍ بلا أيدٍ وبلا أرجل، استولى على الحكم في البلاد، أعلن على نفسه أنه يتكلم باسم المسيح المرتقب الدكتور مارتين وجعل من دفتر مذكراته كتاباً مقدساً لإديولوجيا شمولية تقاس فيها قيمة الإنسان بعدد أطرافه المقطوعة.

(هذا ما يحدث عندما يتحول "الحلم" بمستقبلٍ أفضل إلى "علمٍ" دقيق. "المؤرخ يقف مذهولاً أمام الطريقة التي يتحول فيها الحلم بالإنعتاق إلى عبودية مطلقة، والفردوس الموعود ينقلب إلى جحيم" - كتب يعقوب تالمون في كتابه "عصر العنف")

في "ليمبو" يثور الدكتور مارتين (كارل ماركس؟) على مبادئه المشوهة ويحلم بالأيام السعيدة التي قضاها بحرية حقيقية في جزيرته النائية.

"أحمق فقط يلقي على عاتق كارل ماركس المسؤولية عن معسكرات "الغولاغ" (معسكرات الأعمال الإجبارية الشاقة في عهد ستالين) " – يقول فرانسيس وين في كتابه "كارل ماركس". "هل علينا أن نتهم الفلاسفة بكل تشويه يلحق بأفكارهم بعد موتهم؟ " – يتساءل وين.
ومع ذلك يبقى السؤال: هل كارل ماركس حقاً خالٍ من كل مسؤولية عما حدث؟ ألم يكن في أفكاره من الغموض والثغرات ما أفسح المجال لهذا التشويه الفظيع؟
أو بعبارة أوضح: أين أخطأ كارل ماركس؟
"الخطيئة الأولى" في نظري هي في تحويل "الماركسية" من مجموعة من الأفكار والفرضيات والنظريات والأحلام و"التأملات" الفلسفية إلى "علم" دقيق ("الماركسية لا تقل دقةً عن الفيزياء" – حسقيل قوجمان) وإلى حقيقة مطلقة لا يرقى إليها الشك ("الديالكتيك هو الحقيقة المطلقة" – فؤاد النمري).

(كلمة حول الدقة في علم الفيزياء وفي "علم" الماركسية:
الدقة في الفيزياء بلغت درجةً أن علماء الفيزياء النظرية يعرفون اليوم الشيء الكثير عما حدث في الجزء الطرليون من الثانية الأولى بعد "الإنفجار العظيم" (أو "الخليقة" إن شئتم) وفي الأمس القريب فقط عثروا في مختبرات "سيرن" على "الجزيء الإلهي" الذي تنبئوا بوجوده منذ سنوات.
عن "دقة" تنبؤات الماركسية التي "لا تقل دقةً عن الفيزياء" تشهد القصة التالية: في أوائل يناير عام 1917 ألقى لينين محاضرة في "بيت الشعب" في زيوريخ، سويسرا، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية عشر لثورة 1905.
في هذه المحاضرة تنبأ لينين: "نحن الكبار قد لا نعيش لنرى المعارك الحاسمة للثورة القادمة".
هذا لم يمنعه، بعد أقل من أربعة أشهر فقط ، أن يقف على سطح السيارة المصفحة في محطة القطار "فنلندة" في بتروغراد ويهتف: "عاشت الثورة الإشتراكية البروليتارية في روسيا!" وسط أنظار رفاقه الذين ظنوا أنه قد فقد صوابه).

السؤال: هل "الماركسية" علم دقيق (كالفيزياء والكيمياء) أم مجموعة نظريات واجتهادات فكرية؟ عمره كعمر الماركسية نفسها.
صحيح. ماركس نفسه، بقدر ما أعرف، لم يستخدم تعبير "الإشتراكية العلمية" في أبحاثه، واصطلاح "قوانين الديالكتيك" لم يرد في أيٍّ من كتاباته (طريقتي في التحليل والتفكير هي الطريقة الديالكتيكية – كان يقول).
ولكن، من الجهة الثانية، ليس هناك وثيقة تاريخية واحدة تشهد أن كارل ماركس احتج، أو عارض، حينما قام شريكه في العمل والحياة، فريدريك أنجلز، بإنزال أول ضربة قاضية بالماركسية عندما حول أفكار كارل ماركس عن المجتمع والتاريخ البشري الى نظرية "علمية" غريبة عن الماركسية، حول الكون والطبيعة والإنسان، أطلق عليها اسم "المادية الديالكتيكية"، وحاول أن يفسر عن طريقها كل شيء: من مسار النجوم في الفضاء الخارجي إلى تطور المجتمع البشري. نحن نعرف أيضاً أن أنجلز كتب "أنتي دهرنغ" بتعاون وثيق مع كارل ماركس وليس هناك ما يشير إلى خلاف في الرأي بينهما.
ألا يتحمل كارل ماركس جزءً من المسؤولية عن هذا الإنتهاك الفظيع لأفكاره الذي مهد السبيل فيما بعد لخريج معهد اللاهوت في جورجيا أن يمسخ الماركسية من سلاح فكري ثوري لفهم المجتمع وتغييره إلى جثة محنطة، وأن يحول الديالكتيك من طريقة للتحليل والتفكير إلى عقيدة دينية وإلى سلاحٍ لقتل الخصوم السياسيين؟

في رسالة بعث بها كارل ماركس عام 1852 إلى ويدي ماير في نيو يورك كتب:
"أن الجديد الذي أتيت به أنا هو أنني برهنت على ما يلي: 1. إن وجود الطبقات يرتبط بمراحل تاريخية معينة من تطور الإنتاج. 2. إن الصراع الطبقي يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا. 3. إن هذه الدكتاتورية نفسها ليست سوى مرحلة انتقالية نحو محو كل الطبقات ونحو مجتمع لا طبقي".
إذا كان كارل ماركس قد استخدم حقاً، في النص السابق، كلمة "برهنت" أو باللغة الإنكليزية
Proved
فإن كل من أنهى السنة الجامعية الأولى في موضوع "فلسفة العلوم" يعرف أن هذا الإدعاء هو ادعاء باطل لا أساس له من الصحة. إذ كيف "برهن" كارل ماركس إن الصراع الطبقي يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا؟ كيف يمكن "البرهنة" على فرضية كهذه؟ وأنا لا أتكلم هنا طبعاً عن أن التاريخ نفسه قد أثبت بطلان هذه الفرضية. أنا أتكلم عن شيءٍ آخر تماماً. أنا أقول أن كارل ماركس ادعى ادعاءً باطلاً عندما قال أنه "برهن" على حتمية دكتاتورية البروليتاريا أو "حتمية" قيام المجتمع اللاطبقي. لم يكن بمقدور كارل ماركس على الإطلاق أن "يبرهن" على "حتمية" أي حدثٍ مستقبلي. هل كان بحوزة كارل ماركس جهاز سحري يدخل فيه "الصراع الطبقي" من جهة وتخرج منه، من الجهة الأخرى، النتيجة الحتمية المرتقبة: "دكتاتورية البروليتاريا"؟