نقدُ المغامرةِ التاريخية(٢-٢)


عبدالله خليفة
2012 / 7 / 23 - 09:48     

تصوير لينين الثورةَ الديمقراطيةَ القومية الروسية بأنها ثورةٌ اشتراكية هي جزءٌ من المتخيّل الحزبي، بسببِ الخلط بين بعض المهمات الديمقراطية الضرورية لتطور روسيا في سياق صلتها بالتحديث وبعض الإجراءات الاقتصادية المضادة لتلك المهمات.

المتخيٌّل هو بسبب غياب قراءة القوانين الموضوعية للتشكيلات، فتأميمُ مصانع لا يعني إزالة علاقات الانتاج الرأسمالية، كما أوضحنا سابقاً، ولهذا فإن علاقات الانتاج الرأسمالية ستظهرُ عبر المؤسسات الاقتصادية الجديدة الواسعة الانتشار، وعبر وجود إدارة وعمال. ولكن لن يحدث للجانبين الإدارةِ والعمال، القيادةِ والقاعدة، الملاكِ الجدد السياسيين والأجراء، نفس التطور لقرنائهم في الغرب.

إن شكلَ رأسمالية الدولة يغدو شكلاً انتقالياً، فقد عبرَ التشكيلةَ الاقطاعية لكنه لم يدخلْ بعد التشكيلةَ الرأسمالية. ويظل يتذبذب لعقود حتى يدخل فيها وهو عالقٌ ببقاياها المؤثرة جداً على تطور المجتمع.إن سياقَ المهمات الديمقراطية يُؤخذ روسياً في حضنِ الدكتاتورية، فتوزيعُ الأراضي على الفلاحين هو إجراءٌ ديمقراطي اجتماعي، وهو يقوي الأحزابَ المعبرة عن الجمهور الريفي خاصة، ويوسع التنوعَ ويعزز سلطة البرجوازية الصغيرة الشمولية التي تخافُ من إنتشار هذا التنوع فتلجأ لإجراءات القمع الواسعة، ولهذا تجري جوانب مضادة للديمقراطية كخنق السوفيتات، وحل الأحزاب الأخرى، ومنع الصحافة الحرة الخ.

هذه التجربة يعتبرها لينين نموذجاً للغرب ولكن الشرق هو الذي يستفيد منها، بسبب تشابه التشكيلة الإقطاعية التي يعيشُ فيها، وجذوره الدكتاتورية القومية والمحافظة.

ومن هنا تأخذ الثورةُ الديمقراطية الروسية طابعاً تأثيرياً تحررياً في العالم الثالث، بمواجهةِ الاستعمار العدو المشترك، والخانق للتجارب الرأسمالية الوطنية، وكذلك تتضافر بعض المهمات الديمقراطية والاجتماعية، ويتنامى المتخيّلُ السياسي كثيراً وتزداد المغامراتُ الرعناء أيضاً.

مثلما يتبددُ ضبابُ التداخلِ بين ما هو ديمقراطي قومي وما هو إشتراكي، أو ديني، والذي يتشكلُ في بدايةِ الأفق الاجتماعي الصباحي التحولي لشعوب الشرق، والذي يبالغُ في تصويرِ قفزاته المتخيّلة، ثم يقاربُ المهمات الحقيقية، برؤيةِ التناقضات الطبقية العصية على الحلول السريعة وأهمية تطور مستويات التطور للأغلبيات الشعبية في ظل مثل هذه الأنظمة الديمقراطية.

أدواتُ لينين التحليلية التي تكونت في ظلِ رؤيةٍ شمولية مستعينة بالتعميمات المجردة، مكونةً مغامرةً تاريخية، تتوجه كذلك لرفض التكتيكات السياسية المغامرة أيضاً!

فهو إذ يعتبر ما قام به البلاشفة فعلاً تطورياً متصاعداً ناضجاً يرفض بعض الإجراءات السياسية والدعوات الفكرية الرافضة للمشاركة في البرلمانات والنقابات(الرجعية)، معتبراً إياها عملاً مغامراً.

هذه الازدواجية تعبر عن كون النضالات التكتيكية هي مقدمة وأدوات للاستيلاء على السلطة، وإقامة السلطة الاشتراكية في البلد المتخلف روسيا، التي تغدو هي المغامرة الكبرى والخطيرة المكلفة لحياة الملايين من الناس، بدلاً من أن تكون وسائل ديمقراطية محولةً للمجتمع وللحزب نفسه.

إن الوعي المغامر يبدأ من البداية من نشر الشمولية في الحزب والتصور الواحد وقيادة المجموعة لتلك المخاطر التاريخية، بدلاً من الاعتماد على التعددية والنمو الديمقراطي التدريجي وتفكيك الصلات السياسية الشمولية بين القومية الروسية المسيطرة والقوميات المسيطر عليها، وإيجاد تجربة نهضوية متدرجة تزيل الألغام الاقتصادية والاجتماعية التي لاتزال روسيا حتى الآن بعد تلك المغامرة تعيشُ عقابيلها وآثارها.

حيث لاتزال القوميات ومجموعات الأديان المختلفة تهز روسيا الاتحادية التي لم تقارب العالمَ الحديث الديمقراطي بعد، ولديها ترسانة عسكرية ونووية كبرى، ولاتزال تعيش ذلك الضباب الصباحي السياسي ومفترق الطرق السياسية، وتساهم في قمع بعض الشعوب بشراسة.

ولو كانت تلك المغامرة لم تحدث وسارت روسيا في الطريق الديمقراطي لكانت قد فككتْ الكثيرَ من الألغام التي تمشي عليها الآن.