الأداة السياسية للطبقة العاملة


عبد السلام أديب
2012 / 7 / 23 - 09:35     

توصلت من الأخت (خ أ) في آخر حوار تم نشره لي في الحوار المتمدن بالاستفهامات التالية:

الأخ أديب تشير في معرض جوابك في النقطة 44 الى مايلي:

التعبيرات السياسية الموجودة كلها تعبيرات طبقية متناغمة مع طموحات الباطرونا والتحالف الطبقي الحاكم ومع اقتصاد الريع المتداخل مع الاقتصاد الرأسمالي الى درجة التماهي، لذلك لا أحد منها سيدافع عن الطبقة العاملة بل ستعمل كلها على استخدامها وليس على خدمتها. وفي المقابل ستضل مختلف الأجهزة تناهض أي امكانية لنهوض أداة سياسية للطبقة العاملة، لأن ذلك سيعني بكل صراحة مواجهة الاستغلال والاستبداد والفساد وهي المضامين الثلاثة التي تعمل الباطرونا بشكل أو بآخر على عدم المساس بها
ارجو منك تنويري وتنوير القراء الكرام حول طبيعة الأداة السياسية للطبقة العاملة لأن الكثير يتحدثون عنها خصوصا النهج الديموقراطي بدون قدرتهم على تحديد مضمونها وهل لها مضمون حقيقي ام انها مجرد مصطلح وهمي للاستهلاك

هناك سؤال ثان بخصوص اتهاماتك الدائمة للبرجوازية الصغرى كما يفعل على الدوام فؤاد النمري حيث يبدو لي ان اتهاماتكما لهذه الطبقة مبالغ فيها رغم لعبها لادوار ايجابية في اي نظام سياسي فما حقيقة هذا الاتهام

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&userID=100&aid=315824

ونظرا الى أن الجواب على هذين السؤالين المهمين قد يتطلب مني تفصيل طويل نسبيا فقد حاولت صياغة هذه الورقة حتى أجيب فيها قدر الامكان عن التساؤلات التي طرحتها الأخت من وجهة نظري طبعا، وهي وجهة نظر خاصة تحمل في طياتها مواقف سياسية خاصة، حسب فهمي المتواضع للتحليل المادي الجدلي للتاريخ.

أولا: مجتمع الطبقات في ظل نمط الانتاج الرأسمالي

كما هو معلوم يعيش عالم اليوم تحت هيمنة نمط الانتاج الرأسمالي، هذا النمط الذي قام على انقاض نمط الانتاج الفيودالي والذي انطلق من رحمه في حوالي القرن الرابع عشر الميلادي. وكما كان الشأن بالنسبة لنمط الانتاج العبودي ونمط الانتاج الفيودالي فقد قام النظام السياسي والاقتصادي الرأسمالي على التفاوت الطبقي. وحيث ينقسم المجتمع الى طبقات، فالهيمنة والحكم هو بيد الطبقات المالكة لوسائل الانتاج التي نسميها بالرأسمالية أو بالبرجوازية وهي شريحة اجتماعية استطاعت أن تفرض نظامها الاقتصادي القائم على نمط الانتاج الرأسمالي

وفي مقابل الطبقة البرجوازية المهيمنة توجد الطبقة العاملة وهي الطبقة المنتجة الأساسية التي تشكل الاغلبية في جميع المجتمعات، والتي لا تمتلك سوى قوتها العضلية والفكرية وتجد نفسها مضطرة لكي تعيش الى بيع هذه القوة العضلية أو الفكرية الى الطبقة البرجوازية للاشتغال في مركباتها الانتاجية مقابل أجر.
ونظرا لأن علاقات الانتاج وتدبير الحياة الاجتماعية يتطلب العديد من الخدمات كالنقل والتطبيب والبيع والشراء والنقل والتعليم والمحاماة والتجارة... الخ، فقد ترعرعت في ظل هذا القطاع الاقتصادي الذي هو قطاع الخدمات طبقة وسطى، ملتصقة اقتصاديا بالطبقتين معا البرجوازية والعاملة.

وكما سبق لكارل مار كس ان قال في كتابه حول "الايديولوجية الألمانية" "بأن أفكار الطبقة المهيمنة هي في جميع العصور الأفكار المهيمنة"، وبطبيعة الحال أن أفكار الطرف القوي هي المهيمنة لأنها تخدم مصالحه وبطبيعة الحال أن تتم محاربة جميع الأفكار التي تتناقض مع الأفكار المهيمنة. فانطلاقا من هذه الخلاصة نجد أن كل ما ينتج من بنيات فوقية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والثقافية هي بالضرورة من انتاج الطبقة المهيمنة وتكون متطابقة مع مصالحه.

وفي ظل علاقات القوة القائمة بين الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الانتاج والطبقة العاملة المنتجة الحقيقية للخيرات، فإن مصلحة البرجوازية تتناقض مع مصالح الطبقة العاملة، لأن الطبقة الأولى تستغل الطبقة الثانية، ونظرا لكون هذا التناقض يؤدي موضوعيا الى مقاومة الطبقة العاملة ضد استغلال البرجوازية لها، فإن هذه الأخيرة تتملك من وسائل القوة ما يمكنها من احباط أي مقاومة عمالية لاستغلالها.

اما الطبقة الوسطى والتي تلتصق عادة بالطبقة البرجوازية والتي لا تتعرض مثل الطبقة العاملة لنفس الاستغلال بل أن موقعها في دورة الانتاج يمكنها من مداخيل لا بأس بها ينعكس ايجابيا على وضعها الاجتماعي والثقافي، فتتولد لديها رغبة في المحافظة على استمرارية أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ان لم تتمكن من الصعود الى مصاف البرجوازية. ويدفع هذا الواقع المادي الطبقة الوسطى الى مدافع مستميت عن أفكار الطبقة المهيمنة، بل تصبح حليفا للبرجوازية ضد الطبقة العاملة، إلا أنها بدلا من أن تحارب هذه الأخيرة بالوسائل القمعية المادية كما تفعل البرجوازية بواسطة القانون والمحاكم والبوليس والعسكر فإنها تلجأ الى الخداع والحيل من أجل حث الطبقة العاملة على القبول بالنظام الاستغلالي القائم مستعملة في ذلك مختلف الاسلحة الدينية والايديولوجية والثقافية وحتى النضال الوهمي الى جانبها من خلال الأحزاب والنقابات.

خلاصة ما سبق هو أن المجتمع الطبقي في ظل نمط الانتاج الرأسمالي، تميل فيه الهيمنة للطبقة البرجوازية التي تتحكم في كافة البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والايديولوجية وخاصة جهاز الدولة والتي تعمل من خلالها على استمرار علاقات القوة والاستغلال خاصة اتجاه الطبقة العاملة التي لا تمتلك سوى قوتها العضلية والتي تجد نفسها محاصرة من كل جانب من طرف القوى المهيمنة. أما البرجوازية الصغرى التي تشتغل اساسا في مجال الخدمات وتجد مصالحها أكثر الى جانب البرجوازية فإنها توظف ملكاتها للحفاظ على النظام القائم ودعم البرجوازية في مواجهتها لمقاومة الطبقة العاملة.

ثانيا: تطور الأدوات السياسية للبرجوازية المهيمنة
السلوك السياسي للطبقة البرجوازية المهيمنة يتم تصريفه عبر هيمنتها على جهاز الدولة. ومعلوم أن مرحلة صعود نمط الانتاج الرأسمالي منذ القرن الرابع عشر واكب في نفس الوقت صراع البرجوازية ضد النظام الاقطاعي والملكيات المطلقة وفي خضم هذا الصراع تطور الفكر السياسي البرجوازي المهيمن لتكتمل معالمه، فقد تطور مفهوم الدولة وبلغ أوجه مع هيغل كما تطورت مفاهيم العقد الاجتماعي لدى كل من طوماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو ثم ترسخ مفهوم فصل السلطات مع مونتسكيوا. وقد انتصبت مفاهيم الديموقراطية البرجوازية كأسلوب لهيمنة هذه الأخيرة السياسية منذ الثورة الفرنسية سنة 1789.

لكن اسلوب ممارسة البرجوازية للحكم سيعرف تحولا راديكاليا منذ بداية القرن العشرين وخصوصا منذ سنة 1914. فقبل هذا التاريخ كانت البرلمانات بالفعل أجهزة تقريرية والحكومات تعمل على التنفيذ تحت مراقبة البرلمانات. وكانت البرجوازية تفرض على الدولة عدم التدخل في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية تطبيقا لمقولة آدام سميت دعه يعمل دعه يمر وأن دور الدولة هو فقط حماية نمط الانتاج الرأسمالي ضد أي تهديد داخلي أو خارجي.

لكن انطلاقا من بداية القرن العشرين وبلوغ الرأسماليات مرحلة الامبريالية واستعمار مختلف بقاع العالم أصبح هذا الأخير قرية صغيرة وأصبحت الأسواق غير قادرة على استيعاب الانتاج الرأسمالي الغزير وبالتالي عدم قدرة البورجوازيات تحقيق الأرباح. انها الأزمة الخانقة التي تهدد الجميع بالموت. لقد اختارت البرجوازية منذ ذلك الحين حل ازمتها وتناقضاتها على حساب بعضها البعض، فقامت اذ ذاك أول مجزرة عالمية ذهب ضحيتها حوالي 24 مليون نسمة أغلبهم من الطبقة العاملة.

ان منعرج الأزمة والحرب العالمية الأولى أدخل النظام الرأسمالي في مرحلة احتضار طويلة الأمد. فالبرجوازية لكي تتمكن من الاستمرار في الانتاج وتحقيق الأرباح أصبحت مضطرة لاعادة النظر في كل بنياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية وحتى في بنية الدولة.

ومن بين أهم التحولات التي شهدتها الأدوات السياسية البرجوازية تحول عميق في الديموقراطية البرجوازية فلم تعد البرلمانات اجهزة تقريرية بل تركزت السلطة في يد الحكومات وقد فسر ماكس فيبر جيدا التحول الدي طرأ على اسلوب الحكم الديموقراطي البرجوازي والذي انتقل الى ايدي بيروقراطية تأتمر بأوامر البرجوازية المهيمنة. كما أن الانتخابات وفصل السلطات فلم تعد لها سوى أهمية شكلية حيث أن هناك دائما من يقف خلف الستارة لدفع السلطة في اتجاه خدمة البرجوازية المهيمنة. كما أن هذه الهيمنة طالت حتى الاعلام والاحزاب والنقابات. وحيث تجد البرجوازية المهيمنة دائما الى جانبها البرجوازية الصغرى الانتهازية والتي تكون على استعداد لتنفيذ أوسخ المهام.

1 - خلال القرن 19تم بناء ديموقراطية برجوازية للاستعمال فقط من طرف البرجوازية

إذا كان بإمكان الأجنحة المهيمنة من البرجوازية العالمية أن تطالب "بالديموقراطية"، فذلك لأنها تنطبق على تاريخها الخاص. فالبرجوازية قامت بثورتها وقوضت الفيودالية باسم الديموقراطية، والحريات. فالتنظيم السياسي للبرجوازية ظل يتطابق مع حاجياتها الاقتصادية. فكان عليها أن تعمل على تحرير اقنان الأرض باسم الحرية الفردية، ومن أجل إنشاء بروليتارية كثيفة مكونة من مأجورين مستعدين لكي يبيعوا قوة عملهم كأفراد. أما البرلمان فهو المسرح الذي تقدم فيه مختلف الأحزاب مصالحها المتعددة والتي توجد في قلب البورجوازية، ومختلف قطاعات رأس المال، وحيث تتواجه من أجل تحديد تشكيلة وتوجهات الحكومة المكلفة بالسلطة التنفيذية. فالبرلمان إذن، بالنسبة للطبقة المهيمنة، هو المكان الحقيقي الذي يحصل فيه النقاش واتخاذ القرارات. ذلك هو النموذج التاريخي الذي يدعيه "ديمقراطيونا" اليوم، وهو شكل التنظيم السياسي الذي تتخذه ديكتاتورية رأس المال في مرحلة طفولته، الشكل الذي اتخذته الثورة البرجوازية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

لكن يجب أن نسجل أيضا، بأن هذا النموذج الكلاسيكي لم يكن أبدا نموذجا كونيا. ففي الغالب تعرضت هذه القواعد الديمقراطية لتحريفات من أجل أن تتيح للبرجوازية القيام بثورتها وتسريع وثيرة التغيير الاجتماعي الضروري لتأكيد نظامها. ويكفي لمعاينة ذلك رؤية الثورة الفرنسية، والفضاعات اليعقوبية والملحمة النابليونية بعد ذلك، ورؤية الحالات النادرة التي استطاعت فيه البرجوازية تحقيق مثالها الديمقراطي عندما تفرض الظروف ذلك. الديمقراطية البرجوازية كانت إلى حد ما مثل الديمقراطية الأثينية، حيث كان يسمح فقط "للمواطنين" المشاركة في القرارات، بمعنى لا النساء ولا الأجانب ولا العبيد الذين يشكلون بطبيعة الحال الأغلبية الكبرى من السكان.

في نظام ديمقراطي برلماني فرضته البرجوازية، ا يتم ترشيح الأعيان فقط، فالبروليتارية ليس لها الحق في الكلام، ولا الحق في التنظيم. فكان يجب خوض سنوات من النضال الشرس للطبقة العاملة، من أجل انتزاع الحق في الجمعيات، والحق في التنظيم في إطار نقابات، ومن أجل فرض الاقتراع العام. سواء أراد العمال المشاركة النشيطة في الديموقراطية البرجوازية من اجل انتزاع اصلاحات أو دعم الأجنحة الأكثر تقدمية من الطبقة المهيمنة، فذلك لم يكن متوقعا في برنامج الثورة البرجوازية. وبطبيعة الحال، في كل مرة تتوصل فيه الطبقة العاملة عبر نضالاتها إلى ربح حقوق ديمقراطية جديدة، فإن البرجوازية تعمل على الحد من آثارها.

ذلك ما يلخص جيدا موقف الطبقة المهيمنة، فمفهوم هذه الأخيرة حول الديموقراطية والبرلمان في القرن التاسع عشر كان يقوم على اقصاء العمال منه مبدئيا. فالديموقراطية لم يتم اعمالها من أجلهم، وإنما من أجل الحاجة لتدبير جيد للرأسمالية. وعندما تدعم الفصائل الأكثر تنويرا من البرجوازية بعض الإصلاحات وتعلن عن موافقتها على مشاركة أكبر للعمال في التدبير "الديمقراطي"، عبر الاقتراع العام أو الحق في التنظيم النقابي، فسيكون ذلك دائما بهدف اتاحة مراقبة الطبقة العاملة، وتفادي الاضطرابات الاجتماعية المضرة بالإنتاج. وليس صدفة إذا كانت الباطرونا الأولى التي انتظمت وتجمعت في لجان، في مواجهة ضغط النضالات العمالية، وأن باطرونا الصناعات الكبرى هي التي نجدها في نفس الوقت منفتحة على الإصلاحات. في إطار الصناعة الكبرى الرأسماليون الذين يواجهون القوة العددية الجماهيرية للعديد من البروليتاريين الذين يشغلونهم، أصبحوا واعيين بشكل كبير من جهة بضرورة مراقبة الامكانية الانفجارية للطبقة العاملة، عن طريق تمكينها من تعبير برلماني ونقابي، ومن جهة أخرى، بضرورة ادخال اصلاحات (تحديد عدد ساعات العمل في اليوم، منع تشغيل الأطفال) مما يتيح تعهد قوة عمل في صحة جيدة وإذن أكثر انتاجية.

ومع ذلك، رغم واقعة أن المستغلين مقصيين أساسا، فإن الديموقراطية البرلمانية في القرن التاسع عشر شكلت حقيقة عمل البرجوازية. فالجهاز التشريعي كان يهيمن على الجهاز التنفيذي، وكان النظام البرلماني والديموقراطية التمثيلية تعتبر واقعا.

2 - أما في القرن العشرين، فقد تم افراغ عمل "الديموقراطية" من محتواه.

فمع الدخول في القرن العشرين، هيمنت الرأسمالية على العالم، وباصطدامها بحدودها الجغرافية، واجهت حدودا موضوعية للأسواق وانسدت بذلك مجالات تصريف منتجاتها. وتحولت علاقات الانتاج الرأسمالية الى عراقيل أمام تنمية قوى الانتاج. فدخلت الرأسمالية ككل الى مرحلة الأزمات والحروب ذات البعد الكوني.
هذا الانقلاب، المحدد في حياة رأس المال كان له كانعكاس حدوث تحول عميق في نمط الوجود السياسي للبرجوازية وعمل جهاز دولتها.
الدولة البرجوازية هي بالأساس، ممثلة المصالح الإجمالية للرأسمال الوطني. فكل ما يهم الصعوبات الاقتصادية العامة، وتهديدات الأزمة ووسائل الخروج منها، وتنظيم الحرب الامبريالية، تعتبر شأنا من شؤون الدولة. ومع دخول الرأسمالية في مرحلة احتضارها، أصبح دور الدولة مرجحا، ذلك لأنها الوحيدة القادرة على الحفاظ على حد أدنى من "النظام" في مجتمع رأسمالي ممزق بتناقضاته والذي يتجه نحو الانفجار. "الدولة هي اعتراف بأن المجتمع مرتبك في تناقضات مع نفسه لا علاج لها" كما قال انجلز. إن تطور دولة ذات أدرع أخطبوطية تراقب كل مظاهر الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي السمة الأساسية لشكل تنظيم رأس المال في مرحلة انحطاطه، انها الجواب الشمولي للمجتمع الرأسمالي على أزمته. "فرأسمالية الدولة هي الشكل الذي تتجه الرأسمالية لتقمصه في مرحلة الانحطاط".
ونتيجة لذلك، ففي المجتمع الرأسمالي ترتكز السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية. هذه الظاهرة تعتبر بديهية خلال الحرب العالمية الأولى حيث أن اكراهات الحرب والمصلحة الوطنية لاتسمح بالنقاش الديموقراطي في البرلمان وتفرض انضباطا مطلقا على جميع فصائل البرجوازية الوطنية. لكن، عقب ذلك، فإن هذا الأمر الواقع سيستمر ويتعزز. البرلمان البرجوازي أصبح عبارة عن قشرة فارغة لا تمتلك أي دور تقريري.

إن هذا الواقع، لاحظته الأممية الثالثة في مؤتمرها الثاني. فقد صرحت "أن نقطة ارتكاز الحياة السياسية الحالية خرجت بشكل كامل ونهائي من البرلمان وحيث لم يعد البرلمان بأي حال من الأحوال في الوقت الراهن، مسرحا للصراع من أجل اصلاحات ومن أجل تحسين وضعية الطبقة العاملة، كما حدث ذلك في بعض الأحيان في زمن سابق. وعليه، ليس فقط أن الرأسمالية المتأزمة لم تعد قادرة أبدا على منح اصلاحات دائمة، وانما فقدت البرجوازية نهائيا دورها التاريخي في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فكل فصائلها ستصبح أيضا رجعية.

وعلى مستوى الواقع، ففي اطار هذه العملية، فقدت الأحزاب السياسية البرجوازية دورها الأول، وهي أن تمثل، في قلب الحياة "الديمقراطية" البرجوازية التي كانت تعبر داخل البرلمان سياسيا، مختلف مجموعات الدفاع عن المصالح، ومختلف القطاعات الاقتصادية لرأس المال. فقد أصبحت أدوات بيد الدولة مكلفة بجعل الجماهير الشعبية ومختلف قطاعات المجتمع التي تتوجه إليها، تقبل بسياستها. ومن تمثيل المجتمع المدني في الدولة، أصبحت الأحزاب السياسية أدوات للدولة لمراقبة المجتمع المدني. وحدة المصلحة العامة للرأسمال الوطني التي تمثلها الدولة تتجه لأن تترجم بشكل من الأشكال، أصبحت الأحزاب السياسية البرجوازية فصائل لحزب شمولي دولتي. هذا الميل نخو الحزب الوحيد سيتم التعبير عنه بوضوح في الأنظمة الفاشية والنازية. لكن حتى هنا حيث يسود وهم التعددية سيتم الحفاظ عليه، في لحظات الأزمة الحادة مثل الحرب الامبريالية، فحقيقة حزب مهيمن أو هيمنة حزب وحيد يفرض نفسه موضوعيا.

وفي سياق رأسمالية الدولة، فإن الاختلافات التي تفرق بين الأحزاب البرجوازية لا تشكل شيئا مقارنة مع ما هو مشترك. فالجميع ينطلق من نفس المسلمة الطبقية العامة والتي بحسبها فإن مصالح الرأسمال الوطني تعلو على جميع المصالح الأخرى. هذه المسلمة الطبقية العامة تجعل أن مختلف فصائل رأس المال الوطني قادرة على العمل بين بعضها البعض بشكل جماعي، خصوصا خلف الأبواب المغلقة للجان البرلمانية وفي أعلى مستويات أجهزة الدولة. وهنا يمكن الجزم بأن المسؤولين عن الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان أصبحوا في الواقع موظفين للدولة.

وهكذا فجميع الأنشطة البرلمانية، أصبحت لعبة الأحزاب تفقد مفهومها من وجهة نظر أن الدولة تتخذ قرارات باسم المصلحة العليا للوطن، بمعنى مصلحة رأس المال الوطني. فالأحزاب لم تعد تشكل سوى قناع موجه لستر تطور الهيمنة الشمولية للدولة على المجتمع بكامله. الأداء "الديمقراطي" للطبقة المهيمنة، حتى في الحدود التي كانت تعرفها في القرن التاسع عشر، توقفت عن الوجود، وأصبحت وهما خالصا، ومجرد كذبة كبيرة لا زال يصدقها المغفلون.

ثالثا: تطور الأداة السياسية للبرجوازية الصغرى
تطورت البرجوازية الصغرى كطبقة طفيلية منذ تفكك المجتمع الفيودالي، حيث تعاطت البرجوازية الصغرى لشتى الخدمات داخل المدن والقرى وارتبطت مصالحها بالطبقة البرجوازية المهيمنة فأصبحت تلعب دورا انتهازيا الى جانبها للحفاظ على مصادر دخلها. ونظر لاشتغال هذه الطبقة في الوظائف العمومية والبوليس والجيش ومهام التدريس والمحاماة والتطبيب ... الخ فقد وجدت نفسها تمارس مهام الوساطة بين البرجوازية والطبقة العاملة فالعديد من المجالات.

وبطبيعة الحال فان تدخلات البرجوازية الصغرى لحل النزاعات التي قد تنشب بين البرجوازية والطبقة العاملة سواء بصفتها ممثلة للسلطة من بوليس وعسكر وقضاء ومحامين أو كأطر سياسية أو نقابية، فإن مهامها التوفيقية تتم في الغالب لصالح البرجوازية وعلى حساب الطبقة العاملة.

ولقد انشأت البرجوازية الصغرى العديد من الأحزاب التي تعمل في نفس الوقت على التوفيق بين الطبقتين المتناقضتين وأيضا خدمة مصالحها الذاتية من أجل الارتقاء الاجتماعي الى مصاف البرجوازية المهيمنة، وغالبا ما تأخذ أحزاب البرجوازية الصغرى طابع الديموقراطية الاجتماعية وصفة أحزاب اليسار. وفي الغالب تميل هذه الاحزاب الى خيانة برامجها السياسية لفائدة برامج البرجوازية المهيمنة.

ومثلما حدث بالنسبة لتحول طبيعة الممارسة السياسية البرجوازية، نتيجة دخول النظام الرأسمالي مرحلة احتضاره طويلة الأمد، كذلك تأثرت الأدوات السياسية للبرجوازية الصغرى. ففي أواخر القرن التاسع عشر استطاعت البرجوازية الصغرى من خلال أحزابها الديموقراطية الاجتماعية ومن خلال هيمنتها على المنظمات النقابية أن تحقق بعض الاصلاحات الاقتصادية والسياسية التي استفادت ىمنها الطبقة العاملة فتراجعت حدة مقاومتها لاستغلال البرجوازية. ومن بين هذه الاصلاحات السياسية الاقتراع العام والتمثيلية البرلمانية أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد تم تخفيض ساعات العمل من 17 ساعة الى 10 ساعات والحصول على أيام العطل والعطل الاسبوعية وتحسين الأجور.
ويؤكد هذا المعطى على نجاح البرجوازية الصغرى في مهام وساطتها وأيضا قدرة البرجوازية على التنازل عن جزء من فائض القيمة لتحسين أوضاع الطبقة العاملة نظرا لكونها كانت تحقق أرباحا متزايدة بسبب التوسع الاستعماري.

لكن دخول الرأسمالية مرحلة الأزمة طويلة الأمد مع بداية الحرب العالمية الأولى جعل الوظيفة السياسية للبرجوازية الصغرى تتحول أيضا. فقد أصبح من الصعب تلبية مطالب الطبقة العاملة، ومع ازدياد معدلات البطالة والفقر والتهميش، تحولت وظيفة البرجوازية الصغرى الى دور المخدر للكادحين والبحث عن كافة الأساليب لضمان استمرار ما يسمى "بالسلم الاجتماعي" أو ما يمكن الاصطلاح عليه ضمان استقرار "الظلم الاجتماعي".

أنظر بعض التفاصيل حول البرجوازية الصغرى في الرابط التالي:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=212999


رابعا: تطور الأداة السياسية للطبقة العاملة

1 – الطبقة العاملة كمكون سياسي تاريخي يتطلع نحو الغاء الاستغلال عبر الغاء الطبقات

الطبقة العاملة كطبقة مستغلة مضطهدة من طرف القوى المهيمنة في ظل نمط الانتاج الرأسمالي، يمكن اعتبارها كآخر طبقة اجتماعية تخضع للاستغلال قبل تحول الانسانية الى مجتمع انساني جديد بدون استغلال وبدون طبقات. وعملية التحول من مجتمع رأسمالي استغلالي نحو مجتمع شيوعي خالي من الطبقات ومن الاستغلال هي مهمة سياسية تاريخية لا يمكن لأي طبقة أخرى القيام بها خارج الطبقة العاملة.

المجتمع السياسي هو العالم الاجتماعي الموحد للإنسانية التي ارتكبت الخطيئة الكبرى عند انقسامها الى طبقات، وحيث أن الانسانية أصبحت اليوم متجسدة في البروليتارية وعبر نضال هذه الأخيرة أخذت تتجه بصعوبة نحو هذه استرجاع وحدة الانسانية. فنضال البروليتارية يتخذ بالضرورة في هذا الاتجاه طابعا سياسيا.

وعليه، فإن نضال البروليتارية هو نضال اجتماعي بالضرورة. فعبر الانتصارات التي يحققها يتجه نحو حل كل الطبقات ومن بينها حل الطبقة العاملة نفسها في مجتمع انساني يعاد بنائه على المستوى الكوكبي. ومع ذلك، فإن هذا الحل يتطلب بالضرورة النضال السياسي – بمعنى عبر فرض سلطتها على المجتمع – وسبيل البروليتارية الى ذلك هو بناء منظماتها وأحزابها السياسية الثورية. ثورية لأن البروليتارية تسعى الى تغيير العالم لصالح الانسانية وليس فقط الى إصلاحه. والثورة هنا متعددة الأبعاد، ايديولوجية، سياسية، اقتصادية، ثقافية...

تبقى الاشارة الى أن تشكيل القوى السياسية للتعبير والدفاع عن المصالح الطبقية ليس أمر خاصا بالبروليتارية. فهو فعل جميع الطبقات عبر التاريخ. ثم ان درجة تطور وتعريف وتنظيم هذه القوى تكون متطابقة مع صورة هذه الطبقات المنبثقة عنها. وتبلغ هذه القوى السياسية شكلها الأكثر اكتمالا في المجتمع الرأسمالي وهو المجتمع الطبقي الأخير في التاريخ وحيث تبرز التناقضات الى السطح تجعل اصطداماتها أكثر ضراوة وأكثر وضوحا.

ومع ذلك، إذا كانت هناك نقاط مشتركة فيما بين أحزاب البروليتارية وأحزاب الطبقات الأخرى – وخصوصا الأحزاب البرجوازية – فإن الاختلافات التي تفرق بينها تعتبر جد مهمة.

وكما هو الشأن بالنسبة لباقي الطبقات التاريخية في الماضي، فإن هدف البرجوازية، التي تعمل على استدامة فرض سلطتها على المجتمع، ليس هو الغاء الاستغلال وانما استدامة هذا الاستغلال تحت اشكال أخرى، وليس هو القضاء على انقسام المجتمع الى طبقات، وإنما اعادة انتاج مجتمع طبقي جديد، كما أنه ليس هو تدمير الدولة وانما على العكس من ذلك تقويتها وتحسينها للحفاظ على هيمنتها. إن نوع المنظمة السياسية التي تعمل البرجوازية على بنائها، ونوعية عملها وتدخلاتها في المجتمع، تستهدف بناء أحزاب الدولة تعمل على التحكم وممارسة سلطة الدولة كتعبير سياسي طبقي وكضمان لاستمرار انقسام المجتمع الى طبقات.
أما البروليتارية التي تشكل آخر طبقة في التاريخ، فتستهدف من وراء استيلائها على السلطة السياسية الغاء انقسام المجتمع الى طبقات والغاء الدولة كتعبير طبقي عن هذا الانقسام. لذلك فإن الأحزاب البروليتارية ليست أحزاب الدولة. وليس لها كهدف الامساك وممارسة سلطة الدولة، هدفها الأسمى يستهدف اختفاء الدولة والطبقات.

2 – الأداة السياسية للطبقة العاملة تمر عبر ثلاث مراحل
يؤكد استقراء التاريخ الحقيقي وليس المزيف للمنظمات السياسية الثورية للطبقة العاملة أن حياتها تمر عبر ثلاث مراحل، مرحلة الاعلان والظهور للعلن، ثم مرحلة التطور والنضال، ثم مرحلة التراخي والتفكك. وتؤدي هذه المرحلة الأخيرة الى انتقال التنظيم السياسي نحو معسكر العدو الطبقي أو نحو اختفائه تماما. وقد تمر مدة قد تطول أو تقصر قبل أن تظهر من جديد شروط مادية جديدة تدفع نحو ظهور أداة سياسية جديدة للطبقة العاملة لكي تمر من نفس الدورات الثلاث المشار اليها.

ان تتبع التاريخ السياسي حتى قبل الماركسية يؤكد على نفس الدورات الثلاث للتنظيمات السياسية، وذلك ما قد نلاحظه لدى البابوفية في فرنسا وبروز واختفاء المنظمات الثورية اللاحقة، فعصبة الشيوعيين لم تعش سوى 5 سنوات (1847 – 1852)، كما أن الأممية الأولى عاشت 9 سنوات (1864 – 1873)، بينما عاشت الأممية الثانية 25 سنة (1889 – 1914)، ثم عاشت الأممية الثالثة 8 سنوات ( 1919 – 1927).

تبقى الاشارة الى ان ظهور واختفاء التنظيمات الثورية للطبقة العاملة مرتبط اشد الارتباط مع تطور الشروط المادية للطبقة العاملة نفسها. فعندما تعرف هذه الأخيرة مدا نضاليا ثوريا نتيجة تفاقم أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتعمق الازمة الاقتصادية والسياسية للنظام الرأسمالي تبرز المنظمات الثورية للوجود وتتطور وتعبر عن المستوى المتقدم للوعي الطبقي للبروليتارية وتنخرط من داخل الطبقة في الصراع الطبقي وتعمل على تأجيجه. لكن تفاعل التناقضات الداخلية وصراع انماط التفكير البروليتاري والبرجوازي الصغير اضافة الى الثورة البرجوازية المضادة وتراجع الشروط المادية للثورة سرعان ما تصيب هذه التنظيمات بالوهن والفتور وبالتالي تؤدي اما الى اختفائها او الى المرور نحو المعسكر المعادي للبروليتارية.

نفس هذا المسار المادي الذي يمر عبر المراحل الثلات عرفه تطور التنظيمات السياسية الشيوعية للطبقة العاملة المغربية منذ عهد الحماية والى اليوم. انطلاقا من اليد السوداء فالهلال الاسود مرورا عبر منظمات أ وب وج خلال عقد السبعينات ووصولا الى الأنوية الشيوعية المختلفة اليوم والتي يفرزها دائما نضج الصراع الطبقي وتطوره وسط الطبقة العاملة المغربية. ان تطور وموت أو انتقال مشتقات هذه التنظيمات الثورية أو ما يسمى باستمراريتها نحو المعسكر الرجعي بات أمرا ثابثا لدى جميع المتتبعين الدارسين لتطور التنظيمات الثورية للطبقة العاملة المغربية.

نستخلص مما سبق أن نشأة الأداة السياسية للطبقة العاملة وتطورها يرتبط بشروط الصراع الطبقي وبمستوى تقدم الوعي الطبقي والزخم النضالي الذي يحدثه وهو ما يرتبط أيضا بتطور النظام الرأسمالي وتناقضاته محليا ودوليا. كما أن تحول هذه الشروط المادية وتراجع زخم الصراع الطبقي نتيجة القمع والثورة المضادة والانتصار المؤقت للايديولوجيات البرجوازية قد يؤدي الى موت هذه التنظيمات أو تحللها أوانتقالها نحو معسكر العدو.

3 – برامج الأداة السياسية للطبقة العاملة

وكما هو الشأن بالنسبة للفلسفة، في التاريخ القديم، والتي كانت تضم مختلف العلوم، فإن برنامج الحزب الثوري الناتج عن حركة الصراع الطبقي للبروليتارية، كان يتضمن، في بداياته التاريخية، انجاز عدد كبير من المهام داخل الطبقة، منها على الخصوص:

- بلورة النظريات المتعلقة بواقع الطبقة وبالصراع الطبقي؛
- تفسير الأهداف النهائية لنضالات الطبقة؛
- ان الحزب جهاز نشيط، مناضل داخل الطبقة، يتقدم الصفوف الأولى من اجل الدفاع عن مصالح الطبقة المباشرة الاقتصادية والسياسية؛
- ان الحزب هو المربي السياسي للطبقة، والذي يتدخل كثيرا في حياة الطبقة وتطورها ويضمن هذه التربية على جميع المستويات، عبر الصحافة وعبر المحاضرات، وعبر تنظيم دروس ليلية، وعبر خلق جامعة عمالية، الخ؛
- يضمن الحزب الدعاية، ونشر الأفكار الثورية داخل الطبقة؛
- يناضل بشراسة ودون هوادة الأفكار الرجعية والمضادة للطبقة، وللقوالب الايديولوجية البرجوازية والتي يتم زرعها بدون توقف في افكار العمال مما يحرف وعيه الطبقي؛
- كما يعمل الحزب كمحرض، وينظم ويكثر من التظاهرات العمالية، ومن اللقاءات والاجتماعات وأعمال الطبقة الأخرى؛
- كما يشتغل الحزب منظما، ومبدعا، ومكثفا ومتضامنا مع مختلف الجمعيات العمالية، والثقافية والدفاع عن الشروط المادية المباشرة (المتبادلة، التعاونيات في الانتاج، خلق صندوق الاضراب، والتضامن المالي) وعلى الخصوص تكوين المنظمات الوحدوية والدائمة للدفاع عن المصالح الاقتصادية المباشرة للعمال: النقابات والمجالس العمالية؛

4 – الأداة السياسية للطبقة العاملة والأحداث السياسية الكبرى في ظل الهيمنة البرجوازية
نتساءل الآن حول مدى تأثير الأحداث السياسية الكبرى التي عرفها تطور النظام الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر على الطبقة العاملة وعلى أدواتها السياسية؟
تتمثل أهم الأحداث السياسية التي أثرت بعمق على الطبقة العاملة في أربع مراحل كبرى نستعرضها في ما يلي:

أ - في سنة 1848 انتهت مرحلة المواجهة السياسية بين البورجوازية والنظام الاقطاعي، وقد ظهر في هذه اللحظة بالذات خلف البرجوازية الشبح العملاق البروليتاري الشاب (شهد شهر يونيو من هذه السنة انتفاضة عمال باريز)، وهو الحدث الذي تم الاعلان عنه بضعة شهور من قبل في اطار تشكيل عصبة الشيوعيين. وهو أول حزب شيوعي حقيقي حديث للطبقة العاملة، فقد قطعت هذه المنظمة، مع رومانسية التنظيمات الانقلابية، وتم الاعلان في برنامج منسجم عن نقد واضح للرأسمالية (البيان الشيوعي)، وأكد على الانهيار الحتمي لهذا النظام تحت ثقل تناقضاته الداخلية غير القابلة للتجاوز. وأشار الى دور البروليتارية كأداة لحدوث هذا الحل التاريخي، عبر ثورته، التي ستنهي التاريخ الطويل لانقسام المجتمع الانساني الى طبقات متناقضة واستغلال الانسان للإنسان.

لكن عصبة الشيوعيين اعترفت سنة 1852، بعد سحق الرأسمالية للانتفاضات البروليتارية الأولى بعدم نضج الشروط التاريخية لتحقيق انتصار الثورة الاشتراكية. وفي ظل هذه الهزيمة أصبحت العصبة مدعوة بشكل حتمي الى الاختفاء كمنظمة سياسية فاعلة ومركزية.

وقد كانت عصبة الشيوعيين تؤكد في وثائقها على ثلاث مبادئ أساسية كما يلي:

1 – التأكيد على مبدأ الوحدة الأممية للبروليتارية من خلال الشعار الخالد: يا عمال العالم اتحدوا؛

2 – التأكيد القوي على اشكالية العمل السري والذي يؤكد معاداة القوى المهيمنة القوي للطبقة العاملة وعدم السماح لها بانشاء أي أداة سياسية تعبر عن تطلعاتها في التحرر واقامة مجتمع خال من الطبقات؛

3 – التأكيد على روح التضامن والأخوة والتعاون بين أعضاء العصبة لتحقيق الأهداف السياسية، وهي الروح التي تطبع العلاقات الاجتماعية داخل الطبقة العاملة بمعنى الروح الاشتراكية والمساواة والتضامن.
1870: مع الحرب الفرنسية البروسية انتهى بناء المجموعات الكبرى، الوحدات الاقتصادية السياسية الكبرى للرأسمالية، الأمم، وانفتاح مرحلة طويلة من التوسع الرأسمالي عبر العالم – الاستعمار؛

ب - في سنة 1870 انتهت الحرب الفرنسية البروسية كما انتهى بناء المجموعات الاقتصادية الرأسمالية الكبرى: الدولة الأمة، كما انفتحت مرحلة طويلة من التوسع الرأسمالي عبر العالم: المرحلة الاستعمارية.

في هذه المرحلة الجديدة لم يختف مناضلو عصبة الشيوعيين في الطبيعة وكان أحدهم كارل ماركس وفردريك انجلز فقد ظلوا في انتظار نضوج الشروط المادية التاريخية الجديدة لموجة جديدة من النضال العمالي، فتابعوا عملهم في البلورة النظرية، وتمثل التجارب في قلب الطبقة العاملة عقب الاضطرابات الاجتماعية لسنة 1848. أما بالنسبة للبرجوازية فقد استطاعت تجاوز هذه الاضطرابات، تابعت بخطوات كبرى تطورها وتوسعها الرأسمالي الاستعماري.

فبعد خمسة عشرة سنة من سنة 1848 أصبحت البروليتارية أكثر عددا، وأكثر توسعا في دول أخرى، وأكثر نضجا وعزما على الدخول في معارك حتى وإن لم تصل بعد الى مستوى الثورات (بسبب عدم نضج الشروط الموضوعية من أجل تحقيق مثل هذا الهدف المباشر) لكن فقط من أجل الدفاع عن شروط وجودها الاقتصادي المباشر. ففي هذا السياق، تم في سنة 1864 تأسيس الأممية الأولى بمبادرة من عمال فرنسا وبريطانيا، والتي جمعت عشرات الآلاف من العمال في جميع الدول الصناعية أو السائرة في طريق التصنيع من أمريكا الى روسيا. ولقد وجد المناضلين القدماء لعصبة الشيوعيين انفسهم بطبيعة الحال في صفوف هذه الجمعية الدولية للعمال (A.I.T) والتي احتلوا فيها مواقع القيادة والتي أصبح كارل ماركس على رأسها. فنضالات كارل ماركس السياسية الميدانية وسط الحركة العمالية هي التي جعلت من الماركسية تعبيرا سياسيا صادقا عن الخط البروليتاري.

وسنة بعد أخرى، وفي جميع مناطق العالم، أصبحت الأممية راية العمال الأكثر فأكثر عددا، والأكثر فأكثر كفاحية، الى درجة أن أصبحت تشكل هاجسا رئيسيا لجميع الحكومات في أوروبا. وفي ظل هذه المنظمة العامة للطبقة تواجه التيار الماركسي، التعبير الاصيل للبروليتارية، والتيار الفوضوي لباكونين، الممثل لإيديولوجية البرجوازية الصغرى والتي كان لها تأثير كبير على الجيل الأول من البروليتاريا وعلى الصناع نصف بروليتاريين.

وقد دفعت الحرب الفرنسية البروسية، والهزيمة النكراء للإمبراطورية الثانية وانهيارها في فرنسا، اضافة الى خيانة البرجوازية الجمهورية، وفقر وجوع عمال باريز المحاصرين من طرف جيش بسمارك، واستفزاز الحكومة ... كل ذلك دفع العمال الباريسيين نحو الاصطدام المسلح السابق لأوانه من أجل القضاء على الحكومة البرجوازية والاعلان عن كمونة باريز. لكن سحق الكمونة كان حتميا. لكن في نفس الوقت شهدت هذه الأحداث على قتالية وارادة غاضبة للطبقة العاملة التي هبت للهجوم على الرأسمال وعلى دولته، تاركة للأجيال القادمة من الطبقة العاملة العالمية دروسا عظيمة، لقد تم هزم بروليتارية كمونة باريز وسط حمام دم، كان من عواقبها المباشرة أن أدت بشكل مباشر ونهائي الى اختفاء الأممية الأولى.

ج - في سنة 1914، بلغت الامبريالية منتهى تطورها وتوسعها الكوكبي على حساب الشعوب المستعمرة، فرغم استغلالها الرأسمالي الكوكبي للعمال والشعوب وجدت نفسها أمام أسواق لا تستوعب انتاجها الزائد وبذلك توقفت معدلات الأرباح عن التزايد بل دفعت هذه الأزمة الى تراجع معدلات الارباح. فما العمل إذن؟ لقد دخلت الامبريالية في مرحلة تناقضات خطيرة لم تجد بدا من محاولة حل تناقضاتها على حساب بعضها البعض وبذلك انفتحت مرحلة جديدة طويلة من الانحدار اللولبي والاحتضار لنمط الانتاج الرأسمالي.

إن الانتصار الدموي الذي حققه رأس المال عبر سحق كمونة باريز واختفاء الأممية الذي أعقب ذلك، سيثقل تأثيره بقوة على كاهل البروليتارية خلال العديد من السنوات كما سيترك أثره على جيل كامل من البروليتارية. وحالما ستلتئم الجراح، ستأخذ البروليتارية شيئا فشيئا في استعادة الثقة في نفسها وفي قدرتها على مواجهة رأس المال. وببطء شديد أخذت تتشكل منظمات الطبقة العاملة: بورصة الشغل، النقابات، الأحزاب السياسية، والتي ستتجه نحو التمركز، على المستوى الوطني أولا، ثم ثانيا على المستوى الدولي مما دفع سنة 1889 (18 سنة بعد كمونة باريس) الى انشاء الأممية الثانية، وهي منظمة سياسية بشكل خالص.

لكن العالم الرأسمالي الذي كان قبل 1914 في قمة تطوره على المستوى الدولي، ويستخلص أقصى مستوى من الأرباح انطلاقا من وجود سوق كان يظهر كما لو أنها غير محدودة. لقد كانت الرأسمالية تعيش العصر الذهبي للاستعمار، ولتنمية وسائل الانتاج وفائض القيمة النسبي البديل لفائض القيمة المطلق. كانت البروليتارية تناضل من أجل تقليص يوم العمل، ومن أجل الزيادة في الأجور، ومن أجل اصلاحات، انها مرحلة ازدهار الاصلاحية السياسية بامتياز والتي انتجت كل من برنشتاين وكاوتسكي. هذه الوضعية ظهرت كما لو أنها ستستمر بدون نهاية، مما دفع نحو سيادة الوهم بأنه بواسطة ادخال اصلاحات متوالية، يمكن للعالم الرأسمالي أن يتحول تدريجيا الى مجتمع اشتراكي. هذا الوهم انتشر وسط الطبقة العاملة كالورم الخبيث، انه ورم الاصلاحية، هذا المرض الذي سيتغلغل عميقا في رؤوس العمال وفي منظماتهم سواء السياسية أو الاقتصادية (خاصة منها الاقتصادية)، وسيعمل على تخريب وعي الطبقة العاملة وجعلها تفقد هدفها الاستراتيجي ومخططها الثوري.

لقد شكل انتصار الاصلاحية في آخر المطاف هزيمة للبروليتارية. لقد كان ذلك انتصارا للبرجوازية التي استطاعت ربطها بقيمها وتنمية انتهازية البرجوازية الصغرى وسط القيادات السياسية والنقابية، الوطنية قبل كل شيء، وافساد بشكل نهائي لمنظماتها، أحزابا ونقابات، والتي انتقلت بدون رجعة نحو المعسكر الرأسمالي.

د - في سنة 1917 سيصل النظام الى أوج تصدعه الاقتصادي والسياسي مما سيمكن الحركة العمالية العالمية وأدواتها السياسية من تسجيل أول تحول اجتماعي عظيم.
خلال تنويمها الطويل ووجودها تحت صدمة خيانة منظماتها السياسية والنقابية الاصلاحية التي انتقلت نهائيا نحو المعسكر البرجوازي، اضافة الى تخديرها بشعارات الوطنية والتي استطاعت البرجوازية ومنظماتها الخائنة أن تحقنها بجرعات قوية، استفاقت البروليتارية فجأة التي تمت تعبئتها للدخول في الحرب العالمية الأولى، على دوي انفجارات القنابل القوية، ووسط الملايين من جثت طبقتها، تعوم في بحر من الدماء، دمائها. فلم تمر سوى ثلاث سنوات على الحرب العالمية الأولى حتى تبخرت الأوهام وبدأت البروليتارية تسترجع وعيها بالواقع الذي أصلتها اليه البرجوازية.

لقد حدث سنة 1917 أول انفجار قوي لموجة ثورية ستدوم عدة سنوات، وستجد الطبقة البروليتارية نفسها خلال هذه الموجة الثورية مدعوة الى اعادة بناء منظمات طبقية جديدة تتطابق مع مهاما انتقالية جديدة، ليس على شكل نقابات برجوازية والتي أصبحت بشكل نهائي غير صالحة للمرحلة الجديدة من انحطاط الرأسمالية، وإنما على شكل مجالس عمالية، ولم تعمل على اعادة الحياة للاحزاب الديموقراطية الاجتماعية التي خانتها وفقدتها الى الأبد بانتقالها الى معسكر العدو، وإنما حزب شيوعي عالمي (الأممية الثالثة) في مستوى المهام المطروحة: المساهمة في تعبيد الطريق نحو الثورة البروليتارية العالمية.

لقد تشكل الحزب الشيوعي الأممي الجديد من الفصائل والأقليات اليسارية المنبثقة عن الأممية الثانية التي ناضلت خلال سنوات طويلة ضد الايديولوجية الاصلاحية، والتي أدانت بقوة خيانة الديموقراطية الاجتماعية القديمة، والتي ناضلت ضد الحرب العالمية الأولى وضد ايديولوجية الدفاع الوطني، وبعبارة أخرى الذين ظلوا أوفياء للماركسية وللثورة البروليتارية.


بدلا من الخاتمة
هذه محاولة متواضعة مني للإجابة جزئيا عن السؤالان اللذان طرحتهما الأخت خ أ، واللذان يتعلقان بطبيعة الأداة السياسية للطبقة العاملة كما أفهم ذلك من وجهة نظري حسب التحليل المادي لتاريخ الطبقة العاملة في احتكاكها بالطبقات المهيمنة. كما اعتقد انني اجبت في نفس السياق عن السؤال المتعلق بطبيعة البرجوازية الصغرى التي يحتم عليها موقعها في دورة الانتاج أن تمارس دورا انتهازيا بامتياز يترجم سياسيا بالاصلاحية والتحريفية والهيمنة على الأحزاب اليسارية وعلى المركزيات النقابية وحيث تعمل من خلال ذلك على ممارسة دور الوساطة فيما بين الطبقتين الأساسيتين، فتخدم دائما مصالح البرجوازية وتخون على الدوام مصالح البروليتارية.

بالنسبة لطبيعة الأداة السياسية للطبقة العاملة فقد حاولت أن أؤكد على أن بروز هذه الأذات لا يتم عشوائيا وإنما بناء على مستوى معين من النضال والصراع الطبقي، حيث يبرز التنظيم السياسي للطبقة العاملة كتتويج للوعي الطبقي الذي بلغته البروليتارية والتي تعمل في ضوئه على دفع أهدافها الاستراتيجية الى الأمام والمتمثلة أساسا في اسقاط النظام الرأسمالي ومجتمع الطبقات المرتبط به واقامة المجتمع الشيوعي الاشتراكي الخالي من الطبقات ومن استغلال الانسان لأخيه الإنسان.

مسار التنظيمات السياسية للبروليتارية التي تتخذ بالضرورة طابعا ثوريا نظرا لما تتعرض له من قمع واضطهاد من طرف الأدوات السياسية للبرجوازية للحفاظ على هيمنتها، تتطور موضوعيا عبر ثلاث مراحل من نشأة فتطور فانتكاسة وانتقال نحو معسكر العدو أو الاختفاء نهائيا. هذه المراحل الثلاثة نلمسها اليوم في مسار العديد من التنظيمات البروليتارية الثورية منذ عهد الحماية وخاصة مع مآل المنظمات الماركسية اللينينية أ و ب و ج، وكيف انتقلت مشتقاتها السياسية نحو معسكر أعداء الطبقة العاملة.
لقد حاولت استعراض بعد اللحظات التاريخية القوية التي تأثرت فيها الطبقة العاملة وحاولت بناء أدوات سياسية قوية استطاعت بواسطتها تفجير موجات ثورية تمكنت خلال أيام معدودة من اسقاط أعتى الانظمة البرجوازية الديكتاتورية تسليحا وقمعا.

مسيرة الحركة العمالية محليا وعالميا لن تتوقف فرغم الهزائم القوية التي قد تتعرض لها الا انها سرعان ما تنهض من تحت الرماد بفكرها البروليتاري الثوري وهدفها الاستراتيجي المتمثل في اسقاط المجتمع الطبقي والاستغلال وبناء مجتمع انساني تسود فيه المساواة والأخوة الانسانية.