الماركسية : أزمة أم موت ؟


هشام صالح
2012 / 7 / 7 - 22:30     

(( ان كانت الحركة في الفلسفة لم تعد موجودة , لا بد من ان السبب يعود إلى أحد من هذيين الأمرين : أما الفلسفة كانت قد ماتت أو تمر بأزمة . في الحالة الأولى لا مجال للمراجعة أو السؤال , أما بالنسبة للمبنى المتهالك المتعفن ( الحالة الثانية ) المصطلح " الأزمة الفلسفية " هو التعبير الأدق للأزمة الإجتماعية , و جمودة هو مشروط بالتناقضات التي تفصل المجتمع )) .
جان بول سارتر ( الماركسية و الوجودية ) (Marxists Internet Archive)

يحاول هنا سارتر , بكل عقل متفتح , أن يفسر سبب جمود الفلسفة أو جمود الحركة فيها فهو يستند إلى سببين : موت الفلسفة أو ازمتها , لكن سارتر بطريقة ما , لم يفرق بين الأثنين , أيّ , الموت و الأزمة , فالأزمة هي مثل المبنى المتهالك المتساقط , و الأزمة الفلسفية تعني عدم تعقب المجتمع كما ينبغي .
فالمسألة الماركسية هي من المسائل المهمة التي يجب علينا طرحها , فهل الماركسية في أزمة أم أنها قد ماتت , و هل نأخذ مفهوم الأزمة و الموت مثل مفهوم سارتر ؟

لكن الماركسية في زمن سارتر , 1960 , كانت بشكلها اللينيني البيروقراطي , فهل توقف أو جمود الماركسية آنذاك كان بسبب حلتها اللينينية ؟ فهل سارتر كان ينتقد الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟

أن مشكلة الماركسية اللينينية , الآن و سابقاً , تكمن في صعوبة تحليلها للصراعات الجديدة , فاللينينية هي شكل من أشكال الماركسية ظهرت في فترة زمنية و ظرف زمني محدد و رحلت , فالزمن قد تجاوز المرحلة التاريخية للينينية ليس بدءاً من القرن الواحد و العشرين بل منذ منتصف القرن العشرين .

فاللينينية هي شكل من أشكال الماركسية تحلل الزمن التاريخي التي تعيشه , أيّ , بدايات القرن العشرين , فعندما تغيرت الصراعات في العالم – تحديداً بعد الحرب العالمية الثانية – لم تتطور اللينينية وفقاً لتلك الصراعات بل ألتزمت بالصراعات الموجودة في زمن لينين . ففي نهايات الستينات , تحديداً 1968 , أكتشف العالم أن العمال ليسوا العامل الوحيد أو الفئة الوحيدة التي من الممكن أن تخلق ثورة , بل أن الطلاب و الشباب أصبحوا جزءاً و عاملاً في التغيير و الثورة .
فالتغيير الإجتماعي أو التغيير في الصراع الاجتماعي لابد أن يلاقي تغييراً في الأطروحة التحليلية للمجتمع لدى الفلسفة , فالماركسية لابد أن تجاري التغيرات الاجتماعية التي يشهدها العالم اليوم لا البقاء تحت أجنحة تحليلات ماركس و أنجلز و لينين .

فالماركسية هي تحليل الرأسمالية و نقدها , و بهذا تقديم قراءة حول الصراعات التي تسببها الرأسمالية و ضمن تلك الصراعات نجد الصراع الأكثر بروزاً هو الصراع الطبقي , و لكن هذا لا يعني أن الصراع الطبقي هو الصراع الوحيد في المجتمع , فتنافسات الرأسمالية بشكل محلي أو عالمي هي التي تسبب بتلك الصراعات , فبسبب تطالعات الرأسمالية التوسعية , ترى أن نشوب صراعات طائفية أو حدودية ستفيد هذا التوسع بنشر الثكنات الديمقراطية ( بالمعنى البرجوازي للكلمة ) في العالم هذا لإتمام التطبيق لنظرية العولمة .

فمن حاول فهم تلك التغيرات جرد نفسه من التحليل الماركسي الصارم و التقليدي , فهذه المحاولات يشهدها العالم منذ القرن الماضي , الوجودية و الماركسية الإنسانية و الماركسية الأوروبية , كل هذه المحاولات كانت محاولات لتجريد الماركسية من شكلها التقليدي و القديم , فسارتر رأى أن الوجودية هي جزء من الماركسية و ليس منفصلة عنها و أن الوجودية هي الشكل الترميمي للماركسية , و لقد رأى الماركسيون الغربيون أو الإنسانيون بأن الماركسية يجب عليها أن تظهر بشكلها الإنساني بدل من الشكل الإستبدادي , و قد رأت الماركسية الأوروبية خللاً بمفهوم دكتاتورية البروليتاريا و قررت العمل ضمن الأنظمة الديمقراطية .

وقد شهد العالم تيارات أخرى حاولت الإنفصال عن الشيوعية التقليدية . فماهي الأسباب التي جعلت أولئك المفكرين أو تلك المجموعات تنفصل عن الشيوعية التقليدية ؟ من أهم تلك الأسباب هي فرض الأفكار الشيوعية و الماركسية – سواءاً كان في الأحزاب أو الدول – فرضاً صارماً و حديدياً على الشعب أو أعضاء الحزب , ثانياً فأن هؤلاء المتنورين عرفوا أن البلشفية – التي يتبعها معظم الأحزاب الشيوعية – قدمت الديالتكيك بشكله الدوغمائي , فالديالكتيك الدوغمائي هذا قدم أجوبة جاهزة للماركسيين حول كل شيء , فالماركسي الذي يتبع هذا الشكل من الديالكتيك لا يريد أن يعرف أكثر , فهو قرأ و أكتفى بالقراءة المحدودة التي قدمها الديالكتيك الدوغمائي , هذا من جانب , أما من جانب آخر البلشفية أيضاً قدمت شكلاً دوغمائياً للتاريخ , بتعليب هذا التاريخ في قوالب و التأكيد على فوز البروليتاريا و سقوط الرأسمالية , فهؤلاء رفضوا هذا الشكل من التحليل الجامد و قرروا الإنفصال عن هذا الشكل من الماركسية .

فمن أكبر خطايا البلشفية هي تعليب و تجميد الديالكتيك بصورة إلهية , و تقديم الأجوبة لكل الأسئلة و بهذا تحول الديالكتيك الى السدّ الذي يمنع تدفق البحث خارج الاطار الماركسي.

لا زال يربط بعض مفكرينا الواقع الموجود في القرن الماضي بالواقع في هذا العصر , أيّ , ربط ما بين مفهوم الإمبريالية و العولمة بإعتبارها مفهوماً واحداً. و لا يمكننا هنا أن نقول أن للإمبريالية و العولمة مثل المعنى بإختلاف الأسم , فالإمبريالية بشكلها السابق أنتهت , و الآن نشهد عصراً آخر , عصر العولمة أو إن شئت عصر الإمبريالية الحديثة , و لكننا لا يمكننا ما بين مفهومي إمبريالية القرن العشرين و عولمة القرن الواحد و العشرين , فهل يمكننا أن نقول أن الإستعمار كالإمبريالية و لكن بإختلاف بالأسم ؟ , بالطبع لا يمكننا , لأن الفترة الإستعمارية تختلف أختلافاً جوهرياً عن الفترة الإمبريالية , و الأمر سيان مع مفهومي الإمبريالية و العولمة , , فالإمبريالية فهمت أن شكلها هذا لن يلبي رغباتها فغيرت أستراتيجياتها و شكلها , فظهرت بالشكل المسالم المساعد للدول و الشعوب المظلومة , لتوحد هذا العالم تحت قوانينها و نظامها هيّ و بهذا تتحكم بالرأسمال العالمي من دون خوض الحروب و من دون قتل و سفك الدماء . فالعولمة تشمل خصائص مختلفه كلياً عن الإمبريالية و لا يمكن الدمج بينهما .

لا زال الشيوعيون و الإشتراكيون يستخدمون الخطاب المستخدم في القرن الماضي , " أيها الشعب العظيم " , " يا عمال الأشاوس " , " الظفر الحتمي " , " إغضاب المستعمر أهون من إرضاءه " ألخ .. كل هذه الأنواع من الخطابات قد حفظتها الجماهير من دون أي فعل حقيقي , فهذه التراتيل الماركسية أو اليسارية بشكل عام كانت مثل الأفيون بالنسبة للشعوب , كلمات زائدة و فائضة ليس لها أي قيمة أو معنى سياسي حقيقي. فتغيير هذا الخطاب السطحي و القديم هو ما سيقرب اليسار و الماركسية من الشعوب , من حيث فهم الواقع الحي للشعوب و من دون الكذب و الإفتراء عليهم بعبارات مأدلجة . فمن أهم واجبات الخطاب السياسي هو الوضوح , فالوضوح هو ما سيلغي الحاجز ما بين الاحزاب اليسارية و الشيوعية و الجماهير , الوضوح في الهدف و الغاية , الوضوح في طرح المشكلات و الصراعات الاجتماعية الموجودة.

الماركسية هي تحليل و نقد الرأسمالية , و لهذا من واجب الماركسية متابعة الرأسمالية أول بأول لمعرفة كيفية تحليلها , فلا تحليل من دون تحقيق , و بهذا لا يمكننا وضع الرأسمالية في قالب و وصف و مفهوم معين , بالصورة مثلها السابقة و القديمة , فالرأسمالية تحولت جذرياً منذ القرن الماضي , فالآن الرأسمالية أصبحت تتبنى أسلوباً جديداً لترويج السلع و بقاء هذه السلع في السوق بتثبيت الثقافة الإستهلاكية, و تثبيت مفاهيم التسهيلات و الأقساط و الدفع المتجزأ فقط لبقاء السلع في السوق , فالثقافة الرأسمالية الجديدة التي نشهدها تريد بقاء منتوجاتها و سلعها في السوق بأي طريقة ممكنة , و بهذا تدعم مفهوم التسهيلات في الشراء و الدفع و تجذب الزبون ليشتري أكثر و أكثر ,و فوق ذلك , لقد ربطت الرأسمالية الجديدة عبر العولمة السلعة و المجتمع , فلنقل أن هناك هاتف بحوزة الأغلبية في المجتمع , هذا يعني أن المجتمع يتواصل عبر هذا الهاتف و يستخدم خصائصه , فحين يأتي من لا يستخدم هذا الهاتف يصبح غريباً عن المجتمع و بهذا يتعرض لضغط أجتماعي شديد لعدم استطاعته تعقب تطورات المجتمع فيفرض عليه تحت الضغط شراء الهاتف , فالسلعة هنا ارتبطت بالمجتمع , و فوق هذا , السلعة أصبحت لها قيمة أجتماعية معينة , فمع التسهيلات , يلجأ الفقراء و البرجوازيون إلى شراء هذه السلع التي كانت في السابق تنتمي للإغنياء و حسب , فالفقير يستطيع أن يحظى على هذه القيمة الاجتماعية أو المرتبة , بقيادة سيارة مرسيدس مثلاً –بشرائها عبر الدفع المتجزأ – مثل الغني , فهذا الخلل في الخصائص الطبقية للمجتمعات قد خلفتها الرأسمالية من أجل بقاء سلعها في السوق , فلا يمكننا ربط الثقافة القديمة للرأسمالية بالثقافة الجديدة و إزاء ذلك يقول هيربيرت ماركوز : (( ليس كل خلاف ما بين الرجل و صديقته الحميمة مرتبط بالإنتاج الرأسمالي )) .

أن قراءة المجتمعات لدى أغلبية الماركسيين أصبحت عبارة عن أقتباسات من قراءات ماركس و أنجلز و لينين و أحياناً تروتسكي و ستالين , فأغلب الكتبة لا يتحدثون عما في عقولهم , بل يتحدثون عما في عقول المفكرين الآخرين , فلا يقدمون طرحاً جديداً , بل يقدمون أفكاراً مطروحة سابقاً , و بكلمات أخرى نستطيع أن نقول أن هؤلاء يتحدثون بالنيابة عن المفكرين الآخرين , و يقول سارتر عن هؤلاء أنهم لا يستحقون لقب مفكرين أو فلاسفة . فالقراءة هي " هي " , منذ 1917 إلى اليوم , بروليتاريا و برجوازية , إمبريالية و استعمار , رأسمالية و اشتراكية ألخ , لا يوجد جديد .

و فوق ذلك , كل شيء ينسب إلى الصراع الطبقي , و هنا تكمن المأساة في تحويل كل شيء بشكل يائس إلى الصراع الطبقي لإثبات صحة كلام ماركس حول أن الصراع في كل المجتمعات على مدى التاريخ هو عبارة عن صراع طبقي , ماركس يجب أن لا يجسد و يصور على الشكل الإلهي او النبوي , لا يمكننا إنكار الصراع الطبقي هذا صحيح , و لكننا لا يمكننا نكران سائر الصراعات في المجتمع في سبيل إثبات صحة ماركس , فالعمل في هذا السبيل يعني التزييف و الكذب و عدم الدقة في التحليل , و تقديم تأويلات خاطئة للمجتمعات في سبيل إثبات صحة كلام مفكر أو فيلسوف .

الماركسية دائماً كانت تتعمق إلى جوهر المجتمعات هكذا يصفها تروتسكي , و تعقيباً على هذا الكلام , من المهم جداً التعمق في مجتمعاتنا اليوم , المجتمعات التي تعتمد على اساس استهلاكي , ما هي العقلية الاستهلاكية التي تستولي على المجتمع ؟ و ما هي آثارها ؟ , ماهي الصراعات الأخرى جنباً للصراع الطبقي الموجودة في مجتمعاتنا ؟ و كيف نحلل تلك الصراعات ؟

فمعرفة جوهر المجتمعات , أو معرفة محرك مجتمعاتنا هي أول خطوة نحو فهم و معرفة تطورات و مشكلات و عقلية المجتمع الذي نحلله .
يجب على الماركسيين وضع الأهمية الوطنية فوق الأهمية الايديولوجية, حيث , أن أفكاراً مثل حدوث ثورة اشتراكية في عصرنا هذا اطروحة خيالية , و الحق يقال , أن لا يمكننا أن نعتمد أن الماركسية ستلهم الناس و ستقودهم إلى النصر و بهذا ارساخ الاشتراكية و من ثم دكتاتورية البروليتاريا و من ثم المشاعية , فبهذا لا بد أن تظهر الماركسية بشكلها الوطني قبل كل شيء و هذا يعني الإنحياز إلى الشعب من دون أي قيود ايديلوجية تمنع ذلك , فالانحياز إلى الشعب و مصلحته هو ما سيقرب ما بين الشعب و الماركسية , فحين تعلم الجماهير بأن هناك تيار يفهمها و يعمل لصالحه بكل جدية و من دون انتهازية سيلجأ له من دون شك .

فأن التيار الأكثر خطورة ما بين صفوف الماركسيين هو التيار المتطرف المغامر , فالبقاء ضمن إطار الدفاع عن مصالح الشعب يعني التدريجية في مسألة الثورة و إن شئت مثل التصور الفابي للثورة التدريجية , فالشعوب الحالية لا زالت تفتقر إلى الوعي الاشتراكي , فلا يمكن شدها نحو مغامرات فاشلة أخرى , العمل اليوم يجب أن يكون دقيقاً و ناضجاً خلافاً للعمل المغامر و الطفولي .
ما ينقص الماركسيين حقاً هو استخدام لغة العصر. و هذا الكلام مكرر من المقالات السابقة , حيث أرى أن لغة العصر هي من أهم العوامل التي تساهم في نشر الدعاية الاشتراكية و الوعي الاشتراكي , و من دون استخدام لغة العصر يصعب ملامسة الجماهير .

فأدوات هذا العصر هي شبكات التواصل الاجتماعي و الهواتف و الحاسوب و الأهم هو الانترنت , فثورة الدوت كوم غيرت مجرى العالم من الناحية التواصلية و التكنولوجية , فالانترنت اصبح عاملاً اساسياً لدى كل فرد , تفقد الايميل , تفقد الاخبار , التحدث إلى الاقرباء ألخ .. فالانترنت اصبح شيئاً ملزوماً لدى الجميع . فصعوبة طرح الأفكار في صفوف الجماهير يعني عدم وصول أهداف و غايات هذه الفكرة المطروحة .

فهل الماركسية تمر بمرحلة الأزمة ؟ أم هي ماتت ؟ و هل الأزمة هذه تعطي نبرة اطمئنانية لمؤمني الماركسية ؟ هل يدعو إلى السرور و التفاؤل اذا قلنا أن الماركسية تمر بأزمة ؟ الجميع يتحدث حول هذا الأمر , " أزمة الماركسية " , و لكن ما معنى الأزمة ؟ , فعلى غرار سارتر أقول أن أزمة الماركسية هي مثل المبنى المتعفن المتهالك , هل يمكن أصحاب الماركسية أنقاذ هذا المبنى من السقوط ؟ و اذا لم يستطيعوا فما البديل ؟

و لكن كيف يمكن ان نبحث عن هذا البديل اذا كان الماركسيون يخشون من النقد و الانتقاد .. سؤال يبحث عن جواب !! .