اشتراكيةُ الفقرِ واشتراكيةُ الغنى


عبدالله خليفة
2012 / 7 / 4 - 08:48     

كللا الحركاتِ الاجتماعية الدينية وغير الدينية عرفت تحالفات الفقراء والأغنياء المؤقتة لتشكيل عوالم وأنظمة جديدة: اليهود في زحفهم المشترك نحو فلسطين أقاموا تعاوناً قبلياً وانفض حين تشكلت الدولةُ وصعد الملوكُ وانقسم(الشعب) اجتماعياً بشكل حاد، والمسيحيون عرفوا فترة المشتركات والمشاعية الأولى زمن العسف الروماني ثم غدت المسيحية تعبيراً عن إمبراطورية، والمسلمون عرفوا نقدَ الاكتناز وانتقدوا ظلمَ الملأ، ثم صنعوا تعاونيةَ المدينة، وبعدها جاءت إمبراطوريةُ الأسر الغنية.

الثورةُ الفرنسيةُ بدأتْ مع (اليعاقبة) الذين وزعوا الأراضيَّ الزراعيةَ وألغوا الكهنوتَ لكنهم هُزموا بعد إرهابهم وصعدتْ الحكوماتُ الرأسمالية.

الاشتراكية ظهرتْ في زمن الفقر الواسع في الغرب، حيث حشود العمال الفقراء والفلاحين المقتلعين من مزارعهم المباعة تملأ الأزقة، والأزمات الاقتصادية والثورات تتفجر، ولم يتشكل الاستعمار بصورة عالمية واسعة بعد.

في هذا الزمن ترددتْ الاشتراكيةُ بين لحظتين؛ لحظة التعبير عن الثورة وصعود العمال للحكم، ولحظة التطور التدريجي الإصلاحي، في اللحظة الأولى سوف نقرأ أحكاماً عامةً تاريخية تبدو كما لو كانت خطة راهنة للتغيير وترى قطبين حادين:

(إن تراكم الثروة على أحد القطبين هو في الوقت ذاته تراكم البؤس وآلام العمل والعبودية والجهل والفظاظة والتفسخ الأخلاقي على القطب الآخر، أي في جهة الطبقة التي تنتجُ منتجَها الشخصي كرأس مال)، ماركس، رأس المال، المجلد الأول ص .٣٢١

تتغلب أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية على هذا الاستقطاب الاجتماعي عبر النمو الواسع في الاقتصاد، وتوسع الاستعمار في العالم الثالث، فتضعف الاستقطابيةُ الاجتماعية وإن لم يزل الفقر موجوداً، وتصعد الاشتراكية الإصلاحية، الاشتراكية الديمقراطية، وتصبح الفئات المتوسطة والعمال الفكريون قواعدها المتنامية، وتغدو التطورات عن طريق البرلمانات والنقابات وأشكال الإصلاحات التي تضعفُ مستويات البؤس التاريخية الحادة السابقة، وهذا المستوى الاجتماعي المتطور لن يكون موجوداً في العالم الشرقي، هنا حيث القرى والإقطاع والأمية وملايين العاطلين والبؤساء، فتغدو اشتراكية الفقر(الثورية)هي الواسعة الانتشار، وهنا تجد فئاتٌ وسطى وغنية وعمال أن مصلحتهم المشتركة في الصراع العنيف، هنا نجدُ حشودَ الفقراء الذين يعيشون ببؤس شديد، مثلما كان الأمر في أوروبا الغربية في سنوات التراكم الأولى والتحولات الرأسمالية العاصفة، فتغدو كلمات ماركس السابقة الذكر هي رايتهم.

عملياتُ التداخل والتعاون بين قوى اجتماعية مختلفة متضادة تنمو في ضبابِ التحولات في العالم الشرقي وحتى في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فهنا نجدُ نفسَ السمات الاقتصادية الاجتماعية وتقارب البؤس والغنى المحدود.

لا تقود هذه القفزات المندفعة للثورات العاصفة إلا إلى سيادة رأسماليات الدول الشمولية الناهضة في أحسن الأحوال، لكن جبهات الفقراء والأغنياء المتحدة تتفكك، فمستوياتُ المعيشةِ تختلف، والعمال يظلون عمالاً بأجور محدودة، فيما الفئاتُ البيروقراطية تصعد وتنتزع فوائضَ كثيرة وتتحول سياسياً وفكرياً.

أدت عقودٌ من التطور إلى مقاربة دول شرقية عديدة لمستويات أوروبا الغربية في بعض تحولاتها قبل سنين، ولهذا فإن الآراء الاشتراكية تنهار، ولهذا تصبح أقسامٌ من القوى الحاكمة تطرح مسائل فكرية وسياسية قومية تعكس أوضاع القمم السياسية، مثل طرح شعار روسيا بيتنا، والصين حين تطرح الاشتراكية بخصائص صينية، في حين تبقى صيغ الاشتراكية القديمة نفسها لدى قطاعات معينة، ولكن الناس بعد تجارب طويلة لمسوا فيها اشتراكيةَ الفقر المؤدية لرأسمالية بيروقراطية غنية، ينفصلون عنها باحثين عن بديل سياسي اجتماعي يطور أوضاعهم المعيشية السيئة.

التناقضاتُ حادةٌ في الدول الشرقية ولم تتحسن أحوالُ الطبقاتِ الشعبية كثيراً، كما أن أفكارَ الناس مرتبطة بالتراث الديني، وقد أيدوا الأفكارَ الاشتراكية التي كانت صيغةً دينيةً في جوهرها، على أساس أنها تنقلهم للجنان، ثم فوجئوا بمشكلاتها الحادة.

في خيالهم تلك الفترات الفردوسية التعاونية من تاريخ الأديان، وشكلوا حولها حلقاتٍ من الحب، في حين أن الرأسمالية نار، واستطاعت الاشتراكيةُ الديمقراطيةُ الغربية أن تخلق مقاربةً للشعوب هناك منفصلةً باحترامٍ عن تقاليدهم الدينية مكرسةً نفسها لتطوير أوضاع الطبقات الشعبية وازدهار الثقافة، وتنفيذ برامجها التحولية خلال حكوماتها المختلفة، وخلال قرن غدت أوروبا الغربية ما يشبه الجنة النسبية التي يهاجر إليها الكثيرون من القارات الأخرى، غير قادرين على متابعة نموذجها في بلدانهم، مثلما صارت نموذجاً لأنظمة أخرى في قارات مختلفة.

وإيجادُ نظامٍ تعاوني ديمقراطي يهتم بالفقراء والأغنياء صيغة صعبة لكنها ممكنة، هي صيغةٌ صراعيةٌ طويلة، فلكلِ طبقةٍ مصالحها المتعارضة مع الطبقات الأخرى، والأمر ليس توفيقاً بل هو تطور صراعي مشترك، وكلُ حزبٍ يقدم برنامجه التحولي ويكسب الأصوات، ويحقق إنجازات، فإذا عجزَ تركَ الكرسي لغيره.