ملاحظات حول المديونية


محمد المثلوثي
2012 / 6 / 27 - 02:47     

تمهيد:
إن نقد اليمين قد استهلك نفسه، وذلك على اعتبار أن هذا اليمين لم يعد له شيء جديد يقدمه. أما اليسار فانه قد تحول إلى ملاذ لليمين لتجديد نفسه وتزيين خطابه بالتوابل اليسارية. لذلك فقد أصبح شرط كل نقد جذري هو الاتجاه لنقد اليسار، ليس "لإصلاحه" أو "تثويره" بل للخروج من ثنائية يمين/يسار نفسها. وهذا لكونه قد برز جليا أن اليمين واليسار لا يمثلان سوى وجهان لعملة واحدة هي عملة النظام الرأسمالي وهو يجاهد من أجل مواصلة جثومه على رقاب البشرية.
أما نقد اليسار الليبرالي فلم يعد يتسم بشيء ذو خصوصية. بما أن هذا الأخير قد اندمج كليا في منظومة الخطاب البورجوازي الكلاسيكي. وبالتالي فنقده إنما هو نقد الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القديمة المتجددة.
لذلك لم يبق للنقد الجذري سوى الاتجاه صوب اليسار الذي لايزال يحافظ على طابع راديكالي، ولو أن ذلك يقتصر في الغالب على الخطابات والشعارات فقط. وهذا ليس بوهم خلق "يسار ثوري" لن يوجد أبدا، بل بغاية إبراز الجوهر الإصلاحي لمقولاته "الثورية" البراقة.
أما نقد المناضلين والمجموعات الثورية الصغيرة التي ظهرت بمفعول تطور الحركة الثورية نفسها، والتي هي بصدد قطع خطوات مهمة باتجاه حسم أمرها مع أوهام اليسار واليمين معا، فهو بالأحرى نقد ذاتي علني. أي أنه بمثابة نقد الحركة الثورية لنفسها وهي تستخلص الدروس التاريخية من خلال تجربتها الخاصة من خارج وضد كل الأحزاب السلطوية.
ومن هذا المنطلق وفي هذا الإطار نقدم هذه الملاحظات النقدية حول موضوع "المديونية".
* * *
تقوم بعض الأحزاب والمجموعات اليسارية بحملة تحت شعار "إلغاء الديون الخارجية". فحزب مثل حزب العمال الشيوعي التونسي يعتبر "تعليق تسديد الديون الخارجية" بمثابة الوصفة السحرية لفض الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام الرأسمالي في تونس، ويضع هذه "المهمة الثورية" في مركز حملته التي أطلق عليها اسم "آش تبدل". بل إن مجموعات ثورية صغيرة تضع شعار "القطع مع المديونية" كيافطة من يافطات دعايتها اليومية. وحتى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، قبل أن يتحول إلى أحد مكونات الائتلاف الحاكم، ظل طيلة الحملة الانتخابية يندد بسياسة التداين التي اعتمدتها الحكومة السابقة ويعتبر "المديونية" "ضربا لاستقلالية القرار الوطني". وحزب حركة النهضة نفسه، ورغم أن برنامجه لا يتضمن دعوة صريحة لتعليق تسديد الديون الخارجية، فان زعماءه كانوا خلال كل الأشهر التي سبقت الانتخابات يوجهون النقد اللاذع لحكومة الباجي قايد السبسي على اعتمادها "إغراق البلاد بالديون" و"رهن القرار الوطني للمؤسسات المالية العالمية"، بل إنهم يتهمون الحكومة السابقة بكونها قد تركت لهم إرثا ثقيلا من الديون. طبعا هذا لم يمنعهم الآن من إطلاق حملة استجداء للقروض والهبات في أكبر عملية تسول مذلة، مضحين في ذلك بكل الشعارات التي حشدوا بها أنصارهم من نوع "مقاومة قوى الاستكبار العالمي" و"مواجهة الهيمنة الصليبية على البلدان الإسلامية"، لتتحول الولايات المتحدة الأمريكية من "الطاغوت الأكبر" إلى الضامن لتونس عند اقتراضها من السوق المالية. إضافة للتضحية بأهم مطلب رفعوه بمعية كثير من الأحزاب الأخرى والمتمثل في "المطالبة باسترجاع بن علي وعائلته وأصهاره من دول الخليج لمحاكمتهم".
لكن ما هي المديونية؟ وهل يمكن لأي دولة أن تقطع مع التداين الخارجي؟ وهل حقا أن "رفض تسديد الديون الخارجية" هو الكفيل بالخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة؟ وهل أن عدم تسديد ديون الدولة سيكون له انعكاس ايجابي حتمي على وضعية الطبقات المسحوقة؟ ثم لماذا لم يجد شعار "القطع مع المديونية" صدى له في الحركة الاحتجاجية الراهنة ولم يتحول إلى شعار جماهيري مثلما حدث لبعض الشعارات الأخرى مثل "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" أو الشعارات المتعلقة "بالتنمية" و"التوزيع العادل للثروة الاجتماعية"..الخ؟ وهل يمكن لمطلب إلغاء الديون الخارجية أن يكون مدخلا للنضال ضد النظام الرأسمالي مثلما يعتقد بعض المناضلين الثوريين؟ وأخيرا لماذا يقف هذا المطلب عند حدود ديون الدولة الخارجية ولا يضع ديون الأجراء وعموم الفئات الاجتماعية المسحوقة لدى المؤسسات المالية المحلية موضع السؤال؟
* * *
هناك اعتقاد شائع، حتى في أوساط المناضلين الثوريين، أن "المديونية" هي علاقة بين الدول، أو علاقة دولة بصناديق التسليف العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. وأن الدول الصناعية المتقدمة تسعى لإغراق الدول المتخلفة بالديون من أجل السيطرة عليها ونهب خيراتها من خلال الفوائض المرتفعة. وأن هذه الدول "الكبيرة" هي الدول المقرضة بينما الدول "الصغيرة" هي الدول المقترضة في علاقة دائمة بين دائن ومدين. وعلى أساس هذا الاعتقاد السطحي يعتقد هؤلاء أن "المديونية" هي عبارة عن علاقة ابتزاز تسير بالتوازي ومن خارج دائرة الإنتاج الفعلي للثروة الاجتماعية، أي أن "المديونية" في التصور العام عند هؤلاء هي أقرب لنظام الربا القديم الذي يقوم على ابتزاز المنتجين المباشرين بدون أن يكون هو نفسه عنصرا من عناصر الإنتاج. وهذا ما يجعل هؤلاء يعتقدون أن "المديونية" تمثل عبئا على "الاقتصاد الوطني" وعقبة أمام تطوره، وأنه بمجرد إلغاء هذه "المديونية" فان "قوى الإنتاج" ستتحرر وسيحصل ازدهار عام، وستتراكم الثروات وسيفتح ذلك الآفاق من أجل تحسين ظروف الفئات المسحوقة. كذلك فطريقة النظر السائدة هذه حول موضوع "المديونية" تدفع إلى التصور بكون التداين الخارجي للدولة هو السبب العميق "لتبعية" البلاد للقوى العظمى وارتهان ما يسمى "القرار الوطني" للإملاءات الخارجية. وهناك عديد المجموعات اليسارية التي تعتبر "الخضوع للمديونية" هو أكبر تعبير عما يسمونه "الاستعمار الجديد" الذي تخضع له الدول "المتخلفة". وإذا تابعنا هذا التصور إلى آخره فان العالم ينقسم إلى فئتين من الدول: الفئة الأولى تلعب دور المرابي الذي يستعمل ثروته المالية للتسليف وجني الفوائض، والفئة الثانية تلعب دور المنتج الذي يضطر للتخلي عن جزء هام من إنتاجه (الدخل القومي الخام) لتسديد ديون المرابي وفوائضها المتعاظمة.
إن هذا التصور العام "للمديونية" هو بالفعل تصور سطحي. إذ أنه في طريقة نظره لهذه الظاهرة إنما يتجه إلى مظاهرها الخارجية والنتائج التي تقود إليها، بدون أن ينفذ لآليات اشتغالها الداخلية. ومثلما يقال: لو كان ظاهر الأشياء يطابق باطنها لانتفت ضرورة العلم.
إن الخطأ العام الذي تقوم عليه هذه التصورات يتمثل في النظر "للمديونية" كمجرد علاقة بين دائن ومدين، ولا يتم النظر لها كنظام، وهو بالتحديد النظام الائتماني المعاصر. وهذا الخطأ يقود إلى المماثلة الوهمية بين نظام القرض الحديث ونظام العلاقات الربوية القديم والسابق في وجوده التاريخي لظهور الرأسمالية كأسلوب انتاج عالمي.
والمماثلة بين هذين النظامين (نظام الفرض الحديث ونظام الربا القديم) تطمس الاختلاف الجوهري في طبيعتهما التاريخية. وفي الوقت الذي تركز فيه على بعض المظاهر الخارجية المتماثلة (الفوائض، هيمنة الدائن على المدين...) فإنها تتغافل عن الاختلاف في الميكانيزمات الاقتصادية الداخلية لكلا النظامين والأساس التاريخي المميز لكل منهما. وبعزل النظام الائتماني الحديث عن شروط وجوده التاريخية يتم الإيهام بالقدرة على الخروج من هذا النظام بدون الخروج المسبق عن الشروط التاريخية لتحققه.
إن الفاصلة التاريخية بين نظام القرض الحديث والنظام الربوي القديم، هي بالضبط الفاصلة التاريخية بين أسلوب الإنتاج الرأسمالي المعاصر وأساليب الإنتاج التقليدية القديمة. وهذه الفاصلة هي بين الطبيعة التاريخية للرأسمال الربوي القديم (بالمعنى التاريخي للكلمة) وبين الطبيعة التاريخية للرأسمال الحامل للفائدة (الرأسمال البنكي، الرأسمال المالي...) والذي هو بكل المقاييس ظاهرة تاريخية جديدة، أي يتعلق وجودها بولادة النظام البورجوازي ومراحل تطوره التاريخي.
وطمس هذه الفاصلة التاريخية يقود إلى النظر للرأسمال الحامل للفائدة ليس كعلاقة اجتماعية (فالرأسمال هو علاقة اجتماعية وليس مجرد كمية نقدية) بل كعلاقة ربوية بسيطة يمكن إلغاؤها بدون تغيير في أسلوب الإنتاج الذي لا يمثل الرأسمال الحامل للفائدة إلا المظهر التاريخي الذي يتخذه هذا الأسلوب الإنتاجي بالذات. وهذا الأمر لا يضاهيه سوى القول بإمكانية إلغاء التبادل التجاري بدون إلغاء مسبق للإنتاج البضاعي، أو إلغاء النقد (المال) بدون إلغاء مسبق لقانون القيمة-العمل الذي تتحدد قيمة البضائع بمقتضاه بكمية العمل الاجتماعي المتبلور فيها، ويمثل النقد بمقتضاه المعادل العام للقيمة، أو إلغاء الربح بدون إلغاء العمل المأجور...الخ.
وهكذا فلا يمكن النظر "للمديونية" كعلاقة خارجية، أو كعنصر طفيلي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي بحيث يمكن إنهاؤها بينما تواصل الآليات الاقتصادية الرأسمالية الأخرى سيرها الطبيعي. "فالمديونية"، أي النظام الائتماني العالمي، هي كنظام التبادل التجاري ونظام المنافسة ونظام العمل المأجور، ليست سوى النظام الرأسمالي نفسه كعلاقة اجتماعية شاملة ومترابطة في جسم اقتصادي واحد. بل إن النظام الائتماني يمثل ما تمثله شبكة الشرايين الدموية بالنسبة للجسم البشري، بحيث من غير الممكن مجرد تخيل تدمير هذه الشبكة الحيوية بدون أن يكون ذلك تدميرا لهذا الجسم وانهاء لوجوده التاريخي.
إن نظام القرض هو تعبير عن الطبيعة الفعلية للرأسمال كرأسمال اجتماعي، وعن البورجوازيين بصفتهم المتصرفين الاجتماعيين في هذا الرأسمال. واقتسام هؤلاء البورجوازيين لفائض الثروة الاجتماعية (أو ما اصطلح عليه بفائض القيمة الاجتماعي) إنما يعبر عن حصة كل قسم من أقسام هذا الرأسمال. فإذا كان الربح الصناعي هو التعبير التاريخي عن حصة القسم الخاص من البورجوازيين المباشرين لإدارة الإنتاج المباشر، فان الريع هو التعبير عن حصة القسم الآخر من البورجوازيين الملاك العقاريين، بينما الفائدة على الرأسمال الذي تم تسليفه فإنها تمثل حصة البورجوازيين مالكي الرأسمال النقدي، والضرائب هي حصة جهاز الدولة والتي يذهب قسط منها لقسم البورجوازية المتمثل في البيروقراطية الإدارية العليا، وقسط آخر لتسيير الشؤون العامة للنظام الاجتماعي والاقتصادي ككل. وهكذا فنحن لا نتحدث عن عنصر خارجي يبتز قيمة ربوية من خارج دائرة أسلوب الإنتاج الرأسمالي نفسه، بل عن علاقة اجتماعية لا تمثل الأقسام المختلفة للبورجوازية سوى الطرف المتصرف في إدارة الرأسمال الاجتماعي. والفائدة هي كالربح والريع والضرائب...الخ ليست سوى التعبير التاريخي عن نظام اجتماعي تستولي فيه طبقة اجتماعية على فائض القيمة الاجتماعي الذي تنتجه الطبقة الكادحة. واحتساب حصة كل قسم من أقسام الرأسمال في هذه الغنيمة لا يتحدد إلا وفق القوانين الاقتصادية الرأسمالية نفسها، أي المنافسة/الاحتكار، العرض والطلب، حجم هذا القسم أو ذاك من الرأسمال الاجتماعي...الخ. لذلك فان نظام التسليف (المديونية) هو في الواقع يمثل السير الطبيعي للنظام الرأسمالي ذاته، وليس حادثة طارئة عنه ، أو جسم غريب سيتعافى البدن بمجرد التخلص منه.
وهكذا "فالمديونية" لا تعبر عن علاقة دول صناعية بدول متخلفة، والفوائض لا تمثل ابتزاز دولة لدولة، إنما الأمر يتعلق بنظام رأسمالي عالمي حيث الطبقة البورجوازية، كطبقة عالمية، تستثمر جهد المنتجين الحقيقيين للثروة الاجتماعية. وميدان هذا الاستغلال الطبقي ليس الدولة بل السوق العالمية. وإذا كان هناك طرف بورجوازي ممثلا في شركة أو دولة وطنية يأخذ نصيبا أكبر من طرف آخر فهذا ليس لأن الطرف الأول "يستغل" الطرف الثاني، بل لأن قانون المنافسة هو النظام الوحيد الذي تعيش به الرأسمالية العالمية ويتحدد وفقها نصيب كل طرف من الربح الاجتماعي، ومهما كانت نزاعات البورجوازيين في السوق العالمية، فان أحدا منهم لا يستغل الآخر، بل الحقيقة أن جميعهم يستغل طرفا آخر هو الشغيلة. ومن هذه الزاوية في النظر يتبين لنا أن النزاعات التي تقوم حول "المديونية" لا تعبر إلا عن نزاعات المنافسة بين البورجوازيين، تماما مثل النزاعات حول السواق ومواقع النفوذ. أي أن موضوع "المديونية" هو موضوع بورجوازي خالص يتعلق بنصيب كل فريق في ثمرة استغلال العمال. ومن نافل القول أن انجرار الشغيلة وعموم الفقراء والمهمشين وراء هذه النزاعات هو في الحقيقة الفعلية لعب دور الوقود في حرب هي ليست حربهم، بل هي حرب ضدهم. ومن هذا المنظور فتعويض المطالبات الحيوية للشغيلة بمطالبات من نوع "رفض تسديد الديون الخارجية للدولة" أو "التخلي عن الديون الكريهة" أو حتى "إلغاء المديونية" إنما هو تخل عن الميدان الطبقي للصراع لصالح ميدان المنافسة البورجوازية.
أما مطالبة الدولة (البورجوازية) بإلغاء التداين الخارجي فهو لا يعني سوى مطالبتها بالانقطاع عن النظام الرأسمالي العالمي، باعتبار وأن النظام الائتماني، مثلما أسلفنا، لا يعدو أن يكون النظام الرأسمالي ذاته وهو يدير نفسه وفق آلياته الاقتصادية الخاصة. وهذا إضافة لكونه يبث الوهم حول طبيعة الدولة، وكأن الدولة هي شيء آخر غير الأسلوب السياسي في إدارة الاقتصاد الرأسمالي، فانه يبث الوهم حول إمكانية القطع مع الرأسمال، كعلاقة اجتماعية عالمية، من خلال الدولة وفي الحدود الوطنية.
أما المطالبات الجزئية من نوع "تعليق الديون لمدة زمنية محدودة" أو "التدقيق في ديون الديكتاتورية" فانه يدخل في باب المطالبة بتسويات من داخل النظام الائتماني، أي من داخل النظام الرأسمالي وليس مثلما يروج له البعض كإجراء ثوري أو "تحقيق أهداف الثورة" أو "تغيير منوال التنمية"... ويصور هؤلاء هذه المطالبات باعتبارها الحل السحري و"البديل الثوري" للخروج من الأزمة الخانقة. فهل حقا أن "المديونية"، أو التداين الخارجي للدولة، هو السبب الكامن وراء الأزمة الاقتصادية؟ لو تحدثنا بلغة اقتصادية بحتة، وعلى عكس النظرة السائدة في الأوساط اليسارية، فان درجة الانخراط في النظام الائتماني العالمي هي تعبير عن مستوى تطور "الاقتصاد الوطني" ومدى اندماجه في السوق الرأسمالية العالمية. فازدهار نشاط الرأسمال الحامل للفائدة ليس سوى مظهر من مظاهر الازدهار الاقتصادي وتطور الإنتاج الرأسمالي وتراكم الثروة الاجتماعية. إذ أن تطور السوق المالية المحلية (بنوك، بورصة، تأمين...) وانخراطها في النظام المالي العالمي، وارتفاع حجم المبادلات المالية (قروض، تبادل أسهم...) هو انعكاس لتطور فعلي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي. فكلما تعاظم انتاج فائض القيمة الاجتماعي في بلد معين أو قطاع إنتاجي معين إلا ودفع الرأسمال المالي بمختلف أشكال ظهوره إلى الاتجاه نحو التوظيف المكثف في ذلك البلد أو القطاع. وهذا ليس غريبا، بما أن الآلية العامة لتوجه الاستثمار الرأسمالي هي آلية ارتفاع نسبة الأرباح أو انخفاضها.
وهكذا فان "المديونية" (أي الانخراط في السوق المالية العالمية) لبلد معين لا تعبر عن "تخلف" اقتصادي بل عن ازدهاره، بالمعنى الرأسمالي الحصري للكلمة. وأكبر مثال على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية (أكبر قطب رأسمالي في العالم) هي في نفس الوقت أكبر دائن وأكبر مدين، أي أن هذا البلد يملك أكبر حصة في التبادل المالي العالمي.
رغم أن هذا الأمر يمثل حقيقة بديهية لدى الاقتصاديين البورجوازيين، فانه يمثل لغزا محيرا في الأوساط اليسارية. لذلك نرى كيف أن الدول والشركات وكل التجمعات الرأسمالية تسعى للانخراط أكثر فأكثر في النظام المالي العالمي، بل إنهم يعتبرون ازدهارهم مشروط بهذا الانخراط في دائرة التبادل الرأسمالي، إذ أنهم يعرفون أن الرأسمال الحامل للفائدة هو العنصر الحيوي للتنشيط الاقتصادي والممول الأكبر للمشاريع الإنتاجية، وبدونه ستتعطل آلة الإنتاج، بل إن أي رأسمالي في السوق العالمية، مثل أي رأسمالي في السوق المحلية يعتبر أن وقف تمويله من طرف المؤسسات المالية، أو صعوبة هذا التمويل وارتفاع كلفته، إنما يعني وقوعه في الأزمة، بينما نجد يساريينا يفكرون بطريقة المنتج الحرفي الصغير أو فلاحي القرون الوسطى الذين يعتبرون القرض الربوي عبئا عليهم وطريقة متحيلة للاستيلاء على ملكيتهم التافهة. ويرون في المؤسسات المالية الحديثة، والتي هي أكبر دعامات الإنتاج الرأسمالي، في صورة اليهودي المرابي الذي يمثل عائقا أمام تطور إنتاجهم. لذلك فإنهم يعيدون الأزمات الاقتصادية والاختلالات والفوضى التي تعرفها المجتمعات المعاصرة إلى "المديونية". ويعتقدون أن "رأسمالية صافية"، "رأسمالية نموذجية"، هي تلك الرأسمالية (أو ما يسمونه الاقتصاد الوطني) التي تتخلص من "المديونية". ويرون في البورصات وعالم التبادل المالي (تبادل الأسهم، تبادل أوراق التأمين...) كعالم الشر، أو كلعنة أصابت البشرية، وفي مقابله يقومون بتمجيد أسطوري لما يسمونه "الإنتاج الحقيقي"، وكأن هذا الإنتاج الحقيقي يمكن له أن يتقدم خطوة بدون انخراطه في النظام المالي، أي في "المديونية" بالذات، أو كأن هذا وذاك يمثلان عناصر متعارضة كتعارض مزارع الأحقاب التاريخية القديمة مع المرابي اللعين.
وحتى لو تحدثنا بلغة مالية صرفة، أو البحث في موارد ونفقات الدولة (البورجوازية)، فان حجج اليساريين حول كون التداين الخارجي هو السبب في الانخرام المالي، وأن الامتناع عن تسديد ديون الدولة الخارجية سيخلق موارد جديدة يمكن توجيهها فيما يسمى التنمية (و"التنمية" ليست سوى كلمة مهذبة للتعبير عن الإنتاج الرأسمالي) أو تحسين الأوضاع الاجتماعية للطبقات المسحوقة، كلها حجج تنم من جهة عن وهم حول الدولة المافوق طبقية، والدولة "الراعية لشؤون المواطنين"، أو الدولة التي تقف من خارج أسلوب الإنتاج السائد ومن خارج المصالح الطبقية المتضاربة. وتعبر من جهة أخرى عن لغة حزبية انتخابية لا علاقة لها بإدارة الدولة البورجوازية. فلو نظرنا لأي ميزانية دولة لوجدنا أن الديون هي مجرد كتابات حسابية في سجل الدولة، حيث القسم الخاص بنفقات تسديد الديون يقابله القسم الخاص بموارد الديون. وهكذا لو حذفنا كلا القسمين فلن نعثر على موارد إضافية كما لن نخفض من النفقات شيئا، فعدم تسديد الدين يعني في المقابل عدم الحصول على دين جديد. وحتى العجز الذي يمثل هو أيضا كتابة حسابية لا أكثر، فانه وفي حدود التوازنات العامة يمثل عنصرا قارا ودائما في كل ميزانيات الدول الصناعية منها والمتخلفة.
أما الحجة المقدمة حول كون ديون الدولة في عهد بن علي قد ذهب الجزء الأكبر منها في جيوب فئة من "الفاسدين" ولم يستفد منها "الشعب التونسي"، فإنها حجة مضحكة وهي تصدر على أفواه من يقدمون أنفسهم كمناضلين ضد الرأسمالية. ذلك أن الأمر يبدو وكأن لهؤلاء وهم بأن الديون (والدين هو الرأسمال في شكله النقدي) يمكن لها أن تستثمر في شيء آخر غير جني الأرباح لصالح فئة دون أخرى، بل لصالح فئة عبر استغلالها لجهد فئة أخرى من خلال الديون بالذات، ومهما كان مجال استثمار تلك الديون. وهذا ما يعادل القول بأن هناك رأسمال شرير تستفيد منه البورجوازية ورأسمال خير يستفيد منه "الشعب التونسي". إضافة لهذا فان جعل الموضوع برمته موضوع فساد الأفراد، أو فساد الحكام، إنما هو ببساطة تحويل موضوع "الفساد" من حالة اقتصادية، أي أسلوب انتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية، إلى موضوع أخلاقي، بحيث، وحسب هذا المنطق، فان وضع أحد زعماء اليسار أو أحد الزعماء "الذين يخافون الله" مكان بن علي وعائلته سيجعل من النظام الاقتصادي وديونه موجه لصالح "الشعب التونسي". وما هي الضمانة على ذلك؟ لا شيء.... لاشيء غير النية الطيبة والأخلاق الرفيعة لهؤلاء الزعماء.
لكن أكثر ما يجلب الانتباه في الحملة ضد "المديونية" هو أنها تقف عند حدود الديون الخارجية للدولة، ولا نسمع مطالبات برفض تسديد ديون الأجراء وعموم الفئات المسحوقة لدى النظام البنكي المحلي، برغم أن هذه الديون تعبر بشكل مباشر على استيلاء الرأسمال المالي على جهد الشغيلة بطريقة فجة لا تعتمد إلا على أساس قوة هذا الرأسمال في مقابل انهيار القدرة الشرائية الفعلية "للشعب التونسي" واضطراره إلى بيع ليس قوة عمله الحالية بل قوة عمله في المستقبل، أي أن العامل لا يبيع قوة عمله للرأسمالي فحسب بل يضطر لرهنها عند البنوك والمؤسسات المالية من أجل ضمان مواصلة بقاءه في حلبة المنافسة العامة، منافسة الكل ضد الكل، ومواصلة انخراطه في الدائرة الجهنمية للاستهلاك المصطنع في أغلبه بمفعول الهرسلة الاشهارية اليومية.
طبعا لا يمكن إعادة ذلك إلى مجرد سهو أواغفال، بل هو يعبر عن وجهة نظر تضع الدولة "كدولة الجميع"، ومصلحة الدولة "كمصلحة عامة"، لذلك فان هؤلاء المتباكين على تضخم الديون الخارجية للدولة يعتبرون أن إلغاء هذه الديون سيعود بالنفع على "الشعب التونسي"، وأن قضية الديون الخارجية هي "قضية وطنية"، أما تكبيل الأجراء ورهن مستقبلهم ومستقبل أولادهم للبنوك "الوطنية" فانه أمر "طبيعي" لا يمكن مجرد وضعه موضع السؤال. وحتى المطلب الجزئي الذي يرفعه حزب العمال "الشيوعي" التونسي (وفي الحقيقة فليس هذا الحزب هو الوحيد الذي يرفع هذا المطلب بل هناك أحزاب ليبرالية تشاركه في ذلك) والمتمثل في إعفاء الفلاحين الصغار من الديون، إنما يعبر عن وجهة نظر المنتجين الصغار الذين يسحقهم التطور الرأسمالي ويدفعهم نحو الجحيم البروليتاري أكثر مما يعبر عن وضع الدين نفسه (أي الرأسمال ذاته) موضع النقد والتساؤل.
أما الجناح الأكثر راديكالية في هذا اليسار، فانه يقول بأن رفع شعار "القطع مع المديونية" هو المدخل نحو النضال ضد النظام الرأسمالي برمته. وما دليلهم على صحة هذه المسلمة؟ لا شيء، لا من الناحية التاريخية والعملية، ولا من الناحية النظرية الصرفة. وكل ما نعثر عليه هو مجرد شعارات فضفاضة وتحاليل سطحية لا تغادر ميدان التحليل الاقتصادي البورجوازي في أكثر أشكاله ابتذالا.
أما المدخل الفعلي للنضال ضد النظام الرأسمالي، وكما بينته التجربة التاريخية للحركة الثورية، فليس سوى المطالبات الاجتماعية لعموم ضحايا هذا النظام. فالمطالبات بالزيادة في الأجور والتشغيل وتوفير الخدمات الاجتماعية والمرافق العمومية الضرورية لتحسين شروط حياة الطبقات المسحوقة والاحتجاج على التلوث الذي هو بصدد تدمير الوجود الطبيعي للبشرية، كذلك المطالبة بتخفيض ساعات العمل وتحسين ظروفه ورفض الامتيازات في الوظائف السياسية والإدارية، كما رفض سيطرة أجهزة الدولة القمعية على المجتمع وكتمها لكل نفس متمرد والتململ ضد مؤسسات الضبط الاجتماعي من المدرسة إلى المسجد إلى الأحزاب والنقابات والجمعيات السلطوية، كل هذه المطالبات تمثل بالفعل المدخل الضروري لتطور الحركة من طابعها الاحتجاجي باتجاه وضع النظام الاقتصادي والاجتماعي ككل موضع السؤال والتغيير الثوري. وكل انجرار إلى ميدان غير هذا الميدان الاجتماعي سيكون معناه قطع الطريق أمام تطور الحركة الاحتجاجية وتحويل وجهتها نحو مجال الإصلاحات، بمعنى بث الوهم في أن تغييرا في شكل الدولة أو في طريقة إدارتها الاقتصادية (القطع مع "المديونية" مثلا) سيجعل من هذه الدولة "دولة اجتماعية"، أي دولة تعمل لصالح "الشعب التونسي"، وليس لصالح الرأسماليين.
والمطالبات الاجتماعية لا يمكن لها أن تتحول إلى حركة ثورية ضد الدولة البورجوازية ونظامها الرأسمالي بدون الخروج من منطق الدولة ومنطق النظام الاجتماعي السائد نفسه. أي أن لا تضع "مصلحة الدولة"، أو "المصلحة الوطنية"، أو "مصلحة الاقتصاد الوطني" كحد يحدها ويلجمها، بل الأحرى أن تضع مصالحها الطبقية الخاصة، أي حاجاتها الإنسانية الحيوية المباشرة، في التعرض مع "المصلحة العامة" والتي هي ليست سوى مصلحة الطبقة السائدة وقد تحولت بطريقة تمويهية إلى "مصلحة عامة". ومن هذه الزاوية تصبح "المديونية" قضية خاصة بالدولة وبالنظام الرأسمالي الذي تديره. والإجابة الوحيدة والدائمة التي يجب أن تتمسك بها الشغيلة ومن ورائها كل المفقرين والمهمشين هي رفض دفع كلفة أزمة الدولة وأزمة الاقتصاد الرأسمالي ككل، ورفض تأجيل مطالباتها تحت أي مبرر، وخاصة تحت مبرر محدودية موارد الدولة أو ارتفاع النفقات المسماة زورا "عمومية". أما مهمة المجموعات الثورية داخل الحركة، فليس البحث عن حلول للدولة (البحث عن موارد إضافية، أو البحث عن طريقة لتخفيض النفقات...) بل إبراز طبيعتها التاريخية بصفتها المتصرف العام في شؤون الطبقات السائدة، والمساهمة في تطوير الحركة من طابعها الدفاعي (رفع المطالبات) إلى طابع هجومي يخلق أمرا واقعا جديدا يوفر الشروط العملية والواقعية لاستبدال هذا الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج بأسلوب انتاج تعاوني جديد.
قد يبدو هذا الأمر لغزا محيرا بالنسبة للساسة والمثقفين، لكنه ليس كذلك بالنسبة للحركة الجماهيرية. فهذه الأخيرة، وبكل بساطة، لا تلتفت للمواضيع التي تعرف أنها تندرج ضمن ميدان أعدائها الطبقيين، ومنها موضوع "المديونية". بل توجه حركتها بهذا الشكل أو ذاك صوب حاجاتها الحيوية. وبغض النظر عن نضج أو ضعف هذه الحركة، فان شروط تقدمها تكمن في رفضها لمنطق الدولة البورجوازية وتوازناتها المالية وحذلقة سياسييها، ورفض المنطق الاقتصادي السائد القائم على "المردودية الاقتصادية" و"الجدوى المالية" و"المحافظة على القدرة التنافسية" و"تشجيع الاستثمار"...الخ، والاتجاه نحو فرض منطقها الخاص، أي فرض مطالباتها الخاصة من خارج وضد "الاقتصاد الوطني" و"المصلحة الوطنية". فالاقتصاد ليس سوى اقتصاد البورجوازية و"المصلحة الوطنية" ليست سوى مصلحتها الأنانية و"الاستثمار" ليس سوى استثمار جهد العمال، و"المردودية الاقتصادية" و"القدرة التنافسية للمؤسسة" لا تعني سوى مزيد الضغط على الأجور وتسريع وتيرة الإنتاج بما يحول البشر إلى روبوتات خاضعة للبرمجة. و"المديونية" إنما هي مشكل الدولة البورجوازية تحاول إظهاره في ثوب "المشكل الوطني"، أي أنها تريد إقناع الفقراء بالقبول بسياسات التقشف وربط الأحزمة للحفاظ على "التوازنات المالية للدولة".
لكننا لا نريد علاج أمراض الدولة. إننا نريد إنهاء وجودها الطفيلي لصالح الإدارة التعاونية التي يساهم فيها كل أفراد المجتمع بطريقة مباشرة، وحيث يقرر الناس أسلوب إدارة حياتهم المادية والروحية بدون أجهزة بيروقراطية فوقية، ويواجهون مشاكلهم بشكل جماعي متضامن وليس كذرات فردية متنافسة.
* * *
خاتمة:
إن أخطر أسلوب يحافظ به النظام الاجتماعي السائد على ديمومته هو إخضاع ضحاياه من خلال إقناعهم بأنه الأفق التاريخي الوحيد الممكن، وأنه نظام طبيعي. وحين يستبطن المضطهدون هذه المسلمة، فإنهم، حتى في غمرة نضالهم الثوري ضد هذا النظام، لا يصوبون نظرهم نحو مشاكلهم الخاصة، بل يتجهون للبحث عن حلول لمشاكل النظام الذي يضطهدهم.
و"المديونية" مثلها مثل التبادل التجاري والمنافسة الاقتصادية والاحتكار الناتج عنها، أي كل الأصناف الاقتصادية الخاصة بالنظام الرأسمالي، هي بالفعل تطرح على البورجوازيين كأفراد وكتجمعات في شكل شركات أو دولة وطنية مشاكل تزداد صعوبة إيجاد حلول لها مع كل تطور رأسمالي وتطور تناقضاته وأزماته. ومن الطبيعي أن كل دولة بورجوازية تجد نفسها في كل مرة أمام اختلالات صارخة وهي تبحث عن الملاءمة بين السير "الطبيعي" للنظام الاقتصادي الذي تحرسه وبين المطالبات المتزايدة لضحايا هذا النظام بالذات، بل تجاوز تلك المطالبات للقدرة الفعلية للاقتصاد الرأسمالي على تلبيتها. ولكي لا تقود هذه الاختلالات إلى الانهيار الكلي، فان الدولة تصور مشكل إدارتها العامة لأسلوب الإنتاج السائد في صورة "مشكل وطني"، أي أنها لا تحدد مسبقا ميدان الإجابات والحلول والمطالبات بل تحدد الدائرة التي تقع فيها الأسئلة نفسها. وسؤال "المديونية" هو سؤال النظام الاجتماعي القائم، أي أننا حين ننظر له باعتباره سؤالا عموميا، يهم كل أفراد المجتمع، أو أن كل أفراد المجتمع مكلفون بإيجاد حل له، فهذا دليل على أننا مازلنا مندمجين (أو عالقين) في هذا النظام وفي أسئلته التي لا حل لها. وحتى عندما نقدم إجابة "راديكالية" عن هذا السؤال، من نوع "القطع مع المديونية"، فان هذه الإجابة، رغم ما تبدو عليه من "حلة ثورية"، تبقى إجابة عن سؤال النظام السائد وليس عن أسئلتنا الحقيقية والخاصة والمناقضة لهذا النظام.
وهكذا فالقبول "بالمديونية" أو المطالبة بالقطع معها يمثلان إجابتان لسؤال واحد، سؤال يطرحه النظام على نفسه بشكل يكاد يكون تلقائيا، إذ أنه سؤال يتعلق بكيفية إدارة هذا النظام بالذات وليس غيره. ومن الطبيعي، وطالما أننا نبحث سؤالا يقع في ميدان إدارة والتصرف في النظام الرأسمالي، فستظهر المطالبة بالقطع مع "المديونية" كحل أقصى ضمن حلول أخرى "أكثر واقعية" مثل "الحد من التداين الخارجي" أو تعليق تسديد الديون لمدة معينة" أو "التدقيق في ديون النظام السابق" أو "إلغاء الديون المسماة كريهة"...الخ. وليس هناك أسهل من تقديم البراهين والحجج المقنعة، من زاوية نظر النظام والدولة، على "شطط" هذا الحل، وإمكانية الحل الآخر،وصولا إلى القول بضرورة إقناع المؤسسات المالية العالمية بضخ الأموال اللازمة "لإقامة المشاريع التنموية" و"إقامة البنية التحتية" و"تنشيط الدورة الاقتصادية"...الخ وهذا بالفعل ما تقوم به أي دولة بورجوازية تريد الانخراط أكثر في السوق العالمية وتحقيق نمو اقتصادي وأخذ موقع أفضل في ميدان المنافسة مع الدول والأقطاب الرأسمالية الأخرى.
إن القطع مع النظام السائد لا يتعلق بالقطع مع أجوبته وحلوله فحسب، بل ،أيضا وخاصة، القطع مع أسئلته. فليست "المديونية" استغلال دولة لدولة ولا نهب أمة لأمة، ولا "مؤامرة" بين "الامبريالية" و"عملائها المحليين" ضد "الشعب التونسي"... "فالمديونية" هي ببساطة السير العادي لنظام عالمي يقوم بمقتضاه مالكي الثروة ووسائل القوة المادية والروحية باستغلال جهد المنجين الحقيقيين للثروة. فإما القبول بهذا النظام، وبالتالي القبول بكل آليات اشتغاله الاقتصادية، وإما النهوض الثوري ضده. أما القول بالقطع مع "المديونية" في عالم يقوم على نظام التسليف، فلا يضاهيه سوى القول بالقطع مع التجارة في عالم كل شيء فيه معروض للبيع والشراء.