الزلزالُ السوفيتي والانهيارُ العربي


عبدالله خليفة
2012 / 6 / 20 - 09:27     

حين انهار الاتحاد السوفيتي قال لي رفيقي عن اليسار (أنا لم أعدْ سوى شيعي). وقال لي رفيقي عن اليمين (انتهى كل شيء، أنا لستُ سوى سني).

سنواتٌ كثيرةٌ مرت وأدواتُ التحليلِ صدئةٌ والمعارفُ ضحلةٌ والشعارات القديمة تُلبسُ مضامينَ طائفية ودينية محافظة، كأنما الزلزال له توابع لاتزال تتفجر وانهيارات لاتزال تتواصل، وكأن البناء العتيق الذي أقيم على أسسٍ خاطئة مازال موجوداً.

لم يعطنا الاتحاد السوفيتي سوى جملة من المعارف ونظرة شمولية تتلبسُ مظهر الحداثة وهي قالبٌ ديني تحديثي انفصامي.

الحزب الشيوعي حزبٌ للملالي، مسئولٌ عن أحوال النمل والأخلاق والعادات والتقاليد وإزالة الرأسمالية والإقطاع وصناعة طبقة عاملة حديدية تخترق الفضاء.

لهذا من الممكن أن يظهرَ في دولةٍ قبلية عشائرية صراعها الحقيقي حول السماح للنساء بالتنفس خارج المنزل، لكن الحزب الشيوعي المظفر سيعلنُ الحربَ على الطبقات الرأسمالية والإقطاعية والدين ويحدد الطريق للاشتراكية، ولكن الجماعة الصغيرة سرعان ما تتفكك أو تُعتقل ويصيرُ الأمينُ العام مخبراً أو تاجرَ كلمات واستعراضياً على حبال الطبقات، أو مهاجراً يطالب بالعودة للحكم.

في الأرض الاجتماعية الخلاء سيؤكد الملالي حضورهم ويصيرون حملةَ سلاحٍ قاتل، وتتقاطرُ الملايين على تعليق صورهم وتقبيل أيديهم.

هناك الهزاتُ التي جرتْ فيما قبل الزلزال منبئةً بالانهيار العظيم؛ أنظمةٌ استعارتْ قائمةَ الطعام وافتتحتْ مطاعم مستوردة للوجبات الخفيفة، واختفتْ فجأة تاركةً حشودا من الضحايا في الشوارع، وغصات الألم في القلوب، ومجيء المارينز وافتتاح قواعد لهم.

هناك شيء مشترك بين القادة: برجوازيون صغار ظهروا من بين الأزقة والحشود الفقيرة، ليس لهم تراث عريق في المعرفة وعائلاتهم أمية، ولكنهم منتفخون انتفاخ البالونات الجبال، وأحلوا اراداتهم محل القوانين الموضوعية للطيران الاجتماعي السياسي، ودائماً سوف يشيرون إلى المثال السوفيتي على أساس القدرة على اختراق كل قوانين المادة الوضيعة، والتحليق في الفضاء مثل غاغارين.

حارسٌ في بناية، عاملٌ في مصنع، فلاحٌ، طالبٌ، بدوي، كلُ هؤلاء صاروا قادرين على الحلم، لكنهم أحلوا أنفسهم مكان الرأسماليات الغربية الغازية، والإمبراطوريات القديمة، ورشاش الكلمات سوف يضرب الأعداء البرجوازيين ويسحقهم أينما كانوا.

وهيئة الأمين العام تدل على ذلك، منتفخ بريش الكلمات الغازية، يبكي على قائمة شهداء الحزب، ويقرأ ناعياً، ويحدد مهمات نضال الكادحين، لكنه بعد حين سيتحول أما إلى قتيل تلتصق المنشورات بدمه، أو متقاعد سياسي له حصالة جيدة.

(اكتبْ حتى لا تكون وحيداً!).

سيكتبُ مذكراته النضالية ويفتتحُ مدرسةً لتعليم الشيوعية البدوية. أو الماركسيةَ القروية والجماعةُ تخزنُ القاتَ ثم تتقاتل على ملكية الدكاكين.

الهزات الأرضية التي سبقت الزلزال كانت كبيرة، في يونيو الأسود طائراتٌ تُضربُ على الأرض الراقدة وهزيمة مدوية وبناء اشتراكي يتكشفُ عن دولة حرامية.

مغامرٌ آخر يأخذُ الأمةَ إلى ضرب الأمة، ثم يحيلُ بلادَه إلى فسيفساء من الطوائف والحشود المحترقة بالنابالم والسيارات المفخخة، ويعود الإقطاع الطائفي للحكم بعد عقود من زواله.

الأمينُ العام يتدروش ويعلنُ انضامه لطائفة صوفية، ويكتبُ أن الدروشةَ لا تتناقضُ مع أسس الماركسية، فكلتاهما نضال لزمنها، ويمكن عبر البخور المعاصر التحليق في سماوات الطبقات المتصارعة، ورفع مستوى الكادحين.

البرجوازي الصغير المغرور القادر على الطيران فوق القوانين الموضوعية للتطور، وسحق البرجوازية يصدرُ نسخته لأبناء الكادحين ذوي القدرات البسيطة وذوي الطموحات الغريبة، فيغدو كلٌ منهم رغم كل التضاريس قادراً على خلق ثورة بروليتارية عظيمة كاسحة، ولا بأس من أن تتحول إلى ثورة ملالي، ويصير المرشدُ أميناً عاماً، أو مقتولاً برصاصه، أو مسحوباً بحبال لمغامراته. لا يهم كل ذلك ما دام التاريخُ يتحرك.. لكن ضدنا!

فيما بعد الزلزال وتفرق الرفاق وسيرورتهم أعضاء في أندية متعادية، وفي خدمةِ مللٍ قديمة متجافية، سيؤكد كلٌ منهم أنه مازال على درب النموذج الملهم، سائراً نحو ثورة الكادحين العظيمة التي ستملأُ الأرض نوراً بعد أم مُلئتْ ظلماً وظلاماً. وإذ لم تأتِ يكتفي بالأسطورة.

لكنهم في ذات الوقت سوف يرفعُ الرفيقُ منهم خنجرَه ضد جاره من الطائفة الخائنة، ويقاطعُ المتجرَ الذي يبيع فيه كادحٌ عميلٌ من الجماعة المتبرجزة عدوة الثورة، ويقاطعُ النقابةَ الصفراء والبرلمانَ الأصفر والخريطةَ الوطنية الصفراء.