الاشتراكية من حلم إلى كابوس (١- ٢)


عبدالله خليفة
2012 / 6 / 18 - 09:30     

تبرزُ دكتاتوريةُ لينين بشكل أكثر وضوحا في الطرح السياسي، حيث تكمنُ البؤرةُ الرئيسية لعمله الفكري عامة، فرغم انه ينطلق في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من ظروف روسيا المتخلفة في الاقتصاد والحياة السياسية، فانه يقارن نفسه بدول رأسمالية أكثر تطورا كألمانيا وفرنسا، من دون أن يعي مستوى التشكيلة الإقطاعية الروسية المتآكلة والتشكيلة الألمانية والغربية عامة الرأسمالية الصاعدة.

ومسألة تمييز التشكيلات في الماركسية أساسية وهي تشكيلاتٌ مرتْ بها البشريةُ عبر التاريخ؛ المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية.

وتتعلق فترتنا المشتركة في دول العالم الثالث بهذه الحلقة الانتقالية بين الإقطاع والرأسمالية، وفيما تشاركنا روسيا في مرحلة الانتقال هذه، فإن ألمانيا المخصص لتجربتِها النقد في هذا الكتيب المُسمى (ما العمل؟)، بدأتْ تدخلُ الرأسماليةَ باتساعٍ في ذلك الزمن من أوائل القرن العشرين.

وحين يلغي لينين الفروقَ بين البلدين، ويبدو كما لو أن البلدين يقعان في ذات السياق التاريخي، يبدأ أولُ انحرافٍ كبير له، وهو الإطاحةُ بقوانين التشكيلات، والدخول في المغامرة السياسية.

سنقرأ كتابَه لهذه الفترة المحورية وهو(ما العمل؟)، المتعلق بالمهمات الكبيرة التنظيمية والفكرية والسياسية للحزب المنقسم وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.

في ذلك الوقت استطاعت الحركةُ الاشتراكيةُ الديمقراطية الألمانية أن تحققَ تقدما كبيرا في الانتشار والحصول على تأييد العمال، وبدأت التأثير في الحكم والمشاركة فيه.

فيما كانت الحركةُ الاشتراكية الديمقراطية الروسية في حضيضِ الحياةِ السياسية الاجتماعية في روسيا في بلدٍ متخلفٍ أغلب سكانه من الفلاحين الأميين الفقراء، فكانت حركةً سريةً تعاني الرقابة والاضطهاد.

يوجه لينين الأنظارَ في كتيبهِ السابق الذكر إلى مسائل خلافٍ كبيرة بدأت تطفو في الحياة الفكرية السياسية داخل الحزب، وهو ما يسميه ظهور خطين للحزب ومستمدين من الصراع في الحركة الاشتراكية الديمقراطية العالمية عامة، يقول:

(وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه «الجديد» الذي يأخذُ من الماركسية «القديمة» الجامدة موقفا نقديا. ينبغي للاشتراكية الديمقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزبٍ ديمقراطي للإصلاحات الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطهُ برنشتين بمجموعةٍ كبيرة من البراهين والاعتبارات الجديدة؛ فقد أنكرَ إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكان البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ، أنكرَ واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية، أعلن أن مفهوم (الهدف النهائي) ذاته باطل ورفضَ فكرةَ دكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا، أنكرَ التضاد بين الليبرالية والاشتراكية، أنكرَ نظريةَ الصراع الطبقي وزعم انها لا تنطبق على مجتمع ديمقراطي صرف يُدار وفق مشيئة الأكثرية)، كراس: ما العمل؟ فصل الجمود العقدي وحرية النقد.

إن برنشتين، زعيمَ الحركةِ الاشتراكية الديمقراطية الألمانية التي توجتْ تطورا سريا مقموعا طويلا في ألمانيا فتحولتْ لحركةٍ شعبية مؤثرة، يتطلعُ إلى المزيد من التطور لها وللحكم وتنفيذ إصلاحات عميقة في ألمانيا التي كانت قيصرية، ولهذا فإن الحركة وقد غدت بهذا التأثير يعمل لتقدمها ويطرح نقاطا حيوية مهمة للتطور السياسي الاجتماعي، وبعضها نظري محدود الرؤية حتى خاطئ، ولكن المهم المفيد التقدمي أن برنشتين لا يريدُ الإطاحةَ بالبرجوازية التي تشارك في الحكم بل يريد توسيع الاصلاحات المخصصة للعمال والشعب عامة، وتعميق المسار التحديثي الديمقراطي، فلماذا يغضب لينين؟

لينين ينطلق من خطةٍ مضادة هي الإطاحة بالنظام القيصري، كهدف رئيسي في الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم يقوم بالإطاحة بالبرجوازية التي شاركته في الثورة على القيصرية، من أجل ثورة اشتراكية، لأن البرجوازية لا تصلح أن تقود وتؤسس نظاما، فهي طبقة وصلت إلى الموت الاجتماعي.

لقد انساقَ لينين انسياقا كبيرا مع إرادته الذاتية، وعوضا أن يدرس بعمق تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وكيف ناضل خلال عقود عديدة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليتحول إلى هذا التأثير الكبير ثم ليطرح مطالب عملية مهمة، بدلا من ذلك انساق لرؤية سياسية اجتماعية مغامرة والدعوة إلى قفزاتٍ كبرى في بلد إقطاعي شبه رأسمالي متخلف، وذلك لكي تصعدَ الإرادةُ الدكتاتوريةُ الشخصية والحزبية.

ولم تكن هاتان الرؤيتان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي تُدرسان في لقاءاتٍ واسعة وفي جدل خصب اجتماعي، بل كانتا تُبحثان بشكل مقالات وكتابات مختلفة متصارعة تغيب عنها الأطر الديمقراطية والدرس الواسع الشعبي العميق، وتتحول إلى وجهات نظر حادة ومبتورة وتكوّن أتباعا متحمسين منفعلين وخاصة في الجانب البلشفي ليكونوا بعد ذلك أداة الانقلاب السياسي في .١٩١٧<.