من السيرة الجيفارية: استلهام الروح ونقد التجربة

محمد حسني
2012 / 6 / 17 - 10:02     

ياشغالين ومحرومين
يا مسلسلين رجلين وراس
خلاص خلاص.. مالكوش خلاص
غير بالبنادق والرصاص
الكلمه للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
صرخه جيفار يا عبيد
في أى موطن أو مكان
مافيش بديل ..مافيش مناص
يا تجهزوا جيش الخلاص
يا تقولوا على العالم خلاص

كم من مرة استدعيت صورته..
وكم من مرة رن صوت الشيخ إمام في رأسي
خلال المذابح الوحشية التي ارتكبها العسكر وبلطجيتهم..
و بعد كل مسرحية هزلية، ثبت خلالها النظام خطواته أكثر فأكثر..
ورقص الانتهازيون فوق دم الشهداء فرحين بما تلقفوه من مكاسب
بعد صولات ومعارك كلامية وتحليلات وتنظيرات حنجورية

لكننا في يوم ميلاد جيفارا: 14 يونيو 1928 – للأسف، في العام نفسه الذي ولد فيه كلتا المومياوات شارون ومبارك – لا نستدعي قصته لا لبث الحماس ولا الشجن، فعندما نقرأ التاريخ، لا نضحك ولا نبكي.. ولكن نتأمل.. لنفهم.

إرنستو جيفار، الطبيب المولود بالعاصمة الأرجنتينية لعائلة يسارية، خلال جوله مع صديقة على دراجة بخارية، في طريقهم للتطوع في أحد معسكرات الجذام، اكتشف جيفارا أن أمريكا اللاتينية هي "عائلة من مائتي مليون أخ يعيشون الظلم والفقر.. الجوع والمرض".

في جواتيمالا أصبح رأس جيفارا مطلوبا بسبب مشاركته في مقاومة مؤامرة المخابرات الأمريكية للإطاحة بالرئيس أربينز جوزمان، بعد اعتزامه إجراء إصلاح زراعي، ينتزع جزءاً من الأراضي غير المستغلة المملوكة لـ"شركة الفواكه الأمريكية" أكبر الاحتكارات الأمريكية في القارة. وفي المكسيك التقى راؤل كاسترو، وانضم لحركة 26 يوليو، التي ترقبت الإفراج عن فيديل كاسترو، لتتوجه في مركب متهالك نحو شواطئ كوبا، وتبدأ حربها ضد نظام باتيستا المتعفن.

كوبا.. نار تحت الرماد

منذ أن نالت كوبا استقلالها عن إسبانيا في 1898، بسطت الولايات المتحدة سيطرتها عليها، فأصبحت زراعة القصب، وهي الدخل الأساسي للبلاد، خاضعة لبارونات السكر الأمريكيين، بل أن صياغة الدستور ضمنت للولايات المتحدة امتيازات، وحق التدخل.

في عام 1933، اندلعت انتفاضة ضد جيراردوماشادو، الذي حكم كوبا منذ 1924، بدأت بعمال الأوتوبيسات وانضمت لها قطاعات أخرى، من العمال والطلبة، اشتبك معها الحزب الشيوعي، ونجحت في تكوين مجالس عمالية في مناطق عديدة، ولكن بسبب التوجه الستاليني، امتنع الحزب عن استكمال الثورة العمالية وتوقف عند صعود الرئيس القومي جراو سان مارتان، فما لبث الجيش أن قام بانقلاب رجعي ونصب الديكتاتور "باتيستا" الذي أعدم كوادر الحزب.

في عهد باتيستا، تراجع التدخل الأمريكي ظاهرياً بينما زادت السيطرة أكثر في الواقع، فكان 80% من واردات كوبا من أمريكا، واستثمر الأمريكان بليون دولاراً في مزارع كوبا. وكان 1% من الملاك (الأمريكيين في الأغلب) يملكون أكثر من 50% من الأراضي، مقابل 71% يملكون 11% فقط، في حين كان قطاع الصناعة والخدمات محدوداً.

بينما استمر الحزب الشيوعي في الخط المهادن، فتمكن باتيستا من تدجينه والسيطرة على اتحاد العمال، وما لبث أن أطاح بالحزب وبالقيادات العمالية نهائيا في 1947.

وهكذا نشأت المعارضة الكوبية في وسط الفلاحين والطبقة الوسطى من المتعلمين، الطامحين في التخلص من الهيمنة الامريكية وفساد الطبقة الحاكمة، وتحقيق تنمية مستقلة، وعدالة اجتماعية، وهي الدوافع ذاتها التي حركت أغلب حركات التحرر الوطني في تلك الحقبة، ومن بينها الضباط الأحرار في مصر.

لكن المعارضة الكوبية تبنت تكتيك حرب العصابات، من ديسمبر 1956 – حتى أسقطت باتيستا في يناير1959 – وكانت بعيدة تماماً عن تبني بناء حزب ثوري بين القواعد العمالية، ولم ترتبط بها ارتباطاً عضوياً، لذا لم تنجح حركة 26 يوليو في تصعيد نضال العمال خلال الإضرابين اللذين وقعا في 1957-1958.

حكومة الثورة في مواجهة الاستعمار

هرب باتيستا معه 300 مليون دولار، ثم تبعه هروب نصف مليون مليونير إلى شواطئ ميامي، وأصبحت السلطة في يد الثوار الملتحين "بربادوس". لم يكن كاسترو يتبنى الماركسية، لكنه كان ينادي بالعدالة الاجتماعية ومقاومة الهيمنة الأمريكية، وبالفعل قام بإجراءات لتحسين التعليم والصحة وزيادة الأجور وخفض الأسعار. وقد أعلن في 1961 تبنيه للماركسية (بالصيغة السوفييتية).

ظلت اللقاءات الجماهيرية العظيمة مع كاسترو والحوار الرفاقي المباشر، دون تدخل حقيقي من جانب الجماهير، ودون قدرة على محاسبة الحكومة. فالحزب الثوري ينشأ خلال العملية الثورية عبر نضالات الجماهير، ليكون أداة لتكثيف قوتها من أجل الثورة على النظام، لكنه إن نشأ بقرار من "الزعيم" تحول إلى أداة بيروقراطية.

تصاعدت المواجهة مع الأمريكان الذي دعموا تهريب رؤوس الأموال، ثم محاولة انقلاب مسلح في "خليج الخنازير" قضى عليها جيفارا ببراعة، ثم أعلن كاستروا تأميم الكثير من الأراضي المملوكة لشركات أمريكية، ففرض الأمريكان حظراً اقتصادياً، دفعه للارتماء في أحضان الاتحاد السوفييتي.

مد الاتحاد السوفييتي كوبا بالبترول والقمح والسلاح، لكن كاسترو أصبح أسير التوجيهات السوفييتية، فظل قصب السكر هو المصدر الأساسي للدخل، كما أيدت كوبا فيما بعد الاجتياح السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في 1968.

جيفارا وزيرا

تولى جيفار إدارة البنك الوطني ووزارة الصناعة، وقد كان يطبق بحزم كل ما تشبع به ونال إعجابه من التجارب الستالينية في المعسكر الشرقي، من تخطيط مركزي، ودعوة العمال للتفاني والتضحية، وهو يصف المناضل الشيوعي بأنه "الأفضل في عمله" و"الأول في فصله".

تخلى الاتحاد السوفييتي عن مساندة كوبا خلال أزمة الصواريخ في 1963، وكان جيفارا يعارض التبعية الزائدة للسوفييت ويبدي إعجابه وتأييده للتجربة الصينية. وقد دعا إلى مد الجسور مع دول عدم الانحياز، وقام بزيارات لمعظم دول العالم الثالث، ومنها مصر وقطاع غزة. كما دعا إلى فتح بؤر ثورية لمواجهة الاستعمار.

احتجاج على الستالينية.. في الطريق غير الصحيح

كانت الجيفارية احتجاج على السياسة الستالينية، التي تحولت إلى المهادنة والتوازنات. لكن الإشكالية هي أن جيفارا لم يكن يقصد تصعيد النضالات الجماهيرية للكادحين في كل البلدان وتشبيكها، ولكن يعني نسخ النموذج الكوبي، وتكوين مجموعات ثورية تستبدل نفسها بالجماهير وتطيح بالأنظمة القديمة.

هذا الطرح يدير ظهره للعمال، فلا يمكن للعامل أن يظل عاملا، ومقاتلا في الجبال. وعليه، يجب أن يظل يكدح دون شكوى، لتقوم بالثورة مجموعة محدودة من المناضلين – فلم يزد جيش كاسترو وقت إسقاط باتيستا عن ثـمانمائة – ربما تتمتع بتأييد الجماهير من الفلاحين والعمال، ولكنه تأييد سلبي، وبالأصح "إعجاب" ربما لا يستمر طويلاً، وربما لا تحصل عليه أصلا.

انطلق جيفارا مضحياً بالمنصب وحتى بالجنسية الكوبية، ليدرب مجموعات ثورية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وليواجه فشلاً وراء الآخر، حسب مذكراته. وكانت محطته الأخيرة في بوليفيا.

كانت الجبال البوليفية نادرة السكان، وكانت ملكيات الفلاحين شبه متساوية، وفي المقابل كانت الطبقة العاملة قوية ومنظمة، واستطاعت في 1952 أن تدعم النظام الوطني وأن تقاتل ضد انقلاب الجيش رغم استخدامه للمدفعية ضدها.

وظهر انفصال جيفارا ورفاقه عن الجماهير في 24 يونيو، حينما احتشد العمال في عيد القديس يوحنا، وأعلنوا مطالبهم في جو احتفالي، لكن الجيش فاجأهم فجراً، ليقتل مائة أغلبهم نساء وأطفال، لينفجر إضراب عام لمدة أسبوعين، كما قام الطلبة بالاعتصام بجامعة لاباز. ولم ينته الإضراب إلا بالمزيد من القمع من قبل الجيش. واتُهم الثوار بالطبع بالعمالة لجيش جيفارا، الذي ربما لم يعلم شيئاً عن الأمر برمته.

في 9 اكتوبر 1967، وعن طريق أحد عملاء الاستخبارات الأمريكية تم الإيقاع بـ"جيفارا" واعتقاله، ثم نقله وقتله وقطع يديه، ودفنه في مكان ظل غير معلوم حتى أواخر التسعينيات.

مات المناضل المثال
ياميت خسارة على الرجال
مات الجدع فوق مدفعة جوه الغابات
جسد نضالة بمصرعه ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا ولا اعلانات
ما رأيكم دام عزكم يا أنتيكات
يا غرقانين فى المأكولات والملبوسات
يا دافيانين ومولعين الدفايات
يا محفلطين يا ملمعين ياجيمسنات
يا بتوع نضال اخر زمن فى العوامات

كوبا اليوم

أما عن "كوبا" فقد خضعت لبيروقراطية الحزب والجيش بقيادة فيديل كاسترو، ولا شك أن المواطن الكوبي تمتع برعاية اجتماعية ربما لم توجد في أي بلد آخر، ولكن في مقابل الخضوع لنظام مستبد، وفي النهاية، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يستطع النظام أن يواجه المنافسة العالمية، فلجأ إلى سياسات تقشف في الإنفاق وتسريح للعمال، مثل أي شركة أو مؤسسة رأسمالية. وشيئاً فشيئاً تسربت الاستثمارات الرأسمالية عابرة القارات، وعادت كوبا في عهد راؤل كاسترو فناءاً خلفياً للأمريكان، وعادت العاصمة "هافانا" كما كانت في عهد باتيستا، مرتعاً للدعارة وعربدة الأثرياء.

في يوم ميلاده، يستحق "جيفارا" اكثر من استغلال صورته للترويج للسلع، وهو من كان يحارب ثقافة الاستهلاك.. يستحق استلهام للروح الثورية النقية والتفاني وإنكار الذات.
لكن تجربته تحتاج للدراسة والتأمل، فالتغيير عبر مجموعة ثورية منفصلة عن الجماهير، وبدون تنظيم الطبقة العاملة في حزب ثوري، يلقى أحد المصيرين، إما مصير جيفارا المأسوي، أو مصير كوبا الأكثر مأساوية. فمهما كانت نوايا الثوار حسنة ونقية، إلا أن تلك النوايا الحسنة قد تفرش الطريق نحو حكم استبدادي مآله في النهاية جحيم الرأسمالية.

عينى عليه ساعة القضا
من غير رفاقه تودعه
يطلع أنينه للفضا
يزعق ..ولا مين يسمعه
يمكن صرخ من الألم
من لسعه النار ف الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم
او ارتعش او انتشى
يمكن لفظ اخر نفس
كلمه وادع .. لاجل الجياع
يمكن وصيه..
للى حاضنين القضيه.. بالصراع
صور كتير ..ملو الخيال
والف مليون احتمال
لكن أكيد .. أكيد ولاجدال
جيفارا مات.. موتة رجال